يحيل إصطلاح الفلسفة كمحبة للحكمة - فيما يحيل - على لحظة اِلتقاءٍ بين عالمين: عالم الشعور وقد انضاف لعالم الوعي ليشكلا عالما إنسانيا من الأمل و التأمل. هذه الإرادة ذات النزع الإنساني تتضمن الآخر في أحكامها كضرورة أنطولوجية وكقصدية أخلاقية ، وأيضا كشرط للتفكير بالتصور الدولوزي. ربما لأن ما ترتبط به الفلسفة كما يقول هيدغر1 يقاربنا و يلامسنا في كينونتنا الخاصة. فالإرتباط بالحكمة و معها هو تعلق بفكرة الفكرة وحسم مبدئي بين العيش وفق الفكر أو وفق النزوة و تقلبات الضرورة ؛ لهذا تعرض ذاتها كخيار أخلاقي نابذ للمندفع المتهور ، تثق في الإختلاف و تعترف به بدل نبذه و التشكك فيه. فأي صلات تلك التي تجمع الحب بالحكمة؟ وما الذي يجعل هذا الحب ممكنا ؟ و بأي معنى يكون الحب دعامة لإمكانية الفلسفة ؟
إن الناظر بعين الحب يرى كل ما عداه كذبا ، لا تكون الكراهية هي مقابل الحب بل الكذب ؛ عدم الحب . في هذا المستوى يكون الصدق هو الحب وكل ما ليس حبا مجرد كذب و مداراة. فالذين يرتابون في الحب ويتوجسونه أو لا يستطيعونه حتى ، قد أوصدوا أمامهم كل سبل الفلسفة . لأنهم بإستبعادهم الحب يستبعدون الصداقة و بالتالي يستبعدون إمكانية الفكرة. هذا ما تنبه إليه أفلاطون السقراطي في البدء ، ذلك أن " الشخص الذي لا يتخذ الحب نقطة بداية له لن يعرف أبدا ما هي الفلسفة "2 .
لنحاول أولا التخلص من فكرة الحب كضرورة ملزمة للإرادة ؛ تلك التي تجعله واجبا و تطالب به كحق ، فالحب لا يدخل ضمن الضرورة الاخلاقية التي يتم بموجبها إخضاع الإرادة لرغبة آخر. نفس الشيء يقال عن الكراهية ؛ فنحن لا نختار بُغض هذا الشيء أو ذاك ، لأنه فعل يتجاوز الإرادة إن لم نقل أنه يخلقها. وعليه فإلزامية الحب و وجوبيته تحولانه إلى شعور متكلف ، سرعان ما ينتفي عندما تتهاون الإرادة في إخضاع الذات لأمر الحب. لذا تكون المحبة دائما حاصل المجهود الذي تبذله الذات في خروجها من تمركزها حول نفسها ؛ جهدها الخاص كوثبة نحو الفكرة التي تعين إمكانية الإختلاف. يَصدقُ كانط التصور حينما يجعل الإستطاعة شرطا للواجب فيحرر بذلك الحب من هذا العبء الأخلاقوي ؛ ما دمنا لا نستطيع الحب أو عدمه. إننا حقا لا نختار الحب بل نسقط فيه.
من هذا المنطلق تبدو الدعوة للمحبة محض حشوٍ لفظي يفتقر للحكمة ؛ لأن الناس لا يتحولون لمحبين عن طريق المواعظ ، فلا ننتظر ممن ينازع حريته السلبية أن يكون محبا ، لأننا لا نعثر على الحب عندما تغيب الشجاعة ، الإحترام ، الغيرية...لهذا نفهم لما يلح سقراط على استحالة قيام الصداقة بين الأشرار لأنهم لا يقدرون أن يكونوا محبين ؛ ما دامت المدنية هي التي تخلق فينا إنسانية الإنسان المتمثلة في مجتمع الأصدقاء الأحرار و المتنافسين. ففي 'محاورة ليسيس'3 يستدعي سقراط كل من الصداقة و المعرفة كمنطلقات لإمكانية المحبة ، لأن الصداقة متعذرة بين الأشرار الجُهّل بنفس تعذر المعرفة دون مجتمع الأصدقاء. فالفيليا كمحبة دامجة للصداقة في صلبها تدل منطلقا على المشاركة في المعرفة ، على عكس الحكمة البادية كأمر متعجرف يستأثر به الحكيم لنفسه. لهذا يوصي محاوره بتقدير المحب و عدم لومه مهما آلت جهود محبته لأنه مثلما لا يستطيع فرضه عليه لا يحق له منعه منه.
فعلى الرغم من أن فكرة الحكمة تبدو الآن في زمن العلم كمفارقة تاريخية ، حيث لم تعد المعرفة تُعمِر أطول من قائلها ، إلا أنها ما تزال تمارس إغراءاتها الأبولونية التي تنادي بضبط النفس و التعقل ضد كل اِندفاعات الجنون البشري . وإذا ما سمح لنا دولوز باستعارة لغة التحليل النفسي ، فالفلسفة في منظورها توازي تلك الدوافع الإيروسية للحياة ، التي تشتغل مقابل و ضد الدوافع التناطوسية الهدامة. لأجل هذا جسدت الفلسفة هذا الإستعداد الخير الذي يدفعنا نحو الحكمة كمطلب مضاد للعنف. المطلب الذي يعتبره إريك فايل الدور الوظيفي للفلسفة.
لهذا السبب يشتق دولوز الصداقة من الفيليا كشرط لقيام الفكر؛ حيث يشكل الصديق شخصية مفهومية وسيطة بين الفكر و المعرفة ، وبين إمكانية الفكر ذاته. فالصديق بعبارته :" لا يعني حضورا خارجيا ، مثالا أو ظرفا تجريبيا ، إنما حضورا داخل الفكر ، شرطا لإمكانية الفكر"4. فصداقة الحكمة هذه كان " الدافع لميلادها هو تحديد معايير إختيار أحقية المطالبين/المتنافسين حول الفكرة "5. هذا الصديق المفهومي - كما يبدو- يناظر إله ديكارت من جهة الوظيفة ، لكن ليس كضامن للحقيقة إنما كدافع لها ؛ فهو لا يراقب الفكر و يحميه من الزلل إنطلاقا من تعالي ما مفارق للفكر ، بل إن الصديق يؤسس الفكر من الداخل . فوحده الصديق يمنحنا الثقة في إمكانية المعرفة و الدافع للمضي في طريقها لَما يَمثُل كمحاور ضمني يشكل أفق تلقي الفكرة و الإرادة الموجهة لها ، تلك التي تجعل الفكر يتتبع الفكرة و يبني عليها و هو يعلم أن قدميه على سطح صلب.
إن سقراط على الأقل يمكنه أن يعرف لأنه لا يعرف ؛ فهو من جهة يعرف جهله ، أي أنه يعرف ما عليه معرفته ، أما من يعتقد أنه يعرف فلن يعرف شيئا آخر ، فهو إذن يتستر على جهله/حتفه بإدعاء المعرفة. لهذا لا يستطيع الحكيم ولا الجاهل ممارسة التفلسف ؛ فالأول ليس بحاجة إليها وأما الثاني فلا يستطيعها . فالفلسفة حقيقة لا تملك شيئا - مثلما لا أحد يملكها - فكل شيء يأتيها من خارجها ، حيث تشكل المعارف مساراتها الخاصة قبل أن تواصل منيرفا تحليقها لتجد ما تستمر منه. غير أنها لا تقطف ثمار العصر إبان نضوجها ، لكنها تنبت ما يصير غابة لا فقط شجرة. بمعنى أنه لا تكون الفلسفة و يكون هناك الموضوع ثم يلتقيان ضمن المصادفة السعيدة ؛ لا أحد منهما يكون موجودا قبل هذا اللقاء ،.إنها تصير موجودة حينما تعثر على مفكرها فيما لم يكن مفكرا به بعد. لأجل هذا هي لا تجتر مواضيعها بل تخلقها.
لنلاحظ أن الفلسفة محبة لا تتوخى الحكمة إنما تترصدها. تجعلنا نعيش حالة الحب الأول الذي يبقى أخيرا دائما بنظر سورين كيركجارد ، لأنه يرتبط بفكرة " فسخ الخطوبة "6، و تمنع بلوغ الحكمة ، ثم الهيمُ مضيا في مطاردتها. هذا الإمتناع الأصلي في تملك المحبوب يقود صاحبه في طريقها دائما على أمل القرب الوشيك و المتعذر. أخيل الذي لا يلحق بسلحفاة زينون. هذا المعنى نستطيع أن نعثر على منطلقاته في صيغة الفلسفة التي صكها فيتاغورس كتمتع و شوق متطلع لما يمكن إستخلاصه من كل معرفة . هذه الممارسة التي قد تكون تشكلت بين الجماعة كرياضة روحية لتفعيل العقل و تمرينه ؛ كعلم مرح لا يفرط في شغفه و افتتانه ، لأنه لا يريد أن يخسر أيضا جمالية العالم الذي يتمثله. فلا يقول الفيلسوف بتفسير موضوعه و إمتلاكه بقدر إتجاهه نحوه و سعيه لتأسيس علاقة معه. هذا ما يعبر عنه سبونفيل باقتضاب و إقتدار حينما يذكر أننا " في الفلسفة نستطيع أن نصدق دون أن نعجب و أن نعجب دون أن نصدق".7 ومرد ذلك هو كون الفلسفة لا تجد مبررها في الموضوعية أو الحقيقة ، إنما في الممرات الجديدة التي تخلقها و في المَواطن التي تصلنا بها ،" فالفلسفة - على حد تعبير دولوز مجددا- لا تهدف إلى المعرفة ، وليست الحقيقة هي ما تستوحيه الفلسفة ، غير أن هناك مقولات من قبيل المثير و البارز أو المهم هي التي تقرر النجاح أو الفشل"8
لذلك لا تقدم الفلسفة نفسها كمعرفة عالمة أو علم موضوعي ، إنما فقط تفكر في إمكانية الحياة و فق المعرفة ، كأمل و كإرادة. فصحيح أن الحكمة تبدو مشتقة بشكل مباشر من المعرفة كثمرة لها ؛ ما دام الفاقد للمعرفة لا يكون حكيما مهما كانت إرادته خيرة ، لكنها لا تختزل إليها كليا . فهي تهتم بوظيفية المعرفة فقط ، لا الحقيقة لذاتها ، إنما في الطريقة التي يتم بها توليد العالم اللائق للإنسان بواسطتها. لهذا تقول الحكمة السقراطية أن الحكمة أكثر أخلاقية من الحقيقة. فطبقا للتحليل الهيدغري للحكمة ؛ تكون السوفوس جامعة بين الإنسجام (كهرمونيا للوغوس الهيرقليطي) والإلتزام. لذلك فهي تتخطى الإبيستيموس الذي يدل على الماهر في شيء ما ، لأن الفيلسوف لا يمهر ما يقوم به فقط بل هو منسجم فيه و ملتزم به ؛ " إلتزام الظر لشيء ما ليبقى مأخوذا بعين الإعتبار"9. لهذا لا يكون الحكم المغموس في الحب إلا عادلا.
نستطيع أن نقول إذن ،أنها تلك المتجهة من الحب نحو الحكمة ؛ الجهد و الحركة التي تعرف قصدها و تتغياه. إنها تؤنسن غايتها حين تتطلع لإقامة علاقة حب متصل بها. فالحب المتضمن في الفلسفة على هذا النحو لا يلغي موضوعه و يستحوذ عليه ، بل يعضده كداعم لإمكانه. فوحده الحب يمنح الحكمة حيويتها ، الحركية الخلاقة التي تجعل الحكمة الخالدة متجاوزة دائما. لولا هذا الدافع الحي لتحولت الفلسفة إلى عقيدة عابدة للفكر عوض أن تكون إصلاحا و إعادة إنشاء له .لذلك فالحب المريد للحكمة هو إرادة خيرة آملة متأملة و ليس نزوعا أو رغبة ؛ إذ لو كان كذلك لصار مجرد ذاتوية متبجحة و إنعكاسا شرطيا. بينما 'الحب فكرة' كما يقول بيسوا ؛ العاطفة الواعية ، الشجاعة ، الآتية من الهذيان اتجاه العالم و لأجله. وهو يحوز أخلاقيته بواسطتها. الحب التي يجعل منه صاحب "بيان من أجل الفلسفة"10 إجراءا توليديا للفلسفة ينضاف للشاعرية ، الريضنة والإبداع السياسي. إنه الدافع العشقي الذي يجعل الفلسفة ممكنة ، غير أنه لا يجب تقليصه إلى حدود الرغبة كما يقول باديو - في موضع آخر-، ذلك أنها " قوة آنية ، فيما يتطلب الحب فوق ذلك الإستئناف و العناية "11. لهذا يؤسسه في "مديح الحب" كمشاركة في إنتاج العالم تقتضي الإستمرارية ، الشجاعة و خوض مغامرة إعادة خلق العالم. " الحب هو إمكانية المساعدة على ولادة العالم12 ... الإمكانية التي لا يمكن أن تكون هدية تمنح في غياب تام للمخاطرة "13.
لهذا الغرض هناك في الفلسفة ما يشبه "المهمات الخاصة " - بقول نيتشه - وفي مقدمتها مطلب "إعادة تركيب وجه الفيلسوف"14 حتى يصير قابلا لاستقبال تردد كل أصوات الكون بداخله. إنجاز بورتريه فلسفي للفيلسوف بعبارة دولوز. المهمة التي أعتقد أن ميشال فوكو باشرها من خلال شخصية الصريح الصادق الحر كإسم مستعار للفيلسوف. " الشخص الذي يتجه بكل شجاعة لقول الحقيقة مخاطرا بحياته و بعلاقته مع الآخرين"15. ذاك الذي يقول ذاته كاملة دونما مواربة ؛ يقول العالم كاملا كما يعتمل في ذاته. لكن ليس على الطريقة التوبوية للإعتراف ؛ لأن الفيلسوف يفصل مبدئيا بين قول الحقيقة و مترتباتها اللاحقة فلا يندم ، ليس لأن الندم ليس له أي جدوى ، بل لأنه لا يستطيع التنكر لذاته. الصريح الصادق الحر كما يقول فوكو " هو الذي يتكلم بإسمه الخاص مجازفا بقول الحقيقة ، كل الحقيقة "16.
الفيلسوف على هذا النحو ، يبوح بالعالم ؛ يجاهر به أمام الجميع ، يقول كل شيء ، لأن هذا الشيء الذي يتلعثم داخله " يريد أن يقال"، لأنه بادٍ و أوشك أن يقول نفسه لفرط وضوحه وبساطته. لكن قلما يقال كاملا. و لأجله يطالبنا هنري برغسون بتقبل إسهاب قائله،" فالفيلسوف إنما يتكلم طوال حياته من عجزه عن أن يعبر عن هذا الشيء الذي لا حد لبساطته "17.
________________________________________
مراجع الإحالات :
1 - مارتن هيدغر : ما الفلسفة ؟ ، ص 12 ترجمة محمد.مزيان، مكتبة الفكر الجديد 2015
2 - أفلاطون : الجمهورية ، الكتاب الخامس ترجمة شوقي داود تمراز المجلد الأول ، الأهلية للنشر و التوزيع
3 - أفلاطون : ليسيس أو محاورة الصداقة المجلد الثاني ترجمة داود تمراز ص 481 و ما بعدها.
4 - جيل دولوز، فليس غاتاري : ماهي الفلسفة ؟ ، ص 29 ترجمة مطاع صفدي ، مركز الإنماء القومي
5 - جيل دولوز، كيلر بارنت؛ ألف باء ، ترجمة أحمد حسان
6 - نفس المرجع ص 71
7 - أندري كونت سبونفيل : الفلسفة ص 28 ترجمة علي أبو ملحم ، طريق المعرفة
8 - جيل دولوز و فليس غاتاري: ما هي الفلسفة ؟ ص 97
9 - مارتن هيدغر : ما هي الفلسفة ؟
10 - ألان باديو : بيان من أجل الفلسفة ،ترجمة مطاع صفدي ، العرب و الفكر العالمي ، 1990
11 – آلان باديو : في مدح الحب ، ص 110، ترجمة غادة الحلواني، دار التنوير للطباعة و النشر 2014
12 – نفس المرجع ص 61
13 – نفس المرجع ص 46
14 – فريديريك نيتشه ، الفلسفة في العصر المأساوي ، (التصدير)، ترجمة سهيل القش
15 – ميشيل فوكو ، الإنهمام بالذات ، ص 86 ترجمة محمد ازويتة ، إفريقيا الشرق
16 - نفس المرجع ص 89
17 - موريس ميرلوبونتي : تقريظ الحكمة ، ص 56 ، ترجمة محمد محجوب، دار أمية