مُقدّمة
يعتبر مفهوم الهوية من بين المفاهيم المُبهمة ، فقد ندّعي في بعض الأحيان أننا نحيط بهذا المفهوم، لكن سُرعان ما نكتشف أننا لا نعرف أي شيء عنه ( ! ) ، فمفهوم الهوية مفهوم ترحالي ، فقد نجده في عدة مشارب معرفية متعددة ؛ مثلا في المنطق والميتافيزيقا الانتروبولوجيا، والعلوم الحقة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا.
فلسفياً، يرجع استعمال مفهوم الهوية إلى فلاسفة ( ما قبل " سقراط " ) ، و خصوصا مع " بارمنيدس " و" هيراقليطس " ؛ الأول عندما اعتبر الهوية وحدة الوجود و الفكر ، أما الثاني فاعتبار جوهر الهوية في وحدة الأضداد أو اللوغوس ، وهنا لا ينبغي أن ننسى مقولة هيراقليطس " إنك لا تستحم في النهر مرتين " [1] ، فالوجود واحد لكن داخل الوحدة يوجد التغير و الاختلاف .
غالباً ما يُعرَف مبدأ الهوية من خلال المتساوية الشهيرة [ ( أ ) = ( أ ) ] . تفصح هذه المتساوية عن وجود علاقة تساوي بين طرفين ؛ أي بين ( أ ) و ( أ ) آخر ، و هذه العلاقة هي علاقة منطقية و ضرورية، ولكن هل- فعلاً- هذا هو المبدأ الذي يوجد وراء هذه المعادلة ؟ ، ألا يوجد شيء غامض وراء هذه الصيغة ؟ ألا يمكن القول أن المبدأ الذي يقول أن [ ( أ ) = ( أ ) ] هو مُجرّد تكرار أو عبارة تحليلية - توتولوجية - كما عَبّرَت عن ذلك الوضعية المنطقية ؟ ثم ألا يبدوا من السذاجة أن نعرف الشيء بنفسه ؟ عندما نعرف الماء بالماء ؛ ألا يبدوا أن حديثنا يتضمن الكثير من الحشو ؟ إذن ما هي الهوية ؟ وهل يمكن الحديث داخل الهوية عن التغير و التعدد و الاختلاف؟ أم أن مبدأ الهوية لا يسمح بهذه الأمور ؟
1) مبدأ الهوية
يعتقد " هيدغر " في مقالة (( الهوية و الاختلاف )) أن مفهوم الهوية قُدِّمَ دوما من خلال المعادلة الشهيرة [ ( أ ) = ( أ ) ] ، غير أن حقيقة مبدأ الهوية تتجاوز هذا التعريف الكلاسيكي لمفهوم الهوية ، في المعادلة [ ( أ ) = ( أ ) ] لا تُقَدِّم ( أ ) نفسها على أنها نفسها ( أ) يقول " هيدغر " على لسان " أفلاطون " ، و الذي يتكلم على لسان الغريب في محاورة (( السفسطائي )) :
" إن كل واحد منهم هو الآن مختلف عن الآخرين ، ولكنه بذاته ، هو نفسه بالنسبة لذاته " إن " أفلاطون " لا يقول فقط " إن كل واحد بذاته هو نفسه " ، بل " إنَ كلَ واحد بذاته هو نفسه بالنسبة إلى ذاته " [2]
يريد " هيدغر " أن يقول أن مبدأ الهوية يفصح عن الصيغة التالية : ان كل واحد بالنسبة إلى ذاته ، و أن كل واحد هو بذاته مع نفسه ، فالهوية هنا تستتبع منطقياً العلاقة المشار إليها بحرف الجر " مع " أي توسطاً و ارتباطاً و تأليفاً ؛ أي اتحاد في الوحدة [3 ].
1_1الهوية كوحدة
يؤكد " هيدغر " على أن الهوية قُدِمَت دوماً على أنها تتمتع بطابع الوحدة ، لكي تتجلى علاقة الهوية مع نفسها ؛ و لكي تفهم الهوية كتوسط ، لزم الفكر الغربي ما يزيد عن الألفي سنة ، ذلك أن الفلسفة المثالية التأملية ، بعد أن مَهّدَ لها كل من " لايبنيز و كانط " ، و التي اكتملت مع الاتجاه الرومانسي و خصوصاً على يد " فيشته وشلينغ و هيغل " . لم يعد بإمكاننا أن نتمثل وحدة الهوية كإنسجام ، وأن نُهمل التوسط الذي يوجد داخل الهوية [3]. فلكي لفهم المعادلة [ ( أ ) = ( أ ) ]، يقترح " هيدغر " أن نبدل علامة التساوي ( = ) بعلامة الهوية ( هو ) ، لكي تصبح المعادلة في الأخير على الشكل التالي : [ ( أ ) هو ( أ ) ].
تفصح الصيغة الجديدة لمبدأ الهوية عن كينونة كل ما هو موجود ، هذه الصيغة الجديدة لمبدأ الهوية ستخبرنا بحقيقة الوجود - وجود الكائن - ؛ فكل كائن له الحق في ذاته، والوحدة مع ذاته، فأينما كنا في هذا الوجود فإننا نسمع نداء الهوية ، أي نداء الوجود ، فالوجود ينادينا بإستمرار و ما علينا إلا أن ننصت للنداء الوجود ، وبدون هذا النداء لا يمكن للكائن أن يظهر كينونته ، فنداء الهوية يتكلم انطلاقاً من كينونة الكائن ، ويدعونا " هيدغر " هنا إلى الإنصات لنداء الوجود عوض الإنصات لنداء الموجودات . يقول " بارمنيدس " : " إن الفكر و الوجود هما الشيء واحد " ، فالهوية تقوم بين الفكر و الوجود كمماثلة ( to-auto ) ؛ أي كفعل إدراك ، وفعل وجود، لأن الفكر و الوجود وجهان لعملة واحدة ، و ليس كما تمثلت الميتافيزيقا الكلاسيكية من " أفلاطون " حتى " نيتشه " أن الهوية جزء من الكينونة [5].
إذا ما اعتبرنا الفكر خاصية إنسانية سيتبادر إلى ذهننا مجموعة من الأسئلة من قبيل : ما هو الإنسان ؟ ما هو الوجود ؟ ثم ما علاقة الإنسان بالوجود ؟
كما يقول " مارتن هيدغر " أن الإجابة عن هذه الأسئلة يستغرق منا وقت طويل ، دون أن نخلص في الأخير إلى إجابات مُقنِعَة ، لذلك سنحاول مع " هيدغر " أن نبحث عن ما هو مشترك بين الوجود و الإنسان ؟
1_2 الهوية كانتماء مشترك بين الفكر و الوجود
تقوم الهوية كمماثلة بين الفكر و الوجود ، وما هذا التماثُل إلا انتماء مشترك بين الفكر والوجود، فالهوية هنا حسب الموقف ما قبل الأفلاطوني إنتماء مُشتَرَك لوحدة الوجود ، إذاً فمفهوم الهوية يدل على الإنتماء مشترك بين الوجود و الفكر ، و يُعَبّر " هيدغر " عن هذا المُشتَرَك بين الإنسان و الوجود بــ ( le co-appartenance ) .
يعتقد " هيدغر " أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الإنتماء المشترك ، ويُرجع السبب إلى أننا لم نتخلص بعد من الفكر التمثيلي الذي يركز على الموجود و ينسى الوجود ، فتاريخ الميتافيزيقا من " أفلاطون " حتى " نيتشه " قام على نسيان الوجود ، لهذا يقترح " هيدغر " أن نقوم بتجاوز الميتافيزيقا عن طريق تقويض هذه الميتافيزيقا ، لكن ما معنى التقويض ؟
التقويض عندما " هيدغر " لا يعني التحطيم بل التفكيك - التفكيك هنا بالمعنى الهيدغري و ليس الديريدي - و الغربلة و التصفية ، إنه محاولة للبحث عن الفرق الأنطولوجي بين الوجود و الموجود ، و هذا ما لم ينتبه إليه الفكر التمثيلي .
إذاً التقويض يدفعنا إلى التقدم نحو تجاوز هذه الميتافيزيقا إلى التفكير في حقيقة الوجود ، أو التفكر في الفرق الأنطولوجي بين الوجود و الموجود الذي لم تفكر فيه الميتافيزيقا الكلاسيكية . إذاً التقويض هنا ضروري لكي نصل إلى ما سماه " هيدغر " بــ ( الإنتماء المشترك ) ، هذا التقويض يستلزم القيام بقفزة – ما يسميه بالقفز على الظل – ، و هذه القفزة ستسمح لنا بتجاوز التصور الشائع عن الوجود كموجود وعن الإنسان كحيوان عقلاني ، و ستمكننا من تأسيس هوية بين الإنسان و الكينونة ، وستمسح لكل من الإنسان و الكينونة بتبادل انتمائهما ، كما ستسمح هذه القفزة بالقبض على ( الإنتماء المشترك ) بين الإنسان و الكينونة ، والوصول إلى الوحدة الأبدية بين الوجود و الفكر ، إن القفزة هي المكان الأصلي الذي انطلاقنا منه، هو المكان الذي يتم فيه نقل مُمتلكات الوجود إلى الإنسان و العكس صحيح [7]
يدعونا " هيدغر " إلى أن نُنصت إلى نداء الوجود في عالم طغت عليه الآلات ، ويتساءل : ما موقع الإنسان في عالم طغت عليه الآلات ؟
إن نمط التحقُّق كنقل الممتلكات و يتجلى في ماهية التقنية – يجب أن لا نخلط بين جوهر التقنية و التقنية – فما يجعل الإنسان يتجه نحو السؤال عن حقيقة الوجود في عالمنا التقني هو نمط التحقق ، يجب أن نأخذ معنى التحقق هنا كما لو كان معنى للوجود ، فداخل هذا التحقق يسود التقاء غريب بين الفكر و الوجود ؛ ماداما كل من الفكر و الوجود هم مُبدعي هذا التملك المشترك [ 8 ] .
1_3 الهوية كتملك مشترك
إن التملك هو المجال الذي يُمَكّن كل من الوجود والإنسان من استعادة كينونتهما، ويفقدهما كل التصورات والتي ألحقها الفكر التمثيلي – الميتافيزيقي - أن نفكر في انبثاق الكينونة كتملك مشترك ، يعني أن نقوم ببناء هذا الميدان بواسطة اللغة ، فاللغة بتعبير " مارتن هيدغر " هي مَسْكَن الوجود ، أن تكون اللغة مَسكَن الوجود يعني أن الوجود لغة ، أو على الأقل لا ينكشف إلا من خلال اللغة ، وباللغة ؛ وهذا يعني أن اللغة فيما تُنجَز ككلام متكلم يكون متكلَم (بالفتحة) ، ففي الكلام تكلَم (بالفتحة) الكلام المنكلم في الكلام . فماذا يتكلم الكلام ؟ إنه يتكلم نداء أي ينادي الوجود ليأتي ويحضر هنا ، و الآن ، أي ليسكن و يأويَ فيما يجعل تأويله مُمكنا لا كموجود بل كوجود وهو اللغة ، أي النبض الذي يحافظ على كل شئ ؛ طالما أن كينونتنا الخاصة موجودة في تبعية اللغة .
لكن ما علاقة التملك المشترك بالهوية ؟
يعتقد " هيدغر " أن التملك المشترك هو الرابط الأساسي الذي يجمع بين الإنسان والكينونة ، ففي نمط التحقق بين الوجود و الفكر نستشف وميضاً ملحاً من التملك المشترك ، ففيه يتراءى إنتماء مشترك بين الإنسان و الكينونة ، حيت حرية الإنتماء هي التي تحدد النمط المشترك (le type de co-) . ووحدته للوصول إلى الإنتماء المُطلَق الذي تكون فيه الغلبة لإنتماء على الاشتراك [9].
يقول " هيدغر " : " لقد إخترنا حكمة بارمنيدس دليل لنا فالمُماثل هو الفكر و الوجود على حد سواء ". يمكن أن نستشف من خلال مقولة " بارمنيدس " أن المماثل كذاتي هو في الحقيقة جوهر الهوية فلا معنى للهوية بعيدا عن هذا الذاتي ، ويمكن أن تصدر عن هذا الذاتي حركة لا نهائية من الإختلافات لكن رغم هذه الاختلافات تظل وحدة الهوية ثابتة [10].
2الاختلاف داخل الهوية "من هيغل إلى هيدغر"
يقول هيدغر " ليست الذاتية le même)) هي التطابق ( l’identique ) ، في التطابق يمحى كل اختلاف أما في الذاتية فإن الاختلافات تنجلي و تظهر "[11]
لقد تمثل معظم الفلاسفة و المفكرين الهوية قبل هيغل كوحدة وتطابق وكنقيض للاختلاف، لكن مع مجيء هيغل أصبح الحديث عن الهوية مقترن بالحديث عن الاختلاف والتغير، فإذا كانت الهوية ترد إلى الوحدة فإن هذه الوحدة اختلاف وتغير .
1_2علاقة الهوية بالاختلاف عند هيغل
يعتقد هيدغر أن هيغل في كتاب المنطق – علم المنطق- يرى أن مبدأ الهوية الذي يصاغ عادة في صياغة مساواة ،والذي يتخذ صورته الرمزية في القضية أ=أ ،
يعني أكثر مما يقول ، فهو يشير إلى الذاتية التي تنطوي على الاختلاف،و هذا الاختلاف هو الذي يقوض الوحدة التي تنطوي عليها الصيغة المباشرة أ=أ ، فهذه الصيغة لا تعني بالنسبة لهيغل أن وحدة أ مع نفسه ، بقدر ما تعني بأنه لا يمكن أن نفكر في الهوية دون توسط ، ويجب أن نفهم أن حركة التوسط تتم عبر الذاتية[12].
بفضل الجدل الهيغلي انفجرت المبادئ الكلاسيكية ، وأمكن للفكر أن يفكر في ذاته ، وأصبح الفكر تفكيرا و انعكاسا واختلافا ، وعودة إلى الذات ، فالفكر لم يبلغ التوسط و الوحدة مع موضوعاته إلا بفضل الجدل .، فلقد مكننا الجدل من إدراك الاختلاف كتباين بين وحدات مغلقة .إن الاختلاف الذي يتحدث عنه هيغل يتجاوز الاختلاف الظاهري- العرضي- الذي يتكلم عنه المذهب الأمبريقي والذي لا يعدوا أن يكون اختلاف كميا .إنه الاختلاف الذي يرجع التنوع والتعدد إلى التعارض والتناقض.
يقول هيغل
" إن التنوع و التعدد لا ينتعش و لا يحي إلا إذا ذهب به إلى حد التناقض"[ 13].
ويظهر هذا الانتقال عند هيغل في وجهين :
الأول: انعكاس التنوع في الذات العارفة التي تصبح أساس التعارض.
الثاني: تبلور التنوع الكمي الخارجي في الاختلاف الباطني .
يقول جون هيبوليت :
" إن الاختلاف عند هيغل هو الاختلاف في ذاته – الاختلاف الجوهري- إنه الإثبات و النفي ، الإيجاب و السلب ؛بحيث أن السلب هو المخالف من أجل ذاته لكونه ليس إيجابا ، و الإيجاب هو علاقة التطابق مع الذات لأنه ليس سلبا ، فبما أن كل منها من أجل ذاته فليس هو الآخر ، فكلهما يظهر في الآخر ولا وجود لأحدهما إلا بوجود الآخر " [ 14].
نستنتج أن الاختلاف الحقيقي عند هيغل هو الاختلاف الجوهري ؛ أي التعارض الذي لا يوجه المخالف، وإنما المماثل لذلك الآخر، فانعكاس الآخر في الهو ، يجب أن يدرك نقيضه في انعكاسه هو. فالانعكاس المتبادل بين الذات والآخر هو صميم التعارض [ 15].
إذن فعندما يلتقي الانعكاس الذاتي بالانعكاس الموضوعي يصبح الاختلاف اختلافا باطني، ليظهر كتعارض بين الإثبات والنفي والإيجاب والسلب.
هكذا يقوم الاختلاف داخل الهوية عند هيغل من حيث معارضته لآخر فلا معنى للوحدة إلا كتركيب ولا لتطابق إلا كاختلاف ، من هذا المنطلق يعيد هيغل صياغة مبدأ الهوية انطلاقا من صيغة التناقض أ= لا أ ، هذه العلاقة هي علاقة بين طرفين يتحركان نحو التطابق و يسعيان نحو الوحدة و التركيب .
يمكننا أن نجزم أن الاختلاف الهيغيلي مجرد لحظة من لحظات الهوية، يقول جيل دولوز في كتابة الاختلاف و التكرار
"إن كل التناقض الهيغيلي يظهر كأنه يذهب بالاختلاف إلى أبعد مدى ، إلا أن الطريق التي يسلكها هي الطريق التي ترده نحو التطابق ، فتجعل التطابق كافيا لإيجاد التناقض وفهمه ، فليس التناقض الهيغيلي أكبر اختلاف بالنسبة لتطابق و بدلالته"[ 16 ].
2_2 علاقة الهوية بالاختلاف عند هيدغر
في مقبل هيغل نجد هيدغر يؤسس لمفهوم جديد عن الاختلاف فما يعيب الاختلاف الهيغيلي – كما يعتقد هيدغر – خضوعه لقانون السلب وسجنه داخل المعرفة المطلقة، لا تقوم الذات في تعارضها و تناقضها بل في اختلافها ، فليس السلب هو الذي يأتي من الخارج كي يتعارض مع الذات بل ذلك الذي يأتيها من الداخل ، فالسلب هو الحركة اللانهائية التي تبعد الذات عن نفسها، فالمتساوية أ=أ تنطوي على حركة داخلية لا متناهية تبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته ، و تقربه منها بفعل ذلك التباعد ذاته ، و يظهر هنا الاختلاف مع هيدغر كابتعاد يقارب بين الأطراف المختلفة.
إن عبارة "اللا" أو "le ne pas" التي سادت مؤلف الوجود و الزمن و الميتافيزيقا لا تشير إلا ما هو سلبي بقدر ما تشير إلى الوجود كاختلاف أنطولوجي بين الوجود والموجود ، إن الفرق الانطولوجي بين الوجود والموجود - هو أحدى نتائج تقويض الميتافيزيقا - هو اختلاف الوجود عن الموجود من حيث وجود هذا الموجود، فالاختلاف هو الذي يبعد الوجود عن الموجود ، و ينقله نحوه ، وهذه الوحدة كحركة لا متناهية بين الجمع و التفريق هي ما كان هيراقليطس يسمها بوحدة الأضداد أو اللوغوس إنها حركة الصيرورة داخل الوجود أو لنقل إنه الاختلاف داخل الهوية.
يقول هيدغر
"هذا التوحيد لا يعني أن نكتفي بإدراك الأشياء وضمها في وحدة ، وكما لا يعني أننا نقتصر على جمع الأضداد و المصالحة بينها فالكل الموحد يعرض أمامنا أشياء يتنوع وجودها و يتباين،مجتمعة في ذات الحضور مثل الليل و النهار ، الشتاء و الصيف ، السلم و الحرب ، اليقظة و النوم ، ديونيزوس و هاديس ، إن هذا الذي ينقل عبر مسافات بعيدة التي تفصل الحاضر عن الماضي ،إن هذا الديافيرمينون هو ما يعرضه اللوغوس في حركة انتقاله ، وفعل اللوغوس ينحصر في عملية النقل "[ 17 ].
نستنتج مع هيدغر أن هذا اللوغوس هو لب الاختلاف ، ولكن ما أثار انتباهنا داخل هذا النص هو مفهوم الديافيرمينون ، عندما نرجع إلى الترجمة الفرنسية إلى لمفهوم الاختلاف (différence) يقول دوفري"إن النقل الفرنسي لمفهوم الاختلاف هو نفسه صميم كلمة ديافورا و التي تعني النقل من إلى" [ 18 ].
إذن فالديافيرمينون هي القوة التي تنقلنا من الماضي إلى الحاضر فهي جوهر اللوغوس- القوة التي توحد الأضداد- وهي أساسا مفهوم الاختلاف عند هيدغر .
يدعونا هيدغر في إطار تمثله لمفهوم الهوية لضرورة العودة لمفهوم الاختلاف لأن الاختلاف هو جوهر الهوية، و لا معنى للهوية إلا كاختلاف ، والاختلاف هنا لا ينبغي أن يؤخذ على أنه تابع للمطابق(l'identique) أو المعادل (l'égal)و إنما يكون معالجا كالواحد عينه (le même) وضمن عين الواحد، إن هذا الذاتي
le même))، الفكر- الوجود هو الانتماء المتبادل للمختلف ، الفكر دوما ما يفترض وحدة الوجود ، يمكن أن نجد في الهوية الشخصية عند فيشته دعامة نظرية في ما يخص التوحيد بين الفكر الوجود و ادارك الوجود كمختلف ، أنا =أنا ، يقر فيشته أن هذه المتساوية الأخيرة لا تشكل فحسب صورة من الصور اللامتناهية التي يتخذها مبدأ الهوية ، فعبارة أنا=أنا تتجاوز العبارة أ=أ بل إن أنا=أنا هي أساس العبارة أ=أ ، وبدون صيغة فيشته لا يمكن أن نحكم على أن أ=أ صحيحة.
إذن يتأسس الوجود على ما هو ذاتي ، فالذات هي أساس الهوية ، انطلاقا من التجميع الممكن لما هو مختلف لا يمكن الحديث عن الواحد نفسه- الذاتي- إلا إذا فكر فيه في الاختلاف.
في الأخير يمكن نخلص نتيجة أساسية: لا معنى للهوية مع هيدغر بمعزل عن الاختلاف وفي هذا الإطار يمكن أن نستخلص مجموعة من الاستنتاجات حول مفهوم الهوية و الاختلاف عند مارتن هيدغر.
استنتاجات
1الاختلاف من حيث هو نفي (le ne pas)
يلاحظ الدارس لفلسفة لهيدغر وخصوصا مؤلف الوجود الزمن ، حضور"اللا " وهذه "اللا "لا تشير مطلقا إلى السلب بقدر ما تشير إلى الاختلاف، و هذا الاختلاف هو الاختلاف الانطولوجي بين الوجود و الموجود كما يقول هيدغر في ما الميتافيزيقا 25الصفحة "ما لا يوجد أبدا ، ولا هو موجود في أي مكان ، ألا ينكشف ككل ما هو مختلف عن كل ما هو موجود ".
2الاختلاف من حيث هو ثني (zwieflat)
الاختلاف من حيث أنه مكون للوجود و لطريقة التي يوجد بها الموجود ، وذلك بحركة مزدوجة تفيد الإضمار و الإظهار ، فالوجود هو ما يخلق الاختلاف.
3 الاختلاف كمخالف
لا يجب أن نأخذ مفهوم الاختلاف كموضوع لتمثل ،لأن التمثل كعنصر ميتافيزيقي يخضع الاختلاف إلى الهوية ، أو على الأرجح يربطه بواسطة معينة ، فالمخالف لا يسمح بهذه الواسطة داخل الهوية ، و إنما يسمح بالانعطاف فيما وراء الميتافيزيقا يقول هيدغر في كتاب الميتافيزيقا الصفحة 89"إذا كان في مقدور الوجود عينه أن يوضح اختلاف الوجود و الموجود الذي يحمله في ذاته وفي كامل حقيقته، فإنه لا يستطيع ذلك إلا حينما يظهر الاختلاف و يبرز بذاته خصيصا ".
مصطفى قشوح باحث في المنطق و الابستمولوجيا و الفلسفة المعاصرة
-----------------------------------------------------------
الإحالة
[1] هيراقليطس: جدل الحب والحرب" ترجمة وتقديم وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد، الطبعة الثانية 2006ص45
;identité et différence. Gallimard ,1979 paris. p:259 . Heidegger,(M) :questions 1[2]
Ibid. pp:(258-259).[3]
Ibid.p:259[4]
Ibid. p:261[5]
Ibid .p: 263[6]
Ibid. p:267.7 [7]
,l'essencevraie dela technique,cahier de l'herne heidegger,biblio essais ,pp:(272_282) Jacques taminiaux[8]
Heidegger,(M) :questions1;identité et différence. Pp:(268_9) [9]
Ibid .p:271.[10]
Heidegger,(M) :questions1;identité et différence. p:281) [11]
[12] هيغل: المنطق، الجزء الثاني ، ص 52
Ibid.55[13]
Hyppolite (j) :logique et existence p:150.[14]
Ibid.p:143. [15]
Deleuze,(g):différence et répétition , puf 1976, p 46. [16]
Heidegger,(M) :questions1;identité et différence. Pp:(293_4)[17]
: dialogueavec heidegger 3.de minuit .p:188. Beaufret (j) [18]