"اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستة أشياء في قواعدها وان تفرعت وهي: دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح"[1]
توطئة:
موضع الاهتمام في هذا البحث هو الفقيه الشافعي أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي ( 974- 1058 ميلادي ) الذي انتظر الفكر العربي الإسلامي مجيئه لكي يكتب أول رسالة في القانون العام تحمل عنوان "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" ولم يقتصر جهده الفكري على هذه الرسالة بل كتب مؤلفات أخرى منها "نصيحة الملوك" و"قوانين الوزارة وسياسة الملك" و"أدب الدنيا والدين" وكتاب "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك" و"أعلام النبوة" و"النكت والعيون" وهو كتاب في تفسير القرآن. ونحن هنا سنعالج نظرية الدولة كمشكلة فلسفية مركزية وسنبحث في علاقة الدين بالملك وعلاقة الدولة بالشريعة من ناحية وعلاقة جهاز الدولة بالمجتمع أي علاقة الراعي بالرعية من جهة أخرى منقبين عن بذور العلمانية السياسية في النصوص الفقهية الشرعية ومفتشين عن طبيعة العلاقة التي كانت موجودة بين الفقهاء باعتبارهم حراس شريعة والسياسيين باعتبارهم حراس سلطة في الفضاء الحضاري العربي.
إن أهم الإشكاليات التي سنعالجها في هذا المقام هي كما يلي: ماهي نظرية الدولة عند الماوردي؟ ما علاقة الدولة بالدين من ناحية وعلاقة السلطة بالمجتمع من ناحية أخرى؟ وإذا كان كل فكر له تاريخ وبنية فماهو تاريخ الفكر الفلسفي السياسي الفقهي أو ما يسمى بفقه السياسة؟ ثم ماهي البنية العلائقية التي تربط الفقهاء بالحكام؟ والى أي مدى احترم الماوردي هذه البنية؟
إذا كان لكل فكر وظيفة إيديولوجية فما هي الوظيفة الإيديولوجية لفكر الماوردي؟ بلغة أخرى هل الأحكام السلطانية هي إيديولوجيا لتبرير الواقع أم إنتاج عقلي الغاية منه إيجاد حلول جذرية لهذا الواقع المتأزم؟ هل فقه السياسة عند الماوردي هو مجرد تأمل نظري طوباوي؟ ماهي الإضافات النظرية والفتوحات العملية التي قدمها الفقيه الماوردي إلى الفكر السياسي العربي مما جعله يبتعد أن يكون مجرد ترجمة عربية للفلسفة السياسية اليونانية؟ ماذا يقصد بمارة التنفيذ وإمارة الاستيلاء؟ ولماذا جعل الخليفة هو الذي يعين الإمام على صلاة الجمعة؟ وهل يجوز أن نميز بين مساجد للسلطان ومساجد للجمهور؟ ترى ما الغاية من حديث الماوردي عن فضيلتي الحذر والعدل في تدبير أمور المدن والثغور؟ ثم ما مدى شرعية التحديث الذي قام به في المؤسسات الدستورية عندما أدمجها في مفهوم الشريعة وقدم مؤسسة الخلافة على جميع المؤسسات الحكومية الأخرى؟
أليس من العبث أن نشبه الخلافة بالملكية الدستورية الآن طالما أنها مجرد سلطة رمزية فحسب؟
لما كان المشكل الذي استفزنا في هذا المبحث هو علاقة الأحكام الدينية بالولايات السلطانية فان غاية مرادنا ليس مجرد القلب والتحوير في منزلة كل من المصطلحين في علاقة بالآخر وإنما تأكيد حقيقة الدور الدبلوماسي التشريعي الذي كان يؤديه الفقيه الماوردي في بلاط الخلفاء وقصور الحكام والسلاطين وذلك بالتمييز بين الكلام في الدين والكلام في السياسة والسياسة الشرعية التي هي الأحكام التي ينظر إليها على أنها مطلقة أو كلام الدين عن السياسة دون أن نهمل خطاب السياسة في الدين والذي يعني الانتفاع بأمور الدين في سياسة الملك.
1- مصادر فكر الماوردي:
يمثل الماوردي عقدا فريدا في تاريخ الفكر الفلسفي العربي لأنه الفقيه الأبرز الذي ترك لنا تراثا سياسيا وأفكاره في الأحكام السلطانية هي الأكثر دلالة في حضارة اقرأ أكثر حتى من نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة،خصوصا وأنه ليس مجرد فقيه شافعي بل هو أيضا مشرعا ممتازا للمشكلات الإدارية والاقتصادية للدولة في الإسلام سواء كانت خلافة حسب الشرع أو إمارة حسب الوضع والاستيلاء والغلبة.
ارتبط تفكير الماوردي بالتفكير السياسي الأشعري الذي يطابق بين طاعة الله وطاعة السلطان ويماثل بين صفات الذات الإلهية وصفات الملوك والخلفاء.
اللافت للنظر أن بنية العقل السياسي الفقهي ترتكز على أربعة أسس:
- ضرورة وجود وازع أو سلطة تنظم حياة الناس.
- انعقاد الإمامة فرض كفاية على كل فرد عين أن يؤديه.
- لزوم طاعة الإمام حتى يعطي حقوق الأمة.
- نظام الحكم يعتمد بالأساس على الشرع.
يقول الماوردي في هذا السياق:" الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع"[2]
ويستشهد ببيت الشعر الذي قاله عبد الله ابن المعتز:
الملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى
هل يمكن أن نفهم من هذا الاستشهاد أن الماوردي ينظر للحكم الثيوقراطي؟
إذا تدبرنا المرجعية التي يعتمد عليها هذا الفقيه وانتقلنا من العام إلى الخاص فإننا نلاحظ أن التقليد الفقهي الشافعي على خلاف الأحناف يركز على اعتصام الجماعة والعروة الوثقى بين مكونات الأمة وعلى الوحدة السياسية والاجتماعية ويذهب هذا التوجه إلى ربط الأمصار والنواحي البعيدة بالمدينة والعواصم والنواة الأصلية للسلطة وذلك عبر الدعاء للسلطة المركزية في الصلوات والخطب وإظهار الولاء في الأعياد الرسمية وبعث الهدايا والعطايا والخراج.
إن بنية العلائقية التي تربط الفقه بالسياسة في التقليد الشافعي هي الموالاة والتبعية والخدمة وطاعة أولي الأمر من أجل المحافظة على وحدة الجماعة وسلامتها من كل مكروه وعندما يخير الفقهاء بين الشرعية والعدل ووحدة الجماعة فإنهم يفضلون الاعتصام والوحدة حتى في ظل سلطة ظالمة غير شرعية تقوم على التغلب والاستيلاء والتوريث ويسمى هذا المبدأ بالطاعة في المنشط والمكره ويقر بأن السلطان قوام الدين ولا ينبغي التقليل من أهمية وجوده وضرورته للأمن والاستقرار حتى وان كان مستبدا ظالما فاسقا ويذكر الطرطوشي في سراج الملوك حديث منسوب للرسول محمد صلعم يقول فيه:"إذا عدلوا فيكم فلهم الأجر وعليكم الشكر وإذا جاروا فعليهم الوزر وعليكم الصبر..." ويمثل الماوردي واحد من فقهاء الذين وضعوا أنفسهم على ذمة الحكام والخلفاء فقد خدم الخليفة العباسي القادر( مات عام1031) وساند بيان الحظر الذي أصدره ضد المعتزلة القائلين بخلق القرآن وخدم الخليفة القائم (مات عام 1074) وهو الذي طلب منه تأليف كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" وقد وضع الماوردي نفسه تحت تصرف الأمراء البويهيين.
يميز الماوردي بين الولايات الدينية وهي الوظائف التي لها صبغة دينية كالخلافة والإفتاء وإمامة الصلاة والأحكام السلطانية وهي القوانين الإدارية والوزارة وإمارة الجيش.
لم يفعل الماوردي أثناء حديثه عن الإمامة سوى استعادة آراء الباقلاني والبغدادي والجويني التي تثبت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وتلتمس درجة من الشرعية لمن جاء بعدهم من ملوك وحكام وبالتالي كان أول من صاغ آراء كلامية في السياسة الشرعية بلغة فقهية تقريرية صارمة لبست ثوب الأحكام والخطط.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يذكر الماوردي الإمامة في عنوان الكتاب والجواب الذي نجده عنده يتمثل في القول بأن الإمامة شيء من الماضي وقع الحسم فيه وصدر الحكم ضده والمسألة الوحيدة التي تقتضي الحسم وتنسحب على المستقبل هي شروط الإمامة ووظائف الوزارة وهذا هو العمل الجاد الذي قام به الماوردي وإضافته النظرية الحاسمة بالنسبة إلى الفكر السياسي الفقهي الأشعري. وقد ذكر الماوردي سبعة شروط للإمامة: 1- العدالة 2- العلم 3- سلامة الحواس 4- سلامة الأعضاء 5- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية 6- الشجاعة 7- النسب القرشي وتنطبق هذه الشروط على الوزارة باستثناء النسب الذي يمكن أن يضم غير المسلمين.
في الواقع تحدث الماوردي عن الخلافة بوصفها روح الدولة الإسلامية وبحث في علاقتها بالدين وانتهى إلى أن الدولة حقا هي دولة الخلافة وأن مهمتها هي خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا لكن المشكل الذي يطرح هنا هو كيف نستطيع المرور من حراسة الدين(ولايات دينية) إلى سياسة الدنيا( أحكام سلطانية)،فهل نفس الجهاز الذي يحرس الدين هو الذي يسوس الدنيا أم أن هناك جهازين مستقلين واحد للدين والآخر للدنيا؟ لكن ما طبيعة العلاقة بينهما؟ هل يتمتع الجهاز السياسي الذي يدير شؤون الدنيا باستقلالية تامة عن الجهاز الذي يدير شؤون الدين؟ هل تبقى لجهاز الدين مجرد وظيفة رمزية لا غير أم أنه يجب أن يكون المرجعية العليا للحكم؟ وباختصار ماهو الحد الفاصل بين الخلافة والدولة؟
2- الوجه السلبي لفكر الماوردي:
هناك ارتباط عند الماوردي بين الدين والملك فوحدة المذهب علامة على وحدة السلطة ووحدة السلطة هي السبيل الوحيد لوحدة المذهب ولكي نحافظ على العقيدة لابد أن نحافظ على وحدة الأمة وهذا ما نظر إليه الماوردي عندما تمسك بمؤسسة الخلافة في عصر شهد العديد من الانقسامات والانشقاقات عن السلطة المركزية وعندما لجأ إلى التعالي بالسياسة وتسييس المتعالي على حد عبارة الجابري فجعل الدين أصل الملك بل اعتبره قانونا يسري على جميع الأمم، وما يعنيه الماوردي بالأساس الديني للملك هو أن مرجع البشر يقع خارج وجودهم وأنه لا سلطة على واحد منهم على الآخر وهذا يعني أن الشريعة لا يسنها بشر بل لابد أن تكون من مصدر متعالي على الجميع لكي يقبلها الجميع وبهذا المعنى يتحول الدين إلى رابطة اجتماعية وتصبح الأحكام الدينية هي الأحكام السياسية التي تنظم العلاقات بين الأفراد وتوفر السلم والأمن والتعاون والتبادل.
لقد أكد مارسيل غوشيه في كتابه دين المعنى وجذور الدولة نفس الفكرة بقوله:" إن الدين شكل تاريخيا إمكان نشوء الدولة".
يمكن القول بالانطلاق من هذا التصور السياسي لعلاقة الدين بالملك أن الدولة في الإسلام بوصفها خلافة النبوة لا تستمد إيديولوجيتها من التاريخ العيني بل من الشرع الإلهي الذي أنزل في العهد الذهبي ويصفه الفقهاء على أنه صالح لكل زمان ومكان، خصوصا وأن:" الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة وحاط به الملة وفوض إليه السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع وتجتمع الكلمة على رأي متبوع فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة وانتظمت به مصالح الأمة واستثبتت بها الأمور العامة وصدرت عنها الولايات الخاصة فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام متشاكل الأحكام "[3].
نستنتج من هذا أن الماوردي لا يفرق بين الإمامة والخلافة وهي المؤسسة الدينية العليا التي لا يمكن أن توجد إلا واحدة منها في الزمان ويرفض الماوردي استخدام لقب سلطان كصاحب منصب معين في الدولة ويؤكد أن المناصب الرئيسية هي : الخليفة والوزير والأمير.
وقد ذكر المستشرق هنري لاوست في كتابه التعددية في الإسلام:" أن تصور الماوردي للخلافة يقوم على نمطين:
- أن تكون الدولة وحدوية مركزية مشكلة بشكل طبيعي عندما يعين الخليفة الأمراء الأكفاء وعندما يبقون تحت إمرته بشكل صارم.
- أن تكون الدولة تعددية من نوع فيدرالي محكومة من قبل الإدارة اللامركزية وتكون للأقاليم الحرية الواسعة في تسيير شؤونها بنفسها لكن لابد من أن تعترف بأولوية الخليفة وأهميته بصفته مسؤولا عن تسيير أمور الدين والشريعة.
ويؤكد المستشرق هنري لاوست أن "الأحكام السلطانية هو مصنف تم وضعه بناء على طلب السلطة الحاكمة بغية الدفاع عن شرعية الخلافة العباسية وإعادة الهيبة والسلطة إليها بقدر ما كان ذلك ممكنا"[4]. من هنا فإن الخلافة حسب الماوردي لا تقبل التعدد بل ينبغي أن تظل مؤسسة موحدة لأنها تمثل ذروة السيادة العليا التي تستمد مها كل سلطة سياسية شرعيتها ولكن لما تتعدد السلطات السياسية والدول والأمراء والملوك فان الخلافة كحافظة للشرع والدين لابد أن تبقى لأنها مؤسسة مقدسة ومتعالية على كل الانحرافات الدنيوية الزمنية.
غير أن الإشكال الذي يظل قائما هو: ماهي الوظيفة الإيديولوجية لمؤسسة الخلافة الإسلامية التي ظل الماوردي متشبثا بها رغم ضعفها وهوان سلطتها المركزية أمام انفصال الأقاليم والدول؟ كيف يمكن اعتبارها مجرد تبرير لواقع سياسي فرض نفسه على الجميع؟ هل هي حل جذري لواقع سياسي انسدت فيه كل سبل الإصلاح أم هي مجرد حلم طوباوي يثبت دولة دون سلطان؟
يصر التقليد الشافعي على الرجوع إلى الكتاب والسنة في تعليل الأحكام الشرعية عكس التقليد الحنفي الذي يبيح إمكانية تدخل الاستصلاح أي الواقع التاريخي في استنباط الأحكام الفقهية الجزئية. ويفتخر الفقه الشافعي بهذه الخاصية فهو متعالي عن الزمن التاريخي ومتحرر عن المحيط الاجتماعي السياسي وينشد فقط احترام كلام الله وسنة رسوله. الفقه الشافعي لا يهتم بوحدة الأمة والجماعة إلا من أجل حفظ الحد الأدنى من السلطة الاجتماعية والسياسية التي تستطيع أن تحمي القيم الإسلامية وتؤكد على الاعتبار بها. إن مصلحة الأمة ليست الغاية بل هي وسيلة لتحقيق الغاية المثلى وهي حفظ العقيدة من كل اندثار وانتهاك أي لابد أن تتوفر الشروط الضرورية لاستمرار الإسلام وهذه الشروط هي:
- انعقاد الإمامة ووجوب الإمام بشروطه السبعة
- وجوب طاعة الإمام والولاء له حتى عند عصيانه وظلمه.
- تطيق الشريعة والتقيد بأحكامها في تسيير الشأن العام.
لكن إذا كان التقليد الفقهي الشافعي يركز على الجماعة المرتبطة بنفس الإيمان والقيم والشعائر المشتركة فهذا لا يعني دمج كل الفقهاء في فلك السلطان بل العكس هو الصحيح أي أن الفقهاء هم الذين يقودون الأمة ويوجهون السلطان ويعطوه الشرعية إذا عدل وينزعوها عنه إذا ظلم وبالتالي فان الفقهاء احتفظوا لأنفسهم باستقلالية عن السلطة القائمة ولو نسبيا وبغض النظر عن المساعدات التي تقدم لهم ولذلك لا نستغرب عندما نجد فئة منهمك تمارس حق النقد والمحاسبة للتأثير على السلطان وردعه وتعزيره عند الخطأ وتخطي الحدود، ففقهاء مثل السرخسي والشيرازي وابن حنبل قد مارسوا وظيفة المراقبة والمعارضة العلنية بالكلمة الصريحة.
من هنا نجد في التقليد الفقهي انشطار في الموقف من السلطان:
- الرأي الأول يضع نفسه في خدمة النظام القائم ويعينه في كل ما يذهب إليه.
- الرأي الثاني يدافع عن استقلالية الفقه عن السياسة ويضع نفسه في خدمة الأمة.
فإلى أي فريق ينتمي الماوردي؟ وهل كانت نظريته في الخلافة حلما طوباويا ومشروعا مثاليا لا يمكن تحقيقه على الأرض أم أن تصوراته واقعية عكست حالة التخبط والفوضى والتشرذم التي عانت منها الدولة الإسلامية في عصره.
يمكن النظر إلى الماوردي من زاويتين:
- الزاوية الأولى هي أن الماوردي يريد المحافظة على قدسية الخلافة ورمزيتها ويصون هيبتها من كل انتهاك ولذلك نجده يقدم أصل وجودها على أنه فوق تاريخي أو روحي وربما فعل ذلك حسب محمد أركون في كتابه "الإسلام والأخلاق والسياسة" من أجل يقوي الصورة المثالية للخلافة في التصور الجماعي للمدينة الإسلامية (المخيال الاجتماعي) وبهذا المعنى من المثالية أي كونها تمثل ذروة السيادة العليا لكل سلطة سياسية يمكن أن نعتبر الماوردي قد قدم تصورا طوباويا.
- الزاوية الثانية هي أن الماوردي الفقيه غير بعيد عن الماوردي السياسي وذلك لوجود تلازم بين الفقه والسياسة في الحضارة العربية الإسلامية ويمكن أن نقر أن آرائه العملية نابعة من واقعه والوسط الاجتماعي المتقلب الذي عاش فيه خصوصا وأن الفقه مبحث عملي أكثر منه نظري وكل ماهو عملي هو محسوس ومربوط بالتجربة والواقع هو سبب وجود هذا المبحث أكثر من المبادئ الغيبية والآراء المجردة ومن هنا يمكن أن نعتبر الماوردي أب الواقعية في السياسة الفقهية التي تعمل على إيجاد حلول شرعية لمشاكل حياتية طبقا لمقدمات لا ضرر ولا ضرار والضرورات تبيح المحظورات.
السؤال الذي يطرح هنا هو: هل يخفي الطابع العملي التشريعي إبداعا نظريا خاصة على مستوى الأصول في فكر الماوردي السياسي؟ بعبارة أخرى يمكننا أن نتساءل عن الجانب الايجابي في فكر الماوردي هل قدم حلولا فعلية لمشاكل واقعه المأزوم؟
2- الوجه المضيء لفكر الماوردي:
ايجابية فكر الماوردي تتوزع على ثلاثة محاور:
- تمثله الكبير لتاريخ الإسلام وتعامله معه بذكاء فائق وانتقاء دقيق.
- تقويمه الشخصي للواقع السياسي والاجتماعي والحضاري الذي مر به عصره.
- تقديمه لحلول ضمنية وصريحة لهذا الواقع المتأزم.
شكل الماوردي نظريته بالاعتماد على رؤية انتقائية لتاريخ الأفكار والأحداث فهو قد سكت عما لا يمكن السكوت عنه، فرغم أنه أساء إلى مصداقية التاريخ وموضوعيته باعتماده أسلوب الحذف والإنقاص إلا أنه كان يعتقد أن أسلوبه هذا يخلصه من العديد من المشاكل المنهجية من أجل صياغة إيديولوجيته السلطانية التي تعطيه مفاتيح لواقعه السياسي المغلق فمثلا يصمت على الرأي العباسي القائل بأن حكام بني أمية كانوا ملوكا وليس خلفاء لأنه سيوقض تصوره في الخلافة وسينقص من شرعية كل الذين جاؤوا بعد عثمان ويسكت أيضا على النظرية الشيعية في الإمامة لأنها تفرق بين الإمامة والخلافة وهو يريد أن يماهي بينهما ويتحاشى الخوض في مسألة استيلاء بني بويه على الحكم في بغداد وتحويل مؤسسة الخلافة إلى صورة دون مضمون حتى لا يعرض حياته للخطر. لقد كان الماوردي يريد الحفاظ على هيبة الخلافة وتقديمها في صورة روحية لازمانية ولاتاريخية وتقريبها من الوعي التقديسي للأمة حتى لا يجرأ أحد على إلغائها. لقد كانت غايته هو ضمان استمراريتها وتواصلها رغم النقائص التي أصبحت تعاني منها وتبدل الظروف وتغير الأزمان، فرغم اقتناعه بعدم شرعية بني أمية والعباسيين بالخلافة إلا أنه أصبغ عليهم المشروعية الدينية حرصا على إنقاذ مؤسسة الخلافة من التلاشي.
لقد أضفى الماوردي القداسة على سلطات أبعد ما تكون عن القداسة وذلك ليدافع عن حاضر الخلافة العباسية المتأزم ويبرر شرعية وجودها المهتز في عصر تميز بسيطرة البويهيين وهذا هو سر رفضه لجواز انعقاد أكثر من إمام في الإسلام وتشريعه لإمارة الاستكفاء وإمارة الاستحواذ وفق نظرة برغماتية تبريرية.لقد ظل الماوردي يتحرك ضمن التقليد الفقهي الشافعي رغم اهتمامه بشؤون السياسة والنزاعات في عصره ورغم تحدثه عن حتمية الانقسام فانه بقي ينظر إلى الفرقة والاختلاف والابتعاد عن الوحدة والخروج عن روح الجماعة على أنه فساد ناتج عن تقاطع السياسي بالديني وتنازعهما على أحقية الريادة ومع ذلك ظل يشرع لدولة إسلامية واحدة تضم جميع الأقاليم وتقوم هي بتسييرها عن طريق إدارة مركزية وفق نمط فيدرالي للحكم حتى إذا كانت سلطة أمراء أقوى من سلطة الخليفة فإنهم مطالبين بالمحافظة على البيعة والولاء للخليفة واحترام هيبة مؤسسة الخلافة.ويلجأ في كتابه نصيحة الملوك إلى أسلوب الوعظ والنصح والإرشاد ليرمي من وراء ذلك إلى الدعوة لإعادة تأسيس دولة خلافة قوية من جديد وكأن صوته منبعث من قاع بئر وأسلوبه استجداء في زمن لا يعترف بالاستجداء.
ثمة فعلا نزعة توحيدية واضحة للعيان في نظرية الماوردي تظهر في صورة وعظ ونصح وفي شكل تشريع فقهي وحكم عملي قانوني ولكن هذه النزعة تخفي بعض الجوانب المهادنة والتبريرية المحافظة في فكره،فرغم أن فكر الماوردي قد اتسم بالعقلانية الواقعية إلا أن هذا الفكر ظل أسير الأطر الفقهية الصارمة التي منعته من إدراك الواقع الموضوعي كماهو في حقيقته. انه من البديهي أن يكون الماوردي صاحب مشروع متكامل ولكن الإشكالي هو الغاية من هذا المشروع والسؤال الذي يطرح هنا هو: لمصلحة من أسس الماوردي مشروعه السلطاني؟ هل لخدمة مصلحة السلطة القائمة أم لخدمة مصلحة سائر الأمة؟
إن نظرية الماوردي السياسية هي أبعد ما يكون عن الطوباوية لأنها تقترح حلولا عملية لبعض المسائل السياسية التي تهم السلطة القائمة وهو هنا لا يتحرك من فراغ بل يمثل سلالة من الفقهاء وضعوا أنفسهم في خدمة السلاطين والملوك وحافظ بالتالي على نفس التماثل بين الفقه والسياسة.
رغم أن الماوردي كان عمله متجها نحو إدخال بعض المؤسسات التي عاصرها مثل الوزارة والإمارة إلى دائرة التنظيم الإداري الإسلامي إلا أنه كان يقصد من وراء ذلك المزيد من إلحاق مجال الحياة العامة بالتشريع الفقهي وبالتالي إلحاق المجتمع بالدولة والأقاليم بالسلطة المركزية وشؤون السياسة بشؤون الدين وأمور الحكم بمؤسسة الخلافة. يمثل الماوردي تقليد فقهي موالي للسلطة يحتكم إلى مبدأ معروف هو:حق السلطان على سائر الآخرين ويتناسى حقوق الآخرين على السلطان فهو القائل:"ليس للسواد مختص بالأئمة في الصلوات التي تقام فيها دعوة السلطان" ويقصد أنه يجب أن تكون سيطرة السلطان على رعيته مطلقة لأن السلطان هو الراعي والمجتمع هو الرعية والسواد هم الرعاع والراعي ينبغي أن يقود رعيته والرعية مطالبة بالطاعة والانقياد لأن مصيرها في يد راعيها.
إن الماوردي بعيد عن الموقف الفقهي الذي يحتكم إلى مبدأ الاستصلاح والذي يشرع للأمة المطالبة بحقوقها من الحاكم وعزله إذا ظلم والتي تربط صلاح الحاكم بتطبيقه للشريعة.
إن نظرية الماوردي في الدولة لا تمثل النظرية الإسلامية التي سماه ابن تيمية فيما بعد السياسة الشرعية بل تعبر عن إيديولوجيا الأمر الواقع وأنه قدم صياغة جديدة لحل مشاكل عصره رغم كونها بقيت صياغة سلطوية ويجوز أن نطلق على فكره السياسي بالايدولوجيا السلطانية كما فعل محمد عابد الجابري فهو كان قد قسم المساجد إلى سلطانية تدعو للنظام الحاكم وعامية تدعو الله باللطف بالعباد. وقد صدق عبد الله العروي عندما وصف شخصية الماوردي على أنه المفكر الذي يتعايش فيه في نفس الوقت الطوباوي الذي يحلم والواقعي الذي ينصح والفيلسوف الذي يخطط لسلطان دون مدينة وعندما أكد أن:" الطوبى السياسية في الإسلام –تلك التي يسميها الفقيه خلافة والفيلسوف مدينة فاضلة- هي ظل السلطنة القائمة. وذلك بمعنيين مختلفين. هي أولا نتيجة عكسية،صورة مقلوبة للوضع القائم في القلوب والأذهان المتضايقة منه. وهي ثانيا وسيلة لتقويته وتكريسه فتنقلب بالضرورة الطوبى إلى أدلوجة. يعيش المرء تحت سلطان ويتخيل نظاما لا يحتاج إلى سلطان"[5] .
خاتمة:
إن هذه الايدولوجيا السلطانية تكرس الأمر الواقع ولا ترفضه ولم تكن البتة طوباوية لأنها لو كانت طوباوية لتحولت من شدة مثاليتها إلى حركة فكر رافض للواقع ومتمرد عليه أما هي فإنها في حقيقة الأمر تبرره وتتمادى في الدفاع عليه ضد كل انتهاك بل إن هذا الفكر تشكل في ظل العديد من التراجعات والهزائم قامت على حساب مؤسسة الخلافة بعد سيطرة البويهيين والسلاجقة وهو ما دعا الماوردي للنظر إلى الخلافة كمؤسسة روحية وزمنية في نفس الوقت تمثل سلطة غيبية على القلوب في كل مكان من المعمورة وفي الآن نفسه سلطة مادية على بقية الأمصار.
أما بعد تراجع أهمية مؤسسة الخلافة كمؤسسة دنيوية راح الماوردي يكثف من التركيز على البعد الشعائري التقديسي ليفصل في نهاية المطاف بين الروحي المتعلق بالخلافة والزمني المتعلق بالإمارة وليجعل من طبقة الفقهاء حراسا أوفياء للماضي الرمزي البائد تاركين مكانهم للحكام والساسة والأمراء والوزراء الدنيويين الذين يحتكمون إلى الحيلة والمكر والقوة والعقل أكثر من احتكامهم إلى النص والمقدس والمشروعية والمرجعية.
إن هذه الثنائية لا تكشف عن واقعية سياسية كما يحلو للبعض تسميتها بقدر ما توضح مدى ارتباط الماوردي بالنزعة التبريرية حيث أراد من نظريته التوفيقية تقديم يد العون للإدارة البيروقراطية عن طريق الفقه حتى تتمكن من تحقيق استقرار سياسي مهزوز وبالتالي كان الماوردي بعيدا عن أن يكون راعي مصلحة الأمة وحريصا على وحدة الجماعة كما يظن البعض من المتحمسين للسياسة الشرعية. ألا يمكن أن نختم بما قاله حنا ميخائيل:" ليس الماوردي عالما ماورائيا بل هو متكلم فقيه ولا تكمن أهميته في إبداعه الفلسفي بل في أنه يعكس المهم من المشكلات والاتجاهات في التراث السياسي الإسلامي"؟[6]
المراجع:
الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابلي الحلبي مصر الطبعة الثالثة 1973
عزيز العظمة الماوردي رياض الريس للكتب والنشر بيروت الطبعة الأولى فيفري 2000
حنا ميخائيل السياسة والوحي الماوردي وما بعده تقديم ادوارد سعيد دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1997
عبد الله العروي مفهوم الدولة المركز الثقافي العربي الطبعة السادسة 1998
* كاتب فلسفي
[1] الماوردي أدب الدنيا والدين ذكره عزيز العظمة في كتابه الماوردي رياض الريس للكتب والنشر بيروت الطبعة الأولى 2000 ص174
[2] الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابلي الحلبي مصر الطبعة الثالثة 1973 ص 5
[3] الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابلي الحلبي مصر الطبعة الثالثة 1973 ص3
[4] حنا ميخائيل السياسة والوحي الماوردي وما بعده تقديم ادوارد سعيد دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1997 المقدمة ص 26
[5] عبد الله العروي مفهوم الدولة المركز الثقافي العربي الطبعة السادسة 1998 ص 114
[6] حنا ميخائيل السياسة والوحي الماوردي وما بعده تقديم ادوارد سعيد دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1997 ص135