محمد عثمان الخشت مفكر وفيلسوف مصر الكبير حاول – ولا زال – أن ينتقل بالفلسفة إلى رحاب أوسع من تلك التي سار فيها الفكر العربي والإسلامي قرونًا طوالاً ، إن شخصية الخشت شخصية علمية من الدرجة الأولى آمنت بالعقل ودوره المحوري في إقامة صرح حضاري لأمة ترنو إلى تبوأ معقدها الملائم لها بين الأمم ، فبالعقل حلل وبالعقل نقد وبالعقل قارن ، ولذا كان من الصعب الفصل بين عقله وفكره بالقدر ذاته الذي يصعب فيه الفصل بين عقله ودينه ، أو دينه وفكره . فقد حدد الخشت الموضوعات التي وجب عليه معالجتها ، وهي تلك الموضوعات التي وجبت معالجتها تحت تأثيرات حضارية وعقدية تتطلع إلى أن يكون الفكر الإسلامي مشاركًا في صناعة العالم من حولنا ، لا الوقوف عند حدود التلقي والمحاكاة التي أوحت إلى العالم من حولنا أننا مجرد شراح لفكر دارس ، وجب الانفكاك من أسره ونفض غباره عن كواهلنا تحقيقًا لصحوة تنويرية تنتشل الأمة من واقعها المرير .
ولما كان لدى الفلاسفة في المدارس المختلفة أفكارهم التي يحكمون من خلالها على الشيء ويجيبون عن الأسئلة المثارة حوله من خلال دروب النظر والتأمل الممكنة ، فقد كان الدكتور الخشت يهدف إلى هذا ، غير أنه كان لا يبعد كثيرًا كما فعل كثيرون ممن شطحوا بعقلهم وحاولوا ولوج مناطق ما أبعدهم عن أن ينالوا منها شيئًا ذا قيمة . وإن كانت الفلسفة بتحديها الدائم وشكوكها الجاهزة تقريبًا، قد ألقت عليه بظلالها القوية فراح يشكك في آراء كثير من الفلاسفة السابقين عليه ناقدًا حينًا ومحللاً حينًا آخر ، كما راح يشكك في صحة الكثير من الآراء التي اعتنقوها عندما وجد أنها لا تتوافق مع منهجه العام ، كما فعل مع رينان وهيجل وكانط وغيرهم ممن تناولهم بالدراسة والنقد .
ولذا كان على الخشت أن يحدد وجهته ويختار طريقه ، فكشف عن عورات جمة أصابت فكرنا الإسلامي في قطاع كبير من فلسفته ، بالقدر نفسه الذي كشف معه عن عورات كثير انتابت الفلسفة الحديثة والفلسفة والمعاصرة ، ولم يكن سبيله في ذلك إلا التأكيد على الفكر والمنهج اللذين ظل يدافع عنهما – ولا يزال – ومع هذا فقد كان على وعي بصعوبة المشكلات التي يتناولها ، إلا أنه كان مؤمنًا بقدرته على التغلب عليها متكئًا على هذين الرافدين .
لقد كانت شخصية الخشت تحتوي على جوانب عدة , فهو يمثل الشخصية التنويرية العقلانية , المنطقية المنهجية , الفقهية الدينية المعتدلة , الفلسفية الموسوعية , الأخلاقية الكونية , وبناءً عليه فمن الحق أن الدراسات المعاصرة والحديثة في مصر أضحت ذات بريق واهتمام منذ أن ولجها الخشت ، ويشاركه في ذلك الكثيرون من هذا الجيل الذي آل على نفسه دراستها بالنقد والتحليل والمقارنة ، محاولاً في ذلك أن يؤكد على ارتباط الفلسفة بحاضر الأمة ومستقبلها .
إن الدكتور الخشت قد جمع في جعبته فروعاً شتى من الفلسفة بالمعنى العام : مقارنة الأديان ، مناهج بحث، إصلاح، فلسفة حديثة إلى علم الفقه بفروعه المختلفة، وفلسفة الأخلاق . وأشهد أنه صاغ فكره من هذه البوتقة على تباينها؛ حيث أفاد منها إفادة كبيرة. والغريب في الأمر أنه كان يطوع كثيراً من هذه الفروع –في بعض الأحيان- لخدمة الفروع الأخرى، مما يقوي الزعم لدينا بأنه كان يهدف إلى إقامة مشروع أو صرح فكري عام .
ومما يؤكد على هذا المشروع التنويري ذلك الإنتاج الفكري الضخم الذي خرج من تحت عباءته ، لقد كانت كتبه من الغزارة بحيث تعد بالعشرات ، كما أن مقالاته وأبحاثه المنشورة داخل وخارج مصر لتدل على الناحية الموسوعية في إنتاجه الفكري ، فالرجل حقق كتبًا ما أكثرها ! وشارك في مؤتمرات وندوات ما أكثرها ! وسافر في رحلات علمية خارج مصر ما أكثرها !
وهناك العديد من كتب الخشت الفكرية ، منها على سبيل المثال :
- تطور الأديان .
- المعقول واللامعقول في الأديان .
- العلم والدين بين رينان والأفغاني .
- فلسفة العقائد المسيحية .
- العقل وما بعد الطبيعة .
ويمكن أن نعرض لبعض المحاور الفلسفية التي عالجها الخشت وتطرق إليها ، وهي بعض من كل ؛ إذ إن كتبه التي تربو على الخمسين كتابًا لتدلنا على محاور جوهرية في فلسفتنا العربية المعاصرة .
أولاً - نقد الفلسفة الغربية :
تظهر من خلال مؤلفا الدكتور الخشت نقدًا صريحًا للفلسفة الغربية ، ولا يحمل معنى النقد عنده التركيز على أوجه القصور والسلبيات فقط ، بل كان يحمل إلى جانب ذلك التأكيد على مواطن القوة والإشادة بها ، فكان نقده بذلك نقدًا موضوعيًا يلتمس مواطن القوة من خلال الأفكار البناءة التي تسهم في إعلاء صرح الفلسفة الحديثة على مستوى العالم .
ومن ثم فقد كتب كتابه القيم : المعقول واللامعقول في الأديان فلسفة الدين بين العقلانية النقدية والعقلانية المنحازة ، وهي الدراسة التي تنقد البناء الفلسفي الغربي من داخله من خلال الاستناد إلى النصوص الواضحة لعلمين من أعلام الفلسفة الغربية ، ومن ثم فقد أقام الخشت دراسته على أساس من التحليل المقارن المتعمق للأديان في تقاطعها مع الميتافيزيقا بحثًا عن فلسفة عقلية للدين ، بهدف التأكيد على أن المادة وحدها غير كافية في تفسير الوجود . ففي الوقت الذي يشعر فيه الإنسان بأن المادة غير كافية لتفسير الوجود - عند الخشت - هو الوقت الذي يكون فيه على أعتاب الإيمان ، إذ لم يكن الخشت يكتفي – في سبيل سعيه المعرفي – بالمتناهي ، وإنما كان يسعى نحو اللامتناهي متجاوزًا تمامًا التفسيرات المادية للكون محاولاً التماس مجال معرفة يقدم تفسيرًا له عن الله والعالم والإنسان ، ومن الصحيح أنه وجد هذا المجال المعرفي في الدين والميتافيزيقا ، وهذا يفسر لنا لماذا كانت أغلب مقارنات الخشت - إن لم يكن كلها - تتجه إلى صنع علاقة قوية بين الدين والميتافيزيقا ، وتوجيه النقد اللاذع لكل من يحاول الفصل بينهما من أعلام الفلسفة خاصة الغربية ؟
كذلك كانت دراسته عن هيوم وكانط في كتابه العقل وما بعد الطبيعة تأويل جديد لفلسفتي كانط وهيوم ، تعطي قراءة نقدية جديدة للفكر الكانطي والفكر الهيومي ، وهي قراءة تأويلية جديدة لا تقرأ كانط بكانط وهيوم بهيوم ، وإنما تقرأ كانط بهيوم وهيوم بكانط وحقًا ما قاله الدكتور حسن حنفي عن هذه الدراسة ؛ إذ وجدها تتضمن رأيًا معلنًا بجرأة ووضوح ، هيوم قابع داخل كانط وكانط قابع داخل هيوم ، ، وأن المسافة بينهما عند الخشت ليس كما هو شائع كبيرة إلى حد التناقض ، بل هي عند الخشت قريبة إلى حد التكامل إن لم يكن التماثل ، ، كانط عفلي وهيوم حسي ، بل لقد رأى الدكتور حسن حنفي ما هو أكثر من هذا ، إذ رأى وكأن روح الفارابي القويمة تعود من جديد - من كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين : أفلاطون وأرسطو- في محمد عثمان الخشت في الجمع بين الحكيمين : كانط وهيوم ، وكأنه سائر إلى مصالحة ثانية من وجهة نظره بين السلفية في صورة كانط والعلمانية في صورة هيوم حقنًا للدماء بين الأخوة الأعداء في عصرنا الراهن.([1])
ومن ثم فقد انتهى من هذه الدراسة أن الاعتقاد بأن علاقة هيوم بكانط هي علاقة سائل بمجيب اعتقاد خاطئ ؛ لأنه ينبني على أساس أن فلسفة هيوم فلسفة سؤال ، وفلسفة كانط فلسفة إجابة ، وإنما الصحيح لديه أن فلسفة هيوم هي فلسفة سؤال وجواب معًا ، وأن كانط لم يتجاوز هيوم ؛ لأن فلسفته لم تكن إجابة على أشكال هيوم ، وإنما كانت عند الخشت تعميقًا ترنسندنتاليًا ليس فقط للمشاكل والأسئلة التي أثارها هيوم ، وإنما أيضًا لنتائجه وحدسه الفلسفي .ومن ثم فقد انتهى أيضًا إلى أن كانط في فلسفته المعرفية والميتافيزيقية ومعظم المبادئ التي استند إليها في تحليلاته ، وأغلب المشاكل الفلسفية التي أثارها إنما هي نتائج ومبادئ ومشكلات ديفيد هيوم ، ولكن مع شيء جديد من التعمق المبدع والتحليل العبقري على الطريقة الألمانية .([2])
ومن ثم فإن هذه الدراسة تحمل رؤية جديدة لتاريخ الفلسفة الغربية تتجاوز الصراع التقليدي منذ بداية العصور الحديثة بين العقلانية والحسية ، والمثالية والواقعية ، والصورية والمادية . ([3])
غير أن الخشت وهو في سبيل نقد الفلسفة الغربية لم يقلل مطلقًا من أهمية جهود السابقين ممن قامت دراستهم على العرض والتحليل ، بل على العكس من ذلك كان يؤمن بأنها كانت ضرورية ومهمة في الفترة السابقة من نهضتنا الفكرية المعاصرة ، حيث كانت الحاجة –ولاتزال- ملحة للتعرف على هؤلاء الفلاسفة على ما هم عليه دون تأويل أو تفسير ، غير أنه كان يرى أيضًا أنه آن الأوان لكي يكون هناك لون من الدراسات التي لا تكتفي بالوقوف على العرض والتقديم ، بل تحاول تقديم قراءات متعددة ومتنوعة لهؤلاء الفلاسفة .
ومن مؤلفاته التي تصب في اتجاه نقد الفلسفة الغربية كتاب فلسفة العقائد المسيحية – قراءة نقدية في لاهوت ليبنتز . فإذا الخشت يرى أن المسيحية قد واجهت دومًا تحديات كبرى ، وقد كانت موجة النقد العقلانية التي تعرضت لها في القرن السابع عشر واحدة من تلك التحديات الكبرى التي قابلتها في تاريخها الطويل ، فإنها لا تقل في خطورتها وقدرتها على التهديد في الوجود عن موجات العنف التي تعرضت لها في بداياتها ، بل لقد كان يرى أن المسيحية واجهت دومًا في كل تحد من هذه التحديات من يدافع عنها ، ويأخذ بيدها كي تستمر في الوجود ، وكان ليبنتز من أولئك النفر الذين عملوا بجدية للدفاع عن المسيحية بما يجعلها قادرة على مواجهة موجة النقد العقلانية التي كانت علامة فارقة من علامات عصر العقل عصر القرن السابع عشر الميلادي .([4])
ثانيًا - التوظيف العقلي لفلسفة الدين :
كان من الأسس المهمة التي ارتآها الخشت لبناء اتجاهه الفكري التوظيف العقلي لفلسفة الدين ، وهذا ما حرص عليه في نقده للعقلانية النقدية عند كانط والعقلانية المنحازة عند هيجل ، فقد حرص الخشت على عدم الاكتفاء بالتركيز على بناء فلسفة الدين واكتمالها في العقلانية النقدية عند كانط في كتابه : الدين في حدود العقل فقط كما لم يحرص على عدم الاكتفاء بالتركيز على بناء فلسفة الدين واكتمالها في العقلانية المنحازة عند هيجل على كتابه : محاضرات في فلسفة الدين ، بل عمل على تتبع مراحل التفكير الديني عند كانط وهيجل ، في كل فترة من فترات تشكلهما الفلسفي ، فترة الشباب ، وفترة النضج المذهبي ، وفترة اكتمال بنية فلسفة الدين ، ومن ثم فقد كانت جهود الخشت تنصب على محاولة الكشف عن دور الدين في تشكيل المذهب الفلسفي ، ودور الفلسفة في تكوين التصور الديني عند كل منهما ، ومن ثم فقد كانت جهوده في قراءة كانط لا تفرق بين كتب كانط من حيث ما هو ديني ، وما هو فلسفي ، مما يمكننا من القول إن الرعاية والاهتمام اللذين أولاهما الخشت لكتب كانط قبل النقدية من منظور الفكر الديني ، ومن ثم فإن دراسته للأعمال الكانطية قبل النقدية يعد عملاً جريئًا يتسم بالمجازفة ، ولكنها المجازفة المحسوب نتائجها بدقة ، ولم يتخذ الخشت ذلك الاتجاه ، إلا لأنه وجد أن هذه الأعمال لم تلق الاهتمام الكافي في الدراسات العربية والأجنبية .([5])
وإذا كان الخشت قد قصد إلى توظيف عقلي لفلسفة الدين عند كانط وهيوم ، فإن مقصده لم يكن مبنيًا على عرض الآراء والأفكار هنا وهناك ، وإنما سعي بكل جدية والتزام لتقديم تأويل لها في ضوء المقصد العام للمذهب الفلسفي .وهذا يفسر لنا لماذا ركز الخشت جهوده على سائر أعمال كانط النقدية وغير النقدية ، وأولاها الأهمية نفسها التي أولاها لكتاب الدين في حدود العقل فقط في فهم الفكر الديني عند كانط ، كمرحلة على معالم التوظيف العقلي لفلسفة الدين ، والخشت بهذا قد ولج طريقًا غير مألوف ومخالفًا لمن درس فلسفة الدين عند كانط ؛ لاعتمادهم على كتابه سالف الذكر وتركيزهم عليه . أما هيجل فقد كان الخشت يرى أن فلسفة الدين عنده لم تحظ بدراسة عربية حتى الآن ناقدًا الدراسات الأجنبية التي دارت حول فلسفة الدين عنده لاعتبارات منهجية ؛ إذ إن هذه الدراسات على الرغم من كثرتها فقد اكتفت بالتعويل على طبعة 1831م لكتاب محاضرات في فلسفة الدين ، بينما عول الخشت بالدرجة الأولى على محاضرات 1827م ؛ باعتبارها في نظره أكثر محاضراته اكتمالاً وثراءً وحيوية ، مغ المقارنة بمحاضرات هيجل 1824م ، 1831م ، بالإضافة إلى المخطوطة الأولية التي كتبها هيجل ، وتكتسب محاضرات 1827م أهمتيها عند الخشت ليس فقط من منطلق المضمون الثري والأفكار الحيوية والصانعة ، وإنما كذلك من التقسيم البنيوي الأكثر اكتمالاً وتفصيلاً من المخطوطة ومحاضرات الأعوام الأخرى التالية .
وفي كتاب العقائد الكبرى قدم لنا الخشت تصورًا عقليًا للدين من حيث هو دين ، فلم يرض بالتيار الديني المتطرف ، فضلاً عن عدمه رضائه بالطبع عن التيار العلماني الإلحادي المتطرف ، وقد كان التوظيف العقلي للدين عند الخشت يقوم على أساس افتراض تيار ثالث وهو العقلانية الروحية ، فالعقلانية الروحية عند الخشت حل ينظر للعالم نظرة عليمة وفق منطق السببية ، وفي الوقت ذاته يعي الإنسان أن العالم الحالي غير كاف بذاته ، ومن ثم فلن يكون له معنى دون أن يبحث الإنسان عن نقطة ارتكاز قصوى تقدم له المعنى الذي يحياه ، وما هذه النقطة الارتكازية القصوى سوى الله تعالى ، فدعوة الخشت هنا تقوم على أن الله تعالى وضع قوانينه في الطبيعة ، كما جعل لكل شيء سببًا ، ومن ثم فإن منهجية التعامل مع الطبيعة والعالم والمجتمع ينبغي أن تكون منهجية علمية سببية ، تنأى بنفسها عن الخرافة والأسطورة والحلول الوهمية .([6])
غير أن هذا الحل لا يمكن الوصول إليه دون دراسة متعمقة للأديان بحثًا عن فلسفة عقلية للدين ، بغية البحث عن الحقيقي والدائم على أساس موضوعي غير منحاز ، حيث إنه من المؤكد عنده أن كل دين قد وصل إلى جزء من الحقيقة ، ومن ثم آل على نفسه – وموجهًا أيضًا لجمهور القراء - محاولة اكتشاف هذا الجزء وسط ركام التحولات التاريخية والأوهام الخرافية ، بحثًا عن الدين المطلق الذي جمع بين طياته كل التصورات الجزئية للحقيقة في تصور أشمل ، وهو الدين الإسلامي . ([7])
لقد أعاد الخشت التفكير العقلاني الحر في الدين من حيث هو دين ، كما قام بتحليل نقدي لماهية الدين وطبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة ، وبين العقل والنقل ، ومعرفة موقف الأديان العالمية من الألوهية ، والوحي والنبوات والمعجزات ، وماهية العبادات ووظائفها ، ومشكلة الشر ، والحياة الآخرة ـ ومنطق تطور الأديان ، وفحص الأديان في ضوء العقل وحده من خلال تحليل ومقارنة العقائد الكبرى في العالم .
ثالثًا - فلسفة مقارنة الأديان :
للدكتور الخشت العديد من الدراسات في مقارنة الأديان ، وهي كتب أساسية في مجالها ، ذات إفادة جمة للمتخصصين والمثقفين والباحثين عن المعرفة والإيمان الحق القائم على اقتناعات عقلية منطقية ، ومن هذه الكتب :
- العقائد الكبرى بين حيرة الفلاسفة ويقين الأنبياء .
- تطور الأديان قصة البحث عن الإله .
- الفيدية .. البراهمانية .. الهندوسية .
- الإله والإنسان إشكالية التشابه والاختلاف في فلسفة برايتمان .
ومن ثم فقد اتجه في هذه المقارنات إلى الكشف عن مفهوم الأديان وميادين دراستها ، علاقة الأديان بالفلسفة ، الميتافيزيقا والدين ، منبع الأديان وتطورها ، الأديان الطبيعية ، الديانات التشبيهية ، الأديان المتعالية ، الإيمان والإلحاد ، تصورات الفلاسفة للألوهية ، الروح بين دوجما الأديان وحيرة الفلاسفة ، الشيطان ومشكلة الشر في العالم ، الوحي والنبوة في الأديان الطبيعية والتشبيهية ، الوحي والنبوة في الأديان المتعالية ، المعجزات بين الإعجاز الحسي وإعجاز البيان والبرهان ، فلسفة العبادات الماهية والوظيفة . ثم تحدث تفصيلاً عن الديانة الفيدية من حيث ملامحها والكتب المقدسة فيها ، ومجمع آلهة الفيدا ، وعن الديانة البراهمانية من حيث ملامحها وكتبها المقدسة ، وعن الديانة الهندوسية من حيث أركانها وكتبها المقدسة ، ومجمع آلهة الهندوسية ، وبعض الفرق والمذاهب الهندوسية الأخرى .
وهي الدراسات التي حاول الخشت من خلالها تقديم حل شاف عن ماهية الدين من حيث هو دين ، وهي الإشكالية التي حاول الإجابة عليها من خلال العديد من المؤلفات التي تتناول الأديان دون تمييز جغرافي أو تاريخي أو موضوعي ، وفي سبيل ذلك اتبع منهجًا علميًا صرفًا صارمًا ، لا يقتفي معالم المنهج المقارن بمعناه الضيق التقليدي القائم على أساس علاقتي التشابه والاختلاف فقط ، وإنما المنهج المقارن الذي يبحث - فضلاً عن هذا – عن التلاقح والأثر والتأثر والتوالد والتطور والانتكاس والامتزاج والتضمن والهيمنة والنسخ والديالكتيك والتمييز بين المتغيرات والثوابت في الأديان السلبي منها والإيجابي بين العقلانية والأسطورة وبين الوحي والواقع وبين الوهم والحقيقة وبين المنطقي والخرافي ، فضلاً غن توظيف الخشت للمنهج النقدي التاريخي واستحضار نتائجه ومنجزاته ، وغي هذا الإطار استدعى كثيرًا من آراء الفلاسفة في كل العصور – خاصة الحديثة – حول الدين .([8])
رابعًا - الدعوة لأخلاق كونية :
يمكن القول دون تردد إن الدكتور الخشت قد قرب الوشائج والعلاقات بين الدين والأخلاق خاصة في تعويله على الدين النقي باعتباره الذي يقدم الأمل في أن الجهود المبذولة في إقامة ملكوت الأخلاق والعدالة والسعادة لن تضيع هدرًا ، وفي تعويله على علم الأخلاق باعتباره يساهم في تنقية الدين من التفسيرات المغلوطة التي يقدمها له أهل المصالح ، وباعتباره يساهم في إعادة التأكيد على الوظيفة الأخلاقية للدين ، ومن ثم كانت العبادة الحقة عند الخشت تكمن في السلوك الأخلاقي النابع من أداء الواجب المنبثق من العبادة الحقة ، وكأن الدكتور الخشت يقيم جسورًا من التواصل بين الأخلاق الدينية والأخلاق الكانطية رابطًا في وضوح بين أداء الواجب والعبادة الحقة ، فالعبادة الحقة عند الخشت تعني – في التحليل الأخير – العمل بالواجب .
ومن ثم فقد نجح أستاذنا فيما فشلت فيه فلسفات الحداثة من الوصول إلى حد أدنى مشترك للأخلاق ؛ لأنها لم تكن مشغولة بذلك ، وإنما اكتفت بمحاولة الوصول إلى الحد الأقصى الأخلاقي ، فكانت عند الدكتور الخشت تعمل على بناء منظومتها الأخلاقية كمنظومة تصل إلى قمة الهرم الأخلاقي على أنقاض الفلسفات الأخرى ، ولم تتمكن تلك الفلسفات من تقديم أخلاق يمكن أن ينفذها الناس في حياتهم ؛ حيث ظلت محلقة في سماء البحث عن مبادئ أخلاقية قصوى تنوء بها الطبيعة البشرية ، وتكرس الخلاف بين الناس ، وإن نزلت بعض هذه الفلسفات أرض الواقع فإنها تهاوت في نسبية مفرطة وسعت من مجال الخلاف بين الأفراد والمجتمعات البشرية ، ومن ثم ابتعدت عن الوصول إلى الحد الأدنى المشترك في الأخلاق
وإذا كانت أخلاق الحد الأدنى عند كونج تقوم على مبدأين أساسيين ، فقد أرجعهما الخشت إلى مبدأ واحد ، ؛ فمبدأ "كل إنسان يجب أن يعامل على نحو إنساني" متضمن عنده منطقيًا في مبدأ "ما تتمناه من الآخرين افعله لهم " ، ومن ثم فأخلاق الحد الأدنى عند الخشت تقوم على مبدأ واحد هو ، "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك" ، وهذا المبدأ يقوم على قاعدة عدم التناقض ، فالإرادة المتناقضة عنده هي التي تعطي لنفسها حقًا ، بينما تمنعه من الآخرين ، وتسوغ لنفسها فعلاً ، بينما تحرمه على الآخرين .
وهكذا أثبت الخشت في كتابه القيم – رغم كل هذه التباينات بين الأديان بعضها بعضًا ، ورغم التعارضات بين فلسفات الأخلاق حول طبيعة الخير ، ورغم كل تلك الاختلافات على كل جانب وبين كل جانب وآخر – أن ثمة نواة أخلاقية تمثل حدًا أدنى أخلاقيًا مشتركًا بينها جميعًا ، ولم تكن فكرته عن الحد الأدنى الأخلاقي أيديولوجية جديدة ، كما أنها ليست تعاليم من قبيل البنية الفلسفية المذهبية الفوقية ، ولا تعنى بفلسفة منفردة أو دين بعينه ، كما أنها لا تنشد جعل الأخلاق المحددة للأديان المختلفة بمثابة أمر ثانوي أو نافلة ، وإنما فكرته عن الحد الأدنى تقوم على قاعدة ذهبية واحدة تنبثق منها معايير أخلاقية أساسية تشمل الحق الأصيل في الحياة والمعيشة الكريمة والمعاملة العادلة من الأفراد ومن الدولة والاندماج الذهني والجسدي في المجتمع . إن أخلاق الحد الأدنى عند الدكتور الخشت هي إجماع جوهري على قيم ملزمة ومعايير محددة وسلوكيات أساسية يتم إقرارها من قبل جميع الفلسفات على اختلاف أيديولوجياتها ، وكل الأديان على اختلاف عقائدها .
[1] انظر العقل وما بعد الطبيعة ، ص 3 .
[2] انظر العقل وما بعد الطبيعة ، ص 242 .
[3] د . حسن حنفي ، السابق ، ص 4 .
[4] فلسفة العقائد المسيحية ، قراءة نقدية في لاهوت ليبنتز ، ص 7 .
[5] انظر المغقول واللامعقول في الأديان ، ص 11
[6] انظر العقائد الكبرى بين حيرة الفلاسفة ويقين الأنبياء ص 5 ، 6 .
[7] انظر السابق ، ص 6 .
[8] انظر الفيدية البراهمانية الهندوسيبة ،ط مكتبة لبن سينا ، القاهرة ، 1996م ، ص 6 .