لا اختلاف حول كون كارل بوبر هو أحد فلاسفة النقد بامتياز، كيف لا و قد قضى معظم حياته الفكرية المديدة في الدفاع عن النقد العقلاني حتى جعل منه طريقة للتفكير بل و طريقة للحياة تتمثل في استعداد الفرد الدائم للإنصات إلى الحجج النقدية، و البحث الدؤوب عن الأخطاء و التعلم منها. فنحن نلفي النقد حاضرا في أعطاف كتاباته في مجملها و على اختلاف المواضيع التي طرقتها، سياسية كانت، اجتماعية، تاريخية أو حتى علمية، هاجسه في ذلك الدعوة إلى مواجهة كل أشكال الأطر المغلقة التي تشل الفكر و تسد عليه منافذ كل تبصر و تفكير عقلاني متفتح يؤمن بالآخر و يدعو إلى المجتمع المفتوح و الكون المفتوح.
و لأجل ذلك، كانت الغاية التي حددها لمبحثه هذا، تتمثل في التصدي لأبرز تجليات و مظاهر اللاعقلانية، متجسدة بالخصوص في النزعة النسباوية - التي تقوم على مبدأ فحواه أننا نستطيع أن نفكر من خلال إطار ترسم معالمه خلفيتنا العقلية، و أن الحقيقة تختلف من إطار إلى آخر- استهدف تقويض حججها و تبيان تهافت مسوغاتها في أفق إحلال النقاش العقلاني الخصيب و المثمر بدلها. لكن و قبل أن نتعرف على بعض مظاهر التفكير النسباوي، لنسفر، بادئ ذي بدء، الحجاب عما يقصده بوبر بأسطورة الإطار، تلك العبارة التي جعلها عنوانا لأحد فصول كتابه بل و أسبغها على المؤلف ككل، في دلالة معبرة على إدانته القوية لمفهوم الإطار و خطورة أن يتلبس بالعقول.
يتلخص مضمون أسطورة الإطار في كون "المناقشة العقلانية و المثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية، أو على الأقل ما لم يتفقوا على مثل هذا الإطار لكي تسير هذه المناقشة". لقد رأى البعض أن هذا التعريف يمثل مبدأ منطقيا أو على الأقل قائما على أساس منطقي، بل نكاد نجزم بأنه ذات المبدأ الذي لا نكل من الدفاع عنه و المطالبة باستحضاره في نقاشاتنا و سجالاتنا، اعتقادا منا أننا حينما نتفق قبل المناقشة على مفرداتنا أو نتوحد حول تعريف بعينه لمفاهيمنا و مصطلحاتنا، نكون بذلك ندفع في اتجاه الخروج بنتيجة متفق عليها في النهاية و مرضية لمختلف الأطراف، أما دون ذلك فلا نرى في المناقشة إلا إبحارا بغير مجاديف و خبط عشواء مآله، دون مبالغة، الخصام و الشجار. هذه رؤية عمومنا أما رؤية بوبر فمختلفة إذ هو لا يرى في ما أسميناه مبدأ سوى "مجرد تقرير فاسد و شرير، إذا عم اعتماده و تداوله سوف يدمر وحدة الجنس البشري و بالتالي ترتفع معه إلى حد كبير احتمالية العنف و الحرب"، و هذا ما جعله يتصدى له و يكافحه متوسلا ببينات و شواهد من التاريخ نؤجل الحديث عنها ريثما نلتفت في عجالة إلى السؤال التالي:
أين نعثر على الخصوبة و الإثمار، هل في المناقشة التي تتم بين أفراد يتقاسمون كثيرا من الآراء، أم في تلك التي تتم بين أفراد بأطر واسعة الاختلاف؟
ينتصر بوبر للشق الثاني على اعتبار أن المناقشة من الصنف الأول رغم كونها طلية و لطيفة إلا أنها تكون مجدبة و غير مثمرة على خلاف الثانية التي قد لا تكون لطيفة و الأجواء فيها قد تكون مستعرة إلا أن النتائج التي تتمخض عنها تكون حتما جيدة، لا لشيء إلا لأن المناقشة لا تكون خصيبة و مثمرة إلا بقدر ما يستطيع المساهمون فيها أن يتعلموا منها أشياء جديدة. و هذا يعني أنه كلما كانت الأسئلة التي يطرحونها أكثر أهمية و أكثر خصوبة و كلما حفزتهم على التفكير في إجابات أكثر جدة لم تكن ضمن اهتماماتهم الراهنة، و كلما زعزعت آراءهم و خلخلت اعتقاداتهم كلما استطاعوا أن يروا الأشياء بعد المناقشة بصورة مختلفة و اتسعت حتما آفاقهم العقلية. في المحصلة تعتمد الخصوبة و الإثمار في مناقشة ما على الفجوة الأصلية بين آراء المساهمين في المناقشة و التي بقدر اتساعها تكون المناقشة أخصب، على ألا تكون المناقشة مستحيلة في الأصل كما تقرر أسطورة الإطار. إن المشكلة في نظر بوبر تكمن في أن سيرورة المناقشة تبدأ من سؤال خاطئ في الأساس مضمونه "كيف يمكن أن نؤسس أو نبرر أطروحتنا أو نظريتنا؟" و هو سؤال يفضي إلى الدوغمائية أو إلى ارتداد لا نهائي في مسار التبرير، أو إلى المبدأ النسباوي القائل بالأطر العقلية الخاضعة للامقايسة و الذي سوف نعرج عليه لاحقا. أما السؤال الذي يراه "داعية المجتمع المفتوح" سؤالا صحيحا و مقبولا و تترتب عنه نتائج طيبة و مفيدة، فهو يعتمد الصيغة التالية: "ما معقبات أطروحتنا أو نظريتنا؟ و هل هي جميعا مقبولة لنا؟" إن مقبولية هذا السؤال تكمن في تركيزه على المعقبات الأفضل في الأطر المختلفة المتناقشة، فهو يحاول أن يستبدل بجميع نظرياتنا نظريات أفضل، و هي مهمة يسلم بوبر بأنها شاقة و عسيرة، لكنه يؤمن في ذات الوقت بأنها ليست أبدا مستحيلة لاسيما إذا حضرت النوايا الطيبة و الخيرة.
هذه هي الأطروحة الأساس في هذا المبحث و التي انبرى بوبر للدفاع عنها بكل ما أوتي من معرفة و من خبرة راكمها على مدى سنوات طوال، فلطالما حذر من مغبة الأطر المغلقة في كل صورها، بل إنه سلط جام نقده بالدرجة الأولى على النسباوية التي رأى فيها أحد الوجوه الأكثر انتشارا المدافعة عن اللاعقلانية في عصرنا الراهن مادامت تسلم بالمبدأ القائل أن الحقيقة ذات ارتباط حثيث بخلفيتنا العقلية، الأمر الذي جعلها تختلف من إطار إلى آخر. فدعاة هذا الاتجاه و مناصروه ينطلقون من مقاييس للتفاهم المتبادل، حينما يفشلون في استيفائها، يزعمون أن التفاهم مستحيل.
يعثر بوبر على الإرهاصات الأولى للنسباوية التاريخية أو الثقافية لدى هيرودوت أبو التأريخ، و بالضبط في ثنايا أقصوصة تحكي "عن ملك الفرس "داريوس الأول" الذي أراد أن يلقن الإغريق المقيمين في إمبراطوريته درسا. و كان من عادة الإغريق أن يحرقوا موتاهم (...) سألهم عن الثمن الذي يرتضونه كي يلتهموا آباءهم حين يتوفون. فأجابوه بأنه لا شيء البتة على ظهر الأرض يمكن أن يغريهم بفعل هذا. حينئذ استدعى داريوس الكالاتيين الذين يأكلون آباءهم بالفعل، و في حضور الإغريق بمعونة من يترجم لهم، سأل الكلاتيين عن الثمن الذي قد يرتضونه لكي يحرقوا جثث آبائهم حين يتوفون. فكان أن تعالت صرخاتهم و ناشدوه ألا يذكر مثل هذه الشناعة". صحيح أن الأقصوصة تقدم دروسا في التسامح و في قبول الغير و احترام عوائده و أعرافه، و هذا لعمري ما أرادنا هيرودوت أن نفهمه و نستوعبه، إلا أنها من زاوية نظر أخرى قد تسقطنا في شرك النسباوية، أي في النظرة التي تقضي بعدم وجود حقيقة مطلقة أو موضوعية، بل كل ما هنالك حقيقة عند الإغريق، و أخرى عند المصريين و يظل ثمة حقيقة أخرى هند أهل الشام و هكذا.
لا ينبغي أن يفهم من كلام بوبر هذا أن النسباوية في مجملها شر مستطير ينبغي محاربته و القضاء عليه، فهناك باعترافه حالات مخصوصة بالإمكان التعامل معها و مناقشتها بطريقة نسباوية، كما هو الحال مثلا مع مسألة قيادة السيارة التي تختلف بين انجلترا و أستراليا و نيوزلاندا، من جهة، حيث تتم القيادة على الجانب الأيسر و بين بقية العالم حيث القيادة تتم على الجانب الأيمن، فهي حالة لا ينبغي أن نحترز من عواقبها مادامت لا تشكل أي خطر بالنظر إلى أنها مسألة عشوائية و اتفاقية لا غير. بيد أن الخطورة حسب بوبر تبدأ حين يلجأ بعض الناس إلى مناصرة الأسطورة القائلة إنه لا يمكن مناقشة أطر القوانين و العوائد مناقشة عقلانية، مسوغهم في ذلك أن الأخلاقية هي ذاتها الشرعية أو العوائد و السنن و بالتالي لا يمكن بأية حال الحكم بما إذا كان نظام من العوائد أفضل من الآخر أخلاقيا و لا حتى مناقشة هذا مادامت شتى الأنظمة الكائنة للقوانين هي فقط المقاييس المتاحة للأخلاقية، فبوبر يرى أن أمورا من قبيل إدارة شؤون الدولة و احترام الحرية، تجبرنا ألا نأبه بالنسباوية الثقافية. و الجدير ذكره في هذا الصدد أن بوبر يعزو هذه النظرة إلى هيغل صاحب الصياغة الشهيرة "كل معقول واقعي" و "كل واقعي معقول"، معتبرا إياه نسباويا و مطلقا معا. فهو يدعو إلى النسباوية حين يعتبر إن لكل إطار تاريخي و ثقافي حقيقته، و عليه تتعذر المناقشة العقلانية بين الأطر مادام لكل منها معياره المختلف للحقيقة. و هو بالمقابل يدعو إلى المطلق حين يستمسك بمبدئه القائل بأن الحقيقة لكي تصدق صدقا مطلقا ينبغي أن تسري على كل الأطر. و مع ذلك يرى بوبر أن الصورة الأكثر جاذبية المتبقية عن هيغل هي تلك التي ارتبطت بمبدئه القائل بالحقيقة النسباوية. و هي الصورة التي سيقع تعزيزها أكثر بعد رحيله على يد كارل ماركس من خلال فكرته عن الحدود الطبقية للعلم (العلم البروليتاري و العلم البورجوازي) و بقاء كل منهما حبيس إطاره الخاص، و من بعده على يد كل من ماكس شيلر و كارل مانهيم اللذين استمسكا، يقول بوبر، بفكرتيهما القاضية بأن لكل إنسان إطاره المفاهيمي الذي يتحدد عن طريق موطنه الاجتماعي. إن أمثال هذه الأفكار لم تفد الإنسان بقدر ما أضرت به، إذ كلما أبدى استعداده للتعلم من الآخرين و فتح أبواب أطره مشرعة في وجه أطر أخرى، اصطدم بعوائق خطيرة من النسباوية الثقافية، مبدأ الإطار المغلق. و هذا ما يدفعنا إلى أن نتساءل:
هل بمقدورنا التحرر من هذه السجون الذهنية التي تستغرقنا ؟
ليس باستطاعتنا، يقر بوبر، أن نكون أحرارا بصورة مطلقة، بل كل ما في مقدورنا أن نجعل سجننا أرحب و أوسع، و أن نتجاوز ضيق سجن من تستغرقه قيوده. و لأجل ذلك لا مندوحة لنا عن المناقشة النقدية لمختلف النظريات التي تؤطر رؤيتنا و نمط تفكيرنا، إذ وحده منهج المناقشة النقدية يمكننا من أن نتعالى على أطرنا المكتسبة من الثقافة و أيضا على أطرنا الفطرية و على منحانا الغريزي جزئيا نحو اعتبار العالم كونا من الأشياء المحددة خصائصها. لهذا السبب يعود بنا بوبر إلى جذور تشكل الفكر النقدي و الذي يرهنه بما يسميه بالصدام الثقافي، إلى حد ربط فيه تشكل الحضارة الغربية بالصدام و المجابهة التي تمت بين أطر مختلفة على شاكلة ما وصفه هيرودروت عاليه، و هذا الصدام ارتبط على مدار التاريخ بمحاولات الإنسان الجريئة و المفعمة بالآمال لتفهم العالم الذي يحيا فيه تفهما نقديا؛ فالمعجزة الإغريقية الأصيلة التي تمثل الأصل الحقيقي للعقلانية النقدية و التي إليها يُرجع بوبر فضل إرساء بوادر التفكير النقدي، نتجت عن صدامات ثقافية و اختلافات في الرؤى نسلط الضوء على بعض ملامحها في ما يلي:
يعزو بوبر ما توصل إليه هيراقليطس من أفكار خلدها التاريخ إلى تأثره الكبير بزرادشت، كما يعتبر أن اكسينوفان في نقده للإلهيات التجسيمية المتشبهة بالإنسان، تعلم من الصدام بين الثقافات الإغريقية و الحبشية و التراقية. بارمنيدس من جهته، استفاد في تفرقته بين الحقيقة الواحدة النهائية غير الخاضعة للعرف الإنساني، و بين العرف أو الرأي المجمع عليه، من كسينوفان و من الصدام الثقافي. فضلا عن أن أفكارا شتى صرنا نؤمن بها اليوم بل و أصبحنا نرفعها كشعارات يتم تمجيدها من قبيل، الديمقراطية، التسامح، و الحرية كلها تولدت، يقول بوبر، عن الصدامات التي شهدتها الثقافات على مدار تاريخ الإنسان، أما العقلانية فيعتبرها إبداع إغريقي خالص نشأ دفعة واحدة مع أنكسمندر في إطار مناقشته النقدية لمختف الأساطير التفسيرية و بإيعاز من معلمه طاليس الذي شجعه على أن يرى ما إذا كان يستطيع الخروج بتفسير يختلف عن تفسيره، و هذا التشجيع أسفر عن أول فكرة جريئة حول وضع الأرض داخل الكون من قبل أنكسمندر سوف تفسح المجال لأرسطارخوس و كوبرنيكوس بعده، بل و تضمنت إرهاصا بالقوى عند نيوتن. و هذا لعمري درس أراد بوبر إطلاعنا عليه و تلقيننا إياه مفاده أن الوصول إلى الحقيقة أو بالأحرى الاقتراب منها ما أمكن، يتطلب المناقشة النقدية و البراعة في كل من نقد النظريات القديمة و الابتداع التخييلي لنظريات جديدة.
هذا و ينبغي أن نشير إلى أن الحديث عن أسطورة الإطار أو عن بعض أوجه حضورها لم يستثن أي مجال معرفي بما فيه مجال فلسفة العلم الذي نتخذه مثالا للدقة و المعقولية؛ فقد خصص له بوبر الشطر الأخير من مبحثه هذا، ناقش فيه المشاكل التي لطالما عاشها العلم و عانى منها في سيرورة تشكله و تطوره، مشاكل تخفى عن أنظار غير المتخصصين، أكيد، بحكم أنهم لا يعاينون إلا مخرجات العلم أي صياغاته النهائية، أما من اتخذ من العلم ديدنه فإنه حتما يعرف الكثير عن صراعات الأطر الموجودة بين العلماء أنفسهم أو بين العلماء و من ينصبون من أنفسهم أوصياء على أساطير بعينها لا ينبغي المساس بها بأي شكل من الأشكال (حال الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى)؛ فبفعل الدوغمائية و التعصب وُئدت أفكار كبيرة، كان يمكنها أن تجعل وضعنا اليوم مختلفا بصورة من الصور: بفعل التعصب اتهم أرسطارخوس الساموسي بالكفر لأنه كان جريئا أكثر مما ينبغي بإعلانه مركزية الشمس بدل الأرض، و أحرق جيوردانو برونو علنا في قلب ميدان الأزهار بروما لأنه آمن بنظرية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس. و للسبب ذاته، رُكع غاليليو غاليلي، مفخرة إيطاليا، و دُفع دفعا إلى التراجع عن أفكاره، و الأمثلة كثيرة عن آفات التعصب و دوره كعقبة كأداء تقف في سبيل العلم و تطوره. فكلما برزت إلى الوجود فكرة جديدة تحمل شيئا من الجموح الذي يخالف ما ألفته العقول و اطمأنت إليه المعتقدات تم الإسراع إلى وأدها في المهد بدل أن يتم احتضانها و خدمتها بعناية حتى تسهم في إنارة الطريق نحو كشوف علمية و معرفية جديدة. و لا نعدم الأطر المغلقة و الأحكام المسبقة حتى بين العلماء كما قلنا عاليه، و هناك حالة شهيرة عن هذا الأمر، لا يفوت بوبر الإشارة إليها بنوع من المرارة و الحنق، من بين حالات عديدة أخرى، تتعلق بنظرية إنشتاين في الفوتون التي نشرها صاحبها لأول مرة في العام 1905، و تم رفضها سنة 1913، لينال عنها، و يا للمفارقة، جائزة نوبل سنة 1921. بوبر في تعليقه عن الرفض الذي تعرضت له هذه النظرية اعتبر بأنها "حادثة مجيدة في تاريخ العلم، تبين كيف أن رفضا دوغمائيا نوعا ما قد يتأتى من قبل أعظم الخبراء المعاصرين متحالفا مع تقدير أكثر العقول تحررا"، ما يكشف بجلاء عن أن العلماء العظام يخفقون بدورهم في بلوغ موقف النقد الذاتي الذي يحول بينهم و بين الثقة الكاملة بأنفسهم بينما هم يصدرون أحكاما فادحة الخطأ على الأشياء.
يحدث هذا في مجال العلوم التي تنعت بـ "الحقة"، أما في مجال العلوم الإنسانية فالأمر لا يختلف كثيرا، أو لنقل أنه يزداد سوءا، إذ تزداد مساحة إقحام الذات في تشكيل المعرفة و معها قد تزداد الأطر صلابة و متانة و تسد بالتالي منافذ التفكير العقلاني النقدي الحر، ثلاثة أمثلة يعرج عليها بوبر بصورة خاطفة يقول انه لم يكتشف المماثلة التي بينها كرؤية و بين أسطورة الإطار و من تم يتجاوزها إلا بعد ما مرت خمسون سنة، رؤية يتبناها، حسب قوله، قوم يعيشون في إطار مغلق، من أمثال الماركسيين (نسبة إلى كارل ماركس) و الفرويديين (نسبة إلى سيجموند فرويد) و الادلريين (نسبة إلى ألفرد آدلر). لا احد منهم كان مستعدا للتخلي عن الرؤية النظرية التي اتخذها حول العالم، بل إن كل حجة مضادة لإطارهم كانوا يعيدون تأويلها بالشكل الذي يجعلها تتلاءم داخله: فنقد الأفكار الماركسية يتم إرجاعه إلى الانحياز الطبقي، و نقد الأفكار الفرويدية يتم إرجاعه إلى الكبت و نقد الأفكار الادلرية يتم إرجاعه إلى الجدل لإثبات التفوق و محاولة تعويض الشعور بالنقص.
لقد مكن تحليل بوبر لهذه النظريات من استخلاص درس مقتضاه أن كل ملاحظاتنا يتم تأويلها دائما بمعونة النظريات التي تؤطر رؤيتنا للعالم، بمعونة أطر هي بمثابة سجون، من لم يحصل له الوعي بها سيظل يقبع داخلها و يرزح تحت وطأتها، و سيظل لا يرى من الآراء إلا رأيه، و هذا ما تسهل ملاحظته في المناقشات التي يحضر فيها أفراد لم يقووا على نسيان ما تعلموه من غرائزهم و ما حدث أن تعلموه من كل تجمع سجالي، أي أنهم يجب أن ينتصروا، فهم حين يجلسون حول طاولة للمناقشة يخالون أنفسهم داخل حلبة صراع لا لزوم فيها للإنصات و الحوار الهادئ و البناء، وحدها لغة الانتصار تمارس صخبها في دواخلهم، فلا هم يستفيدون في النهاية و لا هم يفيدون غيرهم، و لربما لنا في بعض حلقات الاتجاه المعاكس التي تبتها قناة الجزيرة القطرية خير شاهد على ما نقول. أما من حصل لديه الوعي بأن الأطر سجون، فيؤمن في قرارة نفسه بأن المناقشات النقدية المهمة دائما عسيرة المراس، و أن النجاح فيها لا يكمن في الانتصار على الطرف الأخر في المناقشة بقدر ما يكمن في أبسط توضيح لمشكلة ينشغل بها المرء، بل و في أضأل مساهمة في السير قدما نحو تفهم أوضح لموقفه الخاص أو موقف واحد من خصومه، شعاره في ذلك كما يقول بوبر "أن المناقشة التي تنتصر فيها بينما تفشل في أن تعينك على تغيير أو توضيح أفكارك و لو إلى حد يسير يجب اعتبارها خسرانا مبينا".
كارل بوبر، أسطورة الإطار، في دفاع عن العلم و العقلانية، ترجمة يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، 2001، ص 61.
نفسه، نفس الصفحة.
نفسه، ص 62.
نفسه، نفس الصفحة.
نفسه، ص 49.
نفسه، ص 71.