حين قدم نيتشه مبدأي الخلق والفرح، كالشيء الأساسي في تعليم زرادشت، فثمة فعالية بشرية من وراء ذلك، مرتبطة بإرادة محررة ومرحة. وكلام نيتشه عن الإرادة، وخاصة إرادة القوة، لا علاقة لها بإرادة الهيمنة، بل بإرادة قوة خلاقة ووهابة من حيث الجوهر(1). إنها فعل إبداع لأفكار وإمكانيات جديدة للحياة، ورد فعل ضد معضلة الافتقار إلى الإبداع وإلى مقاومة الحاضر، كما يقول جيل دولوز. أكيد أن هذا الحاضر هو قيمة الوجود القصوى التي تتوجه لها كل إرادة أو معرفة من أجل إحداث تحويل في المنظور والحياة. الشيء الذي يفرض الشروع في قلب الأولويات والاهتمامات، بإعطاء الأهمية لدور الأفراد في تقرير مصيرهم، وتجريب قدراتهم واختياراتهم، وتنظيم وجودهم. ولإنجاز هذه المهمة، لابد من إبداء تصور عن فعل التفكير، قد يساهم في تغيير دلالة الفكر أو التفكير بشكل مختلف. لكن الانخراط في هذه الصيرورة، يقتضي العمل على الذات من أجل بنائها، كي تكون على استعداد لتعلم التفكير(2)، وتعلم الحياة .
في موانع الفكر
تتمثل العراقيل التي تقف أمام قيام فعل التفكير، في حلول هذا العدد الهائل من "القضاة"، والذي جعل تاريخ الفكر يمتزج بتاريخ للمحكمة(3). إذ أن البحث المضني عن الأفكار الصائبة والصحيحة، أفضى إلى قيام محاكمات أساءت إلى الفكر ومهمته، وأثارت ردود فعل لا علاقة لها بالإبداع والإنتاج. بل ساهمت في منع قيام لقاءات بين ممتهني الكتابة، واندلاع خصومات مستمرة أساءت إلى غايات الفكر. لكن ما يثقل كاهل الفكر، هو المحاكمة الكبرى للوجود، المبنية أولا على تصورات ميتافيزيقية وأخلاقية صلبة، تقوض كل إمكانية تستهدف تحرير الفكر من سلطة التمثيل والتشميل، وثانيا على مفهوم للحقيقة يضعها في تعارض مطلق مع الخطإ، تكون نتيجته الاستغراق في البحث عن ذلك التوافق الهادئ بين فكر وموضوع، يصير معه إدراك العالم وأشيائه منوط بالفكر والخيال والذاكرة(4). تتظافر إذن هذه العراقيل وتترابط لتؤسس للصورة الوثوقية للفكر المبنية على جملة من التصورات القبلية ونماذج الفهم والتمثل التي تنسل إلى أنساق الفكر والمعرفة ، لتأخذ فيها صورة "المسلمات" والمبادئ المؤسسة للتفكير(5). تفترض هذه المسلمات ضرورة الإدعان والامتثال والخضوع للحقيقة المتعالية التي ترسخت عبر الزمن، عن طريق تفعيل إجراءات وألاعيب وطقوس ومؤسسات. يتساوق مع هذه الصورة الوثوقية للفكر، واقع جديد مبني على ثقافة الاستهلاك والمنطق الربحي. هكذا صارت الحياة تأخذ قيمة عدم بمقدار ما يجري نفيها والحط من قيمتها، والحط من القيمة يفترض دائما وهما، ولعل هذا الوهم الجديد هو"البضاعة". فالحياة المعاصرة تقاس بمقدار ما يستهلك الفرد وليس بما ينتج. لذلك نرى الآن صعوبة ولادة المبدع، بل صرنا نفتقر إلى الإبداع، نفتقر إلى مقاومة الحاضر، يؤكد جيل دولوز.
في تفاؤل الفكر
حين أعلن مارتن هايدغر، إننا لا نفكر بعد، فثمة أصل لهذه الموضوعة لدى نيتشه؛ ننتظر القوى القادرة على أن تجعل من الفكر شيئا فاعلا، فاعلا بصورة مطلقة، الفاعلية القادرة على أن تجعل من الفكر إثباتا(6). تلك القوى التي تنتمي إلى الحاضر، وتتأثر بما يجري فيه، قوى يتواصل عندها خط الوجود بخط الفكر غاية في إبداع إمكانات جديدة للحياة. لذلك دعا هايدغر إلى ضرورة اختيار المساءلة الأكثر جدارة التي تخول بحق، الترابط والتماسك الضروريين لإبداع خلاق ينفتح على المستقبل. إبداع يدع كل ما هو قائم هنا في مكانه، ليعمل من أجل حصول تحول في ماهية الإنسان كضرورة نابعة من الوجود نفسه(7). لكن تحقيق مطلب الإبداع والتحول، يفرض الإنخراط في بناء الحاضر، عن طريق فحص وتشخيص الصيرورات الراهنة، وتهيئ الوسط الملائم لاحتضان الفرد المبدع، أملا في بزوغ الجديد والمهم . لكن هذا المطلب تعترضه مشاكل حقيقية، مرتبط بالتوجيه والتحكم، والتأثير الأمثل على الأفعال والسلوكات، والتفسخ الاجتماعي والفوضى التي ينشرها عصر الاستهلاك. على هذا الأساس تتعالى عدة أصوات للتنديد بالشكل الحالي للدولة الديمقراطية، المدعمة بكوجيتو التواصل، والذي ساهم بشكل كبير في انحطاط وابتذال الحياة، وانتشار أنماط من الحياة ومن التفكير –من أجل- السوق، فيكاد الفكر ذاته يقترب أحيانا من حيوان يحتضر أكثر مما يقترب من إنسان حي، حتى وإن كان ديمقراطيا(8). ضد منطق هذا العصر، ننادي بأعلى صوتنا على الفرد المبدع، الذي بإمكانه أن يعمل ضد العصر، ويعطي معنى آخر للفكر، و يجعل منه قوة لا تختزل في الوعي، فكر يمضي إلى أقصى ما تسطيعه الحياة، فكر قد يمضي بالحياة إلى أقصى ما تستطيعه (9). إن تفاؤل الفكر هو تعبير أصيل عن تلك القرابة الرائعة بين الفكر والحياة: الحياة الجاعلة من الفكر شيئا فاعلا، والفكر الجاعل من الحياة شيئا ما إثباتيا(10).
الفكر والحياة
يشكل الولع ب"عالم الأشياء"، حسب عبارة جورج سيمل، أعظم شكل ارتكاسي للحياة المعاصرة، حيث انتشار أنماط من التفكير والحياة من أجل السوق، وسيادة المنطق الربحي في العلاقات الإنسانية، وبالتالي الحط من قيمة الحياة تحت ضغط الوهم الجديد: البضاعة. لم تعد تقاس قيمة الحياة بناء على الإنتاج والإبداع، بل على التبضع والاستهلاك، الربح والتملك. تزامن هذا النزوع مع تطور تكنولوجيا الاتصال وأشكال الدعاية، حيث التواصل الفوري عبر مسافات شاسعة أو "مونتاج"، أي وضع الصور جنبا إلى جنب لضمان التأثير الأمثل(11)، والذي يكون من آثاره المباشرة، حسب جيل ليبوفيتسكي، توليد تفسخ اجتماعي عام ومتعدد الأشكال، خفيا ومصغرا. لهذا نؤكد مع دولوز،أن العار قد بلغ مداه الأخير، حين أضحى رجل الدعاية هو المنتج الوحيد للأفكار، والإعلام هو الإبداعية.
تفرض هذه الظواهر الجديدة التي تطبع الحياة المعاصرة على الفكر، العمل على إنتاج حقائقه كشكل للمقاومة. لكن مواجهة خصوصية العصر الحاضر يتطلب التحلي بالشجاعة والدخول في تجربة جديدة، أسميها "تجربة الفقدان"؛ فقدان ذلك العالم القديم الذي أصبح يختلف جذريا عن عالمنا المعاصر، والتأسيس لحياة جديدة مبنية على الاهتمام الزهدي بالحاضر.، وولوج علاقة عميقة مع الفكر خارج ترسبات الحداثة الضيقة، بتعبير دولوز. إن الإعلان عن هذه الرغبة في الحياة والتفكير بطريقة مختلفة، يفرض علينا مقاومة مزدوجة، مقاومة التصورات التقليدية للفكر، ومقاومة المنافسين الجدد(12) الذين استحوذوا على فضاءات الإبداع.
تتطلب مقاومة الصورة التقليدية والدوغمائية للفكر، تفعيل تجربة الفقدان، عن طريق تعنيف آني مطلوب، يسمح لنا بالانفكاك من أنفسنا، والقيام بالتدميرات الضرورية لطرق تفكيرنا الكلاسيكية. بينما تتطلب مقاومة المنافسين الجدد، الكف عن إبرام تواطؤات مخزية مع القيم والمثل والآراء التي ينشرونها، وتحويل اهتماماتنا نحو أشياء الحياة الحيوية، أي نحو ذواتنا وطرق عيشنا وعلاقتنا بالآخرين. إن المقاومة تعني هنا، الشروع في إعادة بناء عالمنا، ولتكن البداية بإبداع أحداث صغيرة جدا، أفضل بكثير من إنجاز دراما أو تاريخ، كما يؤكد دولوز.
الفرد المبدع والأمل في مستقبل جديد
يرتكز التفكير في الحياة بشكل مختلف، على مقاربة نقدية لعالمنا المعاصر، يتآلف فيها النقد والإبداع. فمن جهة النقد، من المستعجل التحول عن ذلك الاهتمام المرضي بالهوية والتراث ونقد العقل ونقد نقد العقل، لطرح مسألة الإرادة، والقوى التي تريد تحقيق كسر حقيقي لا تسامح فيه، لأنه يضع حدا لوجود الماضي، كما يؤكد سكوت فيتجيرالد. فيصير النقد اشتغالا على الحاضر وإدراكا للعالم الظاهر، وإثباتا للحياة ولبراءة الوجود. بهذا المعنى يكون فعل المناداة على الفرد المبدع، أملنا في تحقيق النقد الفعال، المبني على تدمير القيم السائدة والشروع في خلق أخرى جديدة. أما من جهة الإبداع، فنحن مطالبون بمنح تقدير أكبر للفرد المبدع ككائن نبيل؛ يعني قادر على التحول(13) و العطاء، وعلى خلق إمكان جديد للحياة. فهو الذي باستطاعته تجسيد الفضيلة السامية، أي "الفضيلة التي تمنح". فضيلة تقوم على تفعيل القوة، وتجريب ما يستطيعه الجسد، وتحرير الحياة حيثما هي أسيرة. ما يميز هذا الكائن النبيل والنادر اليوم، هو انشغاله بالعمل على ذاته وتعنيفه لفكره، غايته في ذلك تحقيق التحرر من الأنا الضيقة والميولات السلطوية الحزينة، والخروج نحو آفاق الوجود اللامتناهية، ومواجهة غلمة العالم وقوته، إنه المبدع بالمعنى التراجيدي(14).
الهوامش:
1- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، الطبعة الأولى، 1993، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1993، لبنان، ص110.
2-مارتن هايدغر: ما معنى التفكير؟ مقالة منشورة ضمن كتاب "التقنية-الحقيقة-الوجود"، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995، ص185.
3-جيل دولوز-كلير بارني: حولرات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص18.
4- عادل حدجامي : فلسفة جيل دولوز في الوجود والإختلاف، دار توبقال، الطبعة الأولى، 2012، ص96.
5- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص86.
6- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص138. يقول دولوز:"لا يجري الإنسان أبدا إلى قوى فعلية تصنع الفكر، ولا ينتسب الفكر بالذات، أبدا، إلى القوى الفعلية التي يفترضها بوصفه فكرا"، نفس المرجع، ص132.
7- مارتن هايدغر: عصور تصورات العالم، مقالة منشورة ضمن ضمن كتاب "التقنية-الحقيقة-الوجود"، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995، ص137.
8- جيل دولوز- فيليكس غتاري: ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، ص120.
9-- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص129.
10-- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص130.
11-محمد هشام: الحيوية: فلسفة تميز علوم الحياة، مجلة فكر ونقد، عدد32، أكتوبر2000، السنة الرابعة، ص36.
12-المنافسون الجدد: الإعلام ومعارفه، المعلوميات، التسويق التجاري، فن التصميم والدعاية.
13-Gilles Deleuze: Mystère d’Ariane, Magazine Litteraie, Avril 1992, p24.
14-- عادل حدجامي : فلسفة جيل دولوز في الوجود والاختلاف، ص163.