لا تخرج كتابات "طه عبد الرحمن "عن نطاق بناء مشروع فكري ثقافي إسلامي مرتبط بالمجال التداولي؛ لأنه كلما كان متصلا بمجاله التداولي؛ يمكن أن ينتج معرفة؛ومن ثم يتحرر من التقليد، وقد اكتسب هذا المفكر من هذا المجال خبرة معرفية ولغوية وروحية خاضها مند عقود،فمشروعه الفكري واسع ومتسق؛وأبحاثه تدور كلها حول مجالات معرفية عديدة أبرزها التداوليات،والترجمات،والأخلاقيات،مما جعلنا نفترض مند البداية أن هناك بعدا روحيا يعالج من خلاله اشكاليته في ما بين الدين والسياسة.
لا أحد يجادل بأن هناك صعوبة للإحاطة بمجمل القضايا التي قدمها "طه عبد الرحمن "في كتابه "روح الدين"، ولاسيما مقاربته الروحية التي يحاول من خلالها إعادة النظر في الاعتقادات الراسخة والمسلمات المقررة ؛إذ يقول "أن مقاربته هذه؛ ليست بتاريخية،ولا سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية،ولا فقهية ،ولا فكرانية ،وإنما روحية، أو قل مقاربة ذكرية غير أفقية .." من خلال هذا القول يظهر أن مشروع "طه عبد الرحمن" الجديد يسعى من خلاله إلى إعادة النظر في الاعتقادات التي يضمرها الطرف الآخر؛ والتي من خلالها يجدد تعريف الدين ووظيفته الاجتماعية والسياسية والثقافية في مجال تدبير الصلة بين فعل التعبد وفعل التدبير .
ويشير الباحث والدكتور"مصطفى حنفي" "أننا نكاد لا نختلف مع دارسي الفكر العربي المعاصر،عندما نعلن أن كتابات "طه عبد الرحمن" ،في جميع ما أنجزه من مصنفات خلال العقود المنصرمة تتميز بغناها النظري وكفاءتها التركيبية وهندستها المرتبة في إطار من الإحكام والبناء والهندسة والبرهنة إضافة إلى استثمار معارف ومفاهيم لا حصر لها"، فهو يرى أن هذه العناصر أساسية ،وبمقتضاها يمكن جلب القارئ ولفت انتباهه والتأثير عليه وإقناعه بصحة دعواه ،فعندما نقرأ كتابه "روح الدين "نجده يضيف إلى كل ما سبق كفاءة جديدة تتجلى في كون الإشكال الذي يقدمه "طه عبد الرحمن" يستوقف العديد من الباحثين،كما يستغرق أكثر من اهتمام ،فهو "يستوقف الفاعل السياسي كما يستوقف الفاعل الديني،والفاعل السوسيولوجي والمثقف والفيلسوف"،إنه يثير إشكالية جديدة تتعلق بإشكالية بين الدين السياسة؛ هذه الإشكالية هي التي حيرت العديد من الفلاسفة والعلماء ورجال الدين،ولا زالت تحيرهم حتى الآن؛ مما تطلب من "طه عبد الرحمن "أن يهتم بهذه الإشكالية،ويقدم من خلالها مقاربة جديدة؛ نعتها بالمقاربة الروحية التي لا تخرج عن نطاق أن الدين الإسلامي هو "دين الفطرة".
ينطلق "طه عبد الرحمن" في هذا السياق ؛بالبحث عن العلاقة الوجودية بين "التعبد والتدبير"؛أو بالتعبير المألوف" الدين والسياسة "؛اللذين يعتبرهما أنهما عالمين متقابلين ،يتخذ في الواحد منهما عكس الآخر،فيكون الدين عبارة عن تنزيل ،بجعل العالم الغيبي مشاهدا في العالم المرئي،وتكون السياسية عبارة عن تنزيه ،بجعل العالم المرئي متواريا في العالم الغيبي، بمعنى أن "طه عبد الرحمن" يحصرهما في مفهومي التشهيد والتغيب،ويجرى البناء الاستدلالي على هاتين المقولتين،بالقول" إن الدين والسياسة لا يشكلان مجالين مستقلين من مجالات الحياة الإنسانية ،بل هما طريقان متقابلان للفاعلية الإنسانية ،يتوصل بهما الإنسان إلى تحقيق أغراض معينة ،تحيقياً يأخذ في عين الاعتبار العلاقة بين العالمين المرئي أو الغيبي ،أو بالأحرى التعبدي أو التسيدي،ذلك إنطلاقا من قناعة "طه عبد الرحمن" التي تنهض بإعتبار أن الإنسان يحيا في عالمين اثنين:عالم مرئي يتواجد فيه الإنسان بجسمه وروحه؛ وعالم غيبي يتواجد فيه بروحه ،فالمراد من هذا القول هو إبطال المسلمة التي تحصر الوجود الإنسان في عالم واحد،وأخذه بمسلمة بديلة تجعل الوجود الإنساني يتسع في أكثر من عالم واحد.
-1وجود الإنسان في عالمين لا في عالم واحد:
يشير "طه عبد الرحمن" في كتابه "روح الدين" أن الإنسان يعيش في عالم المرئي والعالم الغيبي ،وهو ما يعبر عنه بقوله :"أن الإنسان يحيا في أكثر من عالم واحد"،هذه العبارة هي التي جعلها تنزل بمنزلة مسلمة "تعدية الوجود الإنساني"،فالحقيقة إذن؛ أن حياة الإنسان لا تقتصر في العالم المرئي،بل تتعداه إلى عالم غير مرئي-أو قل عالم غيبي- سواء تعذرت رؤيته في الحال أو تعذرت في المستقبل،كما أن للإنسان أن يرى معاني العالم الغيبي في مباني العالم المرئي إذا ما توسل بفطرته الروحية التي لا تجعله ينسب الأشياء لذاته أو لنفسه كما يفعل العلمانيين.ومن ثمة وصل" طه عبد الرحمن" بوضع تمييز بين الإنسان الأفقي(العلماني)التي يجعل حياة الإنسان ينحصر فقط في عالم واحد ،فتكون هذه الحياة لا معنى لها ؛لأنها لم تأخذ بالصلة الجامعية بين العالم الدنيوي والأخروي،بينما الإنسان العمودي أو الإنسان المتعدي وهو الإنسان الذي يتسع وجوده لأكثر من عالم واحد فهو يكون" منوجدا "في العالم المرئي و"متواجدا" في العالم الغيبي؛إذ يقيم في الأول بجسمه مزدوجا بروحه ؛ في حين أنه يعرج إلى الثاني بروحه.
يظهر إذن؛ أن حياة الإنسان تتشكل بإزدواج المرئي بالغيبي ،إذ أن الإنسان في حقيقته كائن حي ذو طبيعة متعدية لا قاصرة ،فهو يحيا حياة موسعة أشبه بحياتين متلازمتين –أو قل متزاوجتين – إحداهما عبارة عن عالم من المرئيات يوجد فيه ببدنه وروحه؛والأخرى عبارة عن عالم من الغيبيات يتواجد فيها بروحه؛فهذه هي الحياة الموسعة .
2- العلمانية الملابسات:
يرى "طه عبد الرحمن"" أن مصطلح العلمانية ملتبس الدلالة، ويظهر هذا اللبس في كونه غير مطابق لمصطلح اللائكية،غير أننا ما نلاحظه أن الاستعمالات الشائعة لهذا المصطلح؛ تتحدد في تعريفhaward boker » الذي يضع هذا المصطلح نسبة –غير قياسية –إلى "العالم" والى العالمية secularism »، « أو العلماني secular » « الذي يتبناها سواء كان فردا أو جماعة معينة،ووضعت كمقابل للمقدس –اللاهوتي الكاتوليكي-أو كمقابل" لخارق الطبيعة"أو التقليدي –الجامد-الذي لا يؤمن بمبدأ التغيير والتجديد،فهي كمقابل لما هو "ديني "وكهنوتي"على النحو الذي عرفته أروبا الكاتوليكية في العصور المظلمة .
هذا هو مصطلح العلمانية ؛الذي رفض أنصاره مفهوم"الدولة الدينية" أو"المجتمع المقدس"أو "المؤسسات المقدسة "أو الإكليروس المقدس" أو سلطة الكنيسة المقدسة؛ واتجهت دعوتهم بالانطلاق من الواقع أي الدنيا أو العالم ؛والاحتكام إلى علوم هذه الدنيا وقوانين هذا العالم ،فلعبوا الدور الرئيسي في نقل أروبا من العصور المظلمة إلى النهضة والتنوير .
وقد أخذت العلمانية طورين:الأول تحدد في عزل الدين والكنيسة عن ممارسات الدولة البرجوازية ،وقد عرفت أروبا العلمانية بهذا المعنى في طور الأول مع مفكرين من أمثال هوبر وروسو ولوك".والثاني نطلق عليه اسم العلمانية الثورية مثلها "ماركس "1889-1818"ولينين"1963-1871"استهدفت هدم الدين على حساب العدل الاجتماعي بإسم الإشتراكية أو الشيوعية .
3-العلمانية وشكلها المتداول
تتحدد المرجعية العلمانية في الفصل بين الدين والدولة ،وترى أن الخوض في المسائل الدينية ليس من اختصاص الحاكم ،بإعتبار أن هناك حدود فاصلة بين العمل الديني والعمل السياسي ،وصيغتها الإجمالية كالآتي"لا سبيل أن يضع المواطنون قوانينهم بأنفسهم، مدبرين لأمورهم العامة إلا بتقرير الفصل بين العمل الديني والعمل السياسي"،إلى جانب هذا نجد العلمانية تتفرع كذلك عن إحدى مبادئ الحداثة ،أقصد مبدأ الفردانية ،إذ أن الفرد في المجتمع الحداثي هو الحاكم لنفسه وليس من حق الدولة أو أي سلطة ممارسة وصاية عليه، إلى جانب هذا ينظر إلى الحرية على أنها أساس دولة الحداثة ؛يقول محمد الشيخ "الدولة الحداثية عموما دولة الحرية و دولة الحق الطبيعي..." بمعنى آخر أنها "دولة بمعزل عن الدين".فهي دولة اعتزلت الأخذ بالجوانب الروحية وارتبطت فقط بكل ما هو مادي ،إذ يقول "طه عبد الرحمن" في هذا المقام "زمن العلمانية كله مصروف من العمل الأخروي"ويضيف "أن العلمانية اختزلت مفهوم العمل في الشق المادي ؛ عندما حاولت تداول معانيه البرانية في الشأن العام ،بل حرمت تداول رموزه ،ولا حتى النطق بكلماته؛بحجة أنها أمور باطنية خاصة ".لم تقف العلمانية إلى هذا الحد بل شغلت عقول الناس بالعمل السياسي أكثر من اشتغالهم بأمور دينية ؛فاصلة إياه الدين بالسياسة، واستفرادها بالعمل السياسي ؛وجعلت منه أساس صلاح الفرد والمحددة لهويته .
يتضح إذن ؛أن العلمانية صرحت بضرورة الفصل فيما بين الدين والسياسية،هذا الفصل هو الذي انتقده "طه عبد الرحمن"،حيث يرى أن العلماني عمله يرتبط فقط بما هو مادي ،مما ينتج عنه أشكال تسيدية جديدة تقضي بتضييق الوجود الإنساني.
4-دعوى الائتمانية وتوسيع الوجود الإنساني
لقد جعل "طه عبد الرحمن" هذا المفهوم الائتمانية من الألفاظ الرامية إلى التأثير على المتلقي ، فإختياره لهذا المفهوم لم يأتي بصفة اعتباطية بل لإعتبارات خاصة مرتبطة بموضوع البحث ،مما تطلب منه أن يضع أي مصطلح في محله قصد جلب القارئ بقراءة نص خطابه دون أن يقع في الغموض أو يدفعه إلى النفور والابتعاد عن القراءة ،فالغاية عند المؤلف هي إقناع المتلقي بصحة دعواه التي تقول بوجود "الوحدة الأصلية" بين الدين والسياسة أو على الوجه الأدق التعبد والتدبر، هذا المفهوم يختلف عن مفهوم العلمانية ،فإذا كانت الأولى تقول بالفصل بين الدين والسياسة ، فإن الثانية تقول بأصل واحد لا ثاني له هو الأمانة ،وهذه الأمانة هي التي تسمى بالتدبير التعبدي ،أو نسميها اختصارا "التعبد والتدبر"، فالأمانة حقيقة واحدة لها وجهان يختلفان بإختلاف النظرة إليها،ف إن نظرنا إليها من جهة تعلقها بالعالم الغيبي تسمى تعبدا،وإن نظرنا إليها من جهة تعلقها بالعالم المرئي تسمى تدبرا ،فكل هذه الأسماء تعد إذن؛ حسب دعوى الائتمانية ألفاظا مترادفة ،إذ تفيد كلها أن الإنسان يحمل حفظ الأحكام الإلهية ،لا في ظاهرها كأوامر فحسب، بل أيضا كشواهد ،سعيا إلى توسيع وجوده إلى أقصى مداه،عن طريق القيام بأعمال تزكوية؛ بإعتبار أن العمل التزكوي له فوائد من شأنه أن يحرر الإنسان من شتى الأشكال التسيدية ،ومن ثم تصبح له القدرة في أن يرى العالم الغيبي في مباني العالم المرئي متوسلا بفطرته الروحية،على عكس العلماني الذي ينقل العالم المرئي إلى كمالات العالم الغيبي متوسلا بنزعته النفسية التي تجعله ينتسب الأشياء إلى ذاته، فهكذا يكون فعل العلماني ينزل إلى أسفل المراتب ويتساوى مع العقل المجرد ففعله هذا؛لا يخرج إذن ؛عن نطاق ممارسة التغييب الذي ينتج عنه تضيق الوجود الإنساني،في المقابل عندما نجد الإئتماني من خلال قيامه بفعل التشهيد يكون مدركا للمعاني الروحية ،مما يجعل عمله يرتفع إلى أعلى المراتب فتصير عقلانية الائتماني مؤيدة،فالعمل الديني له دور كبير في تحرير النفوس وإخراجها من الضيق،فالدين يقدم رسالة إنسانية للبشرية جمعاء، ويقضي على كل الأخطار التي تأتي من الحضارة الغربية .
-الوجود الإئتماني حقيقة لا وهم
يدافع "طه عبد الرحمن" في كتابه "روح الدين"عن دعوى لوجود الإئتماني بأنها حقيقة لا وهم"،وقد خصص في هذا المقام مقالة جامعة ومركبة يثبت أطروحته ،بغية مجاوزة الرد الذي يحتمل أن يورده العلماني أو الدياني على الدعوى الائتمانية باعتبارها أحد أهم الكنوز المعرفية في هذا العمل؛ فدعوى الإئتمانية "فلا يطيقها العقل ولا يتسع لها الواقع".
يتضح إذن مما قيل سابقا بأن"طه عبد الرحمن"حامل لمطرقة الاستدلالية، وبمقتضاها بين دعوى الائتمانية،واعتبر بأن لها أفق واسع ،ومن خلالها نتجاوز دعوى العلمانية الملابسات المرتبطة بها ،وبالتالي فإختياره"لمصطلح الائتمانية كان اختيارا دقيقا؛ لأنه يدرك "أن تحديد المفاهيم هي مدخل للمعرفة ومدخل لضبط السلوك المعرفي لدى الإنسان"، والتأثير على المتلقي بصحة مقاربته الروحية فيما يتعلق بإشكالية الدين والسياسة.