"لا ينبغي أن نطلق اسم الفن إلا على ما نتج عن حرية أي بصفة اختيارية تجعل العقل أساسا لأعماله."[1]
لئن ارتبطت الفلسفة بالعقل وتكلم العقل لغة المفاهيم وصورت لنا المفاهيم أحداث الواقع ولئن انغمست العلوم في التجربة وتكلمت التجربة بلغة الرياضيات والأرقام والمعادلات ونقلت لنا هذه المعادلات العلاقات بين الأشياء وصاغت قوانين الظواهر فإن الفنون ترتبط بالأحاسيس الدافئة والمتوترة والخيال الخلاب والمنتج وبالذاكرة العميقة والجماعية وستتكلم لغة الأهواء وستعبر لنا هذه المشاعر عما يدور داخل الذات من جموح نحو المطلق وثورة على السائد وإرادة لتجاوز الحدود نحو اللانهائي.
ربما كان مصطلح الفن غامضا بعض الشيء وآيتنا في ذلك أنه يطلق على التقنية وعلى الفنون الجميلة على الرغم من الاختلاف الكبير بين عمل الحرفي الموجه من قبل أهداف نفعية أداتية وعمل الفنان الممارس لذاته والهادف إلى قيمة نوعية متعلقة بالجمال أساسا. لذلك يشير الفن في معناه العام إلى الإنتاج الانساني الذي يجمع بين الحرية والعقل والإبداع. على هذا النحو يشير لالاند في معجمه إلى أن:"الفن أو الفنون تعني كل إنتاج للجميل بواسطة الآثار التي يبدعها كائن واع." وبالتالي يتميز الفن على الطبيعة تميز الفعل عن الحركة والحرية عن الضرورة من حيث أنه كما يقول فرنسيس بايكن "الشيء الذي يضيفه الإنسان إلى الطبيعة".
كما يتميز الفن عن العلم تميز المعرفة النظرية عن المعرفة العملية إذ لا يعرف الإنسان بالضرورة كل ما يقدر على فعله ولا يصنع بالضرورة ما يقدر على معرفته، وقد برهن كانط عن ذلك بقوله:"الفن هو العمل الوحيد الذي لا نملك مهارة صنعه حتى وان كنا نعرفه على الوجه الأكمل." زد على ذلك أن الفن متميز عن المهنة لأن الفنان هو الصانع الذي يمتلك فكرة عما سيبدعه ولكنه يتحرر من كل غرض مادي.
كثيرا ما يقع الناس في الخلط "بين الفني والاستيطيقي والجميل فيستخدمون الواحد منها محل الآخر...غير أن هذا الاستخدام يدعو إلى الأسف، لأنه يخلط بين ثلاثة أنواع يختلف كل منها تعن الآخر...فلفظ "الفن" يشير إلى إنتاج موضوعات أو خلقها عن طريق نوع من الجهد البشري. وهكذا نتحدث عن "الفنان الخلاق" وعن نتاج نشاطه وهو "العمل الفني". والجمال يشير إلى جاذبية الأشياء أو قيمتها. أما الاستيطيقا ...فهو يحتفظ في الكثير من الحيان بمعنى اللفظ اليوناني الذي اشتق منه Aisthesis إذ انه يشير إلى إدراك موضوعات طريفة والتطلع إليها."[2]
بيد أننا لو عدنا إلى اللسان اللاتيني فإننا نجد اللفظ اللاتيني Ars وقد اشتق منه مفهومBeaux arts الذي يرتبط بالنشاط المهني والتقني.ونستنتج من هذا التحديد الإتيمولوجي أن الفن هو مهارة في الصنع وتقنية للعب وقدرة على الإنتاج والمعرفة الصانعة Savoir faire. لكن ما سر اشتهار تعريف الفن على أنه محاكاة للطبيعة؟ وما قيمة مثل هذا التحديد؟
يركز التصور السفسطائي منذ الإغريق على أن جذور الفن متأصلة في أعماق الذات بما أن الإنسان هو مقياس كل شيء وبالتالي يكون الفن مواضعة واصطلاح وجهد منصب على تقليد المناظر والحركات والأصوات الطبيعية والجميل الفني هو مرآة عاكسة للجميل الطبيعي ولكي يصبح الإنسان فنانا عليه أن يتجول في الطبيعة ليستنسخ مواطن الجمال ويستلهم أسرار الإبداع . غير أن أفلاطون نقد هذا التصور بقوله:" الفن محاكاة للمحاكاة أو محاكاة مضاعفة" لأنه يتراجع عن الحق ثلاثة مرات الأول عن الجمال في ذاته (المثال) والثاني عن الجمال الطبيعي (المثيل) والثالث عن الجمال الفني (الممثول)، ويستدل على ذلك بقوله:"إن هذه الأعمال تنتمي إلى المرتبة الثالثة بالنسبة إلى الحقيقة وأنه من الممكن الإتيان بها بسهولة حتى لو لم يكن المرء يعرف الحقيقة، إذ أنهم لا يخلقون إلا أوهاما لا أشياء حقيقية"[3]. وينتهي إلى الإقرار بأن الفن القائم على المحاكاة هو بعيد كل البعد عن مثال الحق بماهو جمال في ذاته وخير أسمى.
لهذا السبب يكشف أفلاطون عن وجود عروة وثقى تجمع الجمال والحق والخير ويعمد إلى تفسير الفن بوصفه تعبيرا عن الحقيقة ويتعالى به عن مجرد المحاكاة للمظاهر الخادعة ويرى أن مصدر الإلهام لدى الفنان هو المثال المعقول للجمال، وآيته في ذلك ما خاطب به هوميروس في محاورة ايون:" إن براعتك في الكلام عن هوميروس لا تعزى إلى الفن... ولكنها تأتيك من قوة إلهية تحركك"[4]. ويقصد أن علم الإنسان مأخوذ بالسماع بينما علم الآلهة مأخوذ بالعيان ولذلك ينبغي أن تعلم آلهة الشعر الشاعر ويجب أن يعتصم هذا الأخير بالحب لكونه محرك الفيلسوف نحو الحق ودافع للفنان نحو الجمال.
غير أن نظرية المحاكاة قد مثلت عائقا ابستيمولوجيا أمام تطور الفنون ونشأة علوم الجمال لذلك حاولت مدرسة الفنون الجميلة في عصر النهضة استبدال نظرية المحاكاة التامة البسيطة بنظرية المحاكاة المنقوصة والتي تعمد إلى القيام بتحريفات وإضافات على ماهو طبيعي تبرز من خلالها قدرة الفنان على إنتاج الجمال بمعزل عن التصوير المطابق للواقع، وقد عبر أرسطو من قبل عن هذه الرغبة في تخطي عتبة الطبيعة فنيا بقوله:"إن الإنسان الذي زودته الطبيعة باليد أقوى الأسلحة يستطيع أن ينتج من الفنون ما يكمل به الطبيعة ويقومها " واليد هي الأداة التي تخلق غيرها من الأدوات وبها يصنع الإنسان ما شاء من فنون"[5]. لكن أنظر كيف طوع هيجل هذا المفهوم الأرسطي ليتماشى مع فكرته الشاملة بقوله:"يكمن الهدف الأساسي للفن في المحاكاة وبعبارة أخرى في الاستنساخ البارع للأشياء كماهي موجودة في الطبيعة."[6]
إن فنون المحاكاة عند أرسطو تستخدم الإيقاع واللغة والوزن وتلجئ إلى الحبكة والعبارة وهي متحررة من أغراض الفائدة والاستعمال وتحدث في النفوس عملية تطهير وتتفرع إلى الملحمة والملهاة والمأساة والشعر والموسيقى والغناء. عندئذ يحدد أرسطو مهمة الفنان في رواية ما يمكن أن يقع من الأحداث وليس في روايتها كما وقعت فعلا مثلما يفعل المؤرخ، ولذلك يطلب منه ما يلي:" ينبغي أن نفضل المستحيل المحتمل على الممكن الذي لا يقبل التصديق."
هذا الدرس انتبه إليه ليونارد دي فينشي حينما ساهم في بناء مدرسة جمالية تحررية تحاول أن تنعتق من المدرسة القديمة الميتافيزيقية ومن اللاهوت المسيحي بقوله:"الرسام سيد خلقه والعين تخطئ أقل مما يخطئ الفكر"[7]. فكيف أدى تعاظم دور الذات في نشأة الاستطيقا؟ ألا ينبغي أن ننتقل من فن يحاكي الطبيعة إلى طبيعة تحاكي الفن إذا ما رمنا الانخراط في الثورة الكوبرنيكية في دنيا الجماليات؟ وكيف ارتبط ميلاد الذاتية بالخلق الفني وتشكل الوعي الجمالي؟
"إن الفنون لا تتولى محاكاة المواضيع التي تمثل أمام أنظارنا وإنما ترتقي إلى الأسباب العقلية التي تنبثق منها طبيعة الأشياء. وأخيرا، فإنها تخلق كثيرا من الأشياء بنفسها وهي تضيف إلى الشيء ما ينقص كماله لأنها تملك في ذاتها الجمال."[8]
يعبر بول كلي عن صعوبة إيجاد حد جامع مانع للفن لأن هذه التجربة التي يعيشها الفنان ويختلط فيها الانفعال بالخيال والإشراق بالإحساس تظل لغزا غامضا لا يمكن فك رموزه ومعرفة آليات إنتاجه. والغموض مرده تحول الفن إلى مواد معدة للاستعراض والاستهلاك ولكن الطريق إلى تذوقه والحكم عليه والاستمتاع به عسير ووعر نظرا لأن طريق العقل والمفهوم ليس المدخل المناسب لذلك نظرا لأن عالم الفن هو عالم العاطفة والشعور والوجدان والإبداع وفيض الخاطر. إن الفن ليس فقط تركيب بين أصوات وألحان ورسوم وأشكال وكتل بل هو امتزاج بين هاته الأشياء وأمر آخر ينضاف إليها ويصبغ عليها سحرا ما غير معروف عبر عنه بول كلي بقوله:" الفن يرمز إلى الخلق مثلما ترمز الأرض إلى الحياة" ويصرح أيضا:"الفن لا يسمح بإعادة إنتاج المرئي بل يجعله مرئيا"[9].
كما يرى أن جوهر الفن يقوم على الإبداع والحرية ويتجه نحو التعبير عن اللامرئي بواسطة ماهو مرئي وعماهو مألوف ومعتاد بأشياء غير مألوفة وطرق غير معتادة بقوله:" الفن يخترق الأشياء إلى ماوراء الواقع وما وراء الخيال"[10]. إن تذوق الآثار الفنية يفضي إلى نوع من التربية الجمالية التي تساعد كل إنسان على إطلاق العنان للذاتية لكي تمارس العمل الإبداعي وتنخرط في تجربة كاريكاتورية أقرب إلى الهزل منه إلى الجد تلعب بالموجودات وتعبث بالمصنوعات لا تكتفي بالتكرار والمعاودة بل تولد التنوع والمختلف وتحرر الخيال من ألنماط وتهذب اللغة وترتقي بالإحساس وترتحل نحو المجهول واللانهائي.
لكن ما الفرق بين خبرة الخلق الفني على مستوى الإبداع و خبرة الإدراك الجمالي على مستوى التذوق وخبرة النقد الفني على مستوى التقبل؟ وهل يقتضي ذلك الحصول على درجة معينة من الوعي؟ وماذا نعني بالوعي الجمالي؟ ثم "ما الذي يجعل البصر يدرك الحسن في الجسام والسمع يستجيب إلى الحسن في الأصوات وكيف يتم الحسن في كل ما له علاقة مباشرة بالنفس؟ وهل للحسن في كل تلك الأمور أصل واحد لا أصل سواه أم الحسن شيء أن يكون في الجسد وشيء آخر أن يكون في غير الجسد؟"[11]
ارتبط ميلاد علم الجمال بميلاد الذاتية وارتبط اسم الاستيطيقا باستقلالية الفن وتحرره النسبي من الميتافيزيقا والدين والأخلاق وكان الفيلسوف الألماني كانط خير معبر عن هذه النزعة الجديدة في التذوق الجمالي، إذ يعود إليه الفضل في إحداث تمييز بين الفن والطبيعة والعلم والتقنية بقوله:"الفن مهارة إنسانية متميزة عن العلم تميز ملكة التذوق عن الملكة النظرية والعملية"[12].كما تصور كانط العمل الفني على أنه بعيد كل البعد عن النشاط الغريزي المسجون داخل الخيال التكراري ورأى أنه منبعث عن ذوق جمالي يمارس عن حرية ووعي ولذاته وأن "الجمال هو ما يروق للجميع دون فكرة"[13]. زد على ذلك أن كانط أكد على فكرة الفن للفن والتي تعني الانغماس في التلقائية والعفوية وغياب التوظيف الأداتي بالنسبة للآثار الفنية وكونها غائية دون غاية وبالتالي لم يعد الفن يعرف بوصفه محاكاة للطبيعة ولا تمثل الشيء الجميل بل التمثل الجميل للشيء".
اللافت للنظر أن الحداثة الفنية التي تم تدشينها مع الذاتية تميزت بالانتقال من تعريف الجمال على أنه معطي ميتافيزيقي جميل في ذاته ومرتبط بالكمال والتساوق والانسجام مع نظام الكون إلى تعريفه بالنظر إلى الانطباع والتأثر والتوقيع والتمثل والاستقلالية والتلقائية والقابلية وبالتالي تنسيبه ووضعه في التاريخ.
إن التجربة الفنية هي تجربة إبداعية والإبداع يتمثل في الانفصال عن السائد وامتلاك قدرة على الاستكشاف والتنبؤ وتسليط الضوء على الحياة البشرية الخفية والتعبير عن الباطن بواسطة لعبة الصور لاسيما و"أن هذا النوع من القوة الافتراضية للصور ستبحث في عمق الفكر عن الإمكانيات التي لم يقع استخدامها إلى اليوم"[14]. إن ديدن الفنان هو إعادة خلق العالم وانتقال إلى عالم مافوق الحقيقة وهروب إلى مملكة الحرية وانفلات إلى دنيا الحلم وان غرضه هو التعبير عن فرديته وتميزه وعبقريته من خلال حبكة حية من الأحداث والمشاعر وكلما كان أثره الفني الذي أبدعه أصيلا اقترب من قيمة الحقيقة وعبر بجلاء عن مطلب المعنى. وكما قال ديينس هويسمان:" لا يمكن أن نكون مبدعين إلا في الحقل الذي نستطيع فيه أن نعمل دونما التعرض لخطر السخرية"[15].
إن الفرق بين الجميل والجليل هو فرق في الدرجة وليس في النوع بما أن الجليل مثير وعظيم ويؤدي إلى الدهشة والقسوة والفزع والرعب والرقي والعظمة والروعة بينما الجميل ساحر وممتع وحسن ورائق للجميع دون مفهوم. وبالتالي يكون الجليل الحسن الخلاب والجميل بامتياز.
لقد بين كانط "أن الذين يملكون إحساسا بالجليل يحملهم صمت ليل صيفي نحو مشاعر راقية عن الصداقة وعن الأبدية وتفاهة العالم"[16]. كما أن التذوق الجمالي ليس مجرد متعة حسية وإنما غبطة روحية تدعو إلى النظر بانتباه واللعب مع الوجود وممارسة التفكير بحيث يشعر المرء أنه أدرك الديمومة وشارف على الاكتمال ويكاد يتحد بالمطلق.
إن ماهية الفن هي الحرية وان حرية الفنان هي أساس إبداعه وإلهامه وان ضريبة الحرية هي المغامرة في المجهول والمخاطرة بالحياة من أجل التضحية في معبد الجمال الفتان. وكما قال كانط:"لابد من ذوق حتى نحكم في شأن شيء جميل لكن لابد من عبقرية لإبداع شيء جميل"،[17] وآيته في ذلك أن الذوق ملكة حكم وليس ملكة إبداع وهو حكم تأملي بحت يحقق الرضا النزيه الحر دون أية مصلحة حسية أو عقلية.
لكن لماذا يظل الجمال لا قيمة له إلا بالنسبة إلى الإنسان؟ وكيف يستعمل الفن في غير محله ويساهم في إفساد الذوق وتنميط الوعي؟
كاتب فلسفي
[1] Kant E. critique de la faculté de juger .traduit par Alexis Philonenko, librairie philosophique Jean Vrin, 1993.
[2] حسن علي، فلسفة الفن، رؤية جديدة، الدار المصرية السعودية، القاهرة، طبعة أولى 2005. ص.25.
[3] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، القاهرة، طبعة أولى 1968، ص.554
[4] أفلاطون، محاورة أيون، أو عن الإلياذة، ترجمة محمد صقر خفاجة و سهير القلماوي، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، 1956، ص 37.
[5] أميرة حلمي مطر، فلسفة الجمال،دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1998، ص.67.
[6] هيحل، المدخل إلى علم الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1978، ص.34.
[7] Léonard de vinci, Carnets « Perceptes du peintre », trad, Servicen, Gallimard , 1942 .
[8] Plotin, Les Ennéades, traduction d'M.-N. Bouillet. (ةdition Hachette, 1857).
[9] Paul Klee, théorie de l’art moderne, éditions Gallimard, Paris 1998.
[10] Paul Klee, théorie de l’art moderne, éditions Gallimard, Paris 1998.
[11] أفلوطين، التاسوعيات ،التاسوع الأول، الفصل6 في الحسن والجمال، ترجمة د سعيد جبر، مكتبة لبنان ناشرون،الطبعة الأولى 1997. ص87.
[12] Kant E. critique de la faculté de juger .traduit par Alexis Philonenko, librairie philosophique Jean Vrin, 1993.
[13] Kant E. critique de la faculté de juger .traduit par Alexis Philonenko, librairie philosophique Jean Vrin, 1993.
[14] Antonin. Artaud, œuvres complètes, Tome3. Gallimard, Paris, 1978.
[15] Denis Huisman, L’esthétique, Que sais je ?, N 635.
[16] Kant E. critique de la faculté de juger .traduit par Alexis Philonenko, librairie philosophique Jean Vrin, 1993.
[17] Kant E. critique de la faculté de juger .traduit par Alexis Philonenko, librairie philosophique Jean Vrin, 1993.