كثيرة هي النقاشات التي كتبت أو قيلت حول فكرة الإلحاد، وكثيرة أيضا هي المقاربات المهتمة بها، سواء بقول فلسفي هدفه الرئيسي أشكلة ومساءلة منطق الإلحاد، أو بميزان ديني غرضه الحكم على هذا المنطق، أو انطلاقا من عين سوسيوثقافية فضولها يسعى إلى تفسير هذه الظاهرة عبر التاريخ من جهة، وداخل المجتمع من جهة ثانية، ناهيك عن السيكولوجيا التي لها من التفاسير هي الأخرى حول الفرد انطلاقا من طفولته وما عاشها، تأثير ليس بالهين كذلك على فكرة الإلحاد، دون نسيان البيولوجيا التي يرى بعض المهتمين بها، أن في دماغ الإنسان باحة أطلقوا عليها باحة الإلحاد، إذ في البدء كان الإنسان بمعزل عن كل القوى، وما الإيمان بإله أو آلهة متعددة سوى تأثير تمارسه الثقافة، سنعود للدين بداية حيث سنرى بأنه عدو لدود للإلحاد والملحدين، إذ كلما غاب الدين كثر الإلحاد، وكلما غاب الإلحاد تقوى الدين، هي قاعدة ثابتة منبعها النص الديني حيث لا غبار عليها ولا نقاش فيها، الدين يخاف من فكرة الإلحاد لأنها تجهز على مبدأه وأُسِّهِ، إنه صراع من أجل البقاء لم ينحصر في المستوى النظري المحض فحسب، بل تعداه إلى ماهو مادي صرف، وهو سبب البلاء والحروب التي نزلت في حقب غابرة أتت على الأخضر واليابس، طامسة هوية لصالح أخرى، وهكذا دواليك إلى يومنا هذا.
أما من جهة ثانية فلا يجادل اثنان في أن التفسير السوسيولوجي لفكرة الإلحاد، ينطلق بداية من التأثيرات التي تمارسها الثقافة على الفرد والجماعة على حد سواء، إذ لا يمكن للجماعة أن تعتقد أو لا تعتقد في كل ما هو روحاني بمنأى على ثقافة المجتمع، ونفس الشيء أيضا يسري على الفرد في علاقته بالجماعة اللهم بعض الحالات الخاصة، وفي هذا الصدد نرى على سبيل المثال أن المجتمعات الداعية للحرية الفردية واحترام الأقليات تتميز بانتشار كبير للذين نعتبرهم "ملاحدة"، هذا بالإضافة أيضا إلى أن المجتمعات ذات المناخ البارد تكون أكثر ابتعادا عن الإيمان الديني بسبب نُدرة احتكاك أفرادها فيما بينهم، بل إن الأسر التي تتأسس على مبدأ الحوار، ثم الرأي والرأي الآخر، يكون فرد فيها على الأقل، مستعد لإيمانه بفكرة الإلحاد إذا توفرت الظروف الموضوعية لذلك، من ثمة فإن هذا التفسير السوسيولوجي وإن كان أقل إجماعا مقارنة بالدين، فإن له جمهورا يدافع على نتائجه باسم قوة العلوم الإنسانية.
وفي نفس السياق تحاول السيكولوجيا أن تعود بالملحد إلى سنوات طفولته، أو الوقوف عند الشخصيات المُتَأَثّرِ بها من طرفه، فإذا حدث مثلا أن فرض أب على طفله المتميز بروح التحدي، أن يمارس الطقوس الدينية بحذافيرها بدل اللعب واللهو مع أقرانه، فإن هذا الطفل يبرع كثيرا في التحصيل الديني، لكن بحلول مرحلة المراهقة تعود الرغبة المكبوتة في اللعب مستغلة تحدي هاته المرحلة، وجنوحها للمغامرة والرفض، فتقف لا شعوريا على الأسباب التي أدت بهذا الفرد إلى قبول حالة ما على حساب نموه السيكولوجي، ثم تقتلها وترميها بعيدا في محاولة لإثبات الذات، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة نذكر من بينها طفولة كل من الفيلسوفين نيتشه الذي كان يلقب بالقس الصغير، ثم هايدغر بعدئذ والذي تعاطى رغما عنه وهو في طفولته، إلى دراسة الثيولوجيا وتعقيداتها، في حين أن الشخص الذي يؤمن بقوةٍ روحانيةٍ ما، فإن إيمانه هذا يعود بالأساس إلى جنوحه للطمأنينة والجواب المطلق، بدل طرح الأسئلة وإعمال منطق الشك المطلق، وإطلاق خيال العقل يسبح دون رادع أو لاجم.
والحق أن هاته المعارف والعلوم وهي تخوض في فكرة الإلحاد، تقدم لنا تفاسير ونتائج وأحكام إذا لم يكن متفق عليها من طرف الكل، فإن الأغلبية العظمى من الناس يأخذون بها بطبيعة الحال، أما في الفكر الفلسفي فالأمر يكاد يختلف تمام الإختلاف مع ما تم ذكره آنفا، فكيف يا ترى يرى الفكر الفلسفي في فكرة الإلحاد؟ بل ما معنى أن يكون المرء ملحدا فلسفيا؟ وما سبب إيمانه بالإلحاد كموقف من الوجود؟
بداية يجب أن نفهم الإلحاد أنه ليس يضاد الإيمان في شيء، مادام الملحد نفسه مؤمنا بلاوجودية الإله، كما لا يجب أن نخلط بين الزندقة والجدل والإلحاد والدهرية، حيث يعود سبب هذا الخلط خاصة في الثقافة الإسلامية العربية، إلى سوء فهم الفقهاء والعامة للجدل، ثم تعصبهم من جهة أخرى، الشيء الذي جعلهم يتهمون الملحد بالزندقة والملاحدة بالدهريين، من ثمة فالملحد حسب المعجم اللاتيني وهو المعمول به بقوة، هو ذلك الشخص الذي يزيل صفة الوجود على الذات الإلهية، هو الشخص الذي يقول أن الإله غير موجود بتاتا، سنقف عند هذا التعريف مطولا، فأن تزيل صفة الوجود على الإله معناه أنه كان موجودا ثم تحول لعدم، أي أنه موجود كعدم وليس كوجود، معناه أن ماضيه هو ماضي وجود في الوجود في حين أن حاضره وجود في عدم، فما سبب ذلك إذن؟
الملحد أولا شخص يؤمن بلاوجودية الإله، أي أنه مؤمن بالخُلف، لقد بحث ولم يجد فوصل إلى نتيجة أقرّها لنفسه حتى إشعار آخر ثم انتهى الأمر، من ثمة فقد أعمل عقله أولا وأخيرا، إذ بقدر ما أن بعض العقول تؤدي بنا إلى الإيمان بوجود إله خالق، بقدر ما تؤدي بنا أخرى إلى الإيمان بلاوجوده، من هنا فإن العقل يسبق الإيمان بوجود الإله في الفلسفة، وهو ما حدا بالبعض إلى اتهام الفلاسفة بالكفر والإلحاد، والحال أن الأمر ليس على هاته الشاكلة الميكانيكية، بل إن المؤمن بوجود إله انطلاقا من العقل للتأسيس للإيمان ثانيا، هو أكثر وأشد إيمانا من شخص آخر آمن لأن الجميع يؤمنون ثم انتهى الأمر دون إعمال للعقل، لكن وفي المقابل من هذا الشأن، سيكون صادما بالنسبة للبعض عندما سأقول بأن أكبر مؤمن بالإله هو الملحد، بل إنه كلما ازداد الإلحاد بالإله كلما ازداد الإيمان به، لماذا؟ لأن الملحد كان ينتظر شيئا أكثر من كثير تجاه الإله، لكن وفور عدم عثوره على مبتغاه جحد به، ليس نفيا له وإنما حبا فيه، لأن حضور الإله بالنسبة لهذا الملحد هو حضور الحق والجمال والخير الأسمى والعدالة، فإذا كان نيتشه قد أعلن في أحد كتبه على لسان زرادشت أن الإله قد مات، فإن الموت يعني الحياة أولا، وهو ما جعل فيلسوف المطرقة يعود في نفس المؤلف كي يتحدث على الإله الراقص غير المثقل بالقيم التي وضعها المهزومون تبريرا لضعفهم، في مقابل الإنسان الأعلى الذي يؤمن بروح القوة والعمل بدل الغوص في منطق الخرافة، وهو ما سيجعلنا نعود إلى ما تم قوله سابقا، وهو أن الإلحاد ما ليس إلا نفي لصفة الوجود، والنفي يفيد الوجود أولا، حيث لا يمكن أن أنفي شيئا لم يكن موجودا في الأصل، بالتالي فالملحد ولكي لا يخيب رجاءه واعتقاده في الإله جَحَدَ به مادام لم يجد أثره، وهو ما يجعله يؤمن به كغياب وليس كحضور، كعدم موجود وليس كوجود موجود، كذات موجودة بالقوة والإمكان، وليس كذات موجودة بالفعل والضرورة.
من ثمة وكحاصل للقول في ما ذكرناه آنفا، فإن الفكر الفلسفي قد حاول أن يجد تفسيرا آخر لفكرة الإلحاد بمعزل عن الفكرة المسبقة، أو التعصب، أو القالب العلمي، أو تأثيرات الطفولة... حاول أن يسلط الضوء على المنسي واللامفكر فيه فيما نعتقده نحن غير موجود أصلا، وذلك إيمانا بهذا الفكر بأن كل حقيقة هي حقيقة غائبة قُذفت في الهامش ثم نُسيت بسبب غياب المؤمنين بها، بالتالي ففكرة الإلحاد ليست هي كما نعتقد، بقدر ما أن عكسها والانطلاق من نتيجتها نحو مقدمتها سيضعنا لا محالة أمام تفسير آخر، بل قل أمام نظرة أخرى لفكرة الإلحاد ليس كإيمان بوجود الإله في الحضور، وإنما الإيمان به كوجوده في الغياب.