الفلسفة والمؤسسة: أية علاقة؟
بين الحين والاخر يغلب الحديث عن مبادئ تدريس الفلسفة؛ وعن الغايات والأهداف المتوخاة منها؛ على كل المناقشات الدائرة في صفوف مدرسي الفلسفة، وبين من يعتبر أن الحديث عن الاهداف واضح وضوح الشمس، وبين من يعتبر أنها غامضة وملتبسة، أود معالجة هذه المسألة من زاوية بحثية، ذلك أن كل معالجة لموضوع مبادئ وغايات الدرس الفلسفي، لا يستطيع أن يكون جازما ولا على يقين بالنتائج التي قد يتوصل إليها ناهيك عن مصداقية النتائج، لذا جعل البعض من هذا الموضوع مجالا للبحث السوسيولوجي، والبعض الآخر موضوعا للتأمل الفلسفي.
إن الحديث عن أهداف وغايات الدرس الفلسفي، هو وجه من أوجه العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة / المجتمع، فمن يحدد الأهداف والمبادئ؟ من يضع الخطط الاستراتيجية للتدريس؟ هل يمكننا أن نضع غايات لتدريس الفلسفة؟ وهل تخضع الفلسفة لمبادئ معينة؟ ولماذا ينبغي أن تخضع لها؟
إن الإلمام بتدريس الفلسفة منذ الفيلسوف الحكيم سقراط، سيجد أن طرق التدريس تختلف باختلاف السياقات الزمنية والمكانية معا، إلى درجة أننا لن نجد طريقة واحدة ونمطية للدرس الفلسفي، بل على العكس من ذلك، سنجد تنوعا في الأساليب، وهو تنوع يبرره إلى حد ما اختلاف الرؤى والتصورات، كما اختلاف الغايات في نفس الوقت. هكذا يستطيع كل مدرس أن يحدد لنفسه المسارات التي يقطعها درسه في الفلسفة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التفكير في بيداغوجية تدريس الفلسفة لم تبدأ إلا بعد أن أرست الفلسفة مكانتها في المنظومة التربوية، وعلى هذا الأساس اعتبرنا أن إشكالية الغايات والأهداف هي وجه من أوجه العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة. ذلك أن المؤسسة حينما تحضر بقوة باعتبارها المشرع الحقيقي ولا أحد ينازعها في شرعيتها، تحول دورها من دور التعاون والتشارك مع الفاعلين الحقيقيين والمعنيين المباشرين بالتدريس، إلى دور القائم على الواجب وحماية السياسات الموجهة، أي إلى الإلزام سواء في صيغته القانونية أو الرقابية.
لهذا الاعتبار نود الوقوف على هاته العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة من خلال عرض وجهة نظر تعتبر نفسها سوسيولوجية، نابعة من اهتمام عميق بالمسألة ومن تجربة تربوية، ويتعلق الأمر بمعالجة مصطفى محسن للعلاقة: المؤسسة والمجتمع في كتابه: "نحن والتنوير: عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة".
1. كيف يمكن تجاوز المفارقة التي تطرحها مسألة تحديد العلاقة بين الفلسفة وبين ما يفترض أن تشكل هذه الفلسفة إطاره الفكري الموجه والمؤطر: المؤسسة التربوية والمجتمع بشكل عام؟
2. بأي معنى وضمن أية حدود يمكن قبول الاعتراف بالإكراهات والضغوط التي تحكم المؤسسة، بشبكاتها العلائقية بين فاعليها، وبأهدافها وغاياتها، وبمعاييرها المعتمدة في التحرك والاشتغال نحو تحقيق مهامها وأهدافها، وأيضا بهوامش استقلاليتها النسبية المفترضة، وبشتى أشكال ارتباطاتها بآليات توزيع السلطة والمعرفة والنفوذ التراتبي والهيمنة المادية والرمزية في المجتمع؟
3. كيف يمكن قبول هذا الاعتراف والدعوة في الآن ذاته إما إلى تحرير الفلسفة من ضغوط المؤسسة، وإما إلى تنصيب الفلسفة موجها ومرشدا للمؤسسة ودعامة لتحرير الطرفين: الفلسفة والمؤسسة؟
يحدد المؤلف مجال اهتمامه واشتغاله على مقاربة هذه الإشكالية / العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة، معتبرا إياه مجال: السوسيولوجيا (كمجال تخصصي)، وأساسا سوسيولوجية منفتحة نقدية، واعية بمنطلقاتها ورهاناتها، دون أن يحدد طبيعتها، فهل من المشروع الحديث عن سوسيولوجيا منفتحة في مقابل سوسيولوجيا منغلقة؟ إننا نعتقد أن صفة الانفتاح والانغلاق لا تعني شيئا في وصف مجال البحث. وتصنيف مجال علمي على أنه منفتح وغير منفتح يجعلنا أمام سؤال الإيديولوجيا أكثر من مجال العلم.
يقارب المؤلف هذه الإشكالية أولا من خلال تحديد المفاهيم حيث يعين للفلسفة دلالتين:
o دلالة كلاسيكية عامة ومتداولة للمفهوم: محبة، الحكمة، المجهود البشري المتواصل الذي يبذله الإنسان كي يفهم ويعقل وجوده وواقعه الطبيعي والاجتماعي.
o فلسفة مدرسية أو جامعية philosophie scolaire ou universitaire : وهي جزء مكون من ثقافة أو معرفة مدرسية أو جامعية، أي من خطاب مؤسسي، تكون محكومة هنا بمضامين وأهداف وآليات اشتغالها وتداولها المؤسسي برهانات وتوجهات وإكراهات وطقوس وشروط بيداغوجية وتربوية واجتماعية.
أما بصدد المؤسسة: فيتحدث عن التعريف السوسيولوجي ويعتبره مرادفا لمفاهيم أخرى: البنية، التنظيم، النسق وهي تدل جميعها على : مجمل البنيات والهياكل والأطر الاجتماعية المنظمة (مقاولة، مصنع، مدرسة...)، تفترض مناهج تحليلية متباينة للفهم والتحليل والمقاربة. وينتقل إلى المؤسسة الإجتماعية تحديدا باعتبارها تشكل منظومة متكاملة من العناصر، أي الفاعلين الاجتماعيين الذين تربطهم علاقات وأهداف ومعايير للسلوك. والمؤسسة حسب التصنيف السوسيولوجي تتكون من:
§ المُمَأسَس: l’institué أي منظومة القيم والقواعد والأعراف والمعايير التي يقوم عليها البناء المؤسسي.
§ المُمَأسِس: القيم والمعايير النابعة عن حاجات ومطالب التغيير الجديد (معارضة لما هو معترف به داخل المؤسسة).
§ المأسَسَة: institutionnalisation عملية تثبيت المعايير الجديدة المعارضة والاعتراف بها.
فكل مؤسسة هي، في الوقت ذاته، "منتوج لنظام مجتمعي، وأيضا إنتاج وإعادة إنتاج لفاعليها بكل ما يخترق قناعاتهم من تضارب أو تماثل أو صراع في المواقف والأدوار والتصورات والمراجع والانتماءات الاجتماعية، والقيم، والأعراف، والمعايير، والمصالح، والحاجات المختلفة...". مما يجعلها قادرة على تعيين أهداف عامة لضمان استمرارية، وإعادة إنتاج نفس علاقات الانتاج.
تميز السوسيولوجية في تكوين كل مؤسسة بين نمطين من التنظيم لا يمكن الفصل بينهما:
* تنظيم رسمي معلن: مختلف المساطر والقواعد والضوابط المؤسسية المنظمة والموجهة رسميا لكل مؤسسة.
* تنظيم غير معلن وغير رسمي: يتمثل في فيما يخلقه الفاعلون، على هامش ما هو رسمي من علاقات وأهداف ومعايير خاصة ومغايرة. إن الفاعلين يسعون دوما إلى الانعتاق والتحرر من إكراهات المؤسسة.
من خلال التحديدات أعلاه للمؤسسة والفلسفة يعالج الدكتور العلاقة: فلسفة / مؤسسة. حيث وقف أولا على التطور التاريخي للعلاقة من خلال التجربة السقراطية في التدريس والتي يعتبرها نموذج لكل تمرد على المؤسسة وعلى عدم الخضوع والتحفظ والاستسلام، إلا أن موته مثل محطة انقلابية في هذه العلاقة.
والفلسفة شاركت وتقع في عمق المؤسسة ولا تقوم بدورها نحو المأسسة، إنها لا تسير في اتجاه التجديد والتخطي والتجاوز والتحرر. وقد أنيط بها عبر التاريخ الكوني (والغربي تحديدا) مهام عدة منها:
1. مختلف وظائف شرعنة كل أصناف القول / الخطاب مع رسم الحدود بين الحقيقة و اللاحقيقة، الصدق والكذب، الخطأ والصواب...
2. وظيفة توجيه وترشيد الممارسة الاجتماعية كواقع ممأسس.
* سيتم الشروع في مأسسة الممارسة الفلسفية بإدراجها ضمن تعليم سكولائي / مدرسي في الغرب الحديث إلا أنه ظل رهينا بتأثير السلطة الكنسية والقرسطوية.
* فلسفة الأنوار مثلت نموذجا لقيم التنوير والانفتاح وما شكلته من تعبير عن طموحات البورجوازية الناشئة.
* بناء الدولة الوطنية الحديثة في الغرب كإطار عقلاني وتوافقي وديمقراطي للتفاعل والتبادل بين مكونات المجتمع: المجتمع المدني والسياسي وما تشكله من تحكم في المؤسسة والمجتمع معا والمعرفة.
* ستصبح المؤسسة في الدولة الوطنية الحديثة مؤسسة محكومة ايديولوجيا وموجهة بإيديولوجية برجوازية حيث المؤسسة أداة منظمة موجهة وهادفة لتوجيه سياسات معقلنة لتوزيع المعارف، وأنماط التكوين والتخصصات... (مؤسسة التربية والتكوين).
* المدرسة بهذا المعنى (المؤسسة التربوية) ستؤدي وظيفة إعادة الانتاج الاجتماعي.
في خضم هذه التحولات المعرفية والتربوية والسوسيو حضارية الجديدة، ما هو مآل مسألة العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة ؟
إنه السؤال / الغاية من تناول الجانب التاريخي في العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة حيث يقول الدكتور محسن: "لم تكن المعطيات المختزلة الآنفة مجرد ترف معلوماتي عرض بغرض المراكمة والتجميع، وإنما كان غرضها محكوما بهدف منهجي ".
لقد أصبح للفلسفة "تخصص قائم بذات"، نتيجة مجموعة من التحولات، وهو تخصص جزء من المعرفة أو الثقافة المدرسية أو الجامعية. أي أن الفلسفة أصبحت معرفة مدرسية وخطاب له ممارسون محترفون، وفضاءات مراقبة، وموجهة للتداول والاستهلاك. وأمام هذه التحولات يصبح سقراط والتجربة السقراطية ماض منقرض.
هكذا حدد في المبحث الثالث "الفلسفة والسياقات التربوية والاجتماعية الغربية المعاصرة بين هموم المعرفة ومهام المؤسسة"، وظائف الفلسفة التربوية والمعرفية والاجتماعية في المجتمعات الغربية المعاصرة والتي أجملها في:
1. الاستمرار في القيام بمهمتها التربوية دعما لمسيرة العقلنة التي دشنها المد التنويري منذ بداية النهضة الغربية الحديثة:
* نشر الثقافة البورجوازية وقيمها التقدمية: العلم، المعرفة، العقل... بدلا من الخرافة، المعتقدات الخلقية، الدينية...
* التأسيس لفكر جديد وثقافة جديدة ومجتمع جديد: بناء وعي مجتمعي جديد قائم على قيم العقلانية والتقدم والتحرر.
2. التبرير الفكري للأساس العقلاني الذي تقوم عليه القاعدة التنظيمية للمجتمع العصري: مجتمع المؤسسات والتنظيمات والعقل.
3. المستوى السياسي والإيديولوجي: الدعوة إلى دعم الجمهورية كفكرة وكقيم اجتماعية وحضارية وثقافية للدولة الوطنية الحديثة (فرنسا أساسا).
وعلى الرغم من كل ذلك ظلت الفلسفة في الغرب، ضد كل أشكال "القولبة" والتقنين المدرسي، ذلك أن ثورة ماي 68، وقفت ضد كل المؤسسات التربوية والاجتماعية.
إلا أن الملاحظ في حقيقة الأمر أن السياق الغربي الذي تبلورت فيه الفلسفة التربوية هو سياق خاص له شروطه الخاصة والتي تميزه عن شروط مجتمعات أخرى. ولا يسعنا أن نقول إلا أن هذا السياق لا يفيد كوجه للمقارنة بين المجتمعات الغربية والمجتمعات العالم ثالثية. والتي لم تعرف حقا أي موجة تنويرية أو ربط لتدريس الفلسفة بالضرورة التاريخية للمجتمع، فإذا كان المجتمع الغربي والفرنسي تحديدا وضع غايات ووظائف للفلسفة المدرسية، تصب جميعها في اتجاه دعم القيم الليبرالية ونشر الثقافة البورجوازية، ودعم نظام سياسي معين، فإن حال مجتمعنا كغيره من المجتمعات العالم ثالثية، لم يتبلور فيها اتجاه ليبرالي ولا فلسفة أنوارية، ولا تصور حديث لبناء الدولة. لذلك يستوقفنا في المبحث الرابع: "علاقة الفلسفة بالمؤسسة في المجتمع العربي المعاصر: المغرب نموذجا". السؤال الاشكالي: ما هي أهم الشروط التي تؤطر علاقة الفلسفة بالمؤسسة في مجتمعنا المغربي الراهن، كنموذج لمجتمعاتنا العربية والثالثية على العموم؟ الذي يراه الدكتور أساسيا لفهم هاته العلاقة.
الفلسفة في المغرب (المدرسية والجامعية) تقليد مؤسسي أدخلته السياسة الكولونيالية، وتعاني العديد من مظاهر التهميش والاغتراب عن الواقع الثقافي والاجتماعي نظرا ل:
* انتشار الأمية
* عزل الأوساط القروية عن المدينة التي تحتكر هذا التعليم.
* التفاوتات الاجتماعية المهولة بين مختلف الفئات والشرائح والأوساط.
* عدم تكافؤ الفرص في النظام التعليمي.
* تمثلات الشرائح المجتمعية للفلسفة والعلم والمعرفة...
* التصورات الانتقاصية للفلسفة والمهيمنة على الوعي الشعبي (التمثلات).
ويرى أن الفلسفة تتعرض لحصار نتيجة سيادة منظورين:
المنظور التقنوبيروقراطي: technobureaucratique أي أن الفلسفة مجردة وغير إجرائية، عديمة الجدوى في النشاط الاقتصادي، ولا تستجيب لسوق الشغل وحاجات السوق.
المنظور التقليدوي: المحدث أو المستحدث traditionalisme modernisé ou moderne الفلسفة إلحاد، تؤدي إلى الاختلاف الفكري، تساهم في التشرذم والتفرقة...
ويقر في الآن ذاته أننا "مازلنا في الظرفية الراهنة، لا نتوفر على فلسفة تربوية واجتماعية متكاملة العناصر، وواضحة الأهداف والتوجهات، أي على مشروع تربوي اجتماعي متسم بالمقومات الايجابية". تلك التي تستطيع أن تبين بطلان هذا الإدعاء. وهنا نسجل أن ملاحظة الدكتور، تقف في وجه بعض المساهمات الأخرى التي تعتبر أن هناك "نهضة فلسفية في المغرب" وأساسا تصور طه عبد الرحمان، الذي لا يتوانى عن التذكير بتلك اليقضة الفلسفية بالمغرب، ونورد هذين القولين للدكتور طه حول هذه المسألة: "قد لا نعدو الصواب إن ادعينا أن هناك يقظة فلسفية في هذا الجزء الأقصى من العالم الإسلامي العربي ولو أنها بقيت محصورة في دائرة الأفراد ولم تنفذ في وسط الجماعات وتنتشر في بنية المجتمع كله، هذا إذا جاز القول بإمكان تغلغل الفلسفة في جميع طبقات المجتمع، وإلا فإن الفلسفة كانت دائما من نصيب الأفراد ولا ينفذ منها إلى المجتمع في كليته إلا أفكار معدودة وحقائق محدودة، وإن كان أثرها فيه، على قلتها ودقتها، قد يذهب بعيدا حتى يكاد أن يقلب أحوال هذا المجتمع تقليبا"، ويضيف: "إذا عرفت أن حصول اليقظة الفلسفية عندنا أمر لا ينازع فيه إلا مكابر، بدليل تفردها في تاريخ المغرب، وثراء مضامينها وإقرار الغير بها، فاعلم أنها اتسمت بسمة جامعة، نحتاج إلى الوقوف عندها وإطالة النظر فيها."
إن أهمية هذا القول تكمن فقط في بيان وجهة النظر الأخرى، فالتساؤل حول واقع وراهن الفلسفة بالمغرب، يقتضي الإلمام بكل ما كتب عن هذا الموضوع في أوساط المهتمين والغيورين على الدرس الفلسفي وواقع تدريس الفلسفة بالمغرب، وكل ما كتب في الموضوع ليس بهين ويحتاج إلى تدقيق وتمحيص للخروج بنتائج في المستوى المطلوب، وإلا سيبقى البحث مجرد انطباعات يفتقد لكل طابع تحليلي وموضوعي.
يقر الدكتور أن وضعية : فلسفة ـ مؤسسة تربوية: لا تتعلق بالفلسفة، بل بكل النظام التربوي الذي لم يحدد بدقة أي هدف منشود للتعليم في بلدنا. حيث يقول "إن مسألة علاقة الفلسفة بالمؤسسة التربوية في مجتمعنا المغربي، (...) ترتبط بوضع متأزم معقد، ومتداخل المكونات"، والنظام التربوي في المغرب، نظام يتخبط خبط عشواء، فكل الاصلاحات الجاربة منذ عقود لا تستطيع أن تضع اليد على الأسباب الحقيقة لهذه المنظومة المهترئة والتي تستوعب كل مواصفات العقم والتأزم. فكيف نريد لمنظومة لا تستطيع أن تصلح حالها في مختلف المجالات، أن تصلح الفلسفة؟ إن الفلسفة بما هي مادة تدريسية، وأخذا بعين الاعتبار استمرار النظرة الإقصائية حتى في صفوف من هم أجدر بالدفاع عنها، لن تستطيع أن تدافع عن حقها في الوجود والارتقاء بها ما لم يتوفر الوعي بضرورتها. إننا نواجه باستمرار هذه النظرة حتى داخل المؤسسات التعليمية. وحتى "الغايات والأهداف المرسومة في التوجهات الرسمية تعترضه العديد من المشكلات النظرية والمنهجية والتربوية والاجتماعية"، على حد تعبير الدكتور محسن. وهنا نتساءل: هل فعلا الغايات والأهداف المرسومة في تلك التوجيهات واعية بذاتها وتدرك جيدا ما تتوخاه من تدريس الفلسفة، أم أنها مجرد توجيهات؟
إن معالجة هذا السؤال يقتضي قراءة خاصة ومتأنية في تلك التوجيهات وفي المسار الذي قطعته في ارتباط مع تقدم تدريس الفلسفة.
يتساءل الدكتور: ما هي أهم أبرز مقومات وخصوصيات ومحددات الممارسة التربوية (الفلسفية) في سياقنا التربوي والاجتماعي الحالي؟ أي علاقة خاصة تربط بين الفلسفة والمؤسسة في إطار هذه الممارسة؟ ويرى أن المقومات المميزة للوضع المؤسسي للفلسفة المدرسية في المغرب تتمثل في:
* استمرار تمسك بعض مدرسي الفلسفة والمشتغلين بها بأطروحة استحالة خضوع الفلسفة في تلقينها وتداولها لأي بيداغوجيا موضوعية كانت أو معيارية: فللفلسفة بيداغوجيتها الخاصة المتضمنة في آليات اشتغالها كتفكير، كفعل للتفلسف، وليس كمعارف ومعلومات يمكن نقلها.
وينتقد المؤلف هذا الاعتقاد لعدة اعتبارات:
- لا نتحدث عن فلسفة بالمعنى الأكاديمي والفلسفي الصرف، عن فلسفة الفلاسفة والمذاهب والأنساق الفلسفية الكبرى، بل فلسفة مدرسية أو جامعية لها أهدافها وفضاءاتها وضوابطها ومضامينها المحددة والموجهة ضمن نسق ثقافي وتربوي.
- تتعلق بعدم الحسم في التساؤلات التالية: أي فلسفة نريد الآن ترويجها في نظامنا التعليمي؟ أي مواطن مغربي أو عربي منشود؟ أي وعي ثقافي واجتماعي نتوخى من تعليم الفلسفة في مجتمعنا أن يسهم في تشييد أسسه وتكريسه؟ ولنشر أي قيم معرفية أو حضارية، محلية أو كونية إنسانية؟ ولتدعيم أي رهان تنموي شمولي؟ ما الغايات الاجتماعية العامة أو الوفاقية والأهداف الإجرائية القابلة للإنجاز والتحقيق، والتي نضعها للوصول إلى وضعية تمكننا من توجيه الفلسفة نحو تحقيق المقاصد والرهانات السالفة الذكر؟
* المسألة لا تتعلق بإشكال بيداغوجي صرف ولكن بوضعية غياب القرار السياسي والاجتماعي والتربوي الذي يساعد الفلسفة المدرسية والجامعية على التموضع مؤسسيا واجتماعيا.
* الانفتاح عن بيداغوجية غربية في تأطير تدريس الفلسفة: "نعتقد أن هذا المسعى هو، من حيث المبدأ، ظاهرة صحية، ومبادرة أدعو إلى تثمينها عاليا كخطوة نحو التجديد والانفتاح". إننا نعتبر أن المسألة لا تتعلق بالبيداغوجية في حد ذاتها، بل إن من أوجه المسألة غياب القرار السياسي، وهو قرار غير ممكن ولا معنى له بدون حركة سياسية واجتماعية تتمثل قيم الأنوار وتكون قادرة على الدفاع عن برنامج تنويري يمتلك تصورا مجتمعيا متكاملا.
وعلى هذا الأساس ينبغي استحضار:
- خصوصيات الفاعل التربوي المغربي والعربي: التلميذ، المدرس، المؤطر التربوي...
- ضرورة الوعي بأن المفاهيم والنظريات والمناهج والعدد والنماذج البيداغوجية المقتبسة هي إفراز لحقل معرفي واجتماعي خاص ومتميز. وهي تقتضي النقل أو التحويل البيداغوجي. Transfert pédagogique
- ينبغي إنتاج معرفة مطابقة وبيداغوجيا مطابقة pédagogie adéquate تستجيب للشروط المحلية وللواقع المعيش في هذه المجتمعات.
* - النظام التربوي لا زال يتحول إلى المؤسسة (غير مؤسس) فالموارد البشرية مثلا تعترضها عوائق جمة. إننا بحاجة إلى ثقافة مهنية مبنية عقلانيا...
" إن الفلسفة في مجتمعنا المغربي، بل والعربي عامة، تعيش محنة حالة معقدة من الاغتراب المضاعف: غربة عن خصوصيات السياق الثقافي والمجتمعي العام، وغربة عن مجال مؤسسي ما تزال تبحث فيه عن استراتيجية ملائمة للتموضع والاندماج الفاعل".
* - تناقض الفلسفة مع الرسمي: ثقافة السوق، مدرسة المعمل، والباطرونا.
ويقترح الدكتور للخروج من هذه الوضعية (الوطن العربي ككل):
1 – ضرورة التذكير بأهمية استحضار الدور التاريخي للفلسفة، تؤدي وظيفة مزدوجة:
* دفاعية: تقعيد وشرعنة بعض الخطابات والأوضاع.
* تأسيسية: (هجومية) نقد ونقض واقتراح للتعليم والمعايير البديلة.
2 – الدفاع عن الفلسفة في شروطنا الراهنة: أي التخلي عن القناعات الفكرية والبيداغوجية المثالية أو التقليدية المهيمنة على الخطابات المتداولة حول علاقة الفلسفة بالمؤسسة:
- التناقض بين أهداف الفلسفة وأهداف المؤسسة.
- استحالة تعليم الفلسفة.
- التناقض بين الفلسفة والبيداغوجية.
3 – الاعتراف بدور الفلسفة التأسيسي: النقد، النقض، الهدم، وإعادة البناء والتأسيس...
4 – مشروع المؤسسة: projet d’établissement
تلك المحاولة التي تهدف من ورائها مؤسسة ما (تربوية أو اجتماعبة عامة) عبر الجهود المنظمة والمتكاملة لفاعليها إلى وضع خطة أو استراتيجية محكمة تبلور وتشخص فيها، بشكل واضح وممنهج، خصوصياتها، ومشكلاتها، وحاجاتها وأهدافها وأولوياتها، كما تحدد فيها إطارا تنظيميا معقلنا وهادفا لتقسيم الأدوار والمهام وأنماط العمليات. ذلك أن الفعل التربوي هو بالضرورة وبطبيعته فعل إبداعي حر.
فالفلسفة باعتبارها فكرا نقديا تنويريا، كفيلة بالمساهمة في مساعدتنا على بناء "مشاريعنا" المجتمعية والحضارية وفق فلسفة شمولية ناضجة وواعية، مؤطرة لفلسفة تربوية واضحة المعالم، هي بدورها موجهة لفلسفة مدرسية هادفة وقادرة على المساهمة في تكوين وبناء الإنسان ـ المواطن الفاعل المنتج والمؤهل للتواصل والتفاعل الحضاريين.
ويتعلق الجزء الثاني من الكتاب ببحث مفهوم الإنسان وحضوره في درس الفلسفة ويدعو إلى فلسفة تنويرية، تقوم بمهمة الرقي بالمجتمع المغرب والعربي إلى مجتمع تحديثي ـ تنويري يعي جيدا أهدافه وغاياته ويساهم في تحرير الإنسان من جميع المناحي.
إن مساهمة الدكتور محسن في إبراز العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة، تظل مع ذلك غير واضحة وإن كان منهجه يدعي الدقة السوسيولوجية فإنه في نفس الوقت لا يقدم أي تحليل سوسيولوجي للعلاقة. وهذا ما يدفعنا إلى القول أن هذه المحاولة محكومة بمنهج مقارن أكثر مما هي محكومة بمنهج سوسيولوجي، ذلك أن البحث السوسيولوجي إما أن ينطلق من تعيين الظاهرة المدروسة وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل نحن فعلا إزاء ظاهرة قابلة للدراسة السوسيولوجية؟ ظاهرة تقبل الملاحظة أم أننا إزاء إشكال يفرض التساؤل، ويدعو إلى التأمل؟
وهكذا يمكن أن نقول أن اعتبار المجتمع المغربي باعتباره نموذجا للمجتمعات العربية والعالم ثالثية، يحبل بنوع من المغامرة الفكرية والسوسيولوجية معا. ذلك أن التفاوتات بين المغرب وبقية العالم العربي والثالثي عامة بينة من جميع المستويات، نظرا لاختلاف الأنظمة التربوية السائدة في كل مجتمع، ولاختلاف الاستراتيجية التي تحكم هذه المجتمعات في تطورها. وهذا يتناقض مع البحث السوسيولوجي، فالظاهرة قابلة للتعميم في شروط معينة وان تحدثنا حتى عن التعميم فأبدا لن يكون التعميم في العلوم الإجتماعية كما هو الحال لما هو عليه في العلوم الطبيعية، لأننا إزاء نظامين من القانون العلمي، إلا إذا أقررنا بمفهوم "القانون العلمي" كما هو الشأن في الفلسفة الوضعية (عند أوغيست كونط تحديدا) التي تعتبره: "علاقة ثابتة بين الظواهر"، وهنا نحتاط أمام المماثلة المفرطة بين الظاهرتين، فالتمايز بين الظواهر في حقل العلوم الطبيعية وفي حقل العلوم الانسانية والاجتماعية يلغي كل مماثلة إسقاطية.
لذلك فإن اتخاذ المغرب كنموذج لا يصح البتة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالمقارنة بين الفلسفة والمؤسسة في المجتمع المغربي وفي المجتمع الغربي (الفرنسي تحديدا والذي يعترف له الجميع بمساهماتهم في الفلسفة المدرسية)، لا تصح بأي وجه من الأوجه. فهل يصح أن نقارن بين مجتمع عمر الفلسفة فيه يقارب القرنين وبين مجتمع لا يتجاوز فيه عمر الفلسفة نصف القرن؟ وحتى المشتغلين بالبحث البيداغوجي والديداكتيكي يعترف صراحة بهذا التمايز ويعتبرون ما يقومون به فقط لمراكمة ما يكفي للإلمام بالإشكالات والمناهج والمساهمات في أفق التأسيس لبيداغوجية محلية تستجيب للشروط المجتمعية. وهنا نستحضر ما يقول الدكتور محسن نفسه، حيث يقر بأن المحاولات الجارية في مجال البيداغوجيات مهمة للغاية وتسير في هذا الاتجاه. وعليه نتساءل هل هذا الإسقاط واع وممكن؟
2. بأي معنى وضمن أية حدود يمكن قبول الاعتراف بالإكراهات والضغوط التي تحكم المؤسسة، بشبكاتها العلائقية بين فاعليها، وبأهدافها وغاياتها، وبمعاييرها المعتمدة في التحرك والاشتغال نحو تحقيق مهامها وأهدافها، وأيضا بهوامش استقلاليتها النسبية المفترضة، وبشتى أشكال ارتباطاتها بآليات توزيع السلطة والمعرفة والنفوذ التراتبي والهيمنة المادية والرمزية في المجتمع؟
3. كيف يمكن قبول هذا الاعتراف والدعوة في الآن ذاته إما إلى تحرير الفلسفة من ضغوط المؤسسة، وإما إلى تنصيب الفلسفة موجها ومرشدا للمؤسسة ودعامة لتحرير الطرفين: الفلسفة والمؤسسة؟
يحدد المؤلف مجال اهتمامه واشتغاله على مقاربة هذه الإشكالية / العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة، معتبرا إياه مجال: السوسيولوجيا (كمجال تخصصي)، وأساسا سوسيولوجية منفتحة نقدية، واعية بمنطلقاتها ورهاناتها، دون أن يحدد طبيعتها، فهل من المشروع الحديث عن سوسيولوجيا منفتحة في مقابل سوسيولوجيا منغلقة؟ إننا نعتقد أن صفة الانفتاح والانغلاق لا تعني شيئا في وصف مجال البحث. وتصنيف مجال علمي على أنه منفتح وغير منفتح يجعلنا أمام سؤال الإيديولوجيا أكثر من مجال العلم.
يقارب المؤلف هذه الإشكالية أولا من خلال تحديد المفاهيم حيث يعين للفلسفة دلالتين:
o دلالة كلاسيكية عامة ومتداولة للمفهوم: محبة، الحكمة، المجهود البشري المتواصل الذي يبذله الإنسان كي يفهم ويعقل وجوده وواقعه الطبيعي والاجتماعي.
o فلسفة مدرسية أو جامعية philosophie scolaire ou universitaire : وهي جزء مكون من ثقافة أو معرفة مدرسية أو جامعية، أي من خطاب مؤسسي، تكون محكومة هنا بمضامين وأهداف وآليات اشتغالها وتداولها المؤسسي برهانات وتوجهات وإكراهات وطقوس وشروط بيداغوجية وتربوية واجتماعية.
أما بصدد المؤسسة: فيتحدث عن التعريف السوسيولوجي ويعتبره مرادفا لمفاهيم أخرى: البنية، التنظيم، النسق وهي تدل جميعها على : مجمل البنيات والهياكل والأطر الاجتماعية المنظمة (مقاولة، مصنع، مدرسة...)، تفترض مناهج تحليلية متباينة للفهم والتحليل والمقاربة. وينتقل إلى المؤسسة الإجتماعية تحديدا باعتبارها تشكل منظومة متكاملة من العناصر، أي الفاعلين الاجتماعيين الذين تربطهم علاقات وأهداف ومعايير للسلوك. والمؤسسة حسب التصنيف السوسيولوجي تتكون من:
§ المُمَأسَس: l’institué أي منظومة القيم والقواعد والأعراف والمعايير التي يقوم عليها البناء المؤسسي.
§ المُمَأسِس: القيم والمعايير النابعة عن حاجات ومطالب التغيير الجديد (معارضة لما هو معترف به داخل المؤسسة).
§ المأسَسَة: institutionnalisation عملية تثبيت المعايير الجديدة المعارضة والاعتراف بها.
فكل مؤسسة هي، في الوقت ذاته، "منتوج لنظام مجتمعي، وأيضا إنتاج وإعادة إنتاج لفاعليها بكل ما يخترق قناعاتهم من تضارب أو تماثل أو صراع في المواقف والأدوار والتصورات والمراجع والانتماءات الاجتماعية، والقيم، والأعراف، والمعايير، والمصالح، والحاجات المختلفة...". مما يجعلها قادرة على تعيين أهداف عامة لضمان استمرارية، وإعادة إنتاج نفس علاقات الانتاج.
تميز السوسيولوجية في تكوين كل مؤسسة بين نمطين من التنظيم لا يمكن الفصل بينهما:
* تنظيم رسمي معلن: مختلف المساطر والقواعد والضوابط المؤسسية المنظمة والموجهة رسميا لكل مؤسسة.
* تنظيم غير معلن وغير رسمي: يتمثل في فيما يخلقه الفاعلون، على هامش ما هو رسمي من علاقات وأهداف ومعايير خاصة ومغايرة. إن الفاعلين يسعون دوما إلى الانعتاق والتحرر من إكراهات المؤسسة.
من خلال التحديدات أعلاه للمؤسسة والفلسفة يعالج الدكتور العلاقة: فلسفة / مؤسسة. حيث وقف أولا على التطور التاريخي للعلاقة من خلال التجربة السقراطية في التدريس والتي يعتبرها نموذج لكل تمرد على المؤسسة وعلى عدم الخضوع والتحفظ والاستسلام، إلا أن موته مثل محطة انقلابية في هذه العلاقة.
والفلسفة شاركت وتقع في عمق المؤسسة ولا تقوم بدورها نحو المأسسة، إنها لا تسير في اتجاه التجديد والتخطي والتجاوز والتحرر. وقد أنيط بها عبر التاريخ الكوني (والغربي تحديدا) مهام عدة منها:
1. مختلف وظائف شرعنة كل أصناف القول / الخطاب مع رسم الحدود بين الحقيقة و اللاحقيقة، الصدق والكذب، الخطأ والصواب...
2. وظيفة توجيه وترشيد الممارسة الاجتماعية كواقع ممأسس.
* سيتم الشروع في مأسسة الممارسة الفلسفية بإدراجها ضمن تعليم سكولائي / مدرسي في الغرب الحديث إلا أنه ظل رهينا بتأثير السلطة الكنسية والقرسطوية.
* فلسفة الأنوار مثلت نموذجا لقيم التنوير والانفتاح وما شكلته من تعبير عن طموحات البورجوازية الناشئة.
* بناء الدولة الوطنية الحديثة في الغرب كإطار عقلاني وتوافقي وديمقراطي للتفاعل والتبادل بين مكونات المجتمع: المجتمع المدني والسياسي وما تشكله من تحكم في المؤسسة والمجتمع معا والمعرفة.
* ستصبح المؤسسة في الدولة الوطنية الحديثة مؤسسة محكومة ايديولوجيا وموجهة بإيديولوجية برجوازية حيث المؤسسة أداة منظمة موجهة وهادفة لتوجيه سياسات معقلنة لتوزيع المعارف، وأنماط التكوين والتخصصات... (مؤسسة التربية والتكوين).
* المدرسة بهذا المعنى (المؤسسة التربوية) ستؤدي وظيفة إعادة الانتاج الاجتماعي.
في خضم هذه التحولات المعرفية والتربوية والسوسيو حضارية الجديدة، ما هو مآل مسألة العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة ؟
إنه السؤال / الغاية من تناول الجانب التاريخي في العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة حيث يقول الدكتور محسن: "لم تكن المعطيات المختزلة الآنفة مجرد ترف معلوماتي عرض بغرض المراكمة والتجميع، وإنما كان غرضها محكوما بهدف منهجي ".
لقد أصبح للفلسفة "تخصص قائم بذات"، نتيجة مجموعة من التحولات، وهو تخصص جزء من المعرفة أو الثقافة المدرسية أو الجامعية. أي أن الفلسفة أصبحت معرفة مدرسية وخطاب له ممارسون محترفون، وفضاءات مراقبة، وموجهة للتداول والاستهلاك. وأمام هذه التحولات يصبح سقراط والتجربة السقراطية ماض منقرض.
هكذا حدد في المبحث الثالث "الفلسفة والسياقات التربوية والاجتماعية الغربية المعاصرة بين هموم المعرفة ومهام المؤسسة"، وظائف الفلسفة التربوية والمعرفية والاجتماعية في المجتمعات الغربية المعاصرة والتي أجملها في:
1. الاستمرار في القيام بمهمتها التربوية دعما لمسيرة العقلنة التي دشنها المد التنويري منذ بداية النهضة الغربية الحديثة:
* نشر الثقافة البورجوازية وقيمها التقدمية: العلم، المعرفة، العقل... بدلا من الخرافة، المعتقدات الخلقية، الدينية...
* التأسيس لفكر جديد وثقافة جديدة ومجتمع جديد: بناء وعي مجتمعي جديد قائم على قيم العقلانية والتقدم والتحرر.
2. التبرير الفكري للأساس العقلاني الذي تقوم عليه القاعدة التنظيمية للمجتمع العصري: مجتمع المؤسسات والتنظيمات والعقل.
3. المستوى السياسي والإيديولوجي: الدعوة إلى دعم الجمهورية كفكرة وكقيم اجتماعية وحضارية وثقافية للدولة الوطنية الحديثة (فرنسا أساسا).
وعلى الرغم من كل ذلك ظلت الفلسفة في الغرب، ضد كل أشكال "القولبة" والتقنين المدرسي، ذلك أن ثورة ماي 68، وقفت ضد كل المؤسسات التربوية والاجتماعية.
إلا أن الملاحظ في حقيقة الأمر أن السياق الغربي الذي تبلورت فيه الفلسفة التربوية هو سياق خاص له شروطه الخاصة والتي تميزه عن شروط مجتمعات أخرى. ولا يسعنا أن نقول إلا أن هذا السياق لا يفيد كوجه للمقارنة بين المجتمعات الغربية والمجتمعات العالم ثالثية. والتي لم تعرف حقا أي موجة تنويرية أو ربط لتدريس الفلسفة بالضرورة التاريخية للمجتمع، فإذا كان المجتمع الغربي والفرنسي تحديدا وضع غايات ووظائف للفلسفة المدرسية، تصب جميعها في اتجاه دعم القيم الليبرالية ونشر الثقافة البورجوازية، ودعم نظام سياسي معين، فإن حال مجتمعنا كغيره من المجتمعات العالم ثالثية، لم يتبلور فيها اتجاه ليبرالي ولا فلسفة أنوارية، ولا تصور حديث لبناء الدولة. لذلك يستوقفنا في المبحث الرابع: "علاقة الفلسفة بالمؤسسة في المجتمع العربي المعاصر: المغرب نموذجا". السؤال الاشكالي: ما هي أهم الشروط التي تؤطر علاقة الفلسفة بالمؤسسة في مجتمعنا المغربي الراهن، كنموذج لمجتمعاتنا العربية والثالثية على العموم؟ الذي يراه الدكتور أساسيا لفهم هاته العلاقة.
الفلسفة في المغرب (المدرسية والجامعية) تقليد مؤسسي أدخلته السياسة الكولونيالية، وتعاني العديد من مظاهر التهميش والاغتراب عن الواقع الثقافي والاجتماعي نظرا ل:
* انتشار الأمية
* عزل الأوساط القروية عن المدينة التي تحتكر هذا التعليم.
* التفاوتات الاجتماعية المهولة بين مختلف الفئات والشرائح والأوساط.
* عدم تكافؤ الفرص في النظام التعليمي.
* تمثلات الشرائح المجتمعية للفلسفة والعلم والمعرفة...
* التصورات الانتقاصية للفلسفة والمهيمنة على الوعي الشعبي (التمثلات).
ويرى أن الفلسفة تتعرض لحصار نتيجة سيادة منظورين:
المنظور التقنوبيروقراطي: technobureaucratique أي أن الفلسفة مجردة وغير إجرائية، عديمة الجدوى في النشاط الاقتصادي، ولا تستجيب لسوق الشغل وحاجات السوق.
المنظور التقليدوي: المحدث أو المستحدث traditionalisme modernisé ou moderne الفلسفة إلحاد، تؤدي إلى الاختلاف الفكري، تساهم في التشرذم والتفرقة...
ويقر في الآن ذاته أننا "مازلنا في الظرفية الراهنة، لا نتوفر على فلسفة تربوية واجتماعية متكاملة العناصر، وواضحة الأهداف والتوجهات، أي على مشروع تربوي اجتماعي متسم بالمقومات الايجابية". تلك التي تستطيع أن تبين بطلان هذا الإدعاء. وهنا نسجل أن ملاحظة الدكتور، تقف في وجه بعض المساهمات الأخرى التي تعتبر أن هناك "نهضة فلسفية في المغرب" وأساسا تصور طه عبد الرحمان، الذي لا يتوانى عن التذكير بتلك اليقضة الفلسفية بالمغرب، ونورد هذين القولين للدكتور طه حول هذه المسألة: "قد لا نعدو الصواب إن ادعينا أن هناك يقظة فلسفية في هذا الجزء الأقصى من العالم الإسلامي العربي ولو أنها بقيت محصورة في دائرة الأفراد ولم تنفذ في وسط الجماعات وتنتشر في بنية المجتمع كله، هذا إذا جاز القول بإمكان تغلغل الفلسفة في جميع طبقات المجتمع، وإلا فإن الفلسفة كانت دائما من نصيب الأفراد ولا ينفذ منها إلى المجتمع في كليته إلا أفكار معدودة وحقائق محدودة، وإن كان أثرها فيه، على قلتها ودقتها، قد يذهب بعيدا حتى يكاد أن يقلب أحوال هذا المجتمع تقليبا"، ويضيف: "إذا عرفت أن حصول اليقظة الفلسفية عندنا أمر لا ينازع فيه إلا مكابر، بدليل تفردها في تاريخ المغرب، وثراء مضامينها وإقرار الغير بها، فاعلم أنها اتسمت بسمة جامعة، نحتاج إلى الوقوف عندها وإطالة النظر فيها."
إن أهمية هذا القول تكمن فقط في بيان وجهة النظر الأخرى، فالتساؤل حول واقع وراهن الفلسفة بالمغرب، يقتضي الإلمام بكل ما كتب عن هذا الموضوع في أوساط المهتمين والغيورين على الدرس الفلسفي وواقع تدريس الفلسفة بالمغرب، وكل ما كتب في الموضوع ليس بهين ويحتاج إلى تدقيق وتمحيص للخروج بنتائج في المستوى المطلوب، وإلا سيبقى البحث مجرد انطباعات يفتقد لكل طابع تحليلي وموضوعي.
يقر الدكتور أن وضعية : فلسفة ـ مؤسسة تربوية: لا تتعلق بالفلسفة، بل بكل النظام التربوي الذي لم يحدد بدقة أي هدف منشود للتعليم في بلدنا. حيث يقول "إن مسألة علاقة الفلسفة بالمؤسسة التربوية في مجتمعنا المغربي، (...) ترتبط بوضع متأزم معقد، ومتداخل المكونات"، والنظام التربوي في المغرب، نظام يتخبط خبط عشواء، فكل الاصلاحات الجاربة منذ عقود لا تستطيع أن تضع اليد على الأسباب الحقيقة لهذه المنظومة المهترئة والتي تستوعب كل مواصفات العقم والتأزم. فكيف نريد لمنظومة لا تستطيع أن تصلح حالها في مختلف المجالات، أن تصلح الفلسفة؟ إن الفلسفة بما هي مادة تدريسية، وأخذا بعين الاعتبار استمرار النظرة الإقصائية حتى في صفوف من هم أجدر بالدفاع عنها، لن تستطيع أن تدافع عن حقها في الوجود والارتقاء بها ما لم يتوفر الوعي بضرورتها. إننا نواجه باستمرار هذه النظرة حتى داخل المؤسسات التعليمية. وحتى "الغايات والأهداف المرسومة في التوجهات الرسمية تعترضه العديد من المشكلات النظرية والمنهجية والتربوية والاجتماعية"، على حد تعبير الدكتور محسن. وهنا نتساءل: هل فعلا الغايات والأهداف المرسومة في تلك التوجيهات واعية بذاتها وتدرك جيدا ما تتوخاه من تدريس الفلسفة، أم أنها مجرد توجيهات؟
إن معالجة هذا السؤال يقتضي قراءة خاصة ومتأنية في تلك التوجيهات وفي المسار الذي قطعته في ارتباط مع تقدم تدريس الفلسفة.
يتساءل الدكتور: ما هي أهم أبرز مقومات وخصوصيات ومحددات الممارسة التربوية (الفلسفية) في سياقنا التربوي والاجتماعي الحالي؟ أي علاقة خاصة تربط بين الفلسفة والمؤسسة في إطار هذه الممارسة؟ ويرى أن المقومات المميزة للوضع المؤسسي للفلسفة المدرسية في المغرب تتمثل في:
* استمرار تمسك بعض مدرسي الفلسفة والمشتغلين بها بأطروحة استحالة خضوع الفلسفة في تلقينها وتداولها لأي بيداغوجيا موضوعية كانت أو معيارية: فللفلسفة بيداغوجيتها الخاصة المتضمنة في آليات اشتغالها كتفكير، كفعل للتفلسف، وليس كمعارف ومعلومات يمكن نقلها.
وينتقد المؤلف هذا الاعتقاد لعدة اعتبارات:
- لا نتحدث عن فلسفة بالمعنى الأكاديمي والفلسفي الصرف، عن فلسفة الفلاسفة والمذاهب والأنساق الفلسفية الكبرى، بل فلسفة مدرسية أو جامعية لها أهدافها وفضاءاتها وضوابطها ومضامينها المحددة والموجهة ضمن نسق ثقافي وتربوي.
- تتعلق بعدم الحسم في التساؤلات التالية: أي فلسفة نريد الآن ترويجها في نظامنا التعليمي؟ أي مواطن مغربي أو عربي منشود؟ أي وعي ثقافي واجتماعي نتوخى من تعليم الفلسفة في مجتمعنا أن يسهم في تشييد أسسه وتكريسه؟ ولنشر أي قيم معرفية أو حضارية، محلية أو كونية إنسانية؟ ولتدعيم أي رهان تنموي شمولي؟ ما الغايات الاجتماعية العامة أو الوفاقية والأهداف الإجرائية القابلة للإنجاز والتحقيق، والتي نضعها للوصول إلى وضعية تمكننا من توجيه الفلسفة نحو تحقيق المقاصد والرهانات السالفة الذكر؟
* المسألة لا تتعلق بإشكال بيداغوجي صرف ولكن بوضعية غياب القرار السياسي والاجتماعي والتربوي الذي يساعد الفلسفة المدرسية والجامعية على التموضع مؤسسيا واجتماعيا.
* الانفتاح عن بيداغوجية غربية في تأطير تدريس الفلسفة: "نعتقد أن هذا المسعى هو، من حيث المبدأ، ظاهرة صحية، ومبادرة أدعو إلى تثمينها عاليا كخطوة نحو التجديد والانفتاح". إننا نعتبر أن المسألة لا تتعلق بالبيداغوجية في حد ذاتها، بل إن من أوجه المسألة غياب القرار السياسي، وهو قرار غير ممكن ولا معنى له بدون حركة سياسية واجتماعية تتمثل قيم الأنوار وتكون قادرة على الدفاع عن برنامج تنويري يمتلك تصورا مجتمعيا متكاملا.
وعلى هذا الأساس ينبغي استحضار:
- خصوصيات الفاعل التربوي المغربي والعربي: التلميذ، المدرس، المؤطر التربوي...
- ضرورة الوعي بأن المفاهيم والنظريات والمناهج والعدد والنماذج البيداغوجية المقتبسة هي إفراز لحقل معرفي واجتماعي خاص ومتميز. وهي تقتضي النقل أو التحويل البيداغوجي. Transfert pédagogique
- ينبغي إنتاج معرفة مطابقة وبيداغوجيا مطابقة pédagogie adéquate تستجيب للشروط المحلية وللواقع المعيش في هذه المجتمعات.
* - النظام التربوي لا زال يتحول إلى المؤسسة (غير مؤسس) فالموارد البشرية مثلا تعترضها عوائق جمة. إننا بحاجة إلى ثقافة مهنية مبنية عقلانيا...
" إن الفلسفة في مجتمعنا المغربي، بل والعربي عامة، تعيش محنة حالة معقدة من الاغتراب المضاعف: غربة عن خصوصيات السياق الثقافي والمجتمعي العام، وغربة عن مجال مؤسسي ما تزال تبحث فيه عن استراتيجية ملائمة للتموضع والاندماج الفاعل".
* - تناقض الفلسفة مع الرسمي: ثقافة السوق، مدرسة المعمل، والباطرونا.
ويقترح الدكتور للخروج من هذه الوضعية (الوطن العربي ككل):
1 – ضرورة التذكير بأهمية استحضار الدور التاريخي للفلسفة، تؤدي وظيفة مزدوجة:
* دفاعية: تقعيد وشرعنة بعض الخطابات والأوضاع.
* تأسيسية: (هجومية) نقد ونقض واقتراح للتعليم والمعايير البديلة.
2 – الدفاع عن الفلسفة في شروطنا الراهنة: أي التخلي عن القناعات الفكرية والبيداغوجية المثالية أو التقليدية المهيمنة على الخطابات المتداولة حول علاقة الفلسفة بالمؤسسة:
- التناقض بين أهداف الفلسفة وأهداف المؤسسة.
- استحالة تعليم الفلسفة.
- التناقض بين الفلسفة والبيداغوجية.
3 – الاعتراف بدور الفلسفة التأسيسي: النقد، النقض، الهدم، وإعادة البناء والتأسيس...
4 – مشروع المؤسسة: projet d’établissement
تلك المحاولة التي تهدف من ورائها مؤسسة ما (تربوية أو اجتماعبة عامة) عبر الجهود المنظمة والمتكاملة لفاعليها إلى وضع خطة أو استراتيجية محكمة تبلور وتشخص فيها، بشكل واضح وممنهج، خصوصياتها، ومشكلاتها، وحاجاتها وأهدافها وأولوياتها، كما تحدد فيها إطارا تنظيميا معقلنا وهادفا لتقسيم الأدوار والمهام وأنماط العمليات. ذلك أن الفعل التربوي هو بالضرورة وبطبيعته فعل إبداعي حر.
فالفلسفة باعتبارها فكرا نقديا تنويريا، كفيلة بالمساهمة في مساعدتنا على بناء "مشاريعنا" المجتمعية والحضارية وفق فلسفة شمولية ناضجة وواعية، مؤطرة لفلسفة تربوية واضحة المعالم، هي بدورها موجهة لفلسفة مدرسية هادفة وقادرة على المساهمة في تكوين وبناء الإنسان ـ المواطن الفاعل المنتج والمؤهل للتواصل والتفاعل الحضاريين.
ويتعلق الجزء الثاني من الكتاب ببحث مفهوم الإنسان وحضوره في درس الفلسفة ويدعو إلى فلسفة تنويرية، تقوم بمهمة الرقي بالمجتمع المغرب والعربي إلى مجتمع تحديثي ـ تنويري يعي جيدا أهدافه وغاياته ويساهم في تحرير الإنسان من جميع المناحي.
إن مساهمة الدكتور محسن في إبراز العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة، تظل مع ذلك غير واضحة وإن كان منهجه يدعي الدقة السوسيولوجية فإنه في نفس الوقت لا يقدم أي تحليل سوسيولوجي للعلاقة. وهذا ما يدفعنا إلى القول أن هذه المحاولة محكومة بمنهج مقارن أكثر مما هي محكومة بمنهج سوسيولوجي، ذلك أن البحث السوسيولوجي إما أن ينطلق من تعيين الظاهرة المدروسة وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل نحن فعلا إزاء ظاهرة قابلة للدراسة السوسيولوجية؟ ظاهرة تقبل الملاحظة أم أننا إزاء إشكال يفرض التساؤل، ويدعو إلى التأمل؟
وهكذا يمكن أن نقول أن اعتبار المجتمع المغربي باعتباره نموذجا للمجتمعات العربية والعالم ثالثية، يحبل بنوع من المغامرة الفكرية والسوسيولوجية معا. ذلك أن التفاوتات بين المغرب وبقية العالم العربي والثالثي عامة بينة من جميع المستويات، نظرا لاختلاف الأنظمة التربوية السائدة في كل مجتمع، ولاختلاف الاستراتيجية التي تحكم هذه المجتمعات في تطورها. وهذا يتناقض مع البحث السوسيولوجي، فالظاهرة قابلة للتعميم في شروط معينة وان تحدثنا حتى عن التعميم فأبدا لن يكون التعميم في العلوم الإجتماعية كما هو الحال لما هو عليه في العلوم الطبيعية، لأننا إزاء نظامين من القانون العلمي، إلا إذا أقررنا بمفهوم "القانون العلمي" كما هو الشأن في الفلسفة الوضعية (عند أوغيست كونط تحديدا) التي تعتبره: "علاقة ثابتة بين الظواهر"، وهنا نحتاط أمام المماثلة المفرطة بين الظاهرتين، فالتمايز بين الظواهر في حقل العلوم الطبيعية وفي حقل العلوم الانسانية والاجتماعية يلغي كل مماثلة إسقاطية.
لذلك فإن اتخاذ المغرب كنموذج لا يصح البتة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالمقارنة بين الفلسفة والمؤسسة في المجتمع المغربي وفي المجتمع الغربي (الفرنسي تحديدا والذي يعترف له الجميع بمساهماتهم في الفلسفة المدرسية)، لا تصح بأي وجه من الأوجه. فهل يصح أن نقارن بين مجتمع عمر الفلسفة فيه يقارب القرنين وبين مجتمع لا يتجاوز فيه عمر الفلسفة نصف القرن؟ وحتى المشتغلين بالبحث البيداغوجي والديداكتيكي يعترف صراحة بهذا التمايز ويعتبرون ما يقومون به فقط لمراكمة ما يكفي للإلمام بالإشكالات والمناهج والمساهمات في أفق التأسيس لبيداغوجية محلية تستجيب للشروط المجتمعية. وهنا نستحضر ما يقول الدكتور محسن نفسه، حيث يقر بأن المحاولات الجارية في مجال البيداغوجيات مهمة للغاية وتسير في هذا الاتجاه. وعليه نتساءل هل هذا الإسقاط واع وممكن؟