كرس الجهد الفلسفي عبر تاريخه عملية تثمين جهود اللاإنقياد لفلسفات الشمول والركوع للفرد أو المجموعات التي تسيطر عليه تحت ظلال الدوافع الدينية أو النظرية الإنسانية؛ وأخذ هذا المسلك في التقادم عبر العديد من المفكرين الذين أسهموا بالتنظير لنزوع الفرد نحو استقلاليته الذاتية في إطار مسؤولياته الاجتماعية بحيث لا تبعثه على التصادم والاحتدام بل تقوي فعله الحرياتي في اختيار أنماط الحياة بمستوياتها المختلفة.
يتمظهر الفرد بوصفه كائنا حرّا بأنه يحمل مشروعات حضارية وتاريخية تبعثه على التطور في الإبداع ولا يتحقق هذا إلا من خلال النظر في حالة الفرد داخل منظومة المجتمع وعلاقاته الموسعة فيه وكذا من خلال علاقته بالنظام السياسي في شكله الديمقراطي أو الشوري الذي يبدأ بأول ركيزة مهمة هي دوره في الاختيار الخادم لطموحاته المتعددة وفق ما يخدم كينونته ومستقبله.
وهذا الحديث عن الفرد يتجاوز كينونته البيولوجية بحيث يتعمق الطرح في تباحث روابط الفرد مع الأنماط البشرية أو الأنماط الاجتماعية أين يسائل حول وجوده وقيمه وأُفقه وبأي معايير يمكن له الانخراط في المنظومة في شكلها بتركيباتها المختلفة. ومن خلال هذا نتوجه لطرح السؤال التالي: كيف يفصل الفرد بين سلطة التاريخ وذاته المستقلة؟
لقد استرقت تركيبية "سلطة التاريخ" شرعيتها من ثلاث مستويات أساسية أولها؛ الطابع الوراثي (البيولوجي) أو الأبوية في شكلها القبلي الذي يحيط الفرد بإطار مجتمعي سيء ومحيق يفرض عليه نوعا من التراجع والتوضيع والتركيع في سبيل الحفاظ على العادات والتقاليد والتراث وما خلفه تاريخ ذلك النسب أو تلك القبيلة فتلغى الكفاءة والمهارة والانفرادية استجابة لنوازع هذا النمط من الفرض لمختلقات رديئة تصورها الأبوية على أنها قانون مطلق يجب السير عليه حتى الفناء. إن هذا المبدأ يقتل النمط المتعالي والراغب في اصطناع أحداث الحياة ومناهجها وفق الإبداع الذاتي والإجراء الفردي الذي يفكر بطريقة مختلفة أو متحضرة وإلى حد ما بطريقة استثنائية تؤهله لبناء واقع معين بفروض جديدة وطابع مختلف يحترم قدسية الذات ويكرس الفعل المنسجم مع إرادة الحياة وجمالياتها. فالذي بنى أمجادًا لنفسه في ماضي القبيلة لم يعد بالضرورة يمثل الاستثناء في حاضر الفرد هذا الأخير الذي يبتغي سلطة على ذاته يقنن حيثياتها ويرى فيها الجميل منفكا عن آثار ومآثر الغَصب المجتمعي.
ثاني؛ أنواع السلطة التاريخية هو "الشرعية السياسية" التي تحكم باسم الأغلبية، فغالبا ما يكون مآل الإنسان داخل هذه الأطر يعيش حالة من الاغتراب والاضطراب من خلال الانصهار في أنساق فوضوية بطريقة تنظيمية عهدت أن تخبرنا بأنها نموذج متحضر في الاختيار والممارسة؛ شَهد الإنسان على تقدمه وتطوره وساهم في بلوغه ونموّه، غير أن الحاكم باسم الديمقراطية يتعامل مع الفرد بوصفه مجرد "مُسمى" أو "عدد" أو حتى "رمز" وهذا ما يؤدي إلى إلغاء الذات الجميلة بمدعاة "الكثرة العددية" فهو مجرد طريق جديد للتوسل وإخضاع الرأي الحر لقاعدة الاقتراع مما يُهمش الاستقلالية ويُدمر النزعة الانسانية. والحال أن هذه الأنماط تختلقها طوائف صغيرة العدد قوية المال والحضور للمساهمة في حفظ نوعها واغتيال الضمير العالي وفق ما هو استقواء الكثرة على الندرة، باستعمال كل الآليات الإقصائية في ذلك من أهمها الترويج في الإعلام الرسمي والسيطرة المالية والحيل التفاوضية التي تربط أصحاب المصالح المشتركة فيم بينهم إنه حالة من الدعوة للقضاء على التميز الفردي والاستقلال الذاتي في التعاطي مع موضوعات السير السياسي وتعميمه وفق ما يناسب الحاكم المطلق.
وثالث؛ الأنواع وأكثرها خطرًا وتهديدا للفرد بوصفه ذاتا مستقلة هو "شرعية الأبوة الثورية" أو الحديث باسم تاريخ النضال في تنشئة وتحرير الرقعة الجغرافية رغم أن مفهوم الإنسان بتوصيفاته المجردة أو الحياتية لا تستسلم لهذا النموذج من الطرح إلا أنه فرض نفسه ديماغوجيا. وهذا النوع الشائع في الدول المستبدة هو تحويل البطولة في الماضي إلى استبداد في الحاضر والرغبة في الدوام والبقاء ونفي وتدمير أي محاولة لبروز الذوات الجديدة الباحثة عن الإنفكاك والتقدم والتحرر من أشكال الفوضى باسم الماضي والتاريخ.
فالسلطة التاريخية بمحدداته الثلاثة تتناقل بين استبداد "مجتمع الماضي على فرد الحاضر" و"إعدام محاولات الخروج عن أنساقها المفروضة"؛ وهي بذلك تعبر عن تمزقات في هوية الفرد الماهر الـمُتشكل من مبادئ الأنا الحر وهي غاية ينشدها إنسان الشمولية والمطلقية والاستبداد فالفرد على مر تاريخه كان يبحث بتفكيره ورغبته ونوازعه عن فضاء حر يبدي رأيه فيه ويتواصل مع الذوات الأخرى وفق مكانته وحدوده اللازمة للاحترام والتضامن والتشارك القانوني والحب الموضوعي في إطار ما هو علاقة روحية أو إنسانية وإلى حين تهديم أصنام السلطات التاريخية وجب بدئيًا إعادة النظر في بنائية الخطاب النقدي للسلطات الثلاث وتوفير التربية النضالية المناسبة لتحرير الأفراد من أشكال السيطرة والخمود. وذلك من خلال العودة إلى تشجيع المهارة خارج القيود المفروضة عليها أو التي تحد من تطورها وتبَني مشروعيات التفرد والتفكير لتفعيل مجريات الإنوجاد والتحدي بغية استفزاز واستظهار النوع الملائم لقلب كل المعايير الدنيئة التي سيطرت عليه وارتكنت راهنيته واعتباراته.