ستتجـلى مهمة هذا المقــال في التطـرق للفكـر الأخلاقي والسياسي لتوماس هوبز وجـون لوك، منظورا إليه من زاوية فلسفية، فالتطـرق للسيـاق الذي تبلور فيه فكر الرجلين يتطلب مقرابا فلسفيا/علميا على اعتبار أن نسقهم ينتمي لحقلي الفلسفة و العلم. و هو الشيء الذي يتم تجـاهله لدى بعض مؤرخي الفلسفة مستعرضين بذلك تاريخ الفلسفة كأنه تاريخ أحداث من إنتاج شخصيات عظيمة أو مجرد كرونولوجيا سطحية، إن السـؤال الذي يجب طرحه بهذا الصدد و الأخذ به في مقاربتنا هو الذي سبق و أن طرحه هيغل في محــاضراته المعنونة بدروس في تاريخ الفلسفة والقائل "إذا كانت هذه التواريخ تعرض سلسلة المنظومات كأنها سلسلة آراء عادية من الأخطاء و ألاعيب الفكر، المبتكرة فعلا بمهارة كبيرة و جهد كبير، مع كل الإطراءات التي أمكن تخيلها بخصوص عنصرها الشكلي، و نظرا لانعدام الروح الفلسفية لدى هؤلاء المؤرخين، فكيف يمكن اكتناه وعرض ماهية التفكير العقلاني؟"[1]، إن هذا العرض لن يكون باستطاعته التطرق لفكر الرجلين على نحو دقيق، إلا أن الوصول لمستوى الدقة هو المهمة الذي يجب أن يتم التأسيس لها في التناولات المستقبلية .
وعليه، فإن هاته المقاربة ستأتي على مجموعة من المحطات النظرية و كأنها نقط مفتاح في فهم نسق الرجـلين.
1- نظــريـة المعرفة لدى كل من تومـاس هوبز و جون لوك:
إن التطـرق إلى التصور الذي نظر به هوبز ولوك إلى الوجـود ككل هو المدخل لأي محاولة فهم لنسق الرجليـن، قس على ذلك أن العـودة إلى نظرية المعرفة لديهما تفرض علينا العـودة إلى الإشكالات الفلسفية و العلمية التي حكمت حقبتهم التاريخية و نقصد هنا بالخصوص القرن XVII م، فمن غير الممكن تصور فلسفة من خارج تاريخها، بالرغم من أن معظم الفلسفات تصبو ذلك إلا أن الصراع بين النسبي و المطلق، الواقعي و المتجاوز يؤول دائما لصالح الطرف الأول.
إن هـوبز ذاته في مقدمة كتـابه الليفيــاثان أو التنين، يشير إلى أن أول ما سيعرض له هو الإنسـان و طبيعته وكيفية حصول الفهم لديه بما أن الدولة بحسبه إنسـان عملاق. وعين الشيء ينطبق على جون لـوك بحيث أن مؤلفه الأول كان في قانون الطبيعة Law Of Nature و بحثه المعنون بـ محـاولة في الفهم البشـري - AN ESSAY CONCERNING HUMAN UNDERSTANDING كـان سابقا على رسالة في الحكومة المدنية، بالتالي يجب أخد التأسيس المعرفي النظري لتصور الرجلين بعين الاعتبار، وهو مـا ينقلنا بالضرورة إلى هذه الموضوعة التي قـال بها هوبز و طورها لوك إذ يقول: " إن كل فكرة تمـثل مظهرا لصفة ما أو عرضا لجسم آخر يقع خارجنا، وهذا ما يسمى عادة موضوعـا.
وهذا الموضوع يـؤثر في العيون و الآذان والأعضاء الأخرى من جسم الإنسان، ... و في أصل الأفكـار جميعا يكمن ما نسميه الحس، ذلك أنه لا يوجد تصور في عقل الإنسـان لم تولده أساسا، كليـا أو جـزئيا، أعضاء الحواس، و كل الأفكـار الأخـرى مشتقة من ذلك الأصل."[2]، نجد في هذه الموضوعة جوهـر فكر هوبز والمتمثـل في الفكـر المادي ذي الصيغة الميكـانيكية أو ما يعـرف تحت اسم المادية الميكانيكية، بحيث يعيـد هـوبز الفكـر إلى علل مادية وأنه لا وجود لفكر دون مادة، بالتالي رفض كل ما يدخل في إطـار الميتافيزيقا و المثالية، فلقد سلك مسلكا علميـا في تفسير ظاهرة الفكـر، و ذات الشيء ينطبــق على جـون لـوك الذي قـام بـرفض مـا يسمى الأفكـار الفطريـة و الإقـرار بأن الـواقع الموضوعي هو الذي يزودنا بمقولاته إذ يصـرح ويتسـائل بالآتي:"إن كـل الأفكـار نــابعة من الحس أو الانعكـاس، دعنا إذا نفتـرض بأن العقـل، وكما نقـول، صفحـة بيضـاء خالية من كل الحـروف، بدون أية أفكـار، فكيف يتم تأثيته؟...ومن أين له بكل الأدوات العقـلية و المعـرفية؟ لكل هذا أجيب بكلمة واحد: "التجــربة"[3]، وهو ما ينطبق بشـكل مبـاشر على ما أسماه بالأفكـار البسيطة و الأساس الغير مباشر للأفكـار المـركبة التي تحيـل وكما يدل اسمها على سيرورة مركبة، إن هيمـنة التفسير المـادي الميكـانيكي في حقبة هوبـز ولـوك عـائد للنقلة النوعية التي حـدثت في ميـدان العلوم بالخصوص علمي الفلك و الميكـانيـكا التي تم إرساءهم بشكـل جذري مع غـاليلي، إن التعاطي الجـدلي ما بين الفلسفة و العـلم يتجلى بوضوح في فكـر توماس هوبز و لوك، فتطـور فكـرهم المادي التجريبي ورفض الفكـر الميتـافيزيقي يجـد جذوره في النقلـة التي أحدثها العلــوم آنذاك، من هنـا يجـب أن نستشف جـوابا من إشكـال يتبدى لنا ضمنيـا وهو مـا سـر نضـج أفكــار جـون لوك بالمقارنة مع نظيـره تومـاس هـوبز؟ و الذي سيتم إغناءه "أي الجـواب" بعد مرورنا بالمحطات القادمة.
2- الطـور الأول من الوضعية الإنسانية "حـالة الطبيعة":
انطلاقا من هذه المحطة سنشرع في تبين أوجه التداخل و التمـايز بين كل من هوبـز و لوك، فلقـد انطلق كلا المفـكرين من فـرضية حـالة الطبيعة، أي أن الحـالة المدنية ليست بالوضعية الأصلية بل هي حـالة لاحقة، و بنـاءا على هذه الفـرضية سيحددون منظـورهم لشكل السلطة السياسية المـراد تحقيقه، أو أمكن القول بأن في تصورهم لحالة الطبيعة يقدمون المبرر النظري لمبتغاهم السياسي،
وعليه فـإن هـوبز ينطلق من تصور واضـح مفاده أن الطور الأول لم تعمـه حـالة السلـم بل كان يتسم بالفوضى و الاحتكام للأهـواء الطبيعية أي مـا أسماه حرب الكـل ضد الكـل، وهذه الحـالة ليست بشيء مقدر بل هي نتـاج لتضارب الأهواء الطبيعية لكل فرد عين، من هنا قول هوبز بأن الإنسـان ذئب لأخيه الإنسـان، وهي النقطة التي يذهب بعض الباحثين إلى تأويلها و القول بقول هوبز و إقراره بشرانية الطبيعة الإنسانية، وهذا راجع للقراءات التجزيئية و المبتورة التي يتم تناول بها فكـر هوبـز أو غيره من الفلاسفة، إن ثنـائية الخير و الشر متجـاوزة من حيث طـوبولوجيا أفكـار حقبته ولمثل هذه الاعتبارات قمنا بتقديم نظرية المعرفة لديه ولوك كمحطة أولية، إن المسلك المادي العقلاني الذي سلكه هوبز يجعله إن صح القول معصوما من التفكير انطلاقا من هذه الثنائية، فقـوله بأن الإنسـان ذئب لأخيه الإنسان يدل على سيطــرة الغريزة و الشهوة أي ماهو حيواني في حـالة الطبيــعة وهو ما ينقلنا إلى مفهـوم الأهـواء الطبيعية لديه بحيث أن هذه الأخيــرة تتعـارض بحسبه مع جوهر القـوانين الطبيعية وتخالفها تمــاما إذ يقـول: "في الـواقع تشــكل قـوانين الطبيـعة (العدالة، الإنصاف، التـواضع، الرحمة، ومعاملة الآخـرين المعـاملة نفسها التي نرتقبها منهم) نقيضا للأهـواء الطبيعية التي تحملنا على التحيز و الغرور والانتقام."[4] ، من هنا التمـايز الذي يقيمه هوبز ما بين قـوانين الطبيعة و أهواء الطبيعة، إذا فإذا كـان هـوبز قد ارتأى بأن حـالة الطبيعة هي حالة تسيطر عليها الأهواء أي حـالة حـرب، فـإن جــون لوك قد ذهب إلى نقيض ذلك وارتأى بأن حالة الطبيعـة هي حـالة سلم وسلام قس على ذلك أن البشر خاضعين فيها لقوانين الطبيـعة أي بحسبه متساوون و أحرار "وليس لأحد أن يسيء لأخيه في حياته فالناس جميعا عاملون في هذا الكون الذي صنعه الخالق"[5]، ويضيف مفهوما جديدا ألا هو الحقوق الطبيعية التي من بينها: الحق في الملكية وحق التصرف بحرية والحق في الدفاع عن الحقوق الطبيعية، فهاته الحقوق بحسب جون لوك لا يجب المساس ولك فرد حق الدفاع عنها، بالتالي فالملاحظ هنا هو تطور الخطاب المفاهيمي ووضوح الأهداف المبتغاة، وهو الشيء الذي لا يمكن القول معه أنه نتيجـة ترف فكري أو نتاج لرغبة ذاتية بل إنه كما قلنا نتيجة سيرورة لتطور الأفكار و الإشكالات، و الاختلاف البارز بين الطرحين لا يعني بالضرورة لا معقولية أحدهما بل هو اختلاف في حدود معاينة الواقع وقراءته. و هو ما سنعود إليه في المحطة الموالية.
3- التعاقد الاجتماعي و الحالة المدنية:
لقد سبق وأن ذكرنا بأن في فرضية حالة الطبيعة يكمن تصور الطبيـعة السيــاسية للدولة ، مما يجعلنا نتساؤل عن غاية الـدولة بالنسبة لكلا المفكرين؟ فبنـاءا على حالة الحرب التي طرحها هوبـز يخلص إلى ضرورة لجوء الناس لخلق ميثاق أو تعاقد يتنازلون بموجبه عن حريتهم الطبيعية من أجل ضمان الأمن والاستقرار أي حرية من نوع آخر خالية من الأهواء الطبيعية. فما حالة الحرب إلا نتيجة لسيطرة هذه الأهواء وانعدام السلطة، بالتالي فإن الانتقال إلى الحالة المدنية و إقامة الدولة مكمن غايته هو حفظ الاستقرار يقول : " أما الوسيلة الوحيدة لإنشاء هذه السلطـة المشتركة القادرة على الدفاع عن البشر في وجه احتياجات الغرباء والإساءات المرتكبة بحق بعضهم البعض،...فتكمن في جمع كل قوتهم وقدرتهم باتجاه شخص أو مجموعة أشخاص، تستطيع بغالبية الأصوات، حصر كافة إراداتهم في إرادة واحدة، مما يعني تعيين شخص أو مجموعة أشخاص بغية حمل شخصهم"[6]، و هو الشيء الذي يحيل إلى تفويض السلطة إلى شخص معين أو أشخاص، وهذه الجماعة هي التي تشكل الدولة أو كما أسماها اللفياثان، كما أن هذه الجماعة تفوض السلطة إلى شخص معين ذاك هو الحاكم المطـلق، ومن غير المعقول بحسب هوبز أن يتم رفض هذا الحاكم لأنه يمثل إرادة الجميع وإن لم يمثلها سيتم رفضه من طرف الجميع، لذا فالمعارضين بحسب هوبز هم أولئك "الذين يفضلون حكم المجموعة، لأنهم يأملون المشاركة فيها، على النظام الملكي الذي لا أمل لهم بالمشاركة فيه"[7]. وهو الموقف الذي أبان عليه هوبز واقعيا بمناصرته للملكية في شخص تشارلز الأول في الحرب الأهلية الانجليزية سنة 1642 التي شنها البرلمانيون على الملكية واضطر للفرار نتيجة موقفه هذا، كما حدد السلطة المطلقة للحاكم في 12 حكما تنص على أحقية الحاكم في حل النزاعات وفرض السلم وغيرها...، هذا وبالرغم من أن هوبز يشرع للسلطة المطلقة فإنه يعارض السلطة الدينية، فالأولى جوهرها إرادة الشعب و الثانية السلطة الغيبية، هذا فيما يخص هوبــز أما جون لوك فالإشكال المطروح هو ما الداعي لإقامة الدولة و الانتقـال إلى الحـالة المدنية مادامت حالة الطبيعة بحسبه تتسم بالسلم و المساواة؟. إن الداعي بحسب لوك نجده أيضا في ملخصا في فهمه للحقوق الطبيعية و التي أتينا على ذكرها، فأحقية كل واحد في ملكية خاصة و الدفاع عنها سيؤدي لا محالة إلى حالة من الفوضى، يقول جون لوك في هذا السياق: "فله-أي الإنسان-حق طبيعي بالمحافظة على ملكه أي على حياته وحريته وأرضه ودفع عدوان الآخرين وأذاهم أولا، والحكم في كل خرق لتلك السنة الطبيعية وإنزال العقوبات التي يستحقها المجرم في اعتقاده، حتى عقوبة الموت منها، على الجرائم التي تستحق عنده مثل تلك العقوبة لفظاعتها"[8]،بالتالي فإن الحالة المدنية التي تقوم على التعاقد ستأتي كنتيجة طبيعية وضرورية من أجل ضمان حق الحياة والاستقرار والأمن، فبدلا من أن يقوم كل فرد بتطبيق حقه الطبيعي في إنزال العقوبات على المجرم، سيتنازل عن هذا الحق للجماعة.
يقول لوك: "يستحيل قيام مجتمع سياسي أو استمراره ما لم تسند إليه وحده سلطة المحافظة على الملكية وعلى معاقبة كل من يسطوا عليها في ذلك المجتمع..." ويسترسل قائلا: "فليس من مجتمع سياسي إلا حيث يتنازل كل فرد عن هذا الحق الطبيعي للجماعة، تنازلا تاما، شرط ألا يحال بينه وبين اللجوء إلى القانون الذي تقره تلك الجماعة"[9]
مما يستشف معه بأن هذا التعاقد أو الميثاق لا يخلق شيئا جديدا بل هو أكثر ضمنا في حفظ الحقوق الطبيعية و القوانين الطبيعية، كما أن المحورية فيه تعود للجماعة فتصبح هي الفيصل في جميع النزاعات ومع ذلك فهي ذات سلطة جد محدودة، فالفرد غير ملزم بطـاعتـها إلا إذا تصرفت بموجب قوانين ثابتـة ودائمـة لا بموجــب قــرارات ترتجل من وقت لآخر، ففي الأخير ما هي إلا أداة لضمان وحماية حقوق الفرد لا للتدخل فيها، وبالتالي من الجائز الثورة عليها. وارتباطا مع الإشكال الذي طرحناه في المحطة السابقة، لا يجوز إعتبـار تصور هوبز يؤسس للاستبداد السياسي مقارنة مع تصور لوك أو غيرها من الأحكام المعيارية، فمن خلال نقد الثغرات المعرفية في تصور هوبز أفرزت لنا نظرية لوك، ومن خلال هذا النقد تتحدد علمية كلتا النظريتين، فملىء الثغرات المعرفية هو شرط كل تقدم معرفي وعلمي.
كما يمكننا الخلوص إلى نتيجة أخرى و المرتبطة بهذا الطرح بصيغة ضمنية مفادها أنه وخلافا لما ذهب إليـه أرسطو فالإنسان ليس بحيوان سياسي بالنسبة لفلاسفة العقـد الإجتمـاعي فالسياسة و الحالة المدنية هي حـالة لاحقة عن حالة أولى والتي هي الطبيعة، وهو الشيء الذي لا يمكن أن ينفي جدة أرسطو .
4- التــأسيس للأخلاق و القيم الليبرالية:
إن أول شيء وجب التأكيد عليه في هذه المحطة هو أن هوبز و لوك قد سلكا طريقا كان خطها من قبلهم مكيافيللي، ألا وهو هي تبيان الجوهر الواقعي لميدان السياسة بما هي ميدان للصراع ولا تحق في إطارها الأحكام الأخلاقية و المعيارية، ولا عجب أن يصنف كلا المفكرين في خانة العقلانيين السياسيين و فيما بعد في خانة الديمقراطيين الثوريين، غير أن هذا الفصل بين ما هو أخلاقي وسياسي مع فيلسوفي العقد الاجتمـاعي سيجعلهما يئدان الأخلاق، بل سيكون مسلكا جديدا في التأسيس لأخلاق جديدة أخلاق تعبر عن الواقع الذي يطمحان لتحقيقه وكذا جوهر فكرهم العقلاني و المادي، وهو ما يجرنا إلى تأسيس و بلورة الأخلاق الليبرالية لديهما، فالتحديدات التي قدمها لمفاهيم أخلاقية هوبز في فصل الإنسان تبرز الوجه العقلاني لتناوله وبالتالي نزع الصفة الغائية، فهو عندما يتحدث عن الفضائل فإنه يتحدث عن الفضائل العقلية هاته الفضائل التي بحسبه إما طبيعية أو مكتسبة، ولا يقصد بالطبيعية الفطرية فكما يقول: "لا أعني بالطبيعية تلك التي يملكها الإنسان منذ مولده، فهذه لا تشمل سوى الإحساس، ولكن أعني الذكاء الذي يكتسب بالعادة فقط بالتجربة"[10]، كما نجده عند تطرقه لقواعد السلوك يشير إلى أنه لا يقصد أخلاقيات التصرف بل"الصفات الإنسانية المتعلقة بالعيش معا في سلام ووحدة"[11]، بالتالي فإن الأخلاق بحسب تتحـدد بهذا الجوهر أي السلام و الاستقرار، وانطلاقا من ذلك يمكن أن نستشف البذور الجنينية للأخلاق الليبرالية، بحيث أن الهدف الرئيس للأنسان هو السعادة وهو ما لايمكن أن يتحقق بسيطرة الأهواء و الغرائز ، بالتالي فإن من واجبات الحاكم المطلق فرض هذه الأخلاق، أما لدى جون لوك فإننا نجد تصورا أكثر تحررا و صراحة، بحيث صارت الأخلاق الليبرالية أكثر نضجا معه، فنادى بحرية المعتقد وحق التملك، أي بداية التأسيس للخطاب الحقوقي، فلا يجوز للحاكم المدني بحسبه التدخـل في نفوس الأفــراد بل واجبه يقتصر على صون الخيرات المدنية، إذ يقول: " لا الحاكم المدني ولا أي انسان اخر مكلف برعاية النفوس فالله لم يكلفه بذلك..." ويضيف "إن رعاية النفوس لا يمكن أن تكون من اختصاص الحاكم المدني لأن كل سلطة تقوم على الإكراه" [12]، و في المقابل عليه نشر وفرض أخلاقيات التسـامح لما تضمنه من استقرار و أمان، وذات الأمر ينطبق على الأفراد تجاه بعضهم البعض، فلا يجوز لهم التدخل في خصوصيات ونفس الآخرين و كذا التعدي عليها وهو الشيء الذي يعبر عنه بقوله: " يجب الاحتراز من أي ضرر أو عنف يرتكب في حق شخص غير مسيحي و ينبغي إضافة قاعدة العدالة إلى جانب واجبات الإحسان و المحبة"[13]، بالتالي فإن جوهر الأخلاق مع لوك يتلخص في الحفاظ على الخيرات المدنية لذا يمكن القول بأن الخطاب الأخلاقي في صيغته الحقوقية لم يبز بشكل ناضج إلا مع جون لـوك، وهو الشيء العائد لنزع القشرة الصوفية للأخلاق كما كانت حاضرة في الفلسفات السابقة عليه.
*الطالب يـاسين إيزي، مـاستر الفلسفة و التربية، جـامعة مولاي إسماعيل، المدرسة العليا للأساتذة- مكناس
[1] - هيغل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت الطبعة الأولى 1986 ص39
[2] - تومـاس هوبز، اللفياثان"الأصول الطبيعية و السياسية للدولة"، ترجمة ديانا حبيب و بشرى صعب، دار الفارابي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى يناير 2011، ص23
[3] Locke, John, An Essay Concerning Human Understanding, London : TWENTY-FIFTH Edition 1825, p.51
[4] - تومـاس هوبز، اللفياثان، مرجع سابق الذكر، ص176
[5] - الحكومة المدنية و صلتها بنظرية العقد الاجتمـاعي، ترجمة محمد شوقي الكيـال، مطابع شركة الاعلانات الشرقية، ص15
[6] - تومـاس هوبز، مرجع سابق الذكر، ص179
[7] - نفس المرجع السابق، ص185
[8] - جون لوك، في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت 1959، ص187
[9] - نفس المرجع السابق، ص 188.
[10]- توماس هوبز، اللفياثان، مرجع سابق الذكر، ص78
[11]- نفس المرجع السابق، ص104
[12] - جون لوك، رسالة في التسامح، 1662، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الاسلامي، بيروت 1988، ص70.
[13] - نفس المرجع السابق، ص 79