" حقا إني أعيش في زمن أسود، الكلمة الطيبة لا تجد من يسمعها، والجبهة الصافية تفضح الخيانة والذي مازال يضحك لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب ، أي زمن هذا" - بريخت-
أثارت حادثة تعرية الممثل السوري المقيم في ألمانيا لنفسه أثناء تقديمه لعرضه المسرحي ضمن فعاليات "أيام قرطاج المسرحية" بتونس العاصمة الكثير من الجدل والتعليقات وطرحت إشكاليات حرية التعبير وآداب الفنان وشروط الذوق وحقوق المتفرج وفلسفة المسرح ومراوحته بين الجرأة والاختراق والتخلق.
لعل المناخ الثوري العام الذي تمر به تونس يدفع الكثير من الضيوف إلى المخاطرة والمغامرة بالانخراط في التجربة النضالية عن طريق الانتفاضة الفنية والإبداع الجمالي وابتكار أشكال من التمرد والرفض والمواجهة ولكن واقع الحال يبين أن بعض الأنماط التعبيرية لا تدرج الا في خانة الفن الهابط وجمالية القبح وتظل مجرد تقليعات أشبه بالصرخة الطبيعية التي لا تجد صدى ولا تملك أي وقع على الجمهور.
والحق أن الفنون بصفة عامة والشعر والمسرح والنحت والغناء والسينما والتمثيل بصفة خاصة يجوز لها ما لا يجوز لغيرها فيما يتعلق بإظهار الجسد الإنساني دون تحفظات تربوية ودون وصاية اجتماعية على الفاعل الفني ويحق لها من الناحية الجمالية وفي الجهة التعبيرية تقديم منظورية متكاملة عن المبحث الفني المراد تبليغه ولقد كان الجسد حاضرا بقوة في الأعمال الفنية منذ عصر النهضة الأوربية ومحجوبا عن الفنون الإسلامية لعدة اعتبارات تيولوجية تحرم الرسم وتحتقر المادي وتغطيه بالرمزي والتخيل والمجاز.
لقد تضمنت فلسفة المسرح عند شكسبير في هملت وتاجر البندقية وعطيل والعاصفة ويويوس قيصر والملك لير وموليير قيم الاحترام الخلقي ودعت إلى اختيار الحياة الفاضلة ووجهت سخريتها نحو الميوعة والابتذال بأسلوب كوميدي يجمع بين الشك والغموض والتشويق والحبكة الدرامية والتعقد والانفراج.
كما حرص برتولت بريخت في مسرحياته الملحمية مثل دائرة الطباشير القوقازية والخطايا السبعة المهلكة وأوبرا ثلاثة قروش وكم يكلف الحديد وحياة غاليلي وطبول في الليل والقاعدة والاستثناء والبؤس والخوف في الرايخ الثالث على جمالية الاستجابة وربط بين الوعظ والتسلية والتحريض والسخرية وجعل المشاهد مشاركا في العمل من خلال التأثر والاستفزاز وتوليد الدهشة وإحداث اليقظة وتشجيعه على هدم الجدار.
هكذا يقف المتفرج أمام العرض المسرحي المثير مصدوما حائرا ويقوم بتعليق كل أجوبته على الأسئلة المطروحة وينتابه الشعور بالقرف من تعاسة الواقع المعيش والامتعاض من سوق بيع الأحوال البشرية.
لقد تعود المندسون في الساحة الفنية على الارتزاق والمتاجرة بالأعراض وكسب المال بخدمة المشاريع التدجينية والمعادية للضمير والمنتهكة للرأسمال الرمزي للأمة والتي ترتب عنها الاغتراب والتشييء والسلعنة وتدنيس القيم وتلويث الأجواء الثقافية بالدسائس ونصب المكائد والقرصنة والاحتكار والتمييز والاستفراد واستئصال للكفاءات وترويج الإشاعات والمساس من سمعة المبدعين والسطو على براءة الابتكار ومجهود الآخرين وقلب الموازين بحيث يصير التافه رائعا ويصبح الفجور مسلكا عاديا ولائقا.
من المفروض أن يتوجه المسرح نحو تحقيق أغراضه النبيلة التي تتمثل في الكشف عن المستور وفضح أشكال الاستلاب والتشويه التي تتعرض لها آدمية الإنسان بدل الاكتفاء بإصدار بيانات الإدانة الأخلاقية للوجود الزائف وإثارة الفتن والمؤامرات وتغذية الانقسام وإعادة إنتاج الابتذال والتزوير والمبالغة في الهتك والفضح والتشهير وتمزيق الرؤية الجمالية للمتلقي وخلع الكرامة الوجودية للكائن وجرح الذاكرة.
فمتى يعود الرشد إلى الفنان الملتزم بقضايا وطنه ونرى بأم أعيينا استفاقة جمالية حاسمة في حضارة إقرأ؟
كاتب فلسفي