يرتبط هاجس الكتابة حول مفهوم الحرية من منطق ملاحظة الخلط الواعي أو غير الواعي الذي يتم بين المستويات الدلالية لمفهوم الحرية، والتي تستند إلى المجال التداولي الذي يستعمل داخله المفهوم. وتتعقد درجة هذا الخلط في المجال المدرسي بالنظر لحضور المفهوم في مستويات ولحظات مختلفة في الكتاب المدرسي ، ما يجعل التلميذ مذهولا أمام هذا التكرار الذي لا يستطيع كشف جدواه، فيلجأ إلى تفسيره انطلاقا من الصورة العامة عن الفلسفة بكونها حشو للكلام، ويعظم سوء الفهم هذا إذا لم يستطع المدرس بدوره توضيح الغموض توضيحا معرفيا وابستيمولوجيا يتعالى عن لحظة محايثة المدرس لإيديولوجيته أو اختياراته النظرية. فهنا بالذات لا مكان للمحايثة، بل يلزم تبني الحياد المطلق الكفيل بتجلية مكامن اللبس في النظر للمفهوم.
من الحق في الحرية إلى فعل الحرية
إن أولى مستويات اللبس المشار إليه والذي يلزم التنبيه إليه هو ضرورة الفصل بين مجالات حديثنا عن الحرية، والمقصود هنا هل نتحدث في مجال النظر أم العمل؟ فمجال النظر العقلي لمفهوم الحرية يجعلنا نتحدث عن الحق في الحرية بكونه حق نظري لجميع الناس، إلا أن امتلاك هذا الحق لا يعني بالضرورة القدرة على ممارسته، وهو ما يحيل إلى المستوى الثاني للمفهوم، أي مستوى الحرية كفعل وممارسة. ذلك أن لجميع الناس الحق في التفكير والتعبير والنجاح والسفر... وكل هذه الحقوق لا يمكن الحد منها أو منعها نظريا، إلا أن المشكل المطروح هو هل يتوفر من لهم الحق في الحرية على القدرة على ممارسة هذا الحق وتحويله إلى فعل. الأكيد أن ذلك لا يمكن أن يتم بدون توفر من يمتلك الحق في الحرية على القدرة والطاقة التي تمكنه من التفكير والتعبير والنجاح والسفر في الواقع، وذلك بتوفر الوسائل الموضوعية لفعل ذلك. لهذا فليس معنى امتلاك الحق في الحرية كفكرة هو نفس معنى تملك الحرية كفعل وممارسة.
بمجرد ما ننتقل للحديث عن الحرية كفعل وممارسة حتى تبرز "نواقض" الحرية أو مضاداتها، التي تتخذ شكل موانع وحدود وقيود تكون قدرتها على المنع من الفعل أكبر من قدرة الفرد على الفعل أو الامتناع عنه طبقا للإرادة. من هنا تبرز جوهرية فكرة (أرندت، 1972) حول ضرورة ربط مفهوم الحرية بمجال السياسة والممارسة الاجتماعية، ويمكن تبني طبيعة التداخل الذي يعتري المفهوم في علاقته بالفعل الإنساني انطلاقا من التفصيل في التقابلات الثنائية، إما على مستوى الترادف أو التضاد، وربطه بطبيعة علاقة الإنسان بثلاثة مكونات أساسية وهي:
علاقة الإنسان بالطبيعة (داخلية، خارجية)
علاقة الإنسان بالإنسان (ذات، غير (مجتمع))
علاقة الإنسان بالواجد (التطور، الخلق)
الحرية الإنسانية والعلاقة الثلاثية (طبيعة، إنسان، واجد)
علاقة الإنسان بالطبيعة
عندما نتحدث عن الوجود الإنساني فإننا نتحدث عنه داخل أوضاع مختلفة ومتعددة، ويعتبر وجوده داخل الطبيعة من أهم هذه الأبعاد، ولأن الإنسان موجود طبيعي فهو يحمل خصائص الطبيعة كما يخضع لقوانينها. إن معنى الحرية يتشكل هاهنا بكونه قدرة الإنسان على الفعل وعلى تجاوز الضرورات والحتميات الطبيعية، لذلك يستخدم مفهوم الحرية في إطار التضاد ما بين الضرورة التي تشير إلى ما لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه، وهي أيضا ما لا يمكن تصور عدمه، أي الذي لا يمكنه أن لا يكون (جلال الدين، أكتوبر 2007، صفحة 245) كما تعتبر من خصائص الكائن الحي، فعندما نتحدث عن الغذاء والتنفس والتوالد فهي ضرورات ليس بالإمكان التعالي عنها، ذلك أن تجاوزها يعني نفي امتلاك الحرية في الوجود. نظرا لكون الطبيعة الداخلية للإنسان خاضعة لقوانين الطبيعة الخارجية، بكون هذه القوانين تشكل حتمية تتعالق فيها الأسباب بالنتائج. أي أنه كلما توفرت لدينا نفس الأسباب فإننا نحصل على نفس النتائج. هكذا يرادف مفهوم الحرية في هذا المستوى مفهوم اللاحتمية، بكون هذه الأخيرة هي المبدأ العلمي الذي لا تترابط فيه المقدمات بنتائجها ترابطا سببيا. وهنا يكون بمقدور الإنسان تجاوز الحتمية الطبيعية الخارجية بناء على إعادة صياغة الشروط الموضوعية التي يعيش في ظلها، وهو ما يعني نفي حتمية الطبيعة الخارجية.
علاقة الإنسان بالإنسان
ننطلق من التحديد الفلسفي العام لمفهوم الإنسان بكونه ذات منقسمة (وعي في مقابل لاوعي) ومتعددة الأبعاد (طبيعية واجتماعية ونفسية واقتصادية وتاريخية...). فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بالوعي بهذا المعنى انطلاقا من قدرته على الاختيار بين الاحتمالات والمفاضلة بينها بغاية تحديد هويته، وبالتالي تبني إمكانيات عيشه. من هذا المنطلق يتحدد الإنسان في إطار العلاقة إنسان- إنسان إما كذات مستقلة أو كذات تعيش مع الآخرين في المجتمع. فالذات تحيل إلى ما يكون به الإنسان إنسانا، أي كل ما يستند إلى ماهية ما كالوعي والفكر أو الحرية والمسؤولية أو الإرادة... خلافا لوضعية تواجد الذات كشخصية في علاقتها بالسيرورة النمائية النفسية والجنسية للكائن، أو كفرد في علاقته بالسيرورة النمائية للكائن داخل المجتمع.
هكذا، وفي جميع الحالات لا يمكن الحديث عن حرية الذات في الفراغ (العدم)، بل في الوجود، وهذا الوجود يحيلنا إلى الوضع البشري في مجال الطبيعة (داخلية وخارجية) كما تحدثنا عنه في العنصر الأول. لذلك تطرح مسألة الحرية في هذا المستوى من زاويتين؛ زاوية نظرية تستند إلى معنى الحق في الحرية، هذا الحق يضمنه امتلاك الإنسان للوعي وللإرادة التي تمكن الإنسان من القدرة على الاختيار طبقا لقواعد وأوامر العقل الأخلاقي فتصبح "الحرية خاصية لإرادة جميع الكائنات العاقلة" (كانط، 1785، صفحة 165)، مما يحيلنا إلى علاقة الترادف بين الحرية والإرادة، إذ تعني الحرية حسب دافيد هيوم القدرة على الفعل أو عدم الفعل حسب محددات الإرادة، أي إننا عندما نختار أن نبقى في حالة استراحة فإننا نستطيع ذلك، وإذا ما اخترنا أن نتحرك فإننا نستطيع ذلك أيضا، لكن التأمل في هذا المعنى يكشف عن حقيقة مضمرة داخل الإرادة نفسها كما يعبر عن ذلك فريدريك نيتشه، بتأكيده على أن الانصياع لأوامر العقل الأخلاقي (الزهدي) القائم على الإرادة الخيرة، والذي لا يمكن أن يختار إلا الخير، فسيعني نفيا لجميع الاختيارات، أو على الأقل الاكتفاء بخيار واحد وهو اختيار الخير. الشيء الذي يعني تحول ما اعتقدناه حرية إلى إلزام وإكراه ذو طبيعة عقلية ونفسية، لذلك أطلق (نيتشه، 1887، صفحة 142) قولته الشهيرة "يفضل الإنسان اختيار العدم على عدم اختيار أي شيء"، فالمطلوب هو ضمان الحد الأدنى من الاختيارات ولو كان أحد طرفيها هو العدم.
فيما يخص الزاوية الثانية لاستعمال مفهوم الحرية، والمرتبط بمستوى العمل (الفعل والممارسة) نشير إليه في العنصر التالي:
العلاقة إنسان-مجتمع، ومفهوم الحرية كخضوع
يلزم التأكيد في البداية على أن الحرية داخل هذا المستوى التداولي لا يمكن الحديث عنها إلا بكونها ممارسة، وممارسة الحرية لا يمكن أن تتم إلا داخل المجتمع وفي إطار السياسة، وهو ما عنته حنا أرندت بقولها "إن المجال الذي عرفت فيه الحرية دائما، ليس بوصفها إشكالا نظريا، وإنما باعتبارها ممارسة فعلية في الحياة اليومية هو مجال السياسة" (أرندت، 1972، صفحة 192)، فالانتقال من حالة الطبيعة إلى المدنية (الدولة والمجتمع) نقل الإنسان من حالة الخضوع لضرورات الطبيعة الداخلية وحتمياتها الخارجية، نحو خضوع آخر، إنه خضوع للمجتمع ولعاداته وتقاليده المعبر عنها في شكل قوانين. لكن هذا الخضوع، وإن كان لغويا يضاد مفهوم الحرية، فإنه في جوهره يرادفها، فالحرية (المدنية) لا يمكن أن تتم إلا في إطار احترام القوانين والخضوع لها، وذلك ما عبر عنه بنجامين كونسطان بتحديده للحرية على أنها "الحق في ألا يخضع الفرد إلا للقوانين" أو بصيغة أخرى على لسان (مونتسكيو، 1748، صفحة 186) إنها "الحق في كل ما تسمح به القوانين، فإذا كان مواطن يستطيع القيام بفعل تمنعه القوانين فلن تكون له في المستقبل حرية، ما دام الآخرون لهم أيضا القدرة على فعل ما يشاؤون". هكذا تتحول الحرية في هذا المستوى من معنى نفي الإشراطات بكونها موانع وقيود أمام حرية الفعل، إلى الخضوع الواعي لتلك الشروط كما يحددها القانون، وذلك تفاديا لفقدان الحرية.
علاقة الإنسان بالواجد
تمهيد
نهتم في هذا العنصر بتوضيح إشكالية حرية الإنسان بالواجد الذي نعني به العلة البدئية لوجود الإنسان، ونميز في هذه العلة بين مجالين؛ مجال التداول القائم على نظرية الخلق التي تربط حرية الإنسان في النظر والفعل أي في الحق والممارسة، بحرية الله الخالق على مستويات المشيئة والإرادة و(كن فيكون). ثم مجال التداول القائم على نظرية التطور الذي يحدد الإنسان كعنصر ينتمي لنسق الوجود الطبيعي القائم على الحتمية، فإذا كن التطوريون اعتمدوا "المادية التاريخية مستندا للقول بالحتمية التاريخية، فقد حولوا الجبرية اللاهوتية (الخلق) إلى جبرية مادية" (شحرور، 2015، صفحة 144). إذا كنا قد أشرنا إلى جزء من هذا المعنى في إطار ترادف الحرية مع اللاحتمية وتقابلها تقابل تضاد مع الحتمية، فسنضيف هنا تفصيلا لمستويات الاختلاف بين التصورات التي تنطلق من نظرية التطور كمرجع نظري للفهم والتحديد، فالتصور الأول اقترن بنشأة العلوم الإنسانية (النفس، الاجتماع، الاقتصاد، التاريخ...) والتي تؤكد على الخضوع المطلق للحتميات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، وبالتالي نفي حرية الإنسان، هذا النفي قابله نفي مضاد يقوم على تأكيد فكرة أن الإنسان حر حرية مطلقة لأن وجوده يسبق ماهيته كما عبر عن ذلك (سارتر، 1960، صفحة 95)، وهو ما أدى إلى إهمال فكرة الوجود ذاتها، فعندما يوجد الإنسان فإنه يوجد داخل وضع معين، لذلك لا يمكن التفكير في حريته إلا انطلاقا من كون هذه الحرية تساهم في تغيير اتجاه حياتي من اتجاهها التلقائي إلى اتجاه أختاره بمحض إرادتي، لكنه اختيار يمر عبر سلسلة من التعديلات أجريها على وضعي الأول. وليس انطلاقا من وضعية أخلقها أنا بشكل مطلق، هكذا يؤكد (ميرلوبونتي، 1979، صفحة 519) على أن حرية الإنسان هي دائما حرية نسبية لأنها تتحدد في إطار العلاقة بالوضع الذي يوجد عليه الإنسان.
نظرية الخلق: الإنسان بين الجبر والاختيار في التداول الإسلامي.
يتعقد الحديث عن الحرية في هذا المستوى بالنظر إلى أن المطلوب ليس هو الحديث عن حرية الإنسان في علاقة بظاهرة أو بوجود طبيعي غير واع، بل إن الأمر يتعلق بالحديث عن حرية الإنسان باعتباره موجود وجودا نسبيا في إطار علاقته بوجود مطلق (الله)، ثم الحديث عن حرية الوجود المطلق (الله) من حيث الحق في الحرية (المشيئة والإرادة)، ومن حيث ممارسة هذه الحرية (كن فيكون).
يلخص (ابن رشد، 1180، صفحة 126) أهم تصورات الفكر الإسلامي (علم الكلام) حول مسألة الحرية إذ يقول بأن "فرقة اعتقدت أن اكتساب الإنسان هو سبب المعصية والحسنة، وأن لما كان هذا ترتب عليه العقاب والثواب، وهم المعتزلة. وفرقة اعتقدت نقيض هذا. وهو أن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور، وهم الجبرية. وأما الأشعرية فإنهم راموا أن يأتوا بقول وسط بين القولين، فقالوا إن للإنسان كسبا، وإن المكتسب به والمكسب مخلوقان لله تعالى". لذلك فالحديث عن حرية الإنسان من المنظور الكلاسيكي (علم الكلام) لا يمكن أن يتم إلا انطلاقا من الحديث عن حرية الله وعلم. وهذا ما خلق نوعا من اللبس خصوصا عندما يتم الحديث عن الحرية الإلهية دون تمييز بين مراتبها، وربطها فقط بمعنى وحيد يقترن بحرية الله في الفعل (كن فيكون)، أي ربطها بالمستوى الثاني وإغفال المستوى الأول المرتبط بالحق في الحرية، وهو ما يستند إلى معاني الإرادة والمشيئة الإلاهية. فعندما نتحدث عن علم الله في علاقة بحرية الإنسان كما يشرح ذلك (شحرور، 2015، صفحة 150) فإن علمه هو "علم بكافة الاحتمالات قبل وقوع الحدث، ولكنه ليس علم حتميا بأي خيار أو احتمال سيتخذه زيد أو عمر، لأن هذا يفضي إلى جبرية تنفي مسؤولية الإنسان عن فعله واختياراته. إن هذا القول يضع علم الله ضمن الاحتمال الواحد، وهذا هو عين الجبرية وعين نقصان المعرفة والاحتمال الواحد هو الإكراه، لأن الإنسان مجبر على أن يقوم بهذا الاحتمال وإلا يصبح الله ناقص المعرفة إذا لم يسلك الإنسان هذا الاحتمال"، لكل ذلك وجب التمييز بين علم الله المطلق بجميع احتمالات السلوك الإنساني، بكونه علم احتمالي، وبين علم الله اليقيني بالسلوك الإنساني الذي يتحقق بعد قيام الإنسان بأفعاله ومسؤوليته عنها مسؤولية كاملة، من حيث ان له الحق في الحرية (نظريا) وفي ممارسة هذه الحرية (واقعيا).
خلاصة
يمكن فهم تمثل مفهوم الحرية إما كفكرة أو كفعل وممارسة انطلاقا من الوعي بالتقابلات التي يطرحها المفهوم سواء من حيث الترادف أو التضاد. فالوعي بالمجال التداولي للاستعمال (الطبيعة، الإنسان، الواجد) وربطه بمستوى الاستعمال ((نظري (الحق في الحرية)، أو عملي (الحرية كممارسة وفعل))، يجعل المفهوم يتقاطع مع مفاهيم واضحة الدلالة والمعنى، إما على سبيل الترادف أو التضاد.
ببليوغرافيا
ابو الوليد ابن رشد. (1180). الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة (الإصدار 2009). سراس للنشر.
ايمانويل كانط. (1785). أسس ميتافيزيقا الأخلاق. (محمد فتحي الشنيطي، المترجمون) بيروت: دار النهضة العربية.
جون بول سارتر. (1960). نقد العقل الجدلي. غاليمار.
حنا أرندت. (1972). أزمة الثقافة. غاليمار.
سعيد جلال الدين. (أكتوبر 2007). معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية. تونس: دار الجنوب للنشر.
فريدريك نيتشه. (1887). جينيالوجيا الأخلاق. (محمد الناجي، المترجمون) افريقيا الشرق.
محمد شحرور. (2015). القصص القرآني: قراءة معاصرة (الإصدار 3). بيروت، لبنان: دار الساقي.
موريس ميرلوبونتي. (1979). فينومينولوجيا الإدراك. غاليمار.
مونتسكيو. (1748). روح القوانين. انادي الفرنسي للكتاب.