لا أحد من المشتغلين بالحقل الفلسفي سواء كان طالبا أو مدرسا أو مفكرا ينكر أن الفسلفة ذات طابع نقدي، وأنها قد تتخلى عن القيام بالشغب والبناء الفكري الذي تأسست من أجل القيام به. هذا الشغب الفكري ينبني على عدم القبول بالجاهز غير الواضح، وعدم قبول ما هو متستر وراء خلفيات وادعاءات تقدم نفسها على أنها فكر ونقد لوضع قائم، في حين أنها في الغالب مجرد أفكار لا ترى إلا نفسها تنطلق منها لتعود إليها في غياب تام للعقل، فهي إذن بمعنى من المعاني ذات صبغة مرضية لا ترى الآخر وفكره. من اجل مواجهة هذا النوع من "التفكير" تأسس الفكر الفلسفي باعتباره ثورة أو على الأقل دعوة إلى الثورة على التسطيح الفكري وعلى عدم الالتزام النقدي اتجاه مختلف القضايا كيفما كانت طبيعتها، فلا يمكن للنقد أن يكون بوجه من الوجوه نقدا انتقائيا، نقدا لليمين دون اليسار أو نقدا للأعلى دون الأسفل ...
في هذ المسألة بالذات - مسألة النقد – تلتقي الفلسفة وتشترك مع المراهق، ذلك أن من أهم سمات هذا الأخير هي الثورة والدعوة إليها، وإن بوسائل أولية تتطبع بخصائص المرحلة التي يعيشها، إلا أن هذه الثورة تتخذ طابعا عاطفيا أو إن ما يحركها يكون عاطفيا في حين أن ثورة الفلسفة تحركها مبادئ عقلية.
إذن المراهق والفسلفة يشتركان بطبيعتهما في الدعوة إلى التجديد والنقد وبناء رؤى ونماذج أخرى للواقع تستجيب للمتطلبات العقلية والعاطفية كل حسب هدفه. بهذا المنطق يكون المراهق مستعدا بالطبيعة للانخراط في الفعل الفلسفي عامة والدرس الفلسفي المدرسي على وجه الخصوص، ذلك أن "مبادئ الفلسفة" جزء من مبادئ المراهق المعيشية واليومية ذات الطابع العاطفي. وبذلك يبقى المطلوب أو الواجب الذي يجب أن ينشغل به المدرس هو كيفية تحويل هذا الهم العاطفي الداعي إلى التغيير من طرف المراهق إلى هم عقلي منضبط برؤى نقدية باعتبار هذا الهم الأخير من مشاغل الفكر الفلسفي.
الواقع إذن يفرض أن تكون الفسلفة مجرد مادة مدرسية تدرس طبقا لأعراف وضوابط المؤسسة، لكن لنتجاوز المؤسسة كمعطى شمولي إلى أحد مكوناتها المركزية وهو المدرس، هذا الأخير يظل الفاعل المركزي والحاسم في مدى نجاح أو فشل الدرس الفلسفي، على الأقل في قاعة الدرس المغلقة وبغض النظر عن المطالب وعن النقائص التي تعتري منظومتنا التربوية البئيسة، لأن من يحكم على الدرس هنا ليست هيئة الرقابة والتفتيش وإنما هيئة التلاميذ الموجهة بضابط الفهم والتموقع لا غير .
من خلال هذه العلاقة يحسم المدرس فيما إذا كان الفكر الفلسفي حقا فكرا نقديا يدعو للتجديد والانضباط لقواعد العقل، أم إنه مجرد سرد لاتجاهات ومواقف فلاسفة .. والحال أن قصص المراهق الخيالية والاستيهامية أفضل في نظره من شعوذة المدرسين النظرية كما يسميها الكثيرون.
هدف استحضار هذه المفارقات كونها تجد أصلها في أن حقيقة الكثير من المدرسين - والذين يشكلون على أية حال الغالبية العظمى مقارنة بالملتزمين بالفكر النقدي – مجرد آلات قارئة تروج لتيار فكري دون غيره والذهاب نحو تأليهه ليصبح في مستوى العقيدة، وبالتالي يصبح هذا المذهب أو ذاك محل إعجاب وتبعية من خلال إلغاء أي نظرة نقدية أو قراءة مغايرة صادرة نحوه، فنصبح أمام مدرس في مستوى المتمدرس على الأقل في مسألة الاعجاب والتبعية. فإذا كان المراهق معجبا بعواطفه واستيهاماته، أي أن موضوع الاعجاب عاطفي وموجهه أساس عاطفي، فإن ذلك النوع من المدرسين المشار إليهم يكون موضوع إعجابه عاطفي مغلفا بطابع فكري لكن موجهه أيضا عاطفي، مما يضيع عليه إمكانية أو حتى احتمالية مساعدة المراهق في تخطي وضعيته الثورية ذات الطابع العاطفي إلى وضعية ثورية ذات طابع عقلي ونقدي. ذلك أن ثورية المراهق حقيقية وغير مزيفة في حين أن ثورية الفلسفة – كما يمثلها المدرس وبؤس المؤسسة – تظهر فقط بأنها عقلية ونقدية لكنها في الحقيقة مزيفة، فهي ذات طابع عقلي ونقدي تابع للعاطفة المنشغلة بالتيار أو المذهب. لذلك فهي لا تستحق أن تكون حتى ثورية مراهقة بل إنها ثورية منافقة تتبجح بالنقد .. فلا يمكن للمراهق أن يثق في فلسفتك الداعية إلى الاختلاف وأنت تسب من ينتمي إلى اليمين أو اليسار أو الأعلى أو الأسفل، وتعيش مقتنعا بوهمك اليومي وباستيهاماتك الفكرية في اللقاءات المزيفة.. من هذا المنطلق يكون معيش المراهق اليومي العاطفي متجاوزا للنقد الفلسفي الذي ترعرع في بؤس المؤسسة، ومتجاوزا أيضا للفلسفة نفسها لكن ليس كما أبدعها الفلاسفة ولكن كما يعيد البعض إنتاجها في سبيل خدمة مصلحته أو في التغطية على مرضه باسم النقد والهدم الفلسفي .