يحتل الجسد في فلسفة باروخ سبينوزا موقعا مركزيا، فرغبته في تكوين فكرة عن الطبيعة البشرية، دفعته إلى الإنخراط في عمل فلسفي رائد يهم معرفة الجسد وما يقدر عليه. فالإنسان حسب سبينوزا، يتكون من نفس وجسم، وهو موجود كما نحس به، كما يتعذر علينا الحصول على فكرة تامة ومتميزة عن هذا الإتحاد إذا لم نعرف قبل ذلك طبيعة جسمنا(1). لذلك دعا سبينوزا إلى ضرورة السعي إلى المعرفة الدقيقة بتركيب الجسد، واكتساب معرفة تامة وكاملة بانفعالاته، وتنظيمها وترتيبها وفق نظام ملائم للذهن.
طبيعة الجسم البشري
يعرف سبينوزا الجسم بمقدرته على التأثر بعدد أكبر من الأوجه، وبالتأثير في الأجسام الخارجية بعدد أكبر من الأوجة...، وكلما كان للجسم قابلية من هذا النوع، كانت النفس أقدر على الإدراك(2). تشير عملية التأثير والتأثر إلى طبيعة الجسد من حيث مقدار قوته وكمية شدته، وإلى خاصية الحركة أو السكون والسرعة أو البطء التي تميزه، ومدى استعداده لإقامة علاقات ممتدة في الزمان مع الأجسام الأخرى.
يشدد سبينوزا على كل ما يحافظ على نسبة الحركة والسكون والسرعة والبطء التي تربط بين أجزاء الجسم البشري، في علاقته بذاته وبالأجسام الخارجية. فكل ما يحافظ على نسبة الحركة والسكون التي تربط بين أجزاء الجسم البشري إنما هو حسن، وكل ما يغير من نسبة الحركة والسكون بين أجزاء الجسم إنما هو سيء(3). ويترتب عن هذا التحديد السبينوزي للجسم البشري، استبعاد تميز الأجسام من حيث الجوهر. فالجسم البشري، يقول جيل دولوز بصدد سبينوزا، لا يتحدد بواسطة جنسه أو نوعه، أو بواسطة أعضائه ووظائفها، وإنما بواسطة ما يكون قادرا عليه، وبواسطة العواطف التي يكون قادرا عليها، سواء كان ذلك في الإنفعال أو في الفعل. لهذا ينبغي، جعل الجسد قوة لا تختزل في الجهاز العضوي، وجعل الفكر قوة لا تختزل في الوعي(4).
ماهية النفس البشرية
تتمثل ماهية النفس أي قوتها، وفق منظور سبينوزا، في المعرفة والتفكير، وفي قدرتها على إدراك عدد كبير من الأشياء، ولاسيما إذا كان جسمها قادرا على التهيؤ بعدد أكبر من الأوجه(5) . لكن عملية التفكير تفترض جسدا قادرا على التأثر بطرق مختلفة وعلى التأثير في الأجسام الخارجية بعدد كبير جدا من الأوجه(6). ولن يتأتى ذلك إلا بانهمام الفرد بجسمه وتقديم الدعم لنفسه حتى يصير قادرا على إدراك طبيعة ذاته وطبيعة الأجسام الخارجية من حوله، وبالتالي حصول فضيلة الفهم والتوافق مع نظام الطبيعة الكلية. تتأسس عملية الفهم هذه على مدى قدرة النفس على تكوين أفكار تامة ومعرفة واسعة وصحيحة بالأشياء، يكون من نتائجها خضوع النفس بشكل أقل للإنفعالات المترتبة عنها، في نفس الوقت، تكون قدرة النفس على الإنفعالات قدرة أعظم. لكل هذا دعا سبينوزا إلى ضرورة التهييء الباطني للنفس بصورة أو بأخرى حتى تنظر للأشياء بوضوح وبتميز، انطلاقا من معرفتها الواضحة والمتميزة للأشياء الجزئية، أي بواسطة المعرفة الحدسية أو المعرفة من النوع الثالث. وكلما تمكنت النفس من إدراك أشياء أكثر بهذه الطريقة، كان جزؤها الذي يظل باقيا جزءا أعظم؛ وبالتالي كان جزؤها الذي لا يتأثر بالإنفعالات المناقضة لطبيعتها، أي بالإنفعالات السيئة، جزءا أعظم(7).
تقوم أصالة التصور السبينوزي للجسم البشري - أو الجسد- على الرابطة القوية التي أقامها بين الجسم والنفس. فحين يقول سبينوزا: إن المدهش هو الجسد...ولا نعرف ما يستطيعه...، فإنه لا يريد أن يجعل من الجسد نموذجا، ومن النفس مجرد تابع للجسد. إن مشروعه أكثر لطافة. إنه يريد إسقاط شبه-تعالي النفس على الجسد. هناك النفس والجسد، ويعبران معا عن الشئ الواحد ذاته، أي أن صفة الجسد هي أيضا ما تعبر عنه الروح(8).
دور الإنفعالات في الرفع من قدرة الجسد
يعرف سبينوزا الإنفعالات، بأنها تأثرات الجسم التي بها تزداد قوة فعله أو تنقص، وتعاون أو تعاق، وكذلك أفكار هذه التأثرات(9). فكلما خضعت النفس لبعض الإنفعالات، فإن الجسم يكون متأثرا هو الآخر بانفعال يزيد في قدرته على الفعل أو ينقص(10). إن قابلية الجسم البشري للإنفعال بدرجات متفاوتة من الشدة، يجعله قادرا على اكتساب معرفة كاملة بالانفعالات وترتيبها وفق نظام ملائم للذهن، بالإرتكاز على عللها وخصائصها. لهذا يعطي سبينوزا اهتماما خاصا لثلاث انفعالات أساسية تعود إليها جميع الإنفعالات الأخرى، وهي:
- الرغبة: هي الشهوة الواعية بذاتها، وإنها عين ماهية الإنسان بوصفها مدفوعة إلى القيام بالأشياء الصالحة لحفظها(11). فالرغبة تعني جميع مساعي الإنسان واندفاعاته وشهواته وإرادا(12)، وهي الجهد الذي يبدله الإنسان سعيا إلى الإستمرار في وجوده(13)
- الفرح: هو انفعال تزداد به قدرة الجسم على الفعل أو تساعد، أي انتقال الإنسان من كمال أقل إلى كمال أعظم(14). من يعرف ذاته وانفعالاته بوضوح وتميز يشعر بالفرح(15).
- الحزن: هو انفعال تضعف به قدرة الجسم على الفعل أو تعاق، أي انتقال الإنسان من كمال أعظم إلى كمال أقل (16).
يشدد سبينوزا على الفرح والحزن، باعتبارهما انفعالين يميزان الوجود الفعلي للجسد وقدرته واستعداده. فالرغبة الناجمة عن الفرح يساعدها أو ينميها الفرح ذاته، وعلى العكس، فإن الرغبة الناجمة عن الحزن يضعفها أو يعوقها انفعال الحزن ذاته(17).
تطرح مشكلة قابلية الجسد على التأثير والتأثر، تساؤلات حول كيفية تأهيله وتنميته. لذلك أكد سبينوزاعلى ضرورة لقائه بعدد كبير من الأجسام الأخرى التي تجدده باستمرار وتهيئه بعدد أكبر من الأوجه. تسهم هذه اللقاءات في امتلاكه لإستعدادات مختلفة، تسمح لجميع أجزائه بتأدية وظائفها على أحسن وجه، في نفس الوقت تكتسب النفس معرفة وخبرة تجريبية، وتكون قادرة على التفكير والفهم، وعلى تصور أشياء كثيرة.
دور العقل في التحكم في الإنفعالات
طرح سؤال العقل وقدرته على التحكم في الإنفعالات إشكالات فلسفية حقيقية، فقد آمن الرواقيون بإمكانية التحكم فيها، لكنهم تراجعوا عن ذلك وربطوا هذه العملية بالتدريب والمراس الشديدين. في حين أكد ديكارت على أن الإنفعالات تتعلق بوجه خاص بالنفس و تنتج عن بعض حركات الأرواح التي تقويها وتدعمها. يعلن سبينوزا عن دهشته من الأهمية التي يعطيها ديكارت للنفس على حساب الجسم، ويعيب عليه عدم تمكنه من إدراك ذلك الترابط بين نظام الأفكار ونظام الأشياء. يقرن سبينوزا النفس بالعقل، ويرى أن للنفس سلطانا على الإنفعالات، رغم أننا لا نملك قدرة مطلقة عليها.
كيف يمكن إذن التحكم في الإنفعالات حتى لا يصير المرء عبدا ويكون مجبرا على القيام بالأسوأ؟
ينبهنا سبينوزا إلى ذلك الترابط القوي بين نظام الأفكار ونظام الأشياء، فكما أن نظام الأفكار وترابطها في النفس يوافقان نظام انفعالات الجسم وترابطها، فبالعكس أيضا يوافق نظام انفعالات الجسم وترابطها نظام أفكار الأشياء وصورها الذهنية وترابطها في النفس(18). يتأسس هذا الترابط بين نظام الأفكار ونظام الأشياء على معرفة صحيحة بمختلف العلل والأسباب، والتي تسمح بتمييز الأفكار الصحيحة عن الأفكار الباطلة والوهمية والمشكوك فيها. وتساعد هذه المعرفة على الزيادة في قدرة الجسد، وعلى أداء عدد كبير من الأفعال، وبالتالي الخضوع إلى عدد قليل جدا من الإنفعالات السيئة.
تتأسس إذن فاعلية الجسد على قابليته للتأثر بالأجسام الخارجية والتأثير فيها، وقدرته على تنظيم وترتيب انفعالاته وفق نظام ملائم للذهن. لذلك فهو مطالب بتنظيم الإلتقاءات، والرفع من قوة الفعل، والتأثر الذاتي بالفرح، وتكثير العواطف التي تعبر عن أكبر قدر من الإثبات أو تحتوي عليه(19). وبالتالي تصير ماهية الجسد هي سعيه للحفاظ على استمرار كيانه، والبحث عن ما يقوي قدرته ويفيده وفقا لقوانين الطبيعة وطبيعته الخاصة. يطلق سبينوزا على هذه الرغبة إسم الفضيلة أو السعادة، والتي تتطلب العيش بمقتضى العقل.
الهوامش
1-باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر 2009، ص96.
2- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص268 و269.
3- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص268.
4-جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص80 و81.
5- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص103.
6- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص309.
7- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص346.
8- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات، مرجع سابق، ص80.
9- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص147.
10- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص239
11- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص211
12- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص212.
13- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص247 و248.
14- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص212.
15- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص 329.
16- باروخ سبينوزا-علم الأخلاق، ص212.