كانت رحلة العودة من الماضي القريب جد مؤلمة، لم تتخللها لحظة سكون أو راحة نفسية. تتهاطل عليها الذكريات بشكل مفزع وتؤذي راحتها النفسية. فكرت طويلا، توقف دماغها عند نقط الصفر. ولم تعد تستحمل. اما الجنون أو الموت. لم تكن تظن يوما أنها ستلج القضاء من أجل الحصول على حريتها من الرجل الذي اختارته من بين الآلاف. وبنت معه بيتا دافئا وجميلا. ولجت مكتب المحامية، وجلست بهدوء ينذر بعاصفة هوجاء. كانت جد متوترة. سألتها المحامية: "لماذا تطلبين الطلاق؟" نظرات مترددة لكنها ثائرة وراغبة في الخلاص. أجابتها بصوت خافت رغم قوته الداخلية:" لم أعد أستطيع التنفس في بيتي." وبدأت الحكاية:
يوم تخرجت صفاء وحصلت على دبلوم الهندسة، كان هناك مع أحد أصدقائه، يرمقها من بعيد ويرميها بنظرات اعجاب. اقترب منها وهنأها على كفاحها الدراسي وقال لها:" مبروك." وابتسم وتوارى للخلف تاركا صوته يدندن حولها. يراقبها ويبتسم. ارتبكت في البداية، وتطورت العلاقة الى لقاءات يومية. حتى إنه كان يكلمها يوميا ويسألها عن يومها وأين توجد ومن يوجد معها. كانت صفاء لا تبالي بهذا الاهتمام الزائد، بل اعتبرته حبا حقيقيا يملأ عليها عالمها. نبهتها احدى صديقاتها الى هذا الامتلاك المغلف بالحب وقالت لها: " ان ملاحقته لك بهذا الشكل، لا يبشر بخير. "
كانت صفاء تعيش في عالم آخر، مملوءا بالهمسات والقبلات والعشق. تركتهم يلاحظون ويحذرون ومشت أميالا معه ولم ترغب في الاستماع إليهم. اعتقدت أنهم فاقدو الإحساس الحقيقي بالحب.
طلبت منها المحامية أن تشرح لها بالتفصيل الممل عن احساسها في تلك اللحظات. كانت ملامح وجهها صامتة، فقدت لمعان بريق عينيها المعهود، تتأمل الفراغ الذي أمامها بدون حياة. قالت:" كنت سعيدة جدا، سعيدة وكأنني طفلة تراقص لعب العيد."
عاشت معه أياما كلها صفاء واهتمام مبالغ فيه لحد الشعور بالاختناق. هاتفها يوما وهي في مكتبها. تركت الهاتف يرن، فرمته داخل حقيبتها وأكملت عملها. هنا، امتلأت مآقيها بالدموع، وانزلقت دمعة مباغتة لم تكن تنتظرها، وتركتها تنام على خدها، سألتها المحامية:" ما بك؟ هل تذكرت شيئا مؤلما." ابتسمت صفاء ابتسامة استهزاء ومرارة وقالت لها: "من هنا بدأت محنتي التي كنت أرفض أن أراها أو أشعر بها." وتابعت بنفس المرارة:" عدت الى البيت وكلي فرح بلقائه. كان هناك، بعينين تحملان شرارة الموت، صرخ في وجهي وقال لي: "لقد اتصلت بك مرارا. مع من كنت؟ " وتحول الى وحش، لم أفهم ساعتها ما يحدث لي. اعتقدت أنني أعيش كابوسا وسأستيقظ منه. لم أتكلم. تسمرت في مكاني كطفلة خائفة من العقوبة. واستمرت الأسئلة تنهال علي كأنني في استنطاق. وما زلت أتذكر كلمته الأخيرة، التي غيرت حياتي وجعلتني أسيرته بإرادتي.
تنفست بعمق شديد وتابعت:" تحرك بخطوات متوترة داخل الغرفة واقترب مني وهمس لي كأنه سيشفي سرا "أسمح لك الآن بالنوم، لكن اياك أن تكرري فعلتك هاته." صمت رهيب بمكتب المحامية. كسره سؤالها: "وماذا بعد؟"
أصبحت صفاء، تعيش على حساب مزاجه، تهاب هيجانه. تجيب عند كل رنة وحتى ولو تكررت آلاف المرات. في يوم، كانت مع صديقة مقربة لها، يتناولان وجبة الغذاء. رن هاتفها، كان يمطرها بالأسئلة، ماذا تفعل ومع من تجلس ومتى ستعود الى البيت. تفاجأت صديقتها من هذا السلوك الغريب ومن ردة فعلها وخصوصا أنها تعرفها جيدا. قالت لها بصوت يحمل انفعالا باطنيا: "لماذا تسمحين له أن يتعامل معك هكذا؟ ماذا حصل لك؟" لم تجب، ابتسمت وتابعت أكلها.
انفعلت ورمت بحقيبتها جانبا، وصرخت بشكل هيستيري وقالت للمحامية: "كنت أريد أن أقول لها بأنه عنيف معي، ويمارس علي رقابة شديدة." كنت أريد أن أقول لها: "انه يتدخل في لباسي ومواعيدي. حتى حسابي في البنك يمارس عليه رقابة." لكن كنت مكبلة، لست أدري لماذا؟ وانهارت وبكت كثيرا.
طلبت منها المحامية أن تستريح قليلا، أو تؤجل المقابلة الى الغد. لكن صفاء رفضت وصممت على الاستمرار. كأنها تهاب أن يسيطر عليها صوته من جديد ويعيدها الى سجنه من جديد. وقفت واتجهت صوب النافذة التي تطل على الشارع الرئيسي، ضجيج السيارات يملأ الفضاء ويتجاوز حدود المكان، ليستقر كضيف ثقيل في كل ركن من أركان المكتب. عادت وجلست مع ابتسامة رقيقة رغم حزنها. وقالت: "بعدها نمت باكرا، وحاولت أن أهرب منه حتى لا أتعرض لاستنطاق آخر. " وهنا سألتها المحامية:" هل كان يسألك دون توقف؟" ضحكت بشكل جنوني كأنها تنتقم من صمتها الذي دام لسنوات وقالت: "كانت متعته أن يوقظني من نومي، ويتلذذ في طرح الأسئلة. ويعود في الصباح، كأنه شخص آخر، يطلب الصفح بحجة أنه يحبني."
كان يوما ربيعيا، شمسه هادئة تلامس الأجساد بكل حب وهمسات باردة تائهة تتسابق مع خطوات المارة وتحدث بلبلة جميلة حولهم. خرجت من عملها وهي تريد أن تقوم بشيء مغاير، تريد أن تتحرر من رقابته لكي تشعر بوجودها. منذ زواجها منه، وهي رهينة عالمه العنيف والصغير. كانت تبحث عن فرصة ولو فرصة صغيرة تعيد بها الأمس القريب عندما كانت سيدة نفسها. تريد أن تتنفس بكل حرية. أخذت سيارتها وانطلقت دون هدف. وصلت الى بلدة صغيرة كلها أشجار ووديان، عصافير تغني حولها حتى ظنت أنها فرحة بمجيئها. مشت حتى أخذ منها التعب مبلغه. افترشت الأرض ونظراتها مسافرة عبر الزمن تبحث عن صفاء التائهة، عانقتها هبات ريح مسائية وروت روحها العطشى للحرية والانعتاق ونامت نوما عميقا. استيقظت مفزوعة لا تدري أين توجد. وشك الليل أن يستوطن المكان، تسابقت مع عقارب الساعة لكي تصل الى البيت قبله. هنا، صمتت. كانت نظرات المحامية تحمل انتظارا وفزعا. قالت بصوت واهن:" عشت أسوأ ليلة في حياتي" وانهارت.
ولجت بيتها في هدوء غير معهود، كانت خائفة كطفلة رفضت الانصياع الى الأوامر. فكان هناك واقفا وحوله ظلام كثيف، اخترق صوته جدار الصمت. وامتلكها رعب شديد واستولى عليها كانتشار قطرة مداد في بقعة ماء. وقال لها بصوت حكيم يحمل عنفا: "أين كنت؟" ارتعشت مفاصلها وكادت تسقط أرضا، أخذت نفسا عميقا وقالت:" كنت في المكتب، ثم تمشيت قليلا في الغابة."
ثار كما يثور البركان في غفلة من الجميع وصرخ: ماذا قلت لك، لما أطلبك في الهاتف، أجدك. لكن أنت غير مطيعة." وأضاف وهو يخطو بخطوات بطيئة كأنه يتحين الفرصة للهجوم على ضحيته:" مع من كنت؟"
وامتلكتها حالة من البكاء الهيستيري، حتى إن المحامية طلبت منها انهاء المقابلة من جديد الى يوم آخر. احتضنتها ومسحت على رأسها. تنهدت صفاء ودفعت الكلام من فمها دفعا:" صفعني وشدني من شعري وكاد يخنقني."
قالت لها المحامية بانفعال:" أنت تعرفين سلوكه العدواني تجاهك، لماذا عدت الى البيت بعدما تأخرت؟ لماذا لم تخبري أهلك؟ أو الشرطة؟" مسحت دموعها وعدلت من لباسها وشعرها، وابتسمت وقالت لها: كان الخوف يكبل كل حركاتي، خجلت من نفسي أن أخبر أهلي. أما بالنسبة للشرطة، قلت لنفسي " سيحكم بكم من سنة؟ أكيد سينتقم مني فيما بعد."
ثم أعادت المحامية السؤال بشكل آخر:" متى قررت رفع دعوى الطلاق والابتعاد عنه؟"
لما استيقظت في اليوم الموالي، كان يغني. مرحا، استغربت من وجود قهوتي على سريري، وطلب مني ان أرتاح وقبلني وقال لي بانه يحبني. وخرج. نظرت الى المحامية وقالت بصوت عالي: "أليس هذا جنونا.؟"
اقتربت يومها من المرآة، وجدتني شبحا يفزع ويحدث الرعب في النفوس. لست أنا، رأيت وجها ميتا لا أثر للحياة فيه. قلت لنفسي" من أنا؟ ماذا أنتظر؟ ". فسمعت صوتا وهاجا كالنور سكن وجداني وأنار لي الطريق، وحرر دماغي من شلل تام وأعاد لي تلك الحرية التي تاهت عني وشعرت ساعتها بانتعاش غريب وبتدفق الدم في كل شراييني وبتسارع نبضات قلبي، كنت مثل الشجرة التي تعاد اليها الحياة بعد جفاف طويل.
قامت صفاء تستعد لمغادرة المكتب، فابتسمت كأنها تنظر الى الحياة لأول مرة، عاد اللمعان الى عينيها، تغيرت ملامحها وودعت الدموع والخوف، وقفت وأخذت حقيبة يدها واتجهت صوب الباب. سألتها المحامية باستغراب كبير: "الى أين يا صفاء؟ يجب ان نتمم إجراءات الطلاق."
قالت لها بقوة أكثرو بصوت واثق وسعيد:" أنا ذاهبة الى بيتي. الآن أستطيع أن أتنفس بكل حرية. " واضافت: "أكملي إجراءات الطلاق كلها."