تقديم : ما أحوجنا اليوم إلى نقاش طويل عريض حول مسألة التسامح، وقبول الاختلاف الديني باسم حق حرية العقيدة، وأيضا ضد محاكمة الأفكار التي لا تحاكم في الأصل، في هاته الرسالة التي نشرت إبان عام 1763 يضع فولتير الأصبع على التعصب الديني الذي كانت تعيشه أوربا، وذلك بمناسبة وفاة جون كالاس، وهو الامر الذي كنا ولا زلنا نعانيه منذ مئات السنوات، حيث يرفض بعضنا البعض بمجرد أنه يختلف معه في الانتماء الديني محلا قتله أو سحله باسم الدين، بل إنه في الدين الواحد عشنا دوما على إيقاع الإبادات التي تعرض لها المتكلمون وباقي الفرق الأخرى من سنة وشيعة وخوارج... بسب الاختلاف في بعض الاشياء الصغيرة، على العموم لا بد من التسليم أولا أن أرجلنا لازالت عالقة في وحل التعصب الديني، وأن الأجيال الحالية لم تعمل إلا على الحفاظ على هذا الإرث المشين، على النقيض من ذلك لا بد من العمل والعمل ضد كل تعصب، مؤمنين بأن الحقائق نسبية مهما كان تشبثنا بها كبيرا، وأن كل تعصب لن يولد إلا التخلف والإرهاب بشتى تلاوينه والفقر وتفشي كل أشكال ومظاهر الخرافة.
فولتير ورسالته في التسامح 2/1
تاريخ موجز لوفاة جون كالاس.
جاءت وفاة كالاس بمدينة تولوز بواسطة السيف والعدالة، يوم التاسع من مارس سنة 1762، حيث اعتبرت من بين الأحداث المتفردة التي تستحق اهتماما مهما في حقبتنا وأيضا مع الأجيال القادمة، إننا ننسى في الحين هذا الحشد الهائل من الأموات الذين سقطوا في المعارك دون تحديد عددهم، ليس فقط لأن الأمر حتمية من المستحيل تجنبها عند الحرب، ولكن لأن الذين يهلكون عن طريق قدر ومصير الأسلحة كان بإمكانهم أيضا تقديم ومنح الموت لأعدائهم، حيث لم يكن ليسقطوا لو لم يدافعوا، من هذا المنطلق فإن الخطر والامتياز يتساويان فيما بينهما، حيث تنقطع الدهشة وتضعف الشفقة نفسها، لكن إذا حدث وأن حُمِلَ أب بريء على أيادي الخطأ، أو على منطلق الولع، أو روح التعصب، فإن اتهامه ليس له من دفاع إلا فضيلته، وإذا كان حكام حياته لم يغامروا بأمر ذبحه بدل خداعه، وإذا كان بمكنتهم القتل دون قصاص أو عقاب مع التنفيذ، عندها فإن صرخة العموم ستقوم عن بكرة أبيها، إذ كل واحد يصرخ من أجل نفسه، إننا لن نرى أحدا ليس مؤَمَّنا عن حياته يقف أمام المحكمة من أجل السهر على حياة المواطنين، وكل الأصوات تجتمع من أجل طلبه بالانتقام.
والحال أن ما يتجلى في هاته القضية الغريبة، مثلما في الدين أو الانتحار أو قتل الوالدين، إنما يتعلق على أمر معرفة ما إذا عمل أب أو أم ما، على خنق ابنهم إرضاءً لله، أو إذا قام أخ بخنق أخيه، أو قام صديق بخنق صديقه، وإذا عمل القضاة على الاقتراب من فعل الحكم بالموت ضد أب بريء، أو إراحة أُمٍّ مذنبة أو أخ أو صديق لا يقلان عنها ذنبا.
جون كالاس البالغ من العمر ستون سنة، كان يزاول مهنة التجارة في مدينة تولوز منذ أربعين سنة، وقد كان معروفا من طرف كل الذين عايشوه بمثابة الأب الصالح، لقد كان الرجل بروتستانتيا على غرار زوجته وباقي أبنائه، ما عدا استثناء لابن واحدا، حيث كان قد كفر بكل الهرطقات، بيد أن الأب عمل على توفير معاش صغير له. لقد كان يبدو بعيدا جدا من هذا التعصب العدمي، الذي كسر وهشم كل تلاحمات المجتمع، حيث قبل واستحسن الاختيار الديني لابنه لويس كالاس، علما أنه كانت للرجل ومنذ ما يربو عن ثلاثين سنة، خادمة كاثوليكية، حيث ربت كل أبنائها على هذا الإيقاع.
لجون كالاس ابن آخر يسمى مارك أنطوان، كان أديبا وقد كان يتميز بروح مرتابة تميل إلى الانعزال... هذا الشاب لم يتمكن من النجاح والانخراط، لا في مجال التجارة على غرار أبيه، حيث لم يكن واضحا، ولا في مجال المحاماة بما أنه كان يتوجب عليه الحصول على شهادات تؤكد كاثوليكيته التي لم تكن لديه، من ثمة فقد عزم على وضع حد لحياته، حيث باح بهذا الأمر لأحد أصدقائه، ومنه فقد قرر على تأكيد عزمه من خلال كتابته لكل ما لم نستطع كتابته حول الانتحار.
وأخيرا، وفي أحد الأيام، التي فقد فيها نقوده في اللعب، قرر أن ينفذ خطته في ذلك اليوم بالذات، في نفس الوقت وصل إلى مدينة بوردو صديق عائلة كالاس وصديق جون أنطوان أيضا، كان اسمه لافيس، شاب يبلغ من العمر تسعة عشر عاما، ابن لأشهر محاميي مدينة تولوز، عرف بصراحته وبدماثة أخلاقه، حيث قرر بالصدفة زيارة عائلة كالاس: الأب والأم وابنهما الأكبر مارك أنطوان، ثم ابنهما الثاني بيير، حيث كانوا يأكلون جماعة، وبعد الحساء قرر الجميع التوجه إلى صالون صغير: اختفى عندها مارك أنطوان، وأخيرا وعندما قرر الشاب لافيس الذهاب، رافقه بيير كالاس إلى تحت، حيث وجدا في الأسفل بجانب المحل، مارك أنطوان مرتديا قميصا، مشنوقا بواسطة الباب، وملابسه مطوية وموضوعة على المنضدة، أما قميصه فإنه لم يكن في تلك الحالة التي توافق ما أقدم عليه، وشعره هو الآخر كان ممشوطا بعناية: لم تكن تبدو على مستوى جسده أية التواءات، وأية علامات للموت.
سنمر الآن عن كل التفاصيل التي أخذها المحامون على محمل الجد، بحيث لن نصف البتة والمطلق الألم والإحباط الذي أصيب به الأب والأم على حد سواء، خاصة عندما دوت صرخاتهما مفزعة كل الجيران، أما لافيس وبيير أنطوان فقد هرعا خارج إرادتهما بحثا عن طبيب جراح وعن العدالة.
عندما توجس الجميع من هذا الواجب، وعندما كان كل من الأب والأم تحت هول الأنين، والدموع، كان في مقابل ذلك سكان مدينة تولوز متربصين بعدد كبير، محيطين بالبيت من كل جوانبه، هؤلاء السكان الذين يؤمنون بالخرافات، كانوا يحدقون كالوحوش بإخوانه الذين لم يكن لهم نفس الانتماء الديني الذي كان له، وفي مدينة تولوز أيضا شكروا الرب بطريقة رسمية عند اغتيال هنري الثالث* وقد كانوا يتحينون أية فرصة لذبح أول من يتكلم عن الكبير والرائع هنري الرابع* من ثمة بقيت هاته المدينة تحتفل خلال كل سنة بطريقة هستيرية، باليوم الذي أُبيد فيه أربعة آلاف مواطن من المهرطقين، منذ قرنين من اليوم* هذا وقد دافع ستة من المجلس عن هذا المرسوم البغيض، وبعده صار كل التولوزيين يخلدون دوما هذا اليوم مثلما يخلدون الألعاب المزهرة.
ـــــــــــــــــــــــ
* هنري الثالث: تم اغتياله سنة 1589 عن طريق المتعصب الكاثوليكي جاك كليمون.
* هنري الرابع: عرف بسنه منشور نانت إبان 1598، الذي يمنح الحقوق الدينية والمدنية والسياسية للبروتستانت.
* حدثت هاته الواقعة شهر ماي، عندما ارتكب التولوزيون الكاثوليك جريمة طرد كل البروتستانت القاطنين بالمدينة خلال سنة 1562