باستثناء بعض المواقف اليتيمة، مواقف أفلاطون وماركس وسيمون دي بوفوار مثلا، ظل الموقف الفلسفي من المرأة موقفا سلبيا وغير مشجع على نفي حالة الصراع بين الرجل والمرأة التي طبعت التاريخ البشري، على الرغم من وجود مجتمعات موشومة بالبدائية تحتل فيها المرأة مركز الصدارة، في حين يقبع الرجل في ركن خفي، ينتظر نظرة حالمة من زوجته، أو هدية تتحف بها وجدانه، وتقبل بها مودته.
لقد اعتبر أرسطو المرأة رجلا ناقصا أو ذكرا غير مكتمل، ولا تصلح إلا لوظيفة الإنجاب، واعتبرها الفيلسوف الأنواري والأب الروحي للثورة الفرنسية، جون جاك روسو منذورة فقط لخلط الخضر بالحساء وإعداد الطعام لفارسها، وفي جميع الأحوال على المجتمع أن يربي المرأة منذ الصغر على الخضوع للرجل وإلا فإن وجود المجتمع سيكون في خبر كان. وكانط المتخم بالأخلاق رأى فيها كائنا أخلاقيا ناقصا لأنه ناقص عقلا. أما شوبنهاور فليست لديه جنسا لطيفا، وإنما هي جنس لا يتذوق الفن، ولا يعرف إلا تبذير أموال الزوج في المناسبات التافهة. ويزيد نيتشه النار في الهشيم حين ينصح كل رجل قاصدا امرأة بقوله: " إذا ذهبت إلى النساء فلا تنسى السوط " . فلم كل هذا الإزدراء للكائن التائي(نسبة إلى تاء التأنيث)؟هل يتعلق الأمر بكينونة بيولوجية ترث بها في خلقتها الأولى مورثات دونيتها أمام الرجل، أم هي العوائد والأعراف الأبيسية التي فعلت فعلها فمنحته الامتياز الاجتماعي وهوت به في الوجود إلى قاع الدونية؟ ألا يؤدي التفسير الاقتصادي إلى تحليل أدق لوضع هذا الكائن وحدود إمكاناته في المجتمع، وبين المجتمعات؟
يمكن القول بأن القول الفلسفي الذي وشم تاريخ الفلسفة قد علق بالثقافة السائدة داخل كل مجتمع. هذه مفارقة وقع فيها المزدرين لقدر هذا الكائن في الوجود، وفي نسمة الحياة التي تمنحها للعلائق التي ينسجها بني البشر. فإذا كان موقف هؤلاء موقفا تنويريا في العديد من النقاط والقضايا التي أقاموا فيها الحفر بمنطق العقل البرهاني وآليات اشتغاله، وقلبوا فيها كثيرا من الأوضاع التي يغلفها ضباب سديمي، دون إمعان للفكر والنقد في مدى استيعابه لموطنات وجوده الذاتي ووجوده العلائقي الذي يضمه إلى الآخرين، فإن موقفهم من هذا الكائن ظل موقفا متخلفا، ولا يحتفي بحال بكرامة الإنسان التي نص كانط على أنها غاية تعلو على المصالح والمنافع الذاتية التي تجعل البعض أدوات في خدمة غايات الآخرين، مثلما يقع بالنسبة للرجل، حين يتخذ المرأة مجرد متعة، أو وسيلة لحفظ النسب من الإندثار.
قد نبرر هذه النظرة بطبيعة الشروط الإقتصادية التي شكلت هذه النظرة مجرد انعكاس لها، فوضع السيادة التي يمتلكها البعض، ويحتكر من خلالها وسائل الإنتاج ومراكز النفوذ في
دواليب السلطة، جعل من وضع القهر الذي يعيشه من يُستغَلون من طرف هؤلاء يتحول من المُستغَل إلى زوجته.
وقد تكون قضية الصراع بين الرجل والمرأة عائدة بالأساس إلى إيديولوجية لجأت إليها الطبقات الحاكمة، حتى تموه على حقيقة الصراع التي تشكل طرفا أساسيا فيه. وهكذا، وعوض أن يتصارع الإثنان (الرجل والمرأة) من الطبقة الكادحة ضد الطبقة الحاكمة، أصبح الاثنان يتصارعان ضد بعضهما البعض.
غير أن هذا التفسير المادي أو الاقتصادي لخلفيات هذه النظرة ليس مقنعا بما فيه الكفاية، لأنه إذا عدنا إلى الدين الإسلامي، فقد صحح الكثير من الأوضاع الإجتماعية التي يتعالق فيها الإثنان فحرم وأد البنات، ومنع تملكها كأي متاع أو ملك خاص يورث، وضمن لها حقها في الإرث وفي النفقة. لكن لا يمكن القول بأن هذا الوضع كذلك مريح تماما للمرأة، فالإسلام ينص على تبعية المرأة للرجل؛ فعلى المرأة واجب الطاعة والستر، وعدم الخروج من المنزل إلا بإذن خاص من زوجها، وعدم استقبال الأغراب في بيته، وإذا دعاها إلى السرير فله الحق في ضربها وهجرها إن هي تمنعت، وعليها أن ترضى بزوجات ثلاث إذا شاءت رغبة الزوج في ذلك، وإن كانت رغبة مشروطة بالقدرة على العدل بينهن.
مع ذلك يحاسب الإسلام، لأنه حكم على النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، وأن شهادتهن لا يعتد بها في خلاف أو محاكمة، ولا يلقن إطلاقا للقضاء بحكم طبيعتهن السيكولوجية الهشة والمحتالة. فهل هذا يعني أن علينا أن ننادي إلى مساواة مطلقة بين الرجل والمرأة؟
لنقل بأن هذا الأمر مستحيل، لأن النظرية الدينية تقول بأن أول من خرج إلى الوجود ليس الوجود العيني الذي نحن فيه، بل الوجود السرمدي هو آدم. ومع فارق في الزمن خلق الرب حواء من بين أضلاع آدم. الإثنان أكلا من الشجرة التي حرم الرب عليهما أن يقرباها أو يقربا ثمارها. فلما أكلا منها قضى الرب أن يهبطا إلى الأرض عقابا لهما على ما اقترفاه معا. إذن كان آدم أول الخلق، وآدم رجل، أما حواء فهي ثاني الخلق، وهي امرأة، وهي من أغوى آدم بعصيان الرب. فكيف لهما أن يتكافآ في ظل هذا الوضع؟
رغم أننا لا نمتلك مستندات تاريخية، تحدثنا عن هذه النشأة الأولى والخرجة الأولى من حياة إلى أخرى، سوى ما تحدثنا عنه النصوص المقدسة من قرآن وإنجيل، فهذا الطرح لا يقنع سوى بطوباوية التكافؤ في كل شيء، في العلاقة بين الرجل والمرأة.
من داخل البنية اللغوية للسان الضاد ذاتها، يستحيل التكافؤ بينهما. لا يهمنا من مشكلة اللغة البحث في الأصول التي انبعث منها، بقدر ما يعنينا منها مسألة التضمير، أو لعبة الضمائر التي توظف في صياغة الفكر، وهندسة الواقع وفقا لبنية قبلية مقعد لها لضبط سيرورة تصريفها بين أفراد المجتمع، لأنها لا تقبل التغيير. الأمر يتعلق ببساطة برجل تحيط به نساء، يقدرن بالعشرات، أو بالمئات، أو حتى بالملايير، فضمير من سيغلب هنا؟ هل هو ضمير المذكر أم ضمير المؤنث؟ المسألة هنا محسومة سلفا، ولعل هذا الحسم عائد بالأساس إلى المجتمع الذكوري الذي تهيمن عليه قيم الفحولة والسيادة والهيمنة. حتى إذا كانت المرأة هي من يعيل الأسرة، إما بسبب عطالة الزوج، أو إعاقته، أو طلاقها منه، فإن المجتمع يسميها أو بالأحرى ينعتها بالرجل، فكل شيء يرجع إليه في الحل والعقد، وبلغة أرسطو إنه المحرك الذي لا يتحرك. فهو المركز، وكل ما عداه يتخذ قيمته بالرجوع إليه، أما قيم الحشمة والشرف والطاعة، فهي لا تدور في فلك في الرجل، بل هي إختصاص أنثوي صرف.
وإذا كان المجتمع (بما فيه الرجل والمرأة) ينظر إلى المرأة على أنها مكمن الشر على حد تعبير نيتشه(هكذا تكلم زرادشت، ص63)، فلأن اعتقادا راسخا أصبح ينتقل عبر الأجيال من خلال عملية التنشئة الإجتماعية، يستنبت في الأذهان صورة الكائن الأكثر شرا في العالم، وهي المرأة. لهذا ارتبط حضور المرأة في المخيال الشعبي المغربي بقيم المكر والحيلة والخداع، وما إختزال صورتها في رمز الشيطان، إلا تعبير عن تراجيدية الوضع الذي يأسر المرأة ويحاصرها. وفي هذا الصدد، يقول مثل شعبي مغربي دارج:"شَاوَرْهَا وْما دّْيرْ بْرَيّّْْها"، ويقول مثل آخر:"الَمْرا زريعْةْ إبليسْ"، وبلغة الإمتهان ذاتها يقول مثل آخر:"العبدْ والمْرا إلاَ ما كْلاوْ العصا من الحدّ لحدّ ما يقولو بْحالْنا حد". فهل هناك قيمة لامرأة يشاورها الرجل ولا يعمل برأيها؟ ألا يعتبرها هنا كائنا ناقصا، شبيها بطفل غير ناضج، قولا وفعلا؟ وأية ثقة يمكن أن تتوسدها علاقته بها، حين ينظر إليها على أنها الإبنة الشرعية للشيطان، والوارث الشرعي والوحيد لأساليبه الماكرة والشريرة؟ وإذا كان لغة السوط هي اللغة الوحيدة التي تفهمها المرأة وتخر لها ساجدة، فكيف سيغتني المجتمع، وكيف سيتقدم ويستوي حاله في أي زمن من الأزمان؟
هذا لا يعني بحال أن هناك اتجاها رأسيا يتخذ فيه الرجل دور المرسل، في حين تكتفي المرأة بتلقي الفعل على أنه مشروع ومبرر. ففي الواقع، هناك عنف متبادل بين الإثنين، سواء كان مباشرا، وصريحا، أو كان متخفيا في شكل أساطير وخرافات، وهيئات طقوسية، وأنماط سلوك نحت منحى العادة، فلأن كانت المرأة تحتال،وتشعوذ، وثرثر، وتغوي، وتغرر، بأشد القلوب الذكورية تصلبا، فإن الرجل لا يستثنى من هذا الأمر. كيف وبأي حق؟
إذا تحدثنا عن الإحتيال والمكر، فالأمر لا يسلم منه لا الرجل ولا المرأة. فليست المرأة من يتهم بإتباع طرق ملتوية وغير مشروعة لبلوغ غايات نفسها. وعليه، فكلا الطرفين يتسمان بنفس الخصلة، والمغرب معروف بهذه الرائحة النتنة التي تفوح من العلاقات التي ينسجها أفراده فيما بينهم رجالا ونساء. في ميدان الشعوذة مثلا، تدور حرب حقيقية بين الإثنين، لكنها حرب خفية أدواتها التعاويذ والطلاسم الجنية، فإذا فشل أحدهما في اصطياد الآخر أو في استدراجه إلى السرير أو بيت الزوجية، فإنه يلجأ إلى طريق السحر والشعوذة، فيصير حال من يحتال، ومن يحتال عليه، سواء في انحطاط القيمة، وتبخيس قدر الإنسان في الوجود. وإذا تعلق الأمر بالثرثرة، فالرجال كذلك يثرثرون في المقاهي، ولاشك أن بعض النميمة والإغتياب يشوب اللقاء في هذه الفضاءات العامة. وهكذا، ومهما اختلفتا في تقدير نسبة حضور هذه السيئات في كيان كل منهما، فإن الأمر الحاصل هو أنهما يتقاسمانها، فلا داعي إذن للحكم على المرأة بأنها وحدها من يمكر، وأن الرجل بريء وليس هناك ما يدينه. ولا داعي كذلك لتصوير المرأة كضحية يضحى بها، لتفك التناقضات والصراعات التي تدور رحاها داخل المجتمع، في الوقت الذي يصور فيه الرجل على أنه وحش كاسر، ينتظر كل فرصة للانقضاض على أنثاه، كما فعل الشاعر السوري نزار قباني في جل أشعاره.
ففي الواقع، هذا الصراع الذي أريد له أن يبقى مكتنفا لأسرارية عجيبة، يسيل لها لعاب التفكير والتعبير والمناقشة التي قد تنتهي بالشتم والضرب، هو صراع وهمي أو متوهم. إنه صراع اختل ليخفي صراعا أشد وقعا والذي يدور حول الوضع الطبقي الذي يتموقع فيه رأسمال كل من الرجل والمرأة، وإن كنا لا نغفل أهمية التأثيرات الثقافية في تغيير أو تكريس هذا الوضع. وقد أشار مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الإجتماعي" إلى العديد من الميكانيزمات التي تضبط سيرورة "الشر"(المرأة)، حيث ينتقل القهر من أعلى سلطة موجودة داخل المجتمع، على جرعات، وبالتدريج، حسب السلم القيمي لوضع كل منهما، وكيف يتم تفريغه من خلال أنماط تفكير قدرية، وسلوكات يومية تبريرية.
فمن الصعب أن نمنح أولوية مطلقة لما هو مادي أو إقتصادي، في تحديد الوضعية التي عاشتها المرأة، أو التي تعيشها الآن، في ظل مجموعة من المواثيق الدولية التي تؤطرها مواثيق حقوق الإنسان. وبالمثل، ليس مستحسنا أن نركز على المحك الثقافي والفكري في تفسير ما بلغته الآن المرأة الأوروبية، كنموذج وحيد ومختزل للصورة الحقوقية التي غدت تمثال أغلب الشعوب المغلوبة على أمرها. فهذه الصورة التي أعادت للمرأة "الإفرنجية" آدميتها بعدما تقمصت دور الشيطان لعصور طويلة، كانت نتاج فكر أنواري ناقد، شيد للحرية والمساواة أسسا قانونية جديدة، تقطع كل صلة بالفكر الكنسي الراكد، وبالخلفيات اللاهوتية التي كان يبرر بها الحكام ممارستهم السياسية في علاقتهم مع أفراد شعوبهم. وقد يكون من الأصوب الآن أن نصادق على تلك الدعوة الماركسية التي اكتنفت مؤلف عبد الله العروي، والتي تنص على أن تحرير المرأة يمر حتما عبر تحرير المجتمع.
وقد تكون قضية الصراع بين الرجل والمرأة عائدة بالأساس إلى إيديولوجية لجأت إليها الطبقات الحاكمة، حتى تموه على حقيقة الصراع التي تشكل طرفا أساسيا فيه. وهكذا، وعوض أن يتصارع الإثنان (الرجل والمرأة) من الطبقة الكادحة ضد الطبقة الحاكمة، أصبح الاثنان يتصارعان ضد بعضهما البعض.
غير أن هذا التفسير المادي أو الاقتصادي لخلفيات هذه النظرة ليس مقنعا بما فيه الكفاية، لأنه إذا عدنا إلى الدين الإسلامي، فقد صحح الكثير من الأوضاع الإجتماعية التي يتعالق فيها الإثنان فحرم وأد البنات، ومنع تملكها كأي متاع أو ملك خاص يورث، وضمن لها حقها في الإرث وفي النفقة. لكن لا يمكن القول بأن هذا الوضع كذلك مريح تماما للمرأة، فالإسلام ينص على تبعية المرأة للرجل؛ فعلى المرأة واجب الطاعة والستر، وعدم الخروج من المنزل إلا بإذن خاص من زوجها، وعدم استقبال الأغراب في بيته، وإذا دعاها إلى السرير فله الحق في ضربها وهجرها إن هي تمنعت، وعليها أن ترضى بزوجات ثلاث إذا شاءت رغبة الزوج في ذلك، وإن كانت رغبة مشروطة بالقدرة على العدل بينهن.
مع ذلك يحاسب الإسلام، لأنه حكم على النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، وأن شهادتهن لا يعتد بها في خلاف أو محاكمة، ولا يلقن إطلاقا للقضاء بحكم طبيعتهن السيكولوجية الهشة والمحتالة. فهل هذا يعني أن علينا أن ننادي إلى مساواة مطلقة بين الرجل والمرأة؟
لنقل بأن هذا الأمر مستحيل، لأن النظرية الدينية تقول بأن أول من خرج إلى الوجود ليس الوجود العيني الذي نحن فيه، بل الوجود السرمدي هو آدم. ومع فارق في الزمن خلق الرب حواء من بين أضلاع آدم. الإثنان أكلا من الشجرة التي حرم الرب عليهما أن يقرباها أو يقربا ثمارها. فلما أكلا منها قضى الرب أن يهبطا إلى الأرض عقابا لهما على ما اقترفاه معا. إذن كان آدم أول الخلق، وآدم رجل، أما حواء فهي ثاني الخلق، وهي امرأة، وهي من أغوى آدم بعصيان الرب. فكيف لهما أن يتكافآ في ظل هذا الوضع؟
رغم أننا لا نمتلك مستندات تاريخية، تحدثنا عن هذه النشأة الأولى والخرجة الأولى من حياة إلى أخرى، سوى ما تحدثنا عنه النصوص المقدسة من قرآن وإنجيل، فهذا الطرح لا يقنع سوى بطوباوية التكافؤ في كل شيء، في العلاقة بين الرجل والمرأة.
من داخل البنية اللغوية للسان الضاد ذاتها، يستحيل التكافؤ بينهما. لا يهمنا من مشكلة اللغة البحث في الأصول التي انبعث منها، بقدر ما يعنينا منها مسألة التضمير، أو لعبة الضمائر التي توظف في صياغة الفكر، وهندسة الواقع وفقا لبنية قبلية مقعد لها لضبط سيرورة تصريفها بين أفراد المجتمع، لأنها لا تقبل التغيير. الأمر يتعلق ببساطة برجل تحيط به نساء، يقدرن بالعشرات، أو بالمئات، أو حتى بالملايير، فضمير من سيغلب هنا؟ هل هو ضمير المذكر أم ضمير المؤنث؟ المسألة هنا محسومة سلفا، ولعل هذا الحسم عائد بالأساس إلى المجتمع الذكوري الذي تهيمن عليه قيم الفحولة والسيادة والهيمنة. حتى إذا كانت المرأة هي من يعيل الأسرة، إما بسبب عطالة الزوج، أو إعاقته، أو طلاقها منه، فإن المجتمع يسميها أو بالأحرى ينعتها بالرجل، فكل شيء يرجع إليه في الحل والعقد، وبلغة أرسطو إنه المحرك الذي لا يتحرك. فهو المركز، وكل ما عداه يتخذ قيمته بالرجوع إليه، أما قيم الحشمة والشرف والطاعة، فهي لا تدور في فلك في الرجل، بل هي إختصاص أنثوي صرف.
وإذا كان المجتمع (بما فيه الرجل والمرأة) ينظر إلى المرأة على أنها مكمن الشر على حد تعبير نيتشه(هكذا تكلم زرادشت، ص63)، فلأن اعتقادا راسخا أصبح ينتقل عبر الأجيال من خلال عملية التنشئة الإجتماعية، يستنبت في الأذهان صورة الكائن الأكثر شرا في العالم، وهي المرأة. لهذا ارتبط حضور المرأة في المخيال الشعبي المغربي بقيم المكر والحيلة والخداع، وما إختزال صورتها في رمز الشيطان، إلا تعبير عن تراجيدية الوضع الذي يأسر المرأة ويحاصرها. وفي هذا الصدد، يقول مثل شعبي مغربي دارج:"شَاوَرْهَا وْما دّْيرْ بْرَيّّْْها"، ويقول مثل آخر:"الَمْرا زريعْةْ إبليسْ"، وبلغة الإمتهان ذاتها يقول مثل آخر:"العبدْ والمْرا إلاَ ما كْلاوْ العصا من الحدّ لحدّ ما يقولو بْحالْنا حد". فهل هناك قيمة لامرأة يشاورها الرجل ولا يعمل برأيها؟ ألا يعتبرها هنا كائنا ناقصا، شبيها بطفل غير ناضج، قولا وفعلا؟ وأية ثقة يمكن أن تتوسدها علاقته بها، حين ينظر إليها على أنها الإبنة الشرعية للشيطان، والوارث الشرعي والوحيد لأساليبه الماكرة والشريرة؟ وإذا كان لغة السوط هي اللغة الوحيدة التي تفهمها المرأة وتخر لها ساجدة، فكيف سيغتني المجتمع، وكيف سيتقدم ويستوي حاله في أي زمن من الأزمان؟
هذا لا يعني بحال أن هناك اتجاها رأسيا يتخذ فيه الرجل دور المرسل، في حين تكتفي المرأة بتلقي الفعل على أنه مشروع ومبرر. ففي الواقع، هناك عنف متبادل بين الإثنين، سواء كان مباشرا، وصريحا، أو كان متخفيا في شكل أساطير وخرافات، وهيئات طقوسية، وأنماط سلوك نحت منحى العادة، فلأن كانت المرأة تحتال،وتشعوذ، وثرثر، وتغوي، وتغرر، بأشد القلوب الذكورية تصلبا، فإن الرجل لا يستثنى من هذا الأمر. كيف وبأي حق؟
إذا تحدثنا عن الإحتيال والمكر، فالأمر لا يسلم منه لا الرجل ولا المرأة. فليست المرأة من يتهم بإتباع طرق ملتوية وغير مشروعة لبلوغ غايات نفسها. وعليه، فكلا الطرفين يتسمان بنفس الخصلة، والمغرب معروف بهذه الرائحة النتنة التي تفوح من العلاقات التي ينسجها أفراده فيما بينهم رجالا ونساء. في ميدان الشعوذة مثلا، تدور حرب حقيقية بين الإثنين، لكنها حرب خفية أدواتها التعاويذ والطلاسم الجنية، فإذا فشل أحدهما في اصطياد الآخر أو في استدراجه إلى السرير أو بيت الزوجية، فإنه يلجأ إلى طريق السحر والشعوذة، فيصير حال من يحتال، ومن يحتال عليه، سواء في انحطاط القيمة، وتبخيس قدر الإنسان في الوجود. وإذا تعلق الأمر بالثرثرة، فالرجال كذلك يثرثرون في المقاهي، ولاشك أن بعض النميمة والإغتياب يشوب اللقاء في هذه الفضاءات العامة. وهكذا، ومهما اختلفتا في تقدير نسبة حضور هذه السيئات في كيان كل منهما، فإن الأمر الحاصل هو أنهما يتقاسمانها، فلا داعي إذن للحكم على المرأة بأنها وحدها من يمكر، وأن الرجل بريء وليس هناك ما يدينه. ولا داعي كذلك لتصوير المرأة كضحية يضحى بها، لتفك التناقضات والصراعات التي تدور رحاها داخل المجتمع، في الوقت الذي يصور فيه الرجل على أنه وحش كاسر، ينتظر كل فرصة للانقضاض على أنثاه، كما فعل الشاعر السوري نزار قباني في جل أشعاره.
ففي الواقع، هذا الصراع الذي أريد له أن يبقى مكتنفا لأسرارية عجيبة، يسيل لها لعاب التفكير والتعبير والمناقشة التي قد تنتهي بالشتم والضرب، هو صراع وهمي أو متوهم. إنه صراع اختل ليخفي صراعا أشد وقعا والذي يدور حول الوضع الطبقي الذي يتموقع فيه رأسمال كل من الرجل والمرأة، وإن كنا لا نغفل أهمية التأثيرات الثقافية في تغيير أو تكريس هذا الوضع. وقد أشار مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الإجتماعي" إلى العديد من الميكانيزمات التي تضبط سيرورة "الشر"(المرأة)، حيث ينتقل القهر من أعلى سلطة موجودة داخل المجتمع، على جرعات، وبالتدريج، حسب السلم القيمي لوضع كل منهما، وكيف يتم تفريغه من خلال أنماط تفكير قدرية، وسلوكات يومية تبريرية.
فمن الصعب أن نمنح أولوية مطلقة لما هو مادي أو إقتصادي، في تحديد الوضعية التي عاشتها المرأة، أو التي تعيشها الآن، في ظل مجموعة من المواثيق الدولية التي تؤطرها مواثيق حقوق الإنسان. وبالمثل، ليس مستحسنا أن نركز على المحك الثقافي والفكري في تفسير ما بلغته الآن المرأة الأوروبية، كنموذج وحيد ومختزل للصورة الحقوقية التي غدت تمثال أغلب الشعوب المغلوبة على أمرها. فهذه الصورة التي أعادت للمرأة "الإفرنجية" آدميتها بعدما تقمصت دور الشيطان لعصور طويلة، كانت نتاج فكر أنواري ناقد، شيد للحرية والمساواة أسسا قانونية جديدة، تقطع كل صلة بالفكر الكنسي الراكد، وبالخلفيات اللاهوتية التي كان يبرر بها الحكام ممارستهم السياسية في علاقتهم مع أفراد شعوبهم. وقد يكون من الأصوب الآن أن نصادق على تلك الدعوة الماركسية التي اكتنفت مؤلف عبد الله العروي، والتي تنص على أن تحرير المرأة يمر حتما عبر تحرير المجتمع.
أستاذ الفلسفة- ث.ت. صلاح الدين الأيوبي- تنغير