- 1- حقيقة الإنسان بين التعقل و التخلق.
يعتبر طه عبد الرحمن أن الأخلاقية أخص بالإنسان من العقلانية، والأخلاق أخص أوصافه بدل العقل, فلقد سلك طريقا حاول من خلالها،"أن يُعيد الاعتبار لسؤال الأخلاق باعتباره البداية الرئيسية لإعادة إحياء الإنسان بعدما تقاذفته قوى المادية الناتجة عن عمليات العقلنة غير المسددة بالأخلاق وكذا كصناعة موقف أصيل مستقل يمكن الانطلاق منه لنقد الحداثة الغربية من خلال أرضية مغايرة بحيث تكون الأخلاق كمدخل للنقد وأيضا كمشاركة أصيلة إسلامية في تلك الحداثة الكونية"[1]، ذلك أنه ثبت عنده أن المقوم الأخلاقي هو الذي المقياس الذي تقاس به إنسانية الإنسان، ف"الأخلاقية هي ما يكون به الإنسان إنسانا وليست العقلانية كما انغرس في النفوس منذ قرون بعيدة، لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان مهما كان متغلغلا في التجريد بل تكون هذه الأفعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية حتى أنه لا فرق في ذلك بين فعل تأملي مجرد وفعل سلوك مجسد"[2].
ولما ثبت عنده " أن الاعوجاج الخلقي للحداثة بلغ تأثيره في النفوس حدا لا ينفع في تقويمه أخلاقيات السطح"[3]، واقتناعا منه أن العالم بلغ ما بلغ من الاعوجاج الخلقي جراء ابتعاده عن أخلاق الدين، فإنه يرى ضرورة العودة إلى هاته الأخلاق باعتبارها الكفيلة بإصلاح أعماق الإنسان المعاصر الميت، وهو ما يؤكده بقوله" وبناءاً على اقتناعنا بهذه الحقيقة العجيبة جئنا بقد أخلاقي غير معهود لمظاهر أساسية من الحداثة تعد عند سوانا سببا يحمله على تعظيم أمر الحداثة الغربية في حين يعد عندنا سببا يدعونا إلى تعظيم الحاجة إلى أخلاق الدين لحصول الانتفاع بهذه الحداثة"[4].
2- نحو نظرية أخلاقية تصل الأخلاق بالدين.
ينطلق طه عبد الرحمن في تصوره لعلاقة الأخلاق بالدين من مسلمة مفادها" أن الدين والأخلاق شيء واحد فلا دين بغير أخلاق ولا أخلاق بغير دين"[5]، لهذا اجتهد في وضع نظرية أخلاقية من صميم الفكر الديني الإسلامي، تُقيم هذا الوصل وتقوم عليه وتحفظه. ويعد نصُّه الموسوم ب"سؤال الأخلاق" مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية, المرجع الأساس الذي عمل من خلاله طه عبد الرحمن على وصل الأخلاق بالدين، ونقد كل أشكال النظر الأخرى بخصوص العلاقة بينهما، يقول طه عبد الرحمن " وقد جعلنا من الجمع بين الأخلاق والدين أصل الأصول الذي بنينا عليه في الكتاب الذي بين يديك مساهمة نقدية للحداثة الغربية"[6]. وذلك في سبيل وضع أنموذج ائتماني يحفظ هذا الوصل، وهو ما ظهر في كتابه الموسوم ب"بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين".
ولما كان فصل الأخلاق عن الدين أخطر فصل دخل فيه عقل الحداثة، لكونه يؤثر في صلة الأخلاق بالإيمان كأصل من أصول الدين، ويقود إلى الشرود أي الخروج من الأخلاق بالكلية، بعد المروق أي الخروج من الدين"[7]، وبالتالي الفصل النهائي بين الإنسان والإله، -على اعتبار أن الدهرانية ترى" أن الإنسان ليس له من مجال للتحقق سوى هذا العالم الدنيوي كحدوث طبيعي يشمل الحياة والموت, فيترتب على شروط الوضع البشري كشروط موضوعية وضرورية هي قَدر الإنسان ككائن بلا إله لا يهلكه إلا الدهر الذي يفلت من قدرته ما دامت محدودة"[8]- فإن طه عبد الرحمن يعيد الاعتبار لعلاقة الأخلاق بالدين مؤكدا خصوصية هاته العلاقة القائمة على التلازم بينهما، بحيث يكون كل منهما لازما للآخر لا ينفك عنه باعتبارهما شيئا واحدا" فلا دين بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين"[9] وذلك " باستحضار الفطرة التي تُحقق الوصل في وجود الإنسان وفعله بين الخَلق والأمر الإلهيين على النحو الذي يجعل الخَلق في انفتاحه موصولا بالخُلق في تجدده" [10]، وذلك بخلاف ما كان شائعا من اعتقادات عن الدين والأخلاق, جعلت الأصل في الدين حفظ الشعائر الظاهرة, والأصل في الأخلاق حفظ الأفعال الكمالية المورثة للفضائل, والمعتبرة فقط أفعال معدودة, في حين أن طه عبد الرحمن, يرى أن الأصل في الشعائر "أن تكون معقولة في العمق بما تخلفه من آثار ونتائج هي عبارة عن علامات مميزة لتصرفات المتدين وسلوكاته في تكاملها بحيث تتحدد قيمة الشعائر بتحصيل الأخلاق" [11] و" أن الأخلاق ليست كمالات بمعنى زيادات لا ضرر على الهوية الإنسانية في تركها، وإنما هي ضرورات لا تقوم هذه الهوية إلا بها"[12]، ما يؤكد عدم تَقدم وجود الإنسان على وجود الأخلاق وإنما ملازما له, لأن ضرورة الخُلق للإنسان كضرورة خَلقه سواء بسواء فلا إنسانية بغير أخلاقية"[13] كما أن المعتبَر في أفعال الإنسان ليس معدودا وإنما " جِماع أفعال الإنسان في تعددها وتفاوت مراتبها ولا تناهي قيمها وتكامل معانيها"[14].
إن هذا التصور يجعل مدار حقيقة الإنسانية على الأخلاقية، فالدين والأخلاق وفقه " يصيران مُتعالقين بما يوجب الوصل بين الوجود والفعل البشريين، على النحو الذي يتجلى فيهما(وبهما) مقتضى الفطرة في كون الإنسان مخلوقا / مأمورا، وعاملا /عابدا، بما يفيد في نهاية التحليل أن "التأنس" إنما يكون بقدر ما يحصل من التحقق تعبدا أو تخلقا"[15] وبالتالي تتبينُ الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين في الفلسفة الائتمانية التي" لا تنظر في الإنسان إلا في صلته بربه خالقا رحيما وآمرا شاهدا"[16]، وتَرُد كل أنواع الفصل التي أقامها عقل الحداثة بما فيها فصل الأخلاق عن الدين الذي يفضي إلى الشرود ثم المروق وبالتالي فصل الدين عن الحياة كلها.
فلا سبيل إذن حسب طه عبد الرحمن إلى تأسيس حداثة إسلامية إلا بالرجوع إلى الأخلاق؛ التي بها تتحدّد بها ماهية الإنسان، وما هذه الأخلاق إلا الأخلاق الدينية.
[1] ـ كريم محمد، النقد الأخلاقي للحداثة عند طه عبد الرحمن، موقع tahaphilo الأحد 29 أكتوبر 2014م.
[2] طه عبد الرحمن سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة : 5 / 2013م ص: 14 – 15.
[3] ـ المرجع السابق ص: 26.
[4] ـ نفسه ص: 26 – 27.
[5] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة : 5 / 2013م، ص: 52.
[6] المرجع نفسه ص: 25 – 26.
[7] ـ يُنظر طه عبد الرحمن "شرود ما بعد الدهرانية " النقد الائتماني للخروج من الأخلاق ص: 15 – 28.
[8] ـ الكور عبد الجليل، مفهوم الفطرة عند طه عبد الرحمن، ابداع، بيروت، 2017، ط: الأولى، ص: 163
[9] ـ "سؤال الأخلاق " مرجع سابق، ص: 25.
[10] ـ "مفهوم الفطرة عند طه عبد الرحمن"، مرجع سابق ص: 129.
[11] ـ " مفهوم الفطرة " مرجع سابق، ص: 129.
[12] ـ نفسه ص: 130.
[13] ـ "سؤال الأخلاق مرجع سابق، ص: 54 – 55.
[14] ـ "مفهوم الفطرة" مرجع سابق، ص: 130.
[15] ـ "مفهوم الفطرة عند طه عبد الرحمن، مرجع سابق، ص: 131.
[16] ـ المرجع نفسه ص: 169.