يمكن تمديد الفلسفة الهيغلية في اتجاهين متباينين: فلسفة تاريخ تفضي إلى إنسيان (Humanisme) بالمعنى الذي ستحمله عند فيورباخ أو عند ماركس؛ وفلسفة المعرفة المطلقة؛ ولكن أي معنى يبقى لتاريخ البشرية في الحالة الأخيرة هذه؟ إن الهيجلية تنطوي على هذين التطورين الممكنين؛ فهي ملتبسة لأن هيجل وفضلا عن أنه مؤلف علم المنطق – إن اللوغوس اللازماني هو المعرفة المطلقة، وباعتباره توسطا هو أساس الطبيعة والفكر المتناهي بوصفه تاريخا- هو أيضا مؤلف دروس في فلسفة الحق. ولا يبدو أن هيغل نفسه قد اختار على نحو صريح أحد هذين الاتجاهين. غير أنه يفضل المعرفة المطلقة، والحال أن المعرفة المطلقة تتجلى في التاريخ.
تحتوي فينومينولوجيا الروح لسنة 1807، في نفس الوقت على كل من فلسفة الإنسانية هذه –أو هذه الأنتربولوجيا إن جازت العبارة- وفلسفة المعرفة المطلقة التي يلعب فيها الإنسان فقط دور تجلي المطلق، فهو لا يوجد إلا لكي ينقضي في هذا الكلام المعقول الذي هو لوغوس الوجود.
وإذن، لم يكن هيغل صاحب الاختيار، بل إن أتباعه هم من كرسوا الاتجاهين المتضاربين من فكره. انطلاقا من فلسفته للتاريخ، أقام البعض المطلق غاية للتاريخ، إنسانية وقد صارت إلها (الماركسيون خاصة)؛ أما الآخرون، ومن غير أن ينكروا محايثة المطلق للتاريخ، فقد رفضوا أن يجعلوا المطلق تاريخيا.
ونحن هنا لا نرمي إلى شيء آخر غير الإشارة إلى هذا التعارض.
إن التاريخ عند هيغل يحقق فكرة المطلق في الزمان كما تحققها الطبيعة في المكان. بل إن التاريخ ليس قط تقدما خطيا لإنسانية ما فتئت تسعد وترضى عن مصيرها. ذلك أن هيغل قد تجاوز بكثير التصور المبسط الذي أشاعته فلسفة الأنوار عن التقدم. هذا التقدم الذي كان قد انغمس في براءة هذه الصيرورة التي سيتحدث عنها نيتشه؛ والفكرة المطلقة، التي تظهر في التاريخ ليست تحققا بسيطا لإنسانية حكيمة وراضية. إن اللوحة التي يقدمها لنا تأمل التاريخ الكلي أبعد من أن تكون سارة من وجهة نظر الإنسان وحده، أما النزعة التفاؤلية للايبنتز فقد تم إبطالها: "ومن دون أي مبالغة خطابية، يمكن تضخيم هذه النتائج حتى اللوحة الأكثر هوة لا فقط بتقريب دقيق لكل الخسائر التي تكبدها أفضل ما حصل ثمة من صنيع الشعوب، ومن طبائع وفضائل خصوصية، وأيضا بدافع التأثر حتى الألم الأعمق والأكثر إرباكا وحيرة، حيث لا يمكن لأي نتيجة مسكنة أن تعادله". ومع ذلك فهيغل لا يثبت شيئا آخر غير كون التاريخ صيرورة للعقل المطلق، للحرية الحقيقية للروح. ولكن هذا العقل ليس هو العقل المجرد للفرد، فهو لا يطابق الآراء الفردية ولا صيغ التروي للأنماط الفردية للوعي بالذات. ذلك أن هذه الأنماط ما هي إلا لحظات التاريخ؛ ودون أن تشاء ذلك دائما، هي في خدمة ما يتجاوزها. فليست هي التي تقرر في معنى التاريخ أو قدره ولو أنها تحققت هذا المعنى. هذا المعنى هو الفكرة المطلقة، وهذه الفكرة موضوعية بقدر ما هي ذاتية. إنما جوهر التاريخ الكلي، ومع ذلك فهي لا نوجد إلا من خلال أنماط الوعي الفردية التي تصبح إذن أدوات في متناول الفكرة.
ها هنا يتجلى غموض الهيجلية. فهل هذه الفكرة، التي هي محايثة للتاريخ فعلا كما أنها محايثة، وفي مقام أدنى للطبيعة، هي غاية التاريخ حيث يتحقق الإنسان أم هي اللوغوس الذي فيه الإنسان مجرد حامل أو حارس، وهو ما يعبر عنه بتيه التاريخ وضلاله؟
الفرضية الأولى التي ستدفعها الماركسية إلى حدها الأقصى، سبق لهيجل أن افترضها، على اعتبار أن هذه الفكرة تتجلى كإرادة كليلة للدولة، للدولة التي تنهي التاريخ أو ستنهيه.
يظهر هيغل في البداية أن تحقق فكرة المطلق في التاريخ إنما يمر عبر تفاعل أنماط الوعي، وهذه الأخيرة تلعب دورها فوق مسرح التاريخ، ومن ثم فهي ليست جامدة؛ إذ لا شيء أغرب عند هيغل من إقامة فصل بين الفكرة المطلقة وتجليها. ذلك أن ما ينبغي أن يفهم هو وحدتهما لا ثنائية الماهية والتجلي.
إن أبطال التاريخ انفعاليون: "فلا شيء عظيم يحدث دونما انفعال"، لهؤلاء مشروعهم الخاص المكتنز بالمعنى ولو أنه ليس بالمعنى الأخير. هكذا أمكن لهيغل أن يتكلم عن مكر للعقل في التاريخ كما تم الكلام عن التدابير الخفية للعناية الإلهية بتسخير رجال العهد القديم وطموحاتهم فوق الأرض لكي يجسدوا مسبقا ودون علم منهم قدوم المسيح ودعوته. بيد أن هيغل يعلمن هذا التصور للعناية الإلهية، ومن ثم يتجاوز كل رؤية أخلاقية للعالم.
وعن خطأ نلقي باللائمة على كبار الشخصيات، متهمينهم بالسعي وراء مصالحهم الشخصية فقط، وخصوصا بكونهم مدفوعين بالطموح وحب الانتظار. إننا نرى دائما أن هناك مصلحة ما في أعمالهم: "بيد أن من ينذر عمله لشأن واحد لا ينتفع به لوحده، بل يكون هو أيضا موضع انتفاع". إن الفائدة موضوعية، فهي فائدتنا نحن (وهذا وجه ذاتي لا يمكن نقصانه)، وفائدة الشأن ذاته. يفترض العمل مجاوزة للثنائية الانعكاسية، فهو منة وإهمال، ضياع للذات يقرب أن يكون ضياعا كاملا في هذا الشأن الذي أفضى به الأمر إلى أن يكون "شأن الجميع وشأن كل واحد على حدة"، أن يكون كليا متعينا، وبما أن هناك دائما وبالقوة انعكاس ذاتي، فإننا نستطيع أن نظهر إظهارا خاطئا عمل كبار الرجال إذ نحاكمهم "من وجهة نظر خادم البيت". إنه حكم الهوى الذي يسعى جاهدا إلى التنقيص دائما من عمل العظماء من الرجال ورده إلى مستواه الخاص. والحق أن هؤلاء قد انتهوا إلى فعل ما أرادوا وإرادة ما فعلوا. أو على الأقل إن مجرى العالم الذي لا يتعرفون فيه إطلاقا على مشروعهم، إنما هو إرادتهم وقد صارت موضوعية. "بيد أن الفرد وقد انصرف عن ذاته أيضا، يتخلص من الفردية وينمو من أجل الذات كذات كلية. إن الفرد الذي يريد أن يعرف الكلية، فقط في هيئة وجوده المباشر من أجل الذات، لا يعترف به إذن داخل هذه الكلية في الحالة الاختيارية، ولو أنه في الوقت ذاته، منتسب على أي حال إلى هذه الكلية، لأنها عمليته".
لقد ألح هيجل أيما إلحاح على هذا الجدل للتاريخ –جدل الواقع هو الفكرة التي ربما يكون هيجل قد حصلها بفضل قراءته للاقتصاديين وبخاصة آدم سميث؛ وبالفعل، فقد سجل هذا الأخير أن الأفراد إذ يتبعون فائدتهم الخاصة ويفعلون مشروعهم الفردي، ينتهون دون أن يعلموا إلى تفعيل مشروع كلي وفائدة جماعية، حيث يكون المعنى في ما وراء المعنى المشار إليه. ولكن هذا المعنى الخفي الذي يظهر، فقط عند النهاية ويحققه الأفراد دون أن يعلموا (مكر العقل) يبدو عندئذ وكأنه فشل لهم. فالتاريخ، من وجهة النظر هذه، ليس مكانا لسعادة الفرد بل هو قدر الأفراد –ليس قوة قاهرة للطبيعة بل إن وعيهم بذاتهم هو بمثابة وهي مضاد. هذا القدر هو فكرة التاريخ المطلقة، وفي هذه الفكرة المطلقة لا يعترف بالفرد كفرد ولا يحقق هذا الأخير التقني هو أيضا يرغب في أن يكون من الناجين ومن السعداء. هذه الغاية القصوى التي هي لذاتها، على خلاف الجوهر المطلق والكلي، هي شيء خاص، ترغب في الخصوصية وتشهدها. فهي عموما هكذا يكون وضعها من وجهة نظر ظاهراتية. إنها موضع الغايات الخاصة بما أن مقام الأفراد في خصوصيتهم التي يشغلون ويحققون. وهي أيضا وجهة نظر السعادة والشقاء، إن السعيد هو من طابق وجوده مع مزاجه ومراده ومتعته الشخصية، فبذلك ينعم بذاته في وجوده. إن التاريخ الكلي ليس موضع الهناء، ذلك أن حقب السعادة فيه هي الصفحات البيضاء منه.
هكذا ينجز الفرد بما هو كذلك شيئا آخر في التاريخ غير ما يعتقد أنه يريد حتى وإن كان ما يحققه تحقيقا فعليا ليس غريبا عنه تماما. إن الخير الذي ليس مثالا أو فكرة فارغة موجود في هذا التوسط المتعين، في هذا التحقيق الذي يتخطى الوعي الفردي الخالص ومشاريعه المتناهية. "لأن شيئا فارغا من قبيل الخير من أجل الخير، هو عموما لا موضع له في الواقع الحي" صحيح أنه ليس لعامة الناس إلا أن يستسلموا للمد كيما يحملهم، وليس لهم إلا أن يتبعوا موضوعية معطاة سلفا، إلا أن الأشخاص التاريخيين هم بكل تأكيد جناة –لكونهم يخلخلون هذه الموضوعية- مثلما هم أبطال لكونهم يفتحون موضوعية جديدة. "إن عظماء التاريخ هم هؤلاء الذين تنطوي غاياتهم الخاصة على العامل الجوهري الذي هو إرادة العبقرية الكلية. ومن اللازم أن نسمي هؤلاء بالأبطال بما أنهم قد استقوا غايتهم ومراميهم، لا فقط من مجرى الأحداث، وهو المجرى الهادئ والمنتظم الجاري به العمل داخل النسق، وإنما من منبع لما يزل محتواه خفيا لم يبلغ بعد الوجود بالفعل، ومن الروح الباطني الذي لما يزل حوفيا والذي يصارع ضد العالم الخارجي مثله كمثل نواة تحطم ثمرة اللوز لأنها ليست هي ما يناسب هذه النواة. هؤلاء العظماء يظهرون وكأنهم مشتقون من ذواتهم، وقد أحدثت أفعالهم وضعية وشروطا عالمية تبدو وكأنها من شأنهم وعملهم هم فقط. مثلهم كمثل بعض الأفراد الذين لا وعي لهم بالفكر –في ما يتعلق بغايتهم عموما- ولكنهم رجال عمل وسياسة. هم أيضا رجال يفكرون ويعرفون "ما هو ضروري وما الذي آن أوانه"".
لا يمكن أن ننازع في الوصف القوي الذي يعطيه هيغل هنا للتاريخ عموما ولحركته المتواصلة. يحصل مكر العقل لأن الفكرة المطلقة تتجلى في التاريخ. ولكن هل هذه الفكرة هي البشرية؟ لقد رأينا أن التاريخ يوجد في ما وراء المشاريع الشخصية للسعادة الفردية، ومع ذلك، فهل هذا التاريخ من إنجاز الإنسان الذي يلزم فيه أن يعترف به ويؤله، أم أنه ليس إلا مجالا لتجلي الفكرة، الفكرة التي هي ذاتها ليست تاريخية أبدا، بل فقط تحصل ضرورة عن طريق الإنسان؟
نحن على علم بالانتقادات التي وجه فيورباخ وماركس من بعده لهيغل حيث يقول الأول إن الروح المطلق هو الإنسان والإنسان فقط؛ ويبرهن الثاني على أن الروح المطلق هو الإنسانية التاريخية التي حققت ضرورة مشروعها الأساسي عبر منعطفات الجدل التاريخي للواقع. بيد أن هيغل كان يشعر دائما بأن البشرية المختزلة في ذاتها فقط وقد اعتبرت ذاتها غاية إنما هي هلاكها الخاص. إن ما تحمله هذه البشرية، ولا يكون مع ذلك إلا عن طريقها هو اللوغوس ذاته للوجود، وليس بشرية-آلهة.
غير أننا نلاحظ أنالنقلة التي تقود من هيغل نحو ماركس إنما هي تأليه الدولة، وهنا لا بد من الإشارة إلى التأثير العميق لروسو على هيغل. قد يكون آدم سميث ألهمه جدل الواقع، أما روسو فيلهمه تيمة الدولة باعتبارها تجسيدا للإرادة الكلية، وإذن باعتبارها فكرة متحققة في التاريخ وقابلة لأن تكون مطلوبة بما هي كذلك. فإلى جوار المجتمع البورجوازي، الذي هو مجتمع البسطاء من الناس العاجزين عن إرادة الكلية إرادة مباشرة، بموضع هيغل الدولة التي فيها يرغب الفرد رغبة مباشرة في الكلي. وهكذا ستكون الدولة هي الحرية المتحققة في التاريخ، هذه الجماعة التي بتعاليها عن المجتمع البورجوازي ستكون هي الإنجاز البشري المطلق. "فالإرادة الذاتية لها أيضا حياة جوهرية، واقع حيث تتحرك في الأساس، متخذة من الأساس ذاته غاية وجودها. هذا الأساس هو اتحاد الإرادات الذاتي والعقلاني، هو الكل الأخلاقي، هو الدولة التي هي الواقع الذي يحظى فيه الفرد بحريته وينعم بها، الدولة من حيث هي معرفة، إيمان ومعرفة كلية" وهكذا فليست الدولة المؤلهة وسيلة لخدمة سعادة الأفراد المنفصلين، وإنما هي كليتهم المتحققة، شأنها شأن اللغة، إنها وحدة الكلي والشخصي، الوعي الكلي بالذات.
هكذا يتضح كيف أنه سيكون من الممكن، انطلاقا من هذا الوعي بالذات وقد تحقق في التاريخ، تأليه البشرية المتوافقة مع قدرها. وسيكون ماركس على صواب حين سيتصور حالة ما بعد الدولة، بل هو على صواب فقط لأن الدولة ستكون قد حققت التوافق أولا، وأن مظهر الإكراه والعبودية لن يصبح ضروريا أبدا. ولن يكون الإنجاز المطلق مرتبطا بالتاريخية، بل سيكون هو التاريخ نفسه، وسيكون العقل المطلق خدعة طالما أن التاريخ سيوجد وأن الجماعة لن يعود بإمكانها أن تكون مطلوبة بما هي كذلك طلبا مباشرا، وإنما ستصير هي البشرية والحرية الحقة حينما سيكف الفرد عن طلب فكرته بتوسط. فآنئذ لن يكون المطلق محايثا أبدا للتاريخ ولا حتى للطبيعة؛ بل سيكون تاريخيا بالتحديد، فهو ما سيحصل بالتاريخ. ولكن والحالة هذه ستختلط الميتافيزيقا بأسرها بالأنتربولوجيا. وسيختلط المطلق، أي الوعي الكلي بالذات للوجود بالمشروع الأساس للإنسان بما هو إنسان.
وفضلا عن أن هيغل لم يذهب هذا المذهب فقد قال بالعكس أيضا إن الطبيعة والتاريخ عنده ما هما إلا لحظات خاضعة للوغوس، أي للغة الوجود. فما يتجلى من خلال الإنسان، أو بالأحرى في الوعي الكلي بالذات حيث الإنسان مجرد حامل، إنما هو الخطاب الأنطولوجي والمعرفة المطلقة للوجود، وهذه المعرفة ليست هي الإنسان، فضلا عن أنها لا توجد من ثم إلا في اللغة البشرية وما من شك في أنها تحظى بالتاريخية أيضا.
لقد ألف هيغل كتاب الفينومينولوجيا لكي يمهد للمعرفة المطلقة. فالوعي الظاهراتي أو الأنتربولوجي، لا يشمل المعرفة المطلقة، والحال أن المعرفة المطلقة تنطوي على ذاتها وغيرها، وهي تدرك أن "الفلسفة لا بد وأن تقترب". وتقدم كطبيعة وكعقل متناه؛ أي باعتبارها بشرية في التاريخ. إن الوعي الكلي بالذات الذي تقوم الفينومينولوجيا بإعداده ليس هو بالضرورة وهي البشرية التاريخية، ولا هو وعي المشروع الإنساني بما هو كذلك. ما من شك في أن مقولات المطلق تنكشف أيضا في تيه التاريخ وضلاله، ولكن الخطاب المتعلق بهذه المقولات، المنطق الهيغلي، لوغوس المطلق ليس تاريخا. والتاريخ شأنه شأن الطبيعة لا يوجد خارج المطلق، فهو تجل كذلك. والحال أن التاريخ عقل متناه (عقل موضوعي) أيضا وسيكون الخطأ هو الاعتقاد أن المطلق تاريخي، أي غاية للتاريخ، فقط لأن الفكرة المطلقة تتجلى في التاريخ. ولا يبدو أن هيغل قد ارتكب فعلا هذا الخطأ.
وعليه فإن وضعية الإنسان من هذا المنظور مختلفة تمام الاختلاف عما هي عليه من منظور فلسفة التاريخ فقط. إن الإنسان وعي ووعي كلي بالذات (لا ينبغي أن تقلب هذه القضية فيترجم الوعي الكلي بالذات بالإنسان). إن تجلي هذا الوعي الكلي بالذات ليس الدولة أبدا، وإنما هو اللغة الأصلية التي هي مأوى الوجود. فليس الإنسان هو الذي يؤول الوجود، بل إن الوجود هو الذي يعبر عن ذاته عن طريق الإنسان. وهذا الانكشاف للوجود، هذا المنطق المطلق –القائم مقام الميتافيزيقا (التي هي ثيولوجيا تقريبا). إنما يحصل عن طريق الإنسان، ذلك أن الإنسان كائن طبيعي ووعي كلي بالذات. في آن واحد. فالإنسان ليس هو المطلق أو الغاية الأسمى، إنه ملتقى الطرق. أما اللوغوس فليس هو الإنسان، إنه يتجاوزه على نحو مطلق، والحال أن الإنسان في النطاق المتقلب للعقل المتناه، هو الكائن عن طريق الواسطة التي بها فقط يكون ثمة لوغوس.
وماذا عن الإنسان إذن؟ ما هي العلاقات الموجودة بين الأنتربولوجيا والأنطلوجيا؟ وما مصير التاريخ من منظور المعرفة المطلقة.
تلكم هي الأسئلة الأساسية التي تفرض نفسها عندما نمتنع عن مسايرة الاتجاه الأول من الهيجلية، ذلك الاتجاه الذي يفضي إلى الإنسية الماركسية، أو حتى إلى إنسية سارتر. ربما أمكن أنطولوجيا هيدغر أن تساعد على تجلية الاتجاه الثاني الممكن من الهيغلية.