يتحدد الإنسان باعتباره كائنا راغبا؛ ذلك أنه لا يكتفي بتلبية حاجاته التي تمليها الضرورة الطبيعية، بل يدبر هذه الحاجات وفق سياسات للرغبة، تحدد نمط حياته، وخطة عيشه، وعلل فعله؛ وهو الأمر الذي يجعل رغباته ليست منفعلة فحسب، وإنما فاعلة كذلك، من حيث هي مصدر للمقاومة، مقاومة البلاهة والتفاهة والوهم والاستهلاك والاحتكار وغلاء الأسعار.
يُمْكِنُ مقاربة سياسات الرغبة في علاقتها بالسعادة؛ ذلك أن هذه هي الخير الأسمى الذي تتطلع إليه البشرية جمعاء، على اختلاف سياسات رغباتها؛ إذ هناك من يجد سعادته في المأكل والمشرب والمنكح، وهناك من يجدها في المال والنفوذ والمجد، وهناك من يجدها في المناصب السياسية، بينما فريق آخر يجدون سعادتهم في العِلم والحِكمة.
غير أن سُبُلَ تحصيل السعادة، مهما اختلفت، لا تعني أنها طرق مَلَكِيَّةٌ معبدة نحو هذا الخير الأسمى؛ ذلك أن المرء كلما مال إلى تحصيل اللذة، في مقابل اجتناب الألم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كان أقرب لتحصيل السعادة، وما السِّياسة إن لم تكن هي القدرة على حسن التدبير؟
تستدعي إذاً السياسة الفعالة للرغبة حسن تدبير حاضرنا، وما يفترضه هذا التدبير من عدل وعفة وحكمة وشجاعة ؛ وكلها فضائل تتِّقي الإفراط وما يترتب عنه من عبودية، مثلما تتقي التفريط وما ينجُم عنه من رهبانية.
يتبيَّن إذاً أن سؤال سياسات الرغبة هو من جنس سؤال الحاضر، وغض الطرف عن هذا السؤال هو ما يجعل الخير الأسمى المنشود مؤجلا دوما وأبدا، ومشروطا بخلاص دنوي أو أخروي، خلاص يجعلنا ننعم في الشقاء في انتظار المخلص.
إننَّا لا نملك من الحياة إلا الحاضر؛ ذلك أن الماضي مضى وانتهى، والمستقبل مرجأ دوما وأبدا؛ ومن ثمة فالسؤال الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو سؤال الحاضر، بما هو سؤال الحياة، أي كيف نحيا؟ كيف نقاوم النزَّعات الارتكاسية والاستهلاكية؟ كيف ندبِّر العيش المشترك مادام الاجتماع البشري قدرنا؟ كيف نكون، بالمحصّلة، سعداء هنا والآن؟
أما أسئلة الماضي والمستقبل، أسئلة الموت والخراب والدَّمار والوعيد والجزاء والعقاب والحشر، فهي أسئلة ميتافيزيقية، إن لم نقل مَرَضية، نظرا لما تخلِّفه في النفس من خوف هستيري، وما تولِّده من وسواس قهري، وأنواع العُصاب المَرضي التي تثنينا عن عيش حياتنا الطبيعية كما هي دون إحساس بالنقص، وتجعلنا لقمة سائغة لمافيات مجتمع الفرجة، وبائعي الدجل المقنع بالتنمية الذاتية، وشركات الأدوية المسكّنة والمنشّطة والمقوّية وغيرها من الأوهام التي تتفنن شركات الإشهار في تسويقها، فضلا عن أنها تجعلنا زبناء لتجار الدين، وقنابلا موقوتة في يد الحركات المتطرفة التي تعدنا بالحور العين، وأنهار من الخمر، وضروب متنوعة من اللذة في جنات النعيم، والحال أن شيئا من الحكمة وبضعة كؤوس رفقة من تطمئن له قلوبنا كافية لتجعلنا ننال الجنة على هذه الأرض.
إن تجذير سياسات الرغبة من خلال مقاطعة نمط الحياة الذي يكرسه مجتمع الاستهلاك، ويسوق له مجتمع الفرجة، وإبداع سياسات بديلة نحقق من خلالها ذواتنا دون ضرر بذوات الآخرين، لهو ضرب من ضروب المقاومة الفعّالة والبديلة في الوقت الذي أتت فيه الرأسمالية المعولمة على الأخضر واليابس من الثروات الطبيعية والبشرية، محتكرة البر والبحر والجو.
فهل لعموم المهمّشين والمقصيّين من نمط الحياة الذي تسوق له الرأسمالية المعولمة وما يخلفه في النفس من استيهامات من رهان آخر غير تجذير سياسات رغباتهم، من خلال مقاطعة سياسات الاستهلاك، والتَّصالح مع الطبيعة، وفضح زيف الحياة التي يكرسها مجتمع الفرجة؟ أَ لا تفيدنا حكمة الأولين لتحقيق هذا المسعى؟ حكمة أفلاطون وأرسطو وأبيقور وباروخ سبينوزا وجيل دولوز؟ أَ ليست الفلسفة وسيلة فعالة لتطوير سياسات جذرية في ضوء خبو الخطابات الوضعانية التي كانت تحمل لواء التغيير، ولم تكن ترى في الفلسفة إلا تأملات فارغة وخالية من المعنى؟