تعتبر رواية « ريحون » المنجز الروائي الثالث للروائية والأديبة المغربية أسمهان الزعيم . ويمكن تصنيفها ضمن خانة الرواية الطويلة كما ( 361 صفحة ) لما تتميز به من وفرة الشخوص والتي نيفت على الأربعين ، وتعدد الوقائع والأحداث ... ونوعا في اختراق سيرورة السرد بعناصر من قبيل الصدفة واللامتوقع ، وغزارة « التيمات » الموزعة بين ما هو اجتماعي وعقدي وأنطولوجي ... فضلا عن نزعات جمالية تلتئم داخل توليفة يتجاور فيها المجازي بالرومانسي بالواقعي عبر لغة تمتح من معجم يجمع التراثي بالحداثي . ونظرا لحدود طبيعة هذه المقاربة سنقتصر على مكون الشخصية في الرواية بمحدداتها العلائقية ، وروابطها المحيطية . ولعل الشخصية المحورية فيها « ريحون » لقب ألصق به بعد حادث فتاة القرية التي تعلق بها : " سلبتني ما تبقى من عقلي واتزاني ... " ص 10 ، وارتأى أن يبعث لها رسالة يضمنها أحاسيسه تجاهها ، وما تحبل به من عشق ووله : " وضعت ظرفي في علبة بريدها... وانتظرت بضعة أيام ... فتأتيني كما حمام زاجل بخطابها المفعم ودا وعشقا وجوى ... " ص 10 ، إلا أن آماله تحطمت ، وأحلامه أجهضت عندما اكتشف أخوها الرسالة فواجهه بطريقة لا تخلو من تهديد رهيب : "رأيت وجه أخيها محمرا من الغيظ وقد انتفخت أوداجه وحل رعب مدو في عينيه وقد كز على شفتيه وهو يردد متغيظا : ـ إذا رأيتك ثانية بحارتنا هاته فلا تلومن إلا نفسك !" ص 10 ، لُينْبَذ ويغدو غير مرغوب فيه حتى من أقرب المقربين كوالده : " فقد كان أول المتنكرين لي أبي الذي صرخ بأعلى صوته في واضحة النهار : أنا بريء من هذا الشيطان الذي تحول إلى غاو يريد السوء بصبايا حارتنا العفيفات . " ص 11 ، فتحول اسمه « كامل » إلى لقب « ريحون » : " وقد بلغني أنكم ابتدعتم لي لقبا ... ومسحتم اسمي الشرعي القديم . فأصبحت « ريحون » في نظركم . " ص 12 . وهو في عز حيرته وضياعه ، بعد تنكر محيطه الصغير ( العائلة ) ، والكبير ( الحارة ) له : " لكن أنى له أن يتم دراسته وقد طرد من بيت العائلة ومن الحارة بأسرها ؟ " 14 يتسكع بين دروب الرباط وأحيائها تائها حائرا : " وبينما كان يحث الخطى منهكا وعلى غير هدى بين حارات الرباط القديمة ... " ص 14 فتنتأ الصدفة لتخلصه من براثن التيه وشرنقة الضياع بعد مصادفته لأستاذه الذي فتح أمامه بصيص أمل لمتابعة دراسته : " إذا بالقدر الرحيم يفتح ذراعيه لا حتضانه... ولم يشعر إلا ويد أستاذه تستوقفه وقد غمره ببسمته وطيبة روحه . " ص 14 ، فوعده مطمئنا بالتدخل له لدى إدارة المدرسة للاستفادة من سرير بالداخلية من أجل استكمال تعليمه ليتخطى ، بفعل عنصر الصدفة التي شكلت ثابتا سرديا داخل متن الرواية ، حاجز الضيق والضياع بما حققه ، بعد ذلك ، من تفوق دراسي اتسعت معه طموحاته ، وارتفع منسوب آماله وأحلامه: " وهو يدرك تماما أن الإجازة في بلده لن تضمن له وظيفة كالتي يصبو إليها . وليس في مقدوره أن يتم دراسته العليا في المغرب وقد بلغه ما بلغه من مراوغات ومساومات ومقايضات في سوق التسجيل بالماستر... " ص 20 ، فحول بوصلة تفكيره صوب الهجرة إلى أوروبا ، وفرنسا بالضبط حيث أفلح في إتمام دراسته العليا وتخرج مهندسا معماريا يحظى بعيش كريم : " وها هو ذا بعد سنوات قضاها في كنف الحي الجامعي يتخرج مهندسا معماريا ويلتحق بعمل متعاقد مع إحدى الشركات أهله للعيش الكريم وامتلاك شقة أنيقة بأرقى الأحياء الباريسية تطل شرفاتها الوسيعة على نهر لاسين . " ص 55 ، فينخرط في تجارب عاطفية محفوفة بارتدادات واهتزازات بعد تجربته البكر مع فتاة الحارة حيث تعرف على الفرنسية ميراي والتي قطع علاقته بها عقب خلافات جوهرية مرتبطة بمبادئ عقدية وقومية ( موقفها العدائي والعنصري من القضية الفلسطينية ) ، كما جمعته علاقة سابقة ب « سناء » ملخصا ذلك في قول استرجاعي : " في تلك الليلة وهو يندس في سريره ... حضر طيفها . لم يكن طيف ميراي ولا طيف حبيبته الأولى وإنما طيف صديقته القديمة التي جاءت تقدم العزاء في جنازة والده !" ص 35 .
علاقات لم تخل من عنصر المصادفة التي شكلت مكونا سرديا أساسيا داخل نسيج الرواية ، حيث دخلت فتاة الحارة ( معشوقته الأولى ) في علاقة مع والده : " أخبرتني أن والدك الشهم كان على علاقة بابنة الجيران ، تلك التي كان يحبها أخوك كامل والتي كانت سببا في رحيله واغترابه !" ص 126 ، و شاءت الصدف أن يلتقيا في إحدى حانات فرنسا التي كانت في ملكية رجل عربي: " صاحبها رجل عربي وروادها معظمهم عرب من شمال إفريقيا والشرق الأوسط .. " ص 150 ، حيث كانت تشتغل راقصة تحمل اسم خيزرانة ، فانغمرا في نوبة عاطفية مشبوبة بنَفَس نوستالجي هادر: " وطفقت تحوم حولهما وجسدها الفوار يدك البلاط ويهز أوتار النفوس ويرفع صولة الهياج . ثم دنت أكثر حتى كادت شفتاها تلتصقان بكتفي ريحون ، وتسمرت أمامه بضع ثوان وانسكبت من عينيها عبرة لألاء .. " ص 152. لتظل شخصية ريحون ذات سلطة قصصية محورية بما جمعها من أنماط التجاذب والتنابذ مع شخصيات كقاسم وسليمان الذي غدا زوج أخته رقية ، وفطومة خادمة للا جميلة التي صادفها في باب السجن ، وفي موقف حرص على أن يظل محاطا بالسرية حين توجه لاستقبال أخيه ماجد بعد استنفاد عقوبة الحبس ، وحواره مع درويش الزقاق عن العشق حيث خاطبه : " قل لي بربك يا حكيم زقاقنا ألم تقع يوما ما في شباك إحداهن ؟ " ص 339 ، هذا الانفتاح على شخصية الدرويش انتقل إلى أمي فطومة التي أنهت حوارها معه بخلاصة تغلغلت في أعماق نفسها ، وترسخت في قرارة ذهنها : " وظلت أمي فطومة تنصت إلى الدرويش منذهلة وترسم في مخيلتها أطياف كل أولئك الدراويش الذين عرفتهم في دروب حياتها وقد أثارتها غرابة أطوارهم وفرادة دنياهم !" ص 348 ، في انفلات استثنائي لهيمنة شخصية ريحون الذي اجترحته أمي فطومة فاتحة أفقا من انزياح سردي داخل نسق الرواية الغني بتيماته وأحداثه ، حيث انخرطت في تماه مع الدرويش منتزعة جزءا من تواصل حواري معه في اختراق لسلطة شخصية ريحون القابضة على جل أوصال الرواية وأنساقها وسياقاتها .
فبعد علاقاته مع فتاة الحارة وسناء وميراي وما عرفته من قلاقل وعراقيل ، ومد جزر آلت جميعها إلى الفشل والقطيعة رغم ما شابها من مستجدات وطوارئ ومصادفات ارتبط ، بشكل تلقائي وانسيابي ، بللا جميلة أرملة سي عبد الرحمن التي جذبه جمالها الأخاذ ، واستولى على ذهنه لتجمعهما حياة زوجية في نسقها التقليدي رفقة نجلها أسامة وكريمتها ريم .
وقد اقترنت شخصية ريحون بأحداث عاصفة كادت تودي بحياته سواء في مرآب السيارات حيث تعرض بمعية صديقه قاسم لهجمة شرسة من طرف عصابة : " ولعل الأشد من كل ذلك وطئا أنهما رأيا الموت محدقا وهما يصارعان رهطا من صعاليك الليل ... " ص 156 ، ليأتي بعدها حادث غابات وأدغال الموزمبيق والذي نجا منه بأعجوبة خلال رحلته مع مما دو : " وفجأة برز ممادو من بين الأدغال فألقى له الحبال وشجعه على النزول وهو يقول له ببحة وشجا عميقين : لقد جرفت السيول رفيقين .. وا أسفاه .. وأنت نجاك الله بأعجوبة ... " ص 176، وقائع مرعبة كادت تجهز عليه اختزلها قائلا : " لقد نجوت بأعجوبة من صعاليك أنفاق الميترو .. ونجوت من موج البحر الهادر .. وشربت ماء النهر .. ولدغك الثعبان .. وتعافيت بكية الجمرة .. وتناولت الأعشاب البرية ... وها أنت الآن بين يدي عاصفة هوجاء لا تبقي ولا تذر.. " ص 176 . فضلا عن علاقاته العاطفية وما وسمها من انتكاسات وخيبات إلى أن قاده المآل إلى للا جميلة فتزوجها بعد أن سحره جمالها الباهر ، كما يعتبر حادث عودته من فرنسا للاستقرار ببلده رفقة عائلته التي انتقلت معه إلى سكنه الجديد بحي النيروز الراقي : " لحظة وداعه لباريس التي تركها مرغما ومجبرا بعد أن قضت مضجعه الحوادث العنيفة والمريبة ... " ص 182 ، حدثا بارزا ارتبط بهيمنة شخصيته على مجريات وقائع الرواية ، وتبدل سياقاتها ، وتحول مآلاتها وإن تساوق مع أحداث أخرى كالتي جمعت شقيقه ماجد بكل من هنية وهويدة وهلا ، والتي عرت خداعه لهن ، وخيانة سي عبد الرحمن لزوجته للا جميلة مع الراعية التي تزوجها في السر رغم قلة جمالها مقارنة مع زوجته الوسيمة .
وأحداث أخرى عكست في جانب منها ما يستشري وسط المجتمع من اختلالات وأوصاب في عدة مجالات كالتعليم مثلا الذي يسلك فيه بعض التلاميذ مثل ماجد شقيق ريحون طريق الغش لنيل مبتغاهم : " لولا فضل« النقلة » التي زودني بها أحد المتبارين ما كنت حصلت على الباكلوريا !" ص 194 ، وما يعرفه التعليم العالي من ترد وانسداد آفاق مما يفرغ الشواهد العليا من محتواها ، ويبخس قيمتها: " الشواهد العليا قد تورطك في الفقر ... " ص 185، وتفكك أسري كما في علاقة والد ريحون بوالدته ، وما يعكسه من افتقارها لأي حس إنساني : " فإن أبي رفض دفع نفقات العلاج وتنصل من أي مسؤولية وصرخ في وجه أمي مزمجرا : لن أخسر فلسا عليك أيتها العجوز ... " ص 78 ، وما عاشه ريحون من تحايل من طرف دانييل الذي كشف عن ميولاته الجنسية الشاذة في تقربه منه ،ومحاولة إيقاعه في شرك علاقة دنيئة : " وأطبق بشفتيه على رقبته وبنشوة بالغة طفق يلثم كتفيه . " ص 50 ، قبل أن يتخلص من تلك الورطة المؤثرة والمكلفة بعد جهد وعناء ومشقة .
وتتضمن الرواية كذلك العديد من التيمات التي تتساوق والأحداث والشخوص لتشكيل مشهديات تؤثثها عناصر غنية بالمفارقات والمستجدات حيث يتجاور المتوقع واللامتوقع ، الثابت والمتغير ، المتواتر والمنزاح ... موزعة بين العقائدي الخرافي : " شاهدوها يوما وهي تلج عتبة ضريح « كواد الشموس » وتبيت الليلة هناك متهجدة متبتلة تتوسل إلى ولي الله أن يرزقها بالولد !" ص 118، والعقدي الديني : " وهو العربي حتى النخاع والمؤمن بالله ورسوله حتى وإن كان على معصية ولا يمارس شعائر الله . " ص 38، في ارتباطه بالهوية (وهو العربي ) ، وتأرجح وتذبذب في تأديته لفريضة الصلاة : " وكانت علاقته بالصلاة متأرجحة متذبذبة ، يصلي أياما ثم ينقطع عنها شهورا. " ص 100 .
كما تميزت لغة المنجز السردي بما هو رومانسي : " كان قرص الشمس الأرجواني يغرق بدلال في لجة البحر فيتخضب بحمرته اللهيبية ... " ص 274، وما هو مجازي : " وجاء المساء يرفل في أعطاف غيمة، ندف سحاب كقطن منفوش في باحة السماء ... " ص 22 ، وما هو واقعي : " وأحالته كلمات القصيدة البليغة الشجية على مقارنتها بهذا الإسفاف الذي أصاب الأغنية العربية عموما والمغربية خصوصا ... " ص76. وقد أغنى الحلم ، في تجلياته وتمظهراته ، دلالات الرواية فغدت أكثر تحررا من خطية السرد : " رأيت فيما يراه النائم أن رجلا غريب الملامح يرطن بعربية مكسرة يدنو مني وأنا منه في ريب .." ص 17 ، فيغدو ، أي الحلم ، موغلا في امتدادات الرعب والغموض : " وشعر بخضة عنيفة ترجه وهو يستعيد بعض شذرات متشظية من رؤياه المسربلة بوشاح تفاصيلها الملغزة . " ص 35، ولم تفوت الروائية التوسل بعناصر السرد المعروفة من « مونولوغ » : " وهمهم في خاطره : وكيف لي أن أنسى من كانت سببا في منفاي ؟ " ص 60، وفي قولها : " فألفى نفسه يحدث ذاته ... " ص 273، استجلاء لما تعج به النفس من هموم ، وما تحبل من معاناة ، واسترجاع : " وعادت به الذاكرة مترنحة إلى فصول ضاجة مسربلة بالمفارقات العجيبة والمفاجآت الصادمة والمنزلقات اللزجة ... " ص 17 ، وفي : " وراحت ذاكرة ريحون ركضا إلى مراتع الطفولة ... " ص 59 .
لتبقى هذه المقاربة الموسومة بالمحدودية والتقصير أمام عمل روائي يغوص ، بجمالية وعمق ، في أغوار عوالم إنسانية مستجليا خفاياها ، مستشرفا آفاق تطلعاتها الزاخرة بتوقعات ومفارقات تحفل بها أحداث الرواية ، وتضمرها ثناياها من خلال شخوص مختلفي المبادئ والنزعات والتوجهات في ارتباطهم عبر التقاطع والتجاذب والتناشز بشخصية ريحون في طابعها المحوري الموسوم بميزات الخلق والفرادة .
ــ الكتاب : ريحون ( رواية ) .
ــ الكاتبة : أسمهان الزعيم .
ــ المطبعة : مطبعة كوثر برانت / الرباط 2022 .