يشير مصطلح الهرمينوطيقا " Hermeneutics " إلى التأويل والتفسير معاً ، وفي حين أن للتأويل مفردة مستقلة خاصة هي " Exegesis" التي تشير إلى التفسير أيضاً ، إلا أن الثقافة الغربية آثرت العودة للمفردة هيرمينوطيقا [516] التي تتميز بأنها منهج هذا التفسير وأصوله وأحكامه ، فإذا كان التفسير وقفاً على الشرح أو التعليق الفعلي ، فإن الهرمينوطيقا هي قواعد هذا التفسير أو مناهجه أو النظرية التى تحكمه [68] واللفظة " Hermeneutics " تعود جذورها للتراث الإغريقي ، الذي كان قد أحال نسبتها لرسول الآلهة ( هرمس ) الذي يتوسط عالم الآلهة الخالدة وعالم البشر الفانين ، يرافق أرواح الموتى إلى مملكة هاديس السفلى ، حامي الرحالة الذي أصبح بعد تطور التجارة في اليونان حامي التجارة ، من ثم إله الغش والخداع والسرقة [516] وهو آلهة الفواصل ، الفجوات ، التخوم ، وأعتاب كل شئ ، وهو كائنا متقلباً ، وغامضاً ، فقد كان أباً لكل الفنون ، ورباً لكل اللصوص في الوقت ذاته [33] وفي أسطورة هرمس هذا نعثر على نفي لمبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ، وكذا لمبدأ الثالث المرفوع ، وفيها أيضا تنكفئ السلاسل المنطقية على نفسها لتشكل هرما حلزونياً : فالــ(( ما بعد )) يسبق الـ(( ما قبل )) ، والله لا يعترف بأي حدود فضائية ، ويمكنه أن يكون على هيئات متنوعة ، في أماكن متعددة في وقت واحد [29] وهرمسية القرن الثاني تبحث عن حقيقة تجهلها ، وكل زادها في ذلك هو الكتب ، وعلى هذا الأساس ، كانت تتخيل أو تتمنى أن يكون كل كتاب مشتملاً على جزئية بسيطة من هذه الحقيقة ، وإذا كانت كل الكتب تقول الحقيقة حتى لو أدى ذلك إلى تناقضها ، فان ذلك ممكنا لأن كل كلمة هى في الأصل إيحاء أو مجاز .
إنها تقول شيئاً أخر غير ما يبدو ظاهر . [33] هذا المعنى الذي كانت تحمله أسطورة الآلهة هرمس ، والذي يناقض مبادئ العقلانية الإغريقية من وجهة نظر (أمبرتو إيكو) سيبدو متقارباً من معنى الهرمينوطيقا الذي يشير إلى التأويل من حيث هو " إخراج دلالة النص من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية " [518] فالألفاظ دائماً ما تبطن أكثر من دلالتها الظاهرة التي تقتضي فهم النص فيما هو أبعد من حضوره المباشر ، ووقوعه ضمن معنى أحادي ، والهرمينوطيقا من حيث هي فن فهم النصوص المقدسة بدرجة أولى ، كانت قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بموضوع الدارسات الدينية ، تحديداً مع الإنجيل والقرآن حيث اتخذ التأويل لدي علماء اللاهوت صورة " تفسير الكتب المقدسة تفسيراً رمزيا أو مجازيا يكشف عن معانيه الخفية " [518] فقد كان بين ( أوغسطين ) أن الفكر ينتقل من الدلالة الحرفية والأخلاقية إلى المعنى الروحي . سواء في فن التأويل اللاهوتي أو فن التأويل الإنساني للعصور الحديثة [1] كذلك هو الحال مع ( الجرجاني ) الذي كان قد حدد في كتابه التعريفات التأويل على أنه " صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً للكتاب والسنة " [518] والتأويل من حيث هو فن فهم النصوص المقدسة ، لم يظهر حديثاً أو متأخراً فقد مارسته المجتمعات الإنسانية من أجل فهم كتبها المقدسة ، كما أنه قد سبق لليونان وأن تناولوا موضوع التأويل ، تحديداً مع أرسطو الذي كان قد أفرد له كتابه " peri Hermeneias " وهذا الكتاب جزء من سلسلة بحوث أرسطو في المنطق , وقد عنى فيه بعلم الدلالة مركزا على العبارة ، لذلك ترجمه العرب تحت اسم " العبارة " ، أي كيفيات التعبير عن الفكرة ، القضية ، حيث أن أرسطو يجعل التأويل سابقاً على النص لا لاحقاً عليه ، ولا خلاف من جهة المبدأ في فاعلية التأويل لأن صاحب النص هو الذي يقدم ( فهماً ) للفكرة التي تعتمل في ذهنه ، ويعبر عنه ، كما أن المتلقي يقدم فهما للنص الذي يتلقاه [ 518] .
II
مع شلايرماخر الذي يعُد أبا الهرمينوطيقا الحديثة سيتخذ التأويل صورة الفن الذي ينصب على موضوع الفهم بدرجة أساسية ، حيث أن الفهم سيشكل نقطة انطلاق شلايرماخر في محاولته لتأسيس هرمينوطقيا عامة ، عوضاً عن وجود أفرع للهرمينوطيقا " الهرمينوطيقا بوصفها فن الفهم لا وجود لها كمبحث عام ، فليس هناك غير كثرة من الأفرع الهرمينوطيقية المنفصلة " بذلك يعلن شلايرماخر في جملة واحدة عن هدفه الأساسي : تأسيس هرمينوطيقا عامة بوصفها فن الفهم [97] حيث أننا من وجهة نظر شلايرماخر معرضون لسوء فهم النصوص أكثر من كوننا نفهم بكيفية صحيحة ومناسبة فالأصل في التأويل هو الخشية من سوء الفهم ، الأمر الذي يستدعي وضع مبادئ وقواعد عامة لعملية الفهم تجنبنا سوء الفهم ، وأولى هذه القواعد أن النص لا يمكن عده مفهوماً مادمنا لم نتمسك بمعناه العام ، ولم ندرك أهميته ، ولم نتعرف الوضعية التاريخية والاجتماعية والنفسية للمؤلف ، ولم نستشف الوضعية المعاصرة للقارئ والأهداف البعيدة لتأويله للنص . فالتعرف ، وإدراك " الوضع الشامل " هو مفتاح تجنب سوء الفهم ، وهو الأورغانون الجديد للتأويل الذي يبشر فيه شلايرماخر [585] الذي يؤكد على قاعدة أساسية في عملية التأويل هي " أن يفهم المفسر النص كما يفهمه مؤلفه ، وثم بعد ذلك يفهمه بشكل أفضل من المؤلف "[121] فالفهم هو عملية إعادة معايشة للعمليات الذهنية لمؤلف النص ، ذلك من خلال وعينا اللحظة اللغوية والسيكولوجية للمؤلف . حيث أن شلايرماخر كان قد قسم الفهم إلى قسمين :
* الأول - الفهم والتأويل اللغوي ، وهدفه البحث عن فهم كل عبارة استناداً إلى النظام اللغوي العام المتداول .
* الثاني - متمثلاً في منحى التأويل التقني والذي سيسمى فيما بعد بالتأويل النفسي ، ومراده الإحاطة بدقائق النظم والأسلوب لدي مؤلف ما .
و لا يتحقق الفهم المثالي إلا بهذين النمطين من التأويل ، فالمعرفة بصيرورة الفكر تكون عوناً وسنداً للفهم اللغوي ، مقابل ذلك لا يكفي الفهم النفسي وحده ، لأنّ الفكر لا يتضح إلا إذا ألقى به في الكلام ، حيث أنه يجب الانطلاق حسب شلايرماخر من الشخص الناطق للخطاب لفهم محتوى قوله ، والانخراط في نفسيته لمعرفة دواعي خطابه ، والوصول إلى المعنى المقصود . [3] الذي يقتضي بلوغه إعادة معايشة خبرة المؤلف وحواره. فالهرمينوطيقا تبدأ من حيث هي أحكام الحوار ، فهي حوارية " Dialogical " في طبيعتها ،[110] تعود بنا القهقرى إلى زمان المؤلف وفضاء النص المفتوح على العديد من الأبعاد ، منها البعد التاريخي الذي سيتوقف عنده مطولاً ( فلهلم ديلتاي ) الذي عنده أن الإنسان كائن تاريخي ، بمعنى أنه لا يفهم نفسه عن طريق التأمل الذاتي ، بل من خلال تأويله لتجاربه التاريخية والحياتية على أساس ما هو مشترك بينه وبين تلك التجارب ، وعلى ذلك فالأساس الموضوعي لعملية التأويل هو " المشترك بيننا وبين الأثر " لأن ما هو مشترك هو الذي يسمح لنا بمعايشة النصوص الأدبية والتاريخية ، فنحن نفهم النصوص الأدبية على أساس البدء من المشترك بين تجربتنا وتجربة النص [588] وما يمثله لنا من معنى يبقى متصل بشكل وثيق بالحياة التي يعرُفُها دلتاي على أنها " تتكون من تفاعلات بين الناس " [13] وتقوم فيما نستوعبه عن طريق التجربة والفهم [14] الذي يختص بالموجودات البشرية وتأمل حياتها الداخلية " إذا نظرنا إلى البشرية عن طريق الإدراك و المعرفة ، فإنها لا تكون إلا واقعة فيزيائية يمكن تفسيرها عن طريق العلوم الطبيعية ، ولكن من حيث إن الإنسان يفهم ويختبر الحالات الإنسانية ويقدم تعبيرات لهذه الخبرة ، فإن البشرية تصبح موضوعاً للدراسات الإنسانية " [28] التي أراد ديلتاي تحريرها من سطوة المناهج الطبيعية وإقامتها على
أسس مختلفة تتمثل في " الفهم " و " الوعي المشترك " و " الأفق المفتوح والمتغير للحقيقة " [589] ذلك من خلال الاعتماد على الهرمينوطيقا كأداة لتحرير العلوم الإنسانية من هيمنة المناهج الطبيعية ، حيث أن مهمة الهرمينوطيقا تتمثل في السعي إلى فهم الحياة الداخلية للإنسان ، والحياة المعيشة ، محاولة فهم التعبيرات التي تعبر عن التجربة سواء كانت تعبيرات أدبية ، تاريخية ، نصية [586 ] ومن وجهة نظر دلتاي فإن التفسير الصحيح يمكن أن يستنبط من طبيعية الفهم ، الذي من أجل تحقيقه لا بد وأن نتوفر على رؤية كلية ، فإذا أردنا أن نفهم شخصا من الأشخاص يجب علينا أن نفسر أفعاله وكتاباته في عملية واحدة متجانسة . يقول دلتاي في هذا " إذا أردت أن افهم ليوناردو ينبغي أن أفسر الأفعال والصور والكتابات في عملية واحدة متجانسة . " ويشير إلى نقطة هامة وهى أن الهدف النهائي للهرمينوطيقا يبقى هو " فهم المؤلف أكثر من أن يفهم نفسه [41] وهو ذاته الشعار الذي كان قد رفعه شلايرماخر والذي سيؤكد عليه دلتاي . هذه المحددات الأساسية للهرمينوطيقا عند دلتاي سينتقدها ( مارتن هيدغر ) الذي كان قد رأى أن دلتاي لم يستطيع التحرر من سطوة مناهج العلوم الطبيعية لأن مطلب الموضوعية فرضته علينا العلوم الطبيعية [589] كما سيتخذ منها موقف مضاد ( هانز جورج غادامير ) .
III
إذا كان سؤال الهرمينوطيقا الأساسي هو : " كيف نفهم النصوص ؟ " حيث حاولت جميع أنواع الهرمينوطيقا أن تقدم جواباً على هذا السؤال . فإن هيدغر سيعود خطوة إلى ما وراء هذا السؤال إلى السؤال عن الكينونة "Being " نفسها [146] إظهارها ضمن أفق الوجود الذي يلفه التحجب والنسيان ، التي ستأتي انطولوجيا هيدغر الهرمينوطيقية لمحاولة كشفه وإبرازه ، فقد عمد هيدغر إلى تأسيس الهرمينوطيقا على أسس فلسفية جديدة ، ليس على أسس نفسية ، كما هو الحال مع (شلايرماخر) و ( دلتاي ) ، لكن على الاهتمام بالأثر ، تاريخياً كان ، أم فنياً ، أم أدبياً وإعطائه الأولوية على الذات المبدعة من جهة ، والذات المؤله من جهة أخرى ، فمع هيدغر لم تعد الهرمينوطيقا تفكيراً في العلوم الإنسانية ، بل هي إبراز للأرضية الانطولوجية التي يمكن لهذه العلوم أن تقوم عليها ، وهذا يعني أن التأسيس للأنطولوجيا يجري ليس من خلال تحديد العلاقة مع الأخر ولكن في تحديد العلاقة مع العالم [589] الذي هو أساس كل فهم ، فالعالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الآنية ( Dasein ) . ويناظر شفافية العالم شفافية أشياء معينة في العالم يرتبط بها وجود المرء في حياته اليومية . فالأدوات التي يستعملها المرء كل يوم وحركات جسمه التي يؤديها دون تفكير ، كل هذه تغدو شفافة لا يلتفت إليها المرء ولا يلحظها إلا إذا حدث تصدع ما أو تعطل . عند نقطة التعطل يمكننا أن نلاحظ حقيقة هامة : هي أن "معني" هذه الأشياء يكمن في علاقاتها ببناء كلي من المعاني والمقاصد المتعالقة . إبان التعطل ، وللحظة وجيزة فقط ، يُضاءُ معنى الأشياء ويبزغ من العالم بشكل مباشر [227]. وأشياء العالم هذه يمكن ملاحظاتها من زاويتان : الأولى ، إنها غالباً ما تكون مصنوعة من قبل الإنسان . والثانية ، أنها تكون رهن إشارتنا للاستخدام . وهذا يعني أن " التصورات الأنطولوجية تقوم بتطوير تصورات قبل انطولوجية تمتلكها الكينونة في حياتها اليومية بكيفية تلقائية غير صريحة وصياغتها " . فهيدغر لا يتناول وجود الأثر ، أو الوجود عموماً ، إلا من زاوية التجربة التي يقدم فيها ذاته لنا ، ومن ثم لا يوجد كائن في ذاته سابق على كل تجربة ، فالكائن في ذاته يكون في ذاته ، عندما يفصح عن ذاته في تجربتنا ، فنحن لا نهتم بوجود الشئ أو الأثر إلا بوصفه موجود لأجلنا . [591] والمثال المفضل عند هيدغر هو المفتاح ، إذ أن علاقتنا اليومية بالمفتاح " لا تقوم على أنني انظر إلى المفتاح ، وان أحدد مادته ووزنه وصفاته ، بل على أنني استخدمه لفتح الباب بدون انتباه ودون نظر أو تفكير ، إن المفتاح لا يجعلني أنتبه إليه أو أتفحصه إلا عندما يتعثر في أداء مهمته " وهذه هي حقيقة المفتاح ، وهكذا يتحدد وجوده ، أي بوصفه " أداة " . وفي الأداة يظهر أن " وجود الأشياء ينحل كلية في علاقته بنا " وإذا أخذنا الفن على سبيل المثال ، وجدنا أن هيدغر يؤكد أن ماهية الفن هي وضع حقيقة الكائن لذاتها في الأثر " وإذا علمنا أن الحقيقة عنده هي الانكشاف والتبيان والإظهار واللاخفاء ، لأدركنا أن الشئ يتحول إلى حقيقة عندما يتم إظهاره وكشفه . والأثر الفني يكشف عن حقيقة العالم ، لأنه يكف عن أن يكون مجرد أثر ذاتي للفنان ، ليتحول إلى كيان له بنية تحتية وبنية فوقية ، وهذه البنى هى التي تضمن له الاستقلالية والاستقرار . أما بالنسبة إلى الأدب والتاريخ فإن الذي يعبر عنها هى اللغة [591] التي تظهر الوجود وتتحدد ماهيتها في وظيفتها التأويلية التي تجعل الشئ يفصح عن نفسه ، يعني ذلك أن يصبح مبحث التأويل تمرداً على التحليل المحض والتفسير الصرف من أجل الوصول إلى حوار فكري مع ما يظهر النص ، فلم يعد الفهم مسألة تساؤل يريد أن يكون مفتوحاً وغير دوجماطيقي فحسب ، بل أصبح أيضاً مسألة تعلم لكيف ينتظر المرء ويترقب وكيف يعثر على الموضع الذي سيكشف فيه وجود النص عن نفسه ويسفر عن وجهه [261] .
IV
يتخذ التأويل لدي هانز جورج غادامير صورة الفهم Understanding " " الذي يبدأ عندما يخاطبني شئ ما ، وجواب الفهم على هذا الخطاب هو إعادة بناء الأسئلة التي يمثل الشئ نفسه محاولة للإجابة عنها ، وبناء الأسئلة يتمثل في الكشف عن ممكنات الشئ وإبقائها مفتوحة [593] فالسؤال هو اعتراف بأننا لا نعرف ، وأن الجواب لم يتقرر بعد ، فصيغة السؤال أصعب من الجواب . أن تسأل يعني أن تطرح إشكالاً ، أن تؤول السؤال تأويلاً ، وهو معرفة من جهة ونفي من جهة أخرى . أن تؤول نصاً يعني أن تتفاعل معه ، أن تفهمه باعتباره جوابًا على مجموعة من الأسئلة تُطرح عليك لفكّ رموزه ، ذلك أن أفق النص هو أفق السؤال الذي يحيط بإجابات أخرى ممكنة . [4] وفن التأويل ينطلق من مسألة أن الفهم هو العلاقة التي تربطنا مع الشئ نفسه الذي يظهر ويتطور في عنصر التراث ،[1] حيث أن " توقع المعنى الذي يحكم فهمنا لنص ما ليس فعلاً ذاتياً ، إنما هو فعل ينبثق بما يربطنا بالتراث . فالتراث ليس مجرد شرط مسبق ثابت ، إنما نحن بالأحرى ننتجه بقدر ما نفهم ونشارك في تطوره ومن ثم نحدده نحن " [594] .والفهم ليس شئ مجرداً من بعد الزمان والتاريخ الذي هو مدخل ديلتاي للتأويل والنقد الذي سيوجهه للهرمينوطيقا الرومانسية . " إن القول بأن الفهم اللاحق أسمى من الإنتاج الأصلي ، ويمكن أن يوصف من ثم بأنه فهم أسمى ، هو قول لا يعتمد كثيراً على الإدراك الواعي الذي يضع المؤوّل في مستوى المؤلف نفسه ( كما قال شليرماخر ) ، إنما هو يدلّ بدلاً من ذلك على اختلاف لا يمكن تذليله بين المؤوّل والمؤلف تخلقه المسافة التاريخية . إذ لا بدّ لكل عصر من أن يفهم نصاّ منقولاً إليه بطريقته الخاصة ؛لأن النص ينتمي إلى مجمل التراث الذي يثير انتباه العصر إليه ، ومن خلاله يسعى هذا العصر إلى فهم نفسه . فالمعنى الحقيقي لنص ما ، النص الذي يتحدث إلى المؤول ، لا يعتمد على حيثيات المؤلف وقارئه الأصلي. فمن المؤكد انه لا يتطابق مع هذه الحيثيات لأنه يتحدد بنفس الدرجة أيضاً من طرف حالة المؤوّل التاريخية ، ويتحدد من ثم بكلية المجرى الموضوعي للتاريخ " [405] . لذا سيبرز غادامير معنى الفهم ارتباطاً بالدائرة التأويلية . فالفهم ينشأ من العلاقة الدورية بين الكل وأجزائه . والمقصود بالعلاقة الدورية أن نبدأ بإدراك الكل المحيط بالشئ ، والمستوعب من قبل بين الكل وأجزائه ، أو بين العناصر الذاتية والعناصر الموضوعية ، وهذه الأجزاء ، ثم ننتقل إلى التمعن بالأجزاء التي تتحدد وظيفتها التوضيحية في إطار ذلك الكل ، حيث أن فهم أي نص أدبي ، يعني إدراكنا أن هذا النص ينتمي إلى جملة آثار المؤلف ومكوناته الذاتية من جهة ، وإدراكنا شمولية السياق الروحي للمؤلف من جهة ثانية [593] . ومن وجهة نظر غادامير فإن " التأويل الصحيح يجب أن يحترس من الأوهام الاعتباطية والتحديدات التي يفرضها الفكر بما درج عليه من عادات غير محسوسة ، ويجب أن يتفرس " في الأشياء ذاتها " ( التي هي في حالة النقد الأدبي نصوص ذات معنى ، والتي هي نفسها تُعنى بموضوعات ) . فمسألة أن يدع المؤوّلُ نفسه تقودها الأشياء ذاتها لا تخضع لقرار مفرد ، ومتخذ " بتدبر" ، إنما هي " المهمة الأولى ، والأخيرة ، والثابتة " ؛ لأنه من الضروري أن يضل المرء يواصل تفرسه في الشئ عبر الحيرة التي تعتمل في المؤول ذاته . فالشخص الذي يحاول فهم نص ما هو دائماً شخص في شروع . فهو يشرع في معنى للنص ككل حالما ينبثق معنى أولي في النص . وهذا المعنى ينبثق فقط لأن هذا الشخص يقرأ النص وهو محمّل بتوقعات معينة بخصوص معنى ما . وتنفيذ هذا الشروع المسبق – الذي يُنقحُ باستمرار طبقاً لما ينبثق في أثناء سبر الشخص غور المعنى – هو فهم لما موجود . [370] . واستمرار للتأويل الذي نريد من خلاله أن نتجاوز المعنى ونفصح عنه في الوقت ذاته .
هوامش :
1 – عزت سيد أحمد : حدود التأويل ، الناشرون : جامعة دمشق ، مجلة جامعة دمشق – المجلد 28- العدد الأول 2012 ، ص : ( 516 ، 518 )
2 - عادل مصطفي : فهم الفهم ، الناشرون : رؤية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، الطبعة الأولي 2007 ،
ص : ( 68 ، 97 ، 110 ، 227 ، 261 )
3 – أمبرتو إيكو : التأويل بين السيميائيات والتفكيكية ، ترجمة : سعيد بنكراد ، الناشرون : المركز الثقافي
العربي ، الدار البيضاء ، الطبعة الثانية 2004 ، ص : ( 29 ، 33 )
4 – هانس غيورغ غادامير : مدخل إلى أسس فن التأويل ، ترجمة وتقديم ، محمد شوقي الزين ، (بدون تاريخ )
ص : (1) ، http://www.aljabriabed.net/n16_08azin_gadami.htm.
5 – رشيد الحاج صالح : مكانة التراث وتأويله عند غادامير ، الناشرون : جامعة دمشق ، مجلة جامعة دمشق
– المجلد 30 - العدد 2+1 - 2014 ، ص : ( 585 ، 586 ، 589 ، 591 ، 593 ، 594 )
6 – ديفيد جاسبر : مقدمة في الهرمينوطيقا ، ترجمة : وجيه قانصو ، الناشرون : الدار العربية للعلوم – ناشرون
منشورات الاختلاف ، الجزائر العاصمة ، الطبعة الأولي 2007 ، ص : ( 121 ، 146 )
7- محمود سيد أحمد : دلتاي وفلسفة الحياة ، الناشرون : دار التنوير ، بيروت ، الطبعة الثانية 2005 ،
ص : ( 13 ، 14 ، 28 ، 41 )
8 – جون غروندان : ملامح كونية الهرمينوطيقا ، ترجمة : مصطفي العارف ، الناشرون : مؤسسة مؤمنون بلا
حدود ، المغرب ، الطبعة الأولي 2015 ، ص : ( 3 ، 4 )
9 – هانز جورج غادامير : الحقيقة والمنهج ، ترجمة : حسن ناظم ، علي حاكم صالح ، الناشرون : دار أويا
للطباعة والنشر ، طرابلس ، الطبعة الأولي 2007 ، ص : ( 370 ، 405 ، )