سقراط ،اسم يكاد جميع المتمدريسين يعرفه ،حتى ولو لم يعرف شيئا عن حياته وفلسفته، وهو عند المتخصصين في الفلسفة من انزلها من السماء الى الأرض ،اي من تفكير مجرد متعالي الى فكر داخل الاسواق ووسط العامة وفي الردهات والاروقة ،منه ينطلقون في تأريخهم للفلسفة ومنه يحددون معناها.
لقد علمنا سقراط ان نعرف انفسنا بأنفسنا،وأن نعرف كلماتنا ،وان نستجوب اليقينيات. ولكن هذا البحث الذي ننجزه يوحي بأننا ننقلب على سقراط،نشك في وجوده التاريخي،في وجوده العيني ،نشك في ان سقراط واجه وناقش السفسطائيين،نشك في ان سقراط مواطن اثيني ،بل من أكثر شخصياتها شهرة . لكننا في حقيقة الأمر نمارس التفلسف السقراطي،نستجوب القينيات ،نشك،وبهاذا مازلنا تلاميذ لسقراط. لكن الا يكون الشك في وجود سقراط مناسبة لتغيير النظرة الكلاسيكية لتاريخ الفلسفة وتطورها؟
لم أقرأ اي كتاب ولم أسمع اي محاضرة أو شخص يشك في وجود سقراط تاريخيا ،لكنني شككت في وجود سقراط ،وكثير من الزملاء شاركوني الفكرة،ولكن لماذا الشك في سقراط دون غيره من الفلاسفة ؟ ربما هو ذلك الحس الذي يكتسبه طالب الفلسفة،ذاك الحس الريبي في كل ما يوحي بتجاوز العقل باعتبار ان شخصية سقراط نفخ فيها كثيرا حتى أصبحت قريبة من الاسطورة ابعد من الانسان العادي.
أقول اني شككت في وجود سقراط التاريخي وقررت ان أحقق في ذلك ،حتى وجدت في أحد كتب طه حسين وهو كتاب "من بعيد" الذي يحكي في أحد فصوله انه كان من بين المشاركين في مؤتمر العلوم التاريخية الذي نظم في بلجيكا، ويحكي أنه ذهب الى لجنة التاريخ العقلي في العصر القديم فأصيب بدهشة عظيمة ولذة أعظم حين سمع أحد الفلاسفة البلجيكيين وهو الاستاذ"دوبريل" الذي ألف كتاب عن تاريخ الفلسفة اليونانية، يزعم فيه أن سقراط شخص خرافي، ولم يعرفه التاريخ، وان خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في "هوميروس" كلاهما شخص آمن به القدماء وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط،وكلاهما شخص اتخد رمزا لنوع من الادب ،فاتخد هوميروس رمزا لكل الشعر القصصي الذي عرفه اليونان وتنتقلوه قبل القرن السابع ،واتخد سقراط رمزا للفلسفة التي عرفها اليونان وأفتنوا بها منذ آواخر القرن الخامس وطول القرن الرابع قبل المسيح1.ومعروف ان شخصية" هوميروس" شخصية خرافية ،وهو رجل لا نعرف عنه شيئا مؤكدا بل البعض يعتقدون انه كانت هناك مجموعة متعاقبة من الشعراء أطلق عليها هذا الاسم في وقت لاحق2.
ومما يحثنا على الشك ،ما نجده في كتب المؤرخين الغربيين حول شخصية سقراط اذ نجد سطحية في تناول شخصية سقراط، ولا نجد الشك والمساءلة،بل نجد مصطلحات غير علمية مثل المعجزة اليونانية او العبقرية اليونانية،وما الى ذلك من الاستعارات الغير الدقيقة. ولنستمع لما كتبه "ول ديورانت" (اننا نعرف القليل عنه(سقراط)ومع ذلك فنحن نعرفه معرفة بالغة، أكثر بكثير من أفلاطون الارستقراطي وأرسطو العالم)ثم يقول(من الصعب ان نعرف كيف عاش سقراط)3،نلاحظ في هذا القول تناقضا جليا،فكف نعرف القليل عنه وفي نفس الوقت نعرفه أكثر من أفلاطون وأرسطو؟
اما في ما يخص قضية سقراط الكبرى ،وهي الحكم عليه بالموت،فان بعد المؤرخين والفلاسفة يشككون في الرواية الافلاطونية ،فالبعض يرجح ان علاقة سقراط ببعض التلاميذ الذين اصبحوا فيما بعد طغاة هي التي جنت عليه ،فأثينا لم تغتفر لسقراط انه كان أستاذا ومعلما وموجها لمجموعة من الطغاة والخونة ،وانما اتهامه بافساد عقول الشباب ،كان من الواضح ان المقصود بالشباب في هذه الحالة ليس أي شباب على الاطلاق وانما أولئك الذين عانت اثينا منهم الامرين.4
ولنرجع الى الاستاذ "دوبريل" الذي قال ان فلسفة سقراط تكاد تكون موجودة برمتها عند الفلاسفة الذين تقدموه،وهذا طعن ليس في شخص سقراط فقط بل حتى في أصالة أفكاره،ويضيف أن شخصية سقراط غامضة متناقضة عند تلاميذه،وان شخصية سقراط كانت موضوع العبث والسخرية عند الشعراء والممثلين .وخلاصة القول فيما يخص ما قاله الاستاذ "دوبريل "فانه يخلص ان سقراط شخص خرافي كشخصية جحا عندنا في القصص العربي،وان الفلاسفة الذين جاءوا في آواخر القرن الخامس والرابع قد اتخدو هذا الشخص مثالا للجد.
واذا كانت من نتيجة استخلصناها من هذا البحث القصير فهي عملية الشك في حد ذاتها ،بعتبار ان الشك ملح للعقل وهو كفيل بجعله متقدا في كل الوقت ،ومناسبة لممارسة التفلسف السقراطي والمشاغبة في حضرة سقراط.والنتيجت الثانية هي اننا لا نستطع الجزم بان سقراط شخصية واقعية،اذ ان الشك والارتياب لا ينفك يداهمنا.وللبحث بقية....
المراجع :
1)- كل ماجاء حول طه حسين ودوبريل موجود مابين الصفحة ص 85 وص94.كتاب بعنوان "من بعيد" طه حسين.دار العلم للملايين بيروت.الطبعة السادسة.1977
2)- حكمة الغرب تأليف برتراند راسل .ترجمة فؤاد زكريا.عالم المعرفة.ص 31
3)-قصة الفلسفة ول ديورانت.ترجمة فتح الله محمد المشعشع.مكتبة المعارف بيروت.ص11
4)- جمهورية أفلاطون.ترجمة ودراسة فؤاد زكريا.دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر.ص25