مارتين هايدِغر Martin Heidegger ، 1889) ـ 1976( مفكر وفيلسوف ألماني معاصر ترك ر مؤلفات كثيرة كان أهمها: «الوجود والزمان» (1927)، «كانْط ومشكلة الميتافيزيقا» (1929)، «ماهية الحقيقة» (1943)، «رسالة في النزعة الإنسانية» (1947)، «ما الميتافيزيقا» (1953). نال مؤلفه «الوجود والزمان» شهرة كبيرة لتطبيقه الرائع للظاهراتية Phénoménologie وتأسيسه لعلم الوجود وقد اعتبر أول من أحيا الانطولوجيا في القرن العشرين، بالإضافة الى اسهامه الكبير في التأسيس الهرمينوطيقي الذي يعد أكبر اسهام فلسفي استقام به حال الهرمينوطيقا.
فهو شأنه شأن ديلتاي في سعيه نحو تأسيس منهج موضوعي في العلوم الإنسانية، لفهم الحياة في ضوء الحياة ذاتها ، والسعي جاهدا الى الارتقاء بالهرمينوطيقا الى مركز التأمل الفلسفي. من خلال كتابه العمدة "الوجود و الزمن" عمل على رد الاعتبار للوجود من منظور تأويلي؛ بمعنى العودة الى الأشياء في بداياتها الأولى .
لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن هايدغر لم يتكئ على جهود هوسرل الفينومينولوجية (...)،فالفينومينولوجيا الهوسرلية بما استحدثته من آليات اجرائية لإقرار الموضوعية، وتأسيس منهج فلسفي لا يرضى بغير الفصل الإجرائي بين الذات و الموضوع وبين الذات فردانية ومتعالية ،تجسيدا لفكرة الرد الماهوي وتعليق الأفكار ،وإشاعة مقولة العودة الى الأشياء ذاتها بغية الوصول الى الحقيقة ( المعرفة / النص) تأويلا و فهما كما أنها لم توجد إلا في تلك اللحظة ،كانت بذلك فتحا فلسفيا جديدا اتاح للهرمينوطيقا إمكانية بناء نظرية في التأويل تقوم على فهم النصوص / الظواهر فهما مختلفا عن التصورات الذهنية، وسابقا عليها في الآن. هذه الإجراءات المنهجية كانت بمثابة الأساس الذي أخد بيد هايدغر ليبني صرح مشروعه الفينومينولوجي، لا على سبيل المطابقة أو المماثلة ،بل تجاوزا واختلافا وتأويلا غيريا. (1)
تظهر جليا رؤية هايدغر من خلال تسليط الضوء على كينونة الوجود باعتباها ظاهرة phénomène موجودة تحتاج الى إماطة اللثام عن الوجود بذل من أن يبقى أسير ذاتية متعالية تمتلك سلطة مركزية ودورا فعالا في اكتشاف الأشياء ...،وكأن هذا الوجود عدم أو موت ولا فكاك من تأويل الذات له ،أو اكتشافه ؛بأن تخرجه من اللاوجود الى الوجود (من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل)
لكن المنحى التفكيكي الذي يصاحب أنطولوجيا هايدغر الجديدة ،ورغبته الملحة في تقويض العقل الغربي المتمركز حول ذاته، جعله ينقل مركز الاهتمام من الذات المتعالية ،أو الوعي الإنساني في علاقته بالعالم الى الوجود الانساني في علاقته بالعالم. فالمشروع الفينومينولوجي وفق هذا التصور تحول من ابستيمولوجيا التأويل الى انطولوجيا الفهم. (2)
إن هايدغر أراد أن يجعل من الفينومينولوجيا أنطولوجيا تتجه في صميمها إلى ما يظهر الظاهرة نفسها . وبهذا لن تكون الانطولوجيا ممكنة إلا إذا صارت فينومينولوجيا. أما من ناحية الدازين فإن الفينومينولوجيا ستصير تأويلا (وهيرمينوطيقا) يبين خصائصها وبنيتها. بقوله : "إن الفلسفة هي انطولوجيا فينومينولوجية كلية. تبدأ نقطة انطلاقها من تأويل الدازين الذي تبث – بوصفه تحليلا لهذا الدازين – نهاية مسار كل سؤال فلسفي عند الأصل الذي صدر عنه ولسوف يرتد إليه "(3)
يعرف هايدغر الهرمينوطيقا باعتبارها مقاربة وفهم وولوج ومسائلة وتفسير للوقائعية. وقد شرعت هرمينوطيقا هايدغر في الظهور في النصف الأول من العقد الثاني من القرن العشرين ،وكانت تروم تدبير الواقع الإنساني ولذلك اصطلح عليها هايدغر بالهرمينوطيقا الوقائعية « facticité » . بحيت يصبح الفهم من مكونات الوجود الإنساني ومقوماته و الذي يشكل في هذا التصور مقاربة للإنسان ... التي يروم من خلالها هايدغر وصف الطريقة التي يحيا بها الإنسان في العالم. (4) فالإنسان راعي الوجود أي مسؤول عنه . ويمكن الاستدلال على طبيعة هذه الهرمينوطيقا اليوم من خلال كتابه العمدة الوجود و الزمن être et temps الذي نشر سنة 1927 وهو الكتاب الذي يروم البحت عن معنى الكينونة في علاقتها بالكائن /الإنسان وحتى نتجنب حرج استعمال لفظ الإنسان نظرا لأن هيدغر كان معاديا للنزعة الإنسية ،وبما أن شغله الشاغل هو هدم وتقويض الميتافيزيقا. فكان يلح على تدقيق و إمعان النظر في مفهوم الإنسان وقد نحى به هذا التدقيق نحو التخلي عن مفهوم الإنسان لصعوبة دلالاته ونظرا لأنه مشحون بجملة من الدلالات الميتافيزيقية واللاهوتية و الأنتروبولوجية ،فعندما نتلفظ بلفظ الإنسان يتبادر الى الذهن كلمات من قبيل (أشرف / أنبل المخلوقات) ،وعوض هذا المفهوم المشوش نجده يستبدل لفظ الإنسان بلفظ آخر وهو الدازاين، فما يعنيه لفظ الدازاين عنده هو أنه - كائن هناك – (*)Da sein"" / « être-le-la » ،مثله مثل باقي الكائنات مع فارق طفيف وهو أن الكائنات الأخرى من شجر و حجر... هي كائنات طوع اليد "être sous la main" أما الإنسان فهو الكائن الوحيد بين الكائنات الذي يدرك وجوده ،وحده الإنسان يستعمل لماذا ؟ إذن : فطبيعة وجوده مخالفة لباقي الكائنات وهذا ليس تشريفا له وإنما تلك طبيعة وجوده، فلكل كائن طبيعته الخاصة.
وليس الغرض هو تبديل لفظ بلفظ وإنما كان قصده التنبيه على ذلك البون الشاسع بين لفظ الإنسان واللفظ البديل دازاين ولطالما نبه هايدغر على ذلك الفارق في مصنفاته من خلال استعماله لتغييرات شتى منها (الدازاين البشري) و المقصود به أن وجود الإنسان مبني على الدازاين. فالدازاين لم يكن معطاً جاهزا وللإيضاح أكتر أستعير قولة من أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء أبي حيان التوحيدي إذ يقول في كتابه الإمتاع و المؤانسة " الإنسان بشر بالوهب إنسان بالكسب" واسقط هذا القول في سياقنا فأقول : "الكائن البشري إنسان بالوهب دازاين بالكسب " ،فمصطلح الدازاين هو مشروع يمكن للإنسان أن يصير دازاين إذ هو أراد ذلك ؛أي بإمكانه أن يصير تلك الفجوة التي تتجلى فيها الكينونة وأن لا يبقى إنسانا مشغولا و منغلقا عن كينونته. الشيء الذي جعل عبد الغفار مكاوي يقول ، " لم نزل على الطريق، ولم نصل بعد إلا لمعنى أولي عن وجود موجود معين نصفه بالإنسان أو الدازاين، ونحاول تحديد معالمه التي تميزه عما عداه. هذا الوجود النوعي ليس وجودا بسيطا ،وإنما هو وجود على سبيل التحقق وينبغي على صاحبه أن يعرف بنيته ويتحمل مسؤوليته حتى يصل الى ما سنسميه بعد بالوجود الأصيل ، وبذلك ينفد من قشور الوجود الزائف الذي يحيا الأغلب الأعم حياته اليومية مستغرقا فيه.
فالوجود الإنساني يكتسي خاصية الفعلية... فالإنسان يوجد بمقتضى علاقته بالعالم، وهو ينتمي الى هذا العالم بحسب سياق الوضع الذي يرتبط به ويتجلى هذا الإرتباط في الشعور (حسب تعبير "م.هايدغر")، أي في الأسلوب الذي يتبعه الإنسان أصلا من حيت التوجه، والذي يتموضع إزاء ما يحيط به من الأشياء. كما يتجلى في ملكة الفهم التي تتيح للإنسان أن يعرف ذاته في وضعية معينة،... فالفهم هو الملكة التي بها يكون الإنسان عمليا وقادرا على الوجود. (5)
ومن خلال كتاب الوجود و الزمن 1927 وهو الكتاب الذي يروم البحت عن معنى الكينونة في علاقتها بالكائن باعتباره الكائن الذي ينفتح له الوجود ،وعلى الرغم من أن الكتاب يبحث عن معنى الكينونة إلا أن بلوغ المعنى لا يستقيم إلا بتفسير الواقع الإنساني في انفتاح الكينونة فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تنفتح له الكينونة وهذا ما دفع بهايدغر الى إعادة النظر في وجهة تفكيره الفلسفي فشرع في الدخول مع الكينونة في حوار انطلاقا من إقبالها على الكائن الإنساني لا على موقع إقبال الكائن الإنساني عنها.
الإنسان واقعٌ في هذا العالم لكنه لا يدرك وقوعه فمن طبيعة الإنسان أنه ينسى وجوده ويذهل عنه وهنا يأتي دور الهرمينوطيقا فهي تساعد الإنسان على أن يشف أمام نفسه ،فالإنسان يتساءل عن الأشياء و الهرمينوطيقا تسائل السائل نفسه ،ومن هنا يمكن القول بأن محور فلسفة هايدغر كلها تدور حول كيف يدرك الكائن الإنساني وقوعه في هذا العالم ؟ وكيف يدرك وجوده ككائن ألقي به في هذا العالم ؟ ،فعندما يتحدث هايدغر عن الإنسان لا يهمه الإنسان بل تهمه الكينونة فمعرض الحديث عن الإنسان لأنه هو الكائن الوحيد الذي يدرك وجود و بالإضافة الى إقبال وانفتاح الكينونة عليه ،وهنا تأتي الفلسفة عنده باعتبارها الاكتمال الصريح للنزوع التأويلي الذي ينعش حركة الحياة الأساسية. وهذه الفلسفة ذات النزعة التأويلية هي من صميم نزوع الإنسان باعتباره واقعة / كائن ملقى به في هذا العالم ،فهو يكشف ويدرك نفسه لأن الأصل في الإنسان (حسب هايدغر) يذهل عن نفسه ويستغرق في غيره ،وكأن الأصل في الإنسان أن يهرب من نفسه ولذلك أتت هرمينوطيقا هايدغر تذكر الإنسان بنفسه وبأن يهتم ويفهم نفسه. فالإنسان يعش في عتمة والهرمينوطيقا تسمح له بأن يشف عن نفسه فمهمة الهرمينوطيقا تحرير الإنسان من أجل ملاقاة نفسه.
المراجع المعتمدة :
(1) عبد الغني بارة، الهرمينوطيقا والفلسفة، نحو مشروع عقلي تأويلي الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون-منشورات الاختلاف، الطبعة 1 ص 208/207
(2)عبد الغني بارة، الهرمينوطيقا والفلسفة، مرجع سابق، ص208
M.Heidegger : être et temps. tr f.vizin ; éd Gallimard, Paris , 1986 p66 (3)
(4) د.عبد الطيف فتح الدين، مقال، إشكالية المنهج بين العلوم الإنسانية و العلوم الطبيعية ،ص 8
(*) يعرف هيدغر الدازاين قائلا: le dasein est l'étant pour qui il ya va dans son être même. M.Heidegger : être et temps. tr f.vizin ; éd Gallimard, Paris , 1986 p241
ويضيف معرفا وظيفتَه:
quand la tâche qui s'impose est l'interprétation du sens de l'être, le dasein n'est pas seulement le premier étant à interroger, il est plus encore l'étant qui chaque fois déjà se rapporte en son être à ce sur quoi porte le questionnement dans cette question. Mais la question de l'Être n'est alors rien d'autre que la radicalisation d'une tendance de dasein lui même, l'entente pré-ontologique de l'Être. Ibid., p39
(5) عبد الطيف فتح الدين إشكالية المنهج بين العلوم الإنسانية و العلوم الطبيعية ، مقال، ص 8