تشكل فكرة العدالة اليوم، محطة نقاش واسع من طرف العديد من الفلاسفة والباحثين السوسيولوجيين والاقتصاديين المعاصرين. ولقد تم الاهتمام بهذا المفهوم قديما لاسيما في الأعمال التي قدمتها الفلسفة السياسية حول أفكار ومبادئ وشروط تحقيق المجتمع العادل. إن مسألة العدالة تتطلب فهما عميقا بأسسها ومبادئها وشروط تشكلها. ومن أجل مقاربة جلية للمفهوم، فإنه يمكن فهم وتحليل أبرز الأفكار الفلسفية والسوسيولجية والاقتصادية التي حاولت تفسير وإدراك مسألة العدالة في إرتباطها بمؤسسة الدولة. ومن هذا المقام، فإن إستشكال المفهوم يظل أمرا مشروعا، وذلك بغية فهم أعمق بفكرة العدالة، إذن، فما المقصود بالعدالة؟ وما الذي يميز الفعل العادل؟ وما علاقة العدالة بدولة الحق والقانون؟
إن محاولة وضع إجابة عن هذا السؤال، تكتسي طابعا مركبا لأنها تحوي مفاهيم فلسفية صعبة المراس، وتشكل في نفس الآن، مجالا خصبا غني الدلالات والتحليلات، وعلى هذا الاساس، انصب تفكير الفلاسفة والسوسيولوجيين والاقتصاديين في أطروحتهم المختلفة حول معالجة مفاهيم، كالعدالة، الدولة، القانون، الحق، كمفاهيم غنية، تحتاج لتفكير عميق يمنحها معناها وقيمتها الاساسية.
إن مفهوم العدالة ينطوي في البدء، على دلالات فلسفية عديدة ومختلفة، يجعلها تشكل مثار نقاش العديد من الفلاسفة في مراحل متعددة من التاريخ البشري. فإذا تم الانطلاق من فكرة الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" -على سبيل تأصيل للمفهوم- نجده يعرف العدالة باعتبارها فضيلة إنسانية مزدوجة، تأخذ معناها انطلاقا من الفرد في علاقته بذاته، ثم تمتد إلى المجتمع، والذي تتحدد فيه بشكل شامل وأوحد، فالعدالة كفضيلة تعكس مدى استعمال الإنسان لملكة عقله لتقنين وتنظيم حياته الاجتماعية على نحو مستقيم، ومن هذا التحديد يمكن استقاء دلالة أخرى، تتأسس على اعتبار أن الدولة العادلة هي التي يكون فيها جميع الفئات الاجتماعية متساويين، دون سيطرة فئة عن أخرى، ومن هنا تأخذ العدالة وجها آخرا يتحدد في مفهوم المساواة، أي في إعطاء لكل ذي حق حقه، بمعنى أن أفراد المجتمع يمتثلون لنسق قانوني واحدا تكمن فيه مساواتهم، أي تساويهم في الحقوق والواجبات، باعتبار أن الإنسان كائن له حقوقه الطبيعية و يخضع لمبدأ العقل في إطار مجتمع تسوده الحرية.
في مقابل هذا، يتجلى الطرح الفلسفي الذي قدمه عالم الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل"فريدريك فون مايك"، الذي يعتبر أن السلوك العادل هو سلوك يكفل الحق في منظومة قانونية شرعية في إطار مجتمع حر، فالعدالة بهذا المعنى ترتبط بالقانون و بالحياة الحرة. هذا الأمر، يجعلها تؤسس لحماية الحقوق وضمانها، لكن ما ينبغي الإشارة إليه أن طبيعة تشكل القانون، تلعب دورا مهما في تحقيق العدالة بمعناها الواسع إجتماعيا وإقتصاديا وسياسيا، فإذا كان القانون مستبدا أو في يد فئة معينة محتكرة، فإن العدالة تضمحل وتفقد قيمتها ومحتواها، مما يجعل الإنسان يلقى مصيره بالعودة الى حالة الطبيعة التي كان يسود فيها قانون الغاب.
من جهة أخرى يتحدد الفعل العادل حسب الفيلسوف الامريكي "جون راولز" باعتباره فعلا شرعيا ناجما عن مبادئ قانونية موضوعة يجب احترامها من طرف الدولة للقضاء على الفوارق الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وتكافؤ الفرص، دون سيادة الفعل الجائر كفعل لا مشروع، يشكل خروجا عن المعقول. ومن خلال هذا التحديد يمكن تلمس جزءا من الجواب عن الاشكال المطروح، وذلك باعتبار العدالة غاية إنسانية يترجمها القانون الشرعي انطلاقا من حياة اجتماعية حرة تتأسس على مبدأين جوهريين وهما العقل والاخلاق. فالعدالة تأخذ قيمتها الإلزامية من وجود منظومة قانونية شرعية تكفل الحقوق في إطار من الحرية، باعتبارها من وجهة أخرى، حق وقيمة إنسانية تحميها نظم قانونية وضعية وفق حياة حرة.
إن الفعل العادل لا يتم صدفة و تلقائية، فالعدالة ممارسة قصدية وواعية تنبني على أساس العقل و الاختيار المعقول و إرادة الفعل، فليست هناك عدالة غير قصدية أو عبثية، لأن حياة الإنسان تبقى في حاجة ماسة لعدالة قائمة على أساس المساواة و الإنصاف لضمان استمرار الفرد والحفاظ على أمنه بالدرجة الأولى. إن العدالة ترتبط بمؤسسة الدولة التي تكفل وتضمن الحق الإنساني انطلاقا من ترسانة قانونية وقواعد متوازنة لا يشوبها أي خلل في أسسها ومبادئها. فالدولة حينما تقوم على مبدأ القانون والحرية والعدالة، فإنها تتجه نحو ضمان وحماية كافة الحقوق الإنسانية كحق الأمن، حق التعبير، حق الصحة وحق التعليم وحق التنمية ...
تكتسي فكرةالعدالة أيضا، حسب المفكر الاقتصادي الهندي "أمارتيا صن"، طابعا إجرائيا دون أن يكون طوباويا، بمعنى أن الدور الجوهري لإدراك معنى العدالة، يتحقق عمليا عبر الانخراط الواعي والمسؤول لفهم الخيارات الاكثر عدالة لجميع الأفراد، عبر التعامل الاجرائي والناجع مع المشاكل الاجتماعية والمجاعات والرعاية الصحية، وتعليم الافراد وتمكينهم وتوسيع نطاق حرياتهم، ونيل حقوقهم على نحو متساوي، ثم الاستفادة من كافة الفرص الاجتماعية، وهذا هو الدور الاساسي الذي تلعبه الدولة في إطار من التدبير المعقلن والفعالية الاجرائية التي تنظر للإنسان كقيمة عليا وليس كوسيلة لمضاعفة الانتاج.
من خلال هذه المقاربة التحليلية، يمكن اعتبار العدالة كحق إنساني مشروع تحققه مؤسسة الدولة، ضمن إطار قانوني شرعي يسهر على حمايتها. لذا فغاية الدولة من المنظور السوسيولوجي تكمن في ضمان الحقوق والوجبات وتحقيق العدالة والأمن والحرية وتحسين وضعية الانسان وتنميته من شتى الجوانب.
إذن، ومن نافلة القول، يمكن اعتبار العدالة كحق وقيمة تعكس وجه القانون. فحينما تقوم الدولة على العدالة، وتحتكم للقيم العقلانية والأخلاقية، فإنه يعم الاستقرار والأمن والحرية والحق، وهذا ما تحدثت عنه فلسفة التعاقد (توماس هوبز، جون لوك ....) سابقا. فالدولة بهذا المعنى تستمد مشروعيتها من خلال تحقيقها للتنمية بمفهومها الواسع"(رحمة بورقية). ومن هنا فالنظام القانوني المشروع، ينبغي أن تسود فيه عقلانية مثيلة وروح عادلة ديمقراطية ووطنية لجعل الأحكام العادلة في ذاتها منصفة، قصدية وواعية، ومتساوية تضمن للإنسان أمنه استمراره وبقاءه.