جديد الموقع
تخلى العديد من العرب ـ لأسباب مختلفة ـ عن إيمانهم بالأمة العربية، وأصبحوا يشككون علناً في وجود قومية عربية جماعية. وأخذ البعض يُفضّل اعتبار أنفسهم مسلمين في المقام الأول، وأنهم ينتمون إلى الأمة الإسلامية. وقد تحوّل مصطلح "العرب" في قاموسهم إلى تسمية مهينة ـ في بعض الأحيان ـ توحي بالإسراف، والسطحية، وعدم الكفاءة، والتبعية. فيما يُفضّل عرب آخرون أن يُعرفوا بوضوح بأنهم مصريون، أو سوريون، أو أردنيون، أو عراقيون. مواطنون في أكثر من إحدى وعشرين دولة مستقلة ـ باستثناء فلسطين المحتلة ـ لكل منها علمها ومصالحها الخاصة. حتى أن بعضهم لجأ إلى وصف أنفسهم بالشرق أوسطيين، تحسباً لسلام عربي إسرائيلي ونظام تعاون إقليمي جديد على غرار أوروبا. ويتمسك قلة من المثقفين على شعلة الحماس العربي والقومية متقدة. وهم غالباً ما يكونون في الخارج، في لندن أو باريس، أو في عواصم غربية أخرى حيث يتشاجرون حول ما إذا كانت العروبة والقومية العربية في حالة ركود، أم أنها في مرحلة التعافي.
كان الشعور بـ"العروبة" قائماً منذ أن وطأت أقدام العرب مسرح التاريخ، وظلت محل تفاوض من قِبَل كل جيل لما يقرب من ألف عام ونصف. في هذا الجيل، يجب أن يتكيف هذا الشعور "العروبي" مع ازدياد الولاء للدولة العربية القطرية، وتنامي التيارات الإسلامية، والانتصار العالمي للديمقراطية الليبرالية، وصعود رأسمالية السوق، والاختراقات التي حققتها إسرائيل في عدد من الدول العربية، واحتمال السلام معها. كانت جميعها عوامل أثرت سلباً على القومية العربية في تطورها على مدار معظم القرن الماضي ولغاية اليوم.
لا شك أن "العروبة" قادرة على استيعاب التحديات الجديدة، كما فعلت دائماً. فالقومية العربية ـ وهي إبداع حديث لهذا القرن ـ قد تتلاشى تماماً تحت وطأتها. ولكن مهما كانت آفاق القومية العربية، فإن تاريخها حتى هذه اللحظة يمثل أحد أبرز الأمثلة على سرعة نشوء أي قومية حديثة وصعودها وتراجعها. هذا التاريخ يستحق رواية جديدة، لأنه لم يُستدعَ في النقاش الأوسع حول تنامي عدم الاستقرار.
لقد كان هناك وقتٌ حظيت فيه القومية العربية بمكانةٍ بارزةٍ في الدراسات المقارنة للقومية، لكنها أصبحت لاحقاً حكراً على المتخصصين. حاول المؤرخان البريطاني "أرنولد توينبي" Arnold Toynbee والمؤرخ الأمريكي "هانز كون" Hans Kohnدمج القومية العربية في إطارٍ مقارن أوسع، أصبحا مناصريها الفعليين بين الحربين العالميتين، على الرغم من تحفظاتهما على القومية في كتابهما "القومية العربية: هوية خاطئة" Arab Nationalism: Mistaken Identity. لقد قبل ـ توينبي للسياسة البريطانية، وكوهن للصهيونية - أكثر شعارات القومية العربية تطرفاً باعتبارها بيانات عن حقائق اجتماعية أو ادعاءات أخلاقية لا تقبل الجدل، ولم يروا أياً من التناقضات الكامنة وراءها.
في زقاق ضيق بمدينتي
صادفت حزني ينتظرني
يدفع بي إلى حانة النسيان
على كرسي خشبي ألتقط أنفاسي
أبعثر تاريخ حياتي
بهدوء الحالمين ألثم جبين طفولتي
أشرع نافذة الانفلات الناعم
أتصفح فهرس ما تبقى من فتات
أمدّ يدي نحو منديل الاستسلام
وأكتب على ظهر صورتي:
هذا عابر سبيل ضل الطريق
إضاءة :
كم نحن بحاجة ماسة للحفر في المتن الشعري والغنائي الإنشادي للتعبيرات الشعبية المغربية التي طالها الإهمال والتناسي. إنه إرث المغاربة الأحرار الذي أبدعه بسطاء المواطنين و الحرفيين و الصناع التقليديين المعبرين بشعرهم وزجلهم و نظمهم الشعبي عما كابدوه من هموم حياتهم ، وما صاغوه من أغراض شعرية لفن الملحون باعتباره أحد التعبيرات الجمالية التي رأت النور في بيئة خاصة ، مذيبة وملهبة لم تعقهم مع ذلك عن الإفصاح بنظم الكلام المعسول ، والصدح بإنشادهم المصقول عن آمالهم وأحلامهم وتصوراتهم للحياة والأحياء ؛ إنها بيئة : "تافيلالت" ، مرتع الإنشاد والطرب، والمروءة والعجب .
- عن فن الملحون ونشأته :
يرجع الدارسون وفق موسوعة : "معلمة المغرب " (2) إلى ظهور البوادر الأولى من شعر الملحون بالمغرب إلى العهد الموحدي في القرن الثاني عشر ويعتبر هذا الفن رافدا أساسيا للذاكرة الفنية المغربية، اتخذ من لهجة المغاربة الأحرار أداته المعبرة عن مشاعر بسطاء القوم من الحرفيين والصناع التقليديين، و قد رأى النور بمنطقة : " سجلماسة " و " تافيلالت " تحديدا، ثم تطور وانتشر بعد ذلك في المدن التاريخية التي اتخذتها الأسر الحاكمة في العهود الماضية عواصم لها ك: مراکش و فاس ومکناس وكذا مدينة سلا.
و الملحون شعر شفهي له حفاظه ورواته ومطربوه المنشدون لأشعار شيوخه بفصاحة في الأداء وبيان في الايصال وفق ايقاعات دقيقة بواسطة آلات موسيقية تقليدية من صنع الحرفيين و المغاربة الشعبيين.
و يمكن اعتبار فن الملحون ؛ توثيق للذاكرة الجماعية، وحفظ لتراثها الشفهي من الضياع عبر تسجيلها صوتيا . وهو يختزل بعضا من مقومات الثقافة ؛ المغربية / العربية / الأمازيغية / الاندلسية ،
و مظاهر حياتها الأصيلة.
وقد أدرج هذا الفن أخيرا في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية بمنظمة اليونيسكو في دورتها الثامنة عشرة ، بتاریخ : 6 دجنبر 2023 .
يشكل الذكاء الاصطناعي اليوم محورًا لتحول جذري يمس مختلف أبعاد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ لم يعد مجرد أداة تكنولوجية، بل أصبح رافعة استراتيجية لإعادة رسم خريطة التنافسية العالمية. وفي هذا السياق، يندرج تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الذكاء الاصطناعي بالمغرب، باعتباره وثيقة مرجعية تستشرف آفاق هذا التحول وتقدم رؤية مركبة حول مكامن القوة ونقاط الضعف، وتوصيات استراتيجية قابلة للترجمة إلى سياسات عمومية فعالة.
ينطلق التقرير من تشخيص دقيق لمنظومة الذكاء الاصطناعي في المغرب، حيث يُسجَّل توفّرُ إرادة سياسية ناشئة وتنامي وعي جماعي بأهمية الانخراط في الثورة الرقمية. وتبرز في هذا الصدد بعض المبادرات المؤسساتية الرائدة كمركز AI Movement وبرنامج "الخوارزمي"، إلى جانب انخراط المغرب في التوصيات الدولية بشأن الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا. غير أن هذه الدينامية تصطدم بجملة من الإكراهات البنيوية، أبرزها غياب إطار قانوني وتنظيمي خاص بالذكاء الاصطناعي، وضعف تحرير المعطيات العمومية، وعجز المقاولات الناشئة عن الولوج إلى التمويل الملائم، ناهيك عن النقص الحاد في الكفاءات المؤهلة، سواء في مجالات البرمجة أو تحليل البيانات أو التسيير المبتكر للمشاريع الرقمية.
لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على كونه محركًا للنمو الاقتصادي، بل يشكل أفقًا لتجديد نماذج التنمية، من خلال تحسين الخدمات العمومية، وتعزيز الإدماج الرقمي والاجتماعي، وتوفير حلول أكثر نجاعة في مجالات حيوية كالصحة والتعليم والفلاحة. كما أن ربط الذكاء الاصطناعي بإنتاج المعارف والمهارات يفتح آفاقًا جديدة لإعادة هيكلة سوق الشغل، رغم المخاوف المرتبطة باختفاء بعض الوظائف التقليدية. على هذا الأساس، يشدد التقرير على ضرورة التأسيس لحوكمة وطنية للذكاء الاصطناعي تراعي التوازن بين تسريع وتيرة الابتكار من جهة، وضمان احترام القيم الأخلاقية والحقوق الرقمية من جهة أخرى، مع ما يقتضيه ذلك من حماية للمعطيات الشخصية، والحد من التحيزات الخوارزمية، وضمان الشفافية وقابلية تفسير القرارات التكنولوجية.
"العناية الجنائزيّة ، واختيار المدافن، وموكب مأتمّي بهيج، أقل ضرورة لسلام الموتى منه من تعزية الأحياء" أوغسطينوس St Augustin, La cité de Dieu 1,12[1]
"ان الواقع هو طعام قبل كل شيء"[2] باشلار
الكلمات المفتاحية: مآدب المآتم – طقوس الانتقال - استئناس الموت – التبادل الرمزي –– الروابط الاجتماعيّة – المخيّال الجماعي - التخاصصية
تقديم عام:
لا تنحصر مسألة الأطعمة فيما هو طبيعي وبيولوجي فحسب بل هي ممارسة ثقافية وذات دلالة سيمائية ورمزية اكتسبها الانسان لحظة "الأكل من الشجرة"[3] فمن لحظة خروجه من الجنّة إلى حين لحظة جوعه وبحثه عن سدّ رمقه، بدأ في اكتشاف النبات وتعلّم قطف الثّمار والقنص والصيد (برا وبحرا وجوا)، وتسمّى هذه المرحلة من تاريخ البشرية بمرحلة القطّافين الصيّادين (Les pécheurs cueilleurs ). ومنذئذ تفنّن في إعداد المطبخ بحسب مراحل تطوره لأدوات الطبخ واستعمالاتها وفق ما اكتسبه من أنساق الثقافة وأنظمة الاجتماع[4] والتي حدّدت سلوكه الغذائي ونمطته وفق حاجياته، من أجل سدّ رمقه بما توفّره بيئته، وذلك في إطار توافق مع اعتقاداته ومعيشه اليومي من جهة، ومع المقدس والمتخيّل من جهة أخرى (بما فيه من سرديّة وردت عن طعام أهل الجنّة او عن طعام الميت[5]). ولقد اتضح ذلك أساسا في طقوس الانتقال/العبور (الولادة-الزواج-الموت)[6] فتتمايز حينئذ استعمالات الأطعمة بحسب تنوع الأديان (حلال/حرام) وتختلف بحسب الأمكنة والأزمنة وتعكس تفاوتا طبقيا بين الأفراد والجماعات والأمم. وهذه اللّامساواة أمام الحق في الغذاء، مثلت تهديدا للأمن الغذائي فنشبت حروب لم تتوقف. وآلت إلى نزف ثروات. ومايزال الاستعمار ينهب خيرات الشعوب، مما أدى إلى تحوّلات في السلوكيات الغذائية. وانتقلنا من التدبير الاقتصادي المنزلي الممركز حول ذاته، إلى التبذير التّابع لاقتصاد السوق. (انتقال من منتوجات بيولوجية بمورثات أصلية إلى معلبات بمورثات هجينة -من الاكتفاء الذاتي بالضروريات إلى التبعية للكماليات- ممن يمتلك فائض اللّذات إلى غيره الذي يعاني فائض الحرمان- ممن يموت بالتخمة إلى غيره ممّن يموت من الجوع-
فالاستعمار الفرنسي مثلا في تونس[7] أرسى نمطا استهلاكيا وعادات ذوقية غذائية جديدة (فكّكت ثقافة التدبير المنزلي واستبدلها باقتصاد السوق الاستهلاكي. فحول استعمالات الأطعمة المحليّة والصحيّة إلى سلوك غذائي سريع ومضرّ بالصحة وفاقد للمعنى). مما ساهم في تدمير وحدة الربط بين الأطعمة والأنظمة الرمزية الخصوصية، أي هويّة الطعام التونسي، واستبدالها بقيم مستوردة باسم الحداثة. وحدَّثت أساليب المطبخ، مما جعل ما عُرف بالجلاء الزراعي لم يكن جلاء في المطبخ التونسي ولا حفاظا على أمّننا الغذائي (لأنّ رهان الطعام هويّة شعب وتنمية مستدامة). لكن ما هو مثير للانتباه أن المجتمع في ظلّ الاحتفالات الدينية يستعيد ما يميزه عن غيره، ويجعله يتشبث بعاداته وتقاليده، مما يعني أنّ الطقوس الجماعية للطعام هي مناسبة يحرص فيها المجتمع على أن يبقى وفيا لخصوصيته ويستهلك التقليدي من الأشياء، ذلك أن طعام المناسبات الدينية أو الاحتفالات العائليّة ما هي إلاّ " تعابير هوية تعزز الشعور بالانتماء وتعيد تشكيل التضامن وليس طابعها الإلزامي مجرد مسرحية وإنما هو شكل من أشكال الخطاب الذي يتوجه المجتمع به إلى نفسه."[8] ويمكن لنا أن ندرج مآدب المآتم في هذا السياق الذي يحتاج منا تفكيرا وتدقيقا في كيفية عيش المجتمع التونسي الحالي لطقوسه من أجل فهم مدى محافظته على خصوصيته في الحداد والاحتفاء بالميت في ظلّ تحولات اجتماعيّة متسارعة مسّت كلّ مظاهر حياته.
لأننا لا نريد من الحياة
إلا قبلا
على جباه أمهاتنا
وبعض حياة
إلا مسحة
أيديهن لآلامنا
وشبه أمنيات
فتحوا سجل الوفاة،
سألوا عن أسمائنا
المبحوحة غصة غصة،
مثلت المسائل اللغوية أبرز ما أهتم به الفكر المعاصر لما لها من الأهمية الكبر ى، فقد جسدت وضعية نظرية دقيقة، حيث أصبحت اللغة المركز الذي تدور عليه اهتمامات متعددة في مجالات مختلفة. فانفتاح الثقافات على بعضها البعض ولد الحاجة إلى هذا الاهتمام المتزايد باللغة داخل كل أمة، وداخل كل ثقافة، ذلك أن اللغات لا تختلف باختلاف الشعوب فحسب وإنما تختلف أيضا باختلاف الاهتمامات الفكرية. إذ لا محيد للفكر عن اللغة والخطاب، أو لعل الفكر هو بالأساس لغة. إذا التفكير في بنية خطابات اللغة هو مرتبط بالعالم وبالإنسان. فكم من كلمة أشعلت حروبا وأقامت الدنيا ولم تقعدها. وكم من كلمة تبركنا على أعتابها في أوقات الضيق لتزيل عنا كربنا وغمنا، وقد تأتي هذه الكلمة على لسان علامة أو مفتي، كما قد تأتي على لسان نبي. وكم للكلمات الفواتح من فتح مبين. فوطن كل أمة أو شعب هي لغته التي بها تكلم، ذلك أن اللغة هي الأفق الذي فيه تتحدد علاقتنا بالعالم وبالآخر.
واللغة ، التي نحن بصدد تناولها، لغة ربانية ومعطى سماوي مقدس، إذ نحن بصدد انزياح أو عروج عن وثنية تأصلت في وجدان الأمة العربية الإسلامية. إذ لعلنا اليوم أشد حاجة من أي وقت مضى إلى التفكر في اللغة وباللغة وفي إعادة طرح مسألة الخطاب القرآني، وحل كل رابطات حقوق الله وما تمثله من الرابطات من غطرسة على بنية القول والتفكير.
فباسم المقدس ننسلخ عن آدميتنا، وباسم الدين تتعالى الأصوات لانتهاك ما هو بشري وتطويعه و تركيعه. وصار من الوجوب أن نعيد طرح "جهازنا " المفاهيمي من داخل النص القرآني وفق رؤية تكون مرجعيتها العقل والدين لأنه آن الأوان لرفع كل وصاية على ما هو مقدس، أو لرفع وصاية الأرض عن السماء.
من المعروف أن النص القرآني لا زال يلهم الكثير من القراءات المتعددة، وما تتعرض إليه حضارتنا من هجوم خارجي وداخلي على الإسلام، خارجي وهي نظرة الغرب الصليبية للعرب والإسلام بما هو رمز للإرهاب والتطرف، وداخلي يتمثل في احتكار أو محاولة احتواء النص القرآني من طرف قلة ارتأت لنفسها المشروعية في التكلم باسم الإله، وأنها نخبة الله المختارة على الأرض وما عداها فهو ضلال مبين. فمن الواجب أن يعيد المفكر العربي والمسلم إعادة تفكير الإسلام كمنظومة دينية وفكرية، أي لابد من قراءة جديدة للخطاب الديني بما هو نص شديد الثراء وكثيف المعاني، نص قصصي البنية ورمزي المقاصد، والقطع مع التأويلات الأيديولوجية المسيسة للإسلام. وتجاوز القراءات الدغمائية السطحية للنص القرآني. وفضح كل قراءة تدعي أنها قادرة على معرفة كلام بشكل متطابق مع غاياته النهائية والأخيرة. هذه الضرورة إلى أعادة قراءة النص الأصلي أو الأم سمح بتعدد التفاسير واختلاف الرؤى في تفكيك الخطاب المقدس وهو منهج اشتهر به جاك دريدا1.إذ يطور دريدا منهج التأويل في حواره مع النص الصامت والذي يشكل مصدر لغط وغلو. ولم يبق الخطاب القرآني كوحي أو كحديث للآلهة بل قد ارتبط بالإنسان والنسيان وقد كانت دائما هناك محاولات للهيمنة على هذا الخطاب والسيطرة عليه. وما تميزت بالسطحية في تناولها وتفسيرها للخطاب القرآني والوقوف عند تخوم العبارة وذلك بالتداخل بين المقدس والدنيوي وتظهر الذات الإلهية متجسدة في صورة هي أقرب للبشر منها للآلهة، ويتبدى الخطاب مفعما بروح التضاد والتوتر بين السماء والأرض، خطاب عمودي متعالي أساسه الوعد والوعيد. في هذا التداخل والتشابك بينما هو إلهي فينا وما هو دنيوي بما أننا قد نفخ فينا من روحه.
من يعتلي الأسئلة؟
من يحدث بها نفسه؟
قائلا للصمت لا
في احتمالات السين،
في صدى ساحل عربي،
في طفل أدانته حرب،
في ظهيرة عاطل،
في الذي يلوذ بالمساء،
في سواعد نسوة،
في نزوح حلم وذكرى،
إن التفكير في الإنسان في مثل هذه اللحظات شيء مخيف، التفكير في الوضع البشري الذي لا يبعث على التفاؤل أبدًا، بله، يكون التفاؤل سخرية من الوضع، لكن يا لشقاء الإنسان إذا لم يكن قادرا على طرح السؤال، فذلك يعني أنه لم يعد بمقدوره أن يمارس الرفض، أي أن يفكر أي أن يقول لا.
مالذي يُعدِم الإنسان في الإنسان؟ ليس هذا الذي نسميه انسانا سوى الكائن الوحيد القادر على قول لا، القادر على ممارسة الرفض، ومتى توقف عن ذلك فقد انسانيته، لقد نَاصَب سقراط-افلاطون الكتابَة العداءَ، لأنها العنصر الذي كان يحفظ النظام الإجتماعي، فمتى شاعت، شاعت الحكمة وفقد مجتمع القلة أفضليته بحصول المشاركة في ما يمثل القوة على البروز والتعبير عن الذات وتحققها، بعنصر الكتابة يدخل الكائن مجتمع الأنداد لأنه يصبح شخصا، شخصا لأنه مارس الرفض، وقد كان قبل ذلك مجرد أداة، مجرد تعبئة داخل المدينة، إنه الحطب الذي يسمح لشعلة النظام الاجتماعي بالاتصال.
هذه هي أعظم قضية من قضايا المدينة إن لم تكن موضوعتها الأساس، كيف يتم الحفاظ على النظام الإجتماعي، كيف يتم انتاجه، وكيف يصبح الإنسان مجرد حطب وتعبئة للحفاظ على هذا النظام
لقد سمحت الكتابة دائما بنزول المتعالي إلى الساحات العامة، فقد كانت دائما قائمة في ضدية المطلق قائمة في ضدية الميتافزيقا، إن الكتابة هي العملية التي يتم من خلالها خلخلة كل سلطة وكل هيمنة، فهي التي سمحت بنزول التعاليم السرية إلى الساحة العامة، إنها ما يمنح القانون أحقيته ليكون على رأس المدينة تحفظ سلطته وتحفظه هو نفسه (فرنان 1962 )، وبذلك فإن الحدث الأكثر جلالا في تاريخ أي حضارة إنسانية هو الخروج من الشفاهة والدخول في عرف الكتابة، ذلك أن الشطط كل الشطط في ممارسة السلطة دائما ما كان لصيقا بالشفاهة وبالخطابة، غير أن البئيس جدا هو الدخول في الكتابة دون التخلي تماما عن ذهنية الخطاب وشطط الكلام.
إن مجتمع القلة هو مجتمع الإقتران الحاصل بين السلطة والرأسمال، هو نفسه قضية خلق مجتمعين أو أكثر داخل ما يُفترض فيه أن يكون مجتمعا واحدا، وتغيب فيه الندية والشخصية، ثم إن قيمة الشخص لا تقوم إلا داخل مجتمع الأنداد بوصفه مجتمع الفرص المتكافئة، أما مجتمع القلة ولكونه يتكون من مجتمعين فإن الذين يكونون دون ندية القلة في الغالب هم نفسهم أداة حفظ هذا النظام وهذا التراتب، وهم في الغالب يسيرون في طريق فقدان انسانيتهم، حشد من الناس لا يستطيع أن يمارس الرفض، يتم افراغهم بمختلف الكيفيات من شخصياتهم وحملهم على الدخول والانخراط في الدفاع عن حقائق لا تمثل شخصيتهم ولا مصالحهم.
في مجتمع القلة يحصل الإنسان على ما دون الكفاف، ويعيش دائما على حافة الفاقة والعوز، إن المحرك الأساسي له هو الحاجة، وبذلك لا تتعدى أقصى مطالبة مجرد العيش، مجرد الاستمرار على قيد الحياة، وقد تم بذلك تعريضه للحصر، للقمع، للكبث، كلما أراد أن يقول لا، توجس خيفة من شبح الحاجة، إن أغلى ما يملك هو مجرد العيش وهو ليس مستعدا للتنازل على هذا المِلك، وهو بذلك انسان عارٍ من الإنسانية.
المزيد من المواضيع
فلسفة وتربية
نقد الواقعية الساذجة والانتقال إلى الإدراك
ما دام أن متعارض اليقين الحسي ينكشف باعتباره كونيا، سواء من وجهة نظر هذا، أنا أو علاقتهما، وأن معرفته تنكشف بوصفها وسيطة، يكون جدله قد اكتمل. إن التجربة التي قام بها لمعرفته ومتعارضه هي حركة جدلية تتبع هيجل "تاريخها البسيط" (184/68). ولكن على الرغم من أن اليقين الحسي الطبيعي يتحرك بالضرورة نحو متعارضه الحقيقي (في هذه الحالة، موضوع الإدراك)، فإنه يبدو في هذه المرحلة عالقا في تأكيد متكرر لحقيقة هذا المحسوس. اليقين الحسي يقوم بتجربة متعارضه بالتأكيد؛ إلا أن "هذا ما لن يعمل دائماً مرة أخرى سوى على نسيانه، ويبدأ الحركة من جديد منذ البداية" (185/ 69). يعترف هيحل بأن الوعي يتعامل مع العديد من هذا، وأن أنوات عديدة تشكل على التوالي حدوسا مختلفة، وذلك بطريقة متكررة. لكن كل تجربة فردية توضح العملية الجدلية التي تم تقديمها للتو، مما يعني أنه إذا كان اليقين الحسي يبدأ دائما الحركة مرة أخرى من البداية في ظروف أخرى، فإنه يصل دائما إلى إلغاء تأكيده الأول وأن يقوم باختبار متعارضه باعتباره كونيا. وهكذا يؤدي كل استئناف للحركة إلى برهان جديد على لاحقيقة هذا المحسوس. وهذا ما يسميه هيجل "التجربة الكونية" (185/69). وهو بذلك يعارض الجدل المقدم للتجربة الكونية المفترضة بحقيقة هذا المحسوس.
في الواقع، وباعتراف الجميع، يبدو أن ما هو حسي وفريد يشكل الحقيقة. بيد أن هيجل لا يرفص فقط التأكيد على أن وجود هذا الحسي سيشكل "حقيقة مطلقة للوعي" (185/69)، حقيقة ستكون موضوع تجربة كونية، ولكنه يرفض كذلك الفكرة التي مفادها أن الأمر قد يتعلق هنا ب"تأكيد فلسفي" وحتى ب"نتيجة للشكوكية" (المرجع نفسه). إنه يتمرد بشكل أقوى ضد إسناد مثل هذا التأكيد إلى الشكوكية، الذي كان قد سعى بالفعل إلى إظهاره، في مقالته عام 1802 حول "علاقة الشكوكية بالفلسفة"، بحيث أن الشكوكية الأصيلة لا تقبل الوجود الحسي المفرد. وهذه الشكوكية الأصيلة، في رأيه، هي شكوكية العصور القديمة – البيرونية والأكاديمية الجديدة. فقط الشك الحديث، ممثلًا في زمن هيجل على وجه الخصوص بواسطة جوتلوب إرنست شولز، يحقق مثل هذه النتيجة: وحده الوجود الحسي حقيقي. غير أن تأكيد وجود أو حقيقة هذا المحسوس يتجاهل أن ما يقوله مخالف لمقصوده، لأن كل تأكيد لتعيين حسي فردي محكوم عليه بأن يلغى بالوعي واستبداله بتعيين آخر هو نفسه ملغى، وهكذا دواليك. وحده الكوني يبقى. ولذلك فإن هذا التأمل الثالث حول اللغة يصر على حقيقة أن كل الوعي يختبر الهذا باعتباره كونيا.
لقد أثبت جدل اليقين الحسي بالفعل أن المعرفة المباشرة البحتة للمتعارض المحسوس كانت مستحيلة. ومع ذلك، يضيف هيجل اعتبارا عمليا، يستهدف "أولئك الذين يؤكدون الحقيقة واليقين، اللذين ناقشناهما للتو، لواقع المتعارضات الحسية" (185-186/69). هكذا تم استهداف أنصار الواقعية الساذجة، التي بموجبها توجد المتعارضات الحسية بشكل مستقل عن معرفتنا ويمكن معرفتها مباشرة عن طريق الحدس. المستهدفون المعاصرون ما زالوا هم جاكوبي، كروج وشولتز. ومع ذلك، فإن هؤلاء الأخيرين أو مؤيديهم "يجب أن يُعادوا إلى مدرسة الحكمة الأكثر بدائية" (186/69). ستكون هذه المدرسة هي مدرسة ألغاز إليوسيس، وهي عبادة مقصورة على فئة معينة مخصصة لديميتر في معبدها في إليوسيس. لكن الأسرار التي يشير إليها هيجل قد تبدو تافهة ومخيبة للآمال، لأنها تتلخص في "فعل أكل الخبز وشرب الخمر" (المرجع نفسه). فكيف يمكن لمثل هذه الأفعال التي ليس لها سر أن تعلم هذه الواقعية الساذجة شيئا؟
يأتي هذا المقال في سياق التفاعل مع مداخلة الأستاذة رحمة بورقية رئيسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي خلال الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للمجلس التي عقدت يوم 30 ابريل 2025.
وسيقتصر تفاعلي على مبدإ أثار انتباهي عند تقديم الأستاذة بورقية لمقاربات اشتغال المجلس، حيث اعتبرت أن المجلس يعتمد "مبدأ الموضوعية التي لا تزعج ولا تجامل". وهو ما قادني للتساؤل حول إمكانية التوفيق بين عدم الازعاج وعدم المجاملة في مجلس ينتظر منه تقديم الآراء والتقييمات حول الواقع التربوي بالمغرب، وإفادة كل منظومات التربية والتكوين بمقترحات يراها صائبة وذات جدوى، إضافة إلى إخبار المجتمع عن الواقع الموضوعي لمدرسته وجامعته؟
فكيف يمكن للمجلس الاشتغال وفق هذا المبدأ في ظل التطور الذي عرفته الأدوات الإحصائية ومؤشرات قياس النتائج التعليمية التي تستخدم في تحليل النظم التعليمية ومقارنة تطوراتها، وأيضا مقارنة السياسات التعليمية التي تنفذها الحكومات؟ علما أن هذا التطور أضفى صفة تقنية على تقييم النظم التعليمية، هيمن فيها النقاش التقني على النقاش السياسي. حيث أصبحت نتائج التقييمات أكثر معيارية الأمر الذي يدعم ويبرر التوصيات الناتجة عنها.
وحتى يكون الجواب عن الأسئلة السالفة الذكر موضوعيا، كان لابد من مقاربة "مبدا عدم الازعاج وعدم المجاملة" عبر المحاور التالية:
- المرجعيات الفلسفية لمبدأ "عدم الإزعاج" و"عدم المجاملة"؛
- الأبعاد المهيكلة للمبدأ في الحوكمة التربوية؛
- الديناميات التفاعلية للمبدأ في صنع السياسات التربوية؛
تمهيد
مالبرانش فيلسوف فرنسي قسيس 1638- 1715 اراد الجمع بين فكر القديس اوغسطين مثله الفلسفي الاعلى وافكار ديكارت الفلسفية العقلية الايمانية. مالبرانش له فلسفة خاصة حول الرؤية في الله، وينكر السببية، تأثر بكتاب ديكارت حين وجد ديكارت الديني يجمع بين الله وخلود النفس الروحانية. (عن الويكيبيديا بتصرف).
قبل مغادرة هذا التمهيد ديكارت لم يقل النفس روحا خالدة هي والعقل(اللوغوس) وليس العقل البايولوجي(الدماغ) والخلط بين الروح والنفس خطأ لا يحتاج الى شرح تفصيلي بل باختصار النفس هي من خصائص بيولوجيا الانسان وعلم النفس بكل تفرعاته. والروح مصطلح ميتافيزيقي ديني غيبي تتناوشه الشكوك على صعيدي الوجود والماهيّة من كل حدب وصوب حتى العجز عن اعطاء جواب علمي.
مالبرانش في مذهب وحدة الوجود
يذهب مالبرانش ان الوجود لا يتحقق في تجارب القوانين الفيزيائية المشكوك بها بل الوجود يتحقق بالايمان بالله. مالبرانش عن علم مسبق اقتباسي او توارد خواطر فلسفية فهو يكرر ما كان ذهب له سورين كيركجورد انه في تعطيل الاستدلال العقلي والغاء السببية والعليّة التي قال ببطلانها ديفيد هيوم نصل الى حقيقة التسليم ان تحقيق الوجود الايماني انما يتم بقفزة ايمانية في المطلق الالهي الغيبي يقررها القلب وليس العقل.
التساؤل اذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة هي قوانين موجودة في الله جزءا فيه !! كما يذهب له مالبرانش فهل نستطيع بدلالة القوانين العامة للطبيعة الموجودة بالله تاكيد وحدة الوجود مابين قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة وبين الذات الالهية كما تفعل المذاهب الصوفية؟ اجابتي عن تساؤلي من المحال الجمع بينهما لسببين :
- الله وجود مفهومي ميتافيزيقي غيبي غير مدرك ولا محدود بصفات ولا جوهر. والحلول الصوفي بالذات الالهية امر مشكوك به من الالف الى الياء.
- القوانين الفيزيائية الطبيعية يمكن التحكم بها ماديا ولكن لا يمكنها المجانسة النوعية باي شكل او تدخل في علاقة صوفية مع الخالق الذي كما ذكرنا مفهوم ميتافيزيقي مصدره الايمان القلبي وليس العقل. ماهية الخالق لا تجانس ماهية البشر ولا حتى بالهوية. لذا من الصعب جدا افتراض حلول الذات البشرية الصوفية بذات الالهي التي لا تدرك أن تكون متحققة.
تناول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1 أغسطس 1930 - 23 يناير 2002) السلطة في سياق "نظرية مجتمعية" شاملة، والتي - كما هو الحال مع نظرية ميشيل فوكو - لا يمكننا هنا إنصافها، أو التعبير عنها بسهولة من خلال مناهج تطبيقية. ورغم أن موضوعه كان في الغالب المجتمع الجزائري والفرنسي، فقد وجدنا أن منهج بورديو مفيد في تحليل السلطة في عمليات التنمية والتغيير الاجتماعي. في حين يرى فوكو السلطة "موجودة في كل مكان" وتتجاوز نطاق الفاعلية أو البنية، يرى بورديو السلطة كعنصر ثقافي ورمزي، يُعاد إضفاء الشرعية عليه باستمرار من خلال تفاعل الفاعلية والبنية. والطريقة الرئيسية لتحقيق ذلك هي من خلال ما يسميه "الهابيتوس" أو المعايير أو الميول الاجتماعية التي توجه السلوك والتفكير. "الهابيتوس" هو "الطريقة التي يترسخ بها المجتمع في الأفراد على شكل ميول دائمة، أو قدرات مُدرَّبة وميول مُهيكلة للتفكير والشعور والتصرف بطرق مُحددة، تُوجِّههم". يتشكل "الهابيتوس" من خلال عملية اجتماعية، لا فردية، تُؤدي إلى أنماط دائمة وقابلة للانتقال من سياق إلى آخر، ولكنها تتغير أيضًا تبعًا لسياقات مُحددة ومع مرور الوقت. "الهابيتوس" "ليس ثابتا أو دائم، ويمكن تغييره في ظروف غير متوقعة أو على مدى فترة تاريخية طويلة": "الهابيتوس" ليس نتيجة إرادة حرة، ولا تُحدَّد بالهياكل، بل ينشأ من نوع من التفاعل بينهما على مر الزمن: ميول تُشكِّلها أحداث وهياكل الماضي، وتُشكِّل الممارسات والهياكل الحالية، والأهم من ذلك، تُحدِّد إدراكنا لها . بهذا المعنى، تُخلق الهابيتوس وتُعاد إنتاجها لا شعوريًا، "دون أي سعي متعمد لتحقيق التماسك... دون أي تركيز واعٍ". ومن المفاهيم المهمة الثانية التي طرحها بورديو مفهوم "رأس المال"، الذي يتجاوز مفهوم الأصول المادية ليشمل رأس مال قد يكون اجتماعيًا أو ثقافيًا أو رمزيًا. قد تكون هذه الأشكال من رأس المال بنفس الأهمية، ويمكن تراكمها ونقلها من مجال إلى آخر. يلعب رأس المال الثقافي - والوسائل التي يُنشأ بها أو يُنقل من أشكال رأس المال الأخرى - دورًا محوريًا في علاقات السلطة المجتمعية، إذ "يوفر وسيلة لشكل غير اقتصادي من الهيمنة والتسلسل الهرمي، حيث تتميز الطبقات من خلال الذوق".
"العناية الجنائزيّة ، واختيار المدافن، وموكب مأتمّي بهيج، أقل ضرورة لسلام الموتى منه من تعزية الأحياء" أوغسطينوس St Augustin, La cité de Dieu 1,12[1]
"ان الواقع هو طعام قبل كل شيء"[2] باشلار
الكلمات المفتاحية: مآدب المآتم – طقوس الانتقال - استئناس الموت – التبادل الرمزي –– الروابط الاجتماعيّة – المخيّال الجماعي - التخاصصية
تقديم عام:
لا تنحصر مسألة الأطعمة فيما هو طبيعي وبيولوجي فحسب بل هي ممارسة ثقافية وذات دلالة سيمائية ورمزية اكتسبها الانسان لحظة "الأكل من الشجرة"[3] فمن لحظة خروجه من الجنّة إلى حين لحظة جوعه وبحثه عن سدّ رمقه، بدأ في اكتشاف النبات وتعلّم قطف الثّمار والقنص والصيد (برا وبحرا وجوا)، وتسمّى هذه المرحلة من تاريخ البشرية بمرحلة القطّافين الصيّادين (Les pécheurs cueilleurs ). ومنذئذ تفنّن في إعداد المطبخ بحسب مراحل تطوره لأدوات الطبخ واستعمالاتها وفق ما اكتسبه من أنساق الثقافة وأنظمة الاجتماع[4] والتي حدّدت سلوكه الغذائي ونمطته وفق حاجياته، من أجل سدّ رمقه بما توفّره بيئته، وذلك في إطار توافق مع اعتقاداته ومعيشه اليومي من جهة، ومع المقدس والمتخيّل من جهة أخرى (بما فيه من سرديّة وردت عن طعام أهل الجنّة او عن طعام الميت[5]). ولقد اتضح ذلك أساسا في طقوس الانتقال/العبور (الولادة-الزواج-الموت)[6] فتتمايز حينئذ استعمالات الأطعمة بحسب تنوع الأديان (حلال/حرام) وتختلف بحسب الأمكنة والأزمنة وتعكس تفاوتا طبقيا بين الأفراد والجماعات والأمم. وهذه اللّامساواة أمام الحق في الغذاء، مثلت تهديدا للأمن الغذائي فنشبت حروب لم تتوقف. وآلت إلى نزف ثروات. ومايزال الاستعمار ينهب خيرات الشعوب، مما أدى إلى تحوّلات في السلوكيات الغذائية. وانتقلنا من التدبير الاقتصادي المنزلي الممركز حول ذاته، إلى التبذير التّابع لاقتصاد السوق. (انتقال من منتوجات بيولوجية بمورثات أصلية إلى معلبات بمورثات هجينة -من الاكتفاء الذاتي بالضروريات إلى التبعية للكماليات- ممن يمتلك فائض اللّذات إلى غيره الذي يعاني فائض الحرمان- ممن يموت بالتخمة إلى غيره ممّن يموت من الجوع-
فالاستعمار الفرنسي مثلا في تونس[7] أرسى نمطا استهلاكيا وعادات ذوقية غذائية جديدة (فكّكت ثقافة التدبير المنزلي واستبدلها باقتصاد السوق الاستهلاكي. فحول استعمالات الأطعمة المحليّة والصحيّة إلى سلوك غذائي سريع ومضرّ بالصحة وفاقد للمعنى). مما ساهم في تدمير وحدة الربط بين الأطعمة والأنظمة الرمزية الخصوصية، أي هويّة الطعام التونسي، واستبدالها بقيم مستوردة باسم الحداثة. وحدَّثت أساليب المطبخ، مما جعل ما عُرف بالجلاء الزراعي لم يكن جلاء في المطبخ التونسي ولا حفاظا على أمّننا الغذائي (لأنّ رهان الطعام هويّة شعب وتنمية مستدامة). لكن ما هو مثير للانتباه أن المجتمع في ظلّ الاحتفالات الدينية يستعيد ما يميزه عن غيره، ويجعله يتشبث بعاداته وتقاليده، مما يعني أنّ الطقوس الجماعية للطعام هي مناسبة يحرص فيها المجتمع على أن يبقى وفيا لخصوصيته ويستهلك التقليدي من الأشياء، ذلك أن طعام المناسبات الدينية أو الاحتفالات العائليّة ما هي إلاّ " تعابير هوية تعزز الشعور بالانتماء وتعيد تشكيل التضامن وليس طابعها الإلزامي مجرد مسرحية وإنما هو شكل من أشكال الخطاب الذي يتوجه المجتمع به إلى نفسه."[8] ويمكن لنا أن ندرج مآدب المآتم في هذا السياق الذي يحتاج منا تفكيرا وتدقيقا في كيفية عيش المجتمع التونسي الحالي لطقوسه من أجل فهم مدى محافظته على خصوصيته في الحداد والاحتفاء بالميت في ظلّ تحولات اجتماعيّة متسارعة مسّت كلّ مظاهر حياته.
إن التفكير في الإنسان في مثل هذه اللحظات شيء مخيف، التفكير في الوضع البشري الذي لا يبعث على التفاؤل أبدًا، بله، يكون التفاؤل سخرية من الوضع، لكن يا لشقاء الإنسان إذا لم يكن قادرا على طرح السؤال، فذلك يعني أنه لم يعد بمقدوره أن يمارس الرفض، أي أن يفكر أي أن يقول لا.
مالذي يُعدِم الإنسان في الإنسان؟ ليس هذا الذي نسميه انسانا سوى الكائن الوحيد القادر على قول لا، القادر على ممارسة الرفض، ومتى توقف عن ذلك فقد انسانيته، لقد نَاصَب سقراط-افلاطون الكتابَة العداءَ، لأنها العنصر الذي كان يحفظ النظام الإجتماعي، فمتى شاعت، شاعت الحكمة وفقد مجتمع القلة أفضليته بحصول المشاركة في ما يمثل القوة على البروز والتعبير عن الذات وتحققها، بعنصر الكتابة يدخل الكائن مجتمع الأنداد لأنه يصبح شخصا، شخصا لأنه مارس الرفض، وقد كان قبل ذلك مجرد أداة، مجرد تعبئة داخل المدينة، إنه الحطب الذي يسمح لشعلة النظام الاجتماعي بالاتصال.
هذه هي أعظم قضية من قضايا المدينة إن لم تكن موضوعتها الأساس، كيف يتم الحفاظ على النظام الإجتماعي، كيف يتم انتاجه، وكيف يصبح الإنسان مجرد حطب وتعبئة للحفاظ على هذا النظام
لقد سمحت الكتابة دائما بنزول المتعالي إلى الساحات العامة، فقد كانت دائما قائمة في ضدية المطلق قائمة في ضدية الميتافزيقا، إن الكتابة هي العملية التي يتم من خلالها خلخلة كل سلطة وكل هيمنة، فهي التي سمحت بنزول التعاليم السرية إلى الساحة العامة، إنها ما يمنح القانون أحقيته ليكون على رأس المدينة تحفظ سلطته وتحفظه هو نفسه (فرنان 1962 )، وبذلك فإن الحدث الأكثر جلالا في تاريخ أي حضارة إنسانية هو الخروج من الشفاهة والدخول في عرف الكتابة، ذلك أن الشطط كل الشطط في ممارسة السلطة دائما ما كان لصيقا بالشفاهة وبالخطابة، غير أن البئيس جدا هو الدخول في الكتابة دون التخلي تماما عن ذهنية الخطاب وشطط الكلام.
إن مجتمع القلة هو مجتمع الإقتران الحاصل بين السلطة والرأسمال، هو نفسه قضية خلق مجتمعين أو أكثر داخل ما يُفترض فيه أن يكون مجتمعا واحدا، وتغيب فيه الندية والشخصية، ثم إن قيمة الشخص لا تقوم إلا داخل مجتمع الأنداد بوصفه مجتمع الفرص المتكافئة، أما مجتمع القلة ولكونه يتكون من مجتمعين فإن الذين يكونون دون ندية القلة في الغالب هم نفسهم أداة حفظ هذا النظام وهذا التراتب، وهم في الغالب يسيرون في طريق فقدان انسانيتهم، حشد من الناس لا يستطيع أن يمارس الرفض، يتم افراغهم بمختلف الكيفيات من شخصياتهم وحملهم على الدخول والانخراط في الدفاع عن حقائق لا تمثل شخصيتهم ولا مصالحهم.
في مجتمع القلة يحصل الإنسان على ما دون الكفاف، ويعيش دائما على حافة الفاقة والعوز، إن المحرك الأساسي له هو الحاجة، وبذلك لا تتعدى أقصى مطالبة مجرد العيش، مجرد الاستمرار على قيد الحياة، وقد تم بذلك تعريضه للحصر، للقمع، للكبث، كلما أراد أن يقول لا، توجس خيفة من شبح الحاجة، إن أغلى ما يملك هو مجرد العيش وهو ليس مستعدا للتنازل على هذا المِلك، وهو بذلك انسان عارٍ من الإنسانية.
«أريد أن أؤكّد، إن كان هذا يحتاج إلى تأكيد، أن الكتاب يقع داخل الإسلام ومن أجله لا خارجه ولا ضدّه. هدفه تجديد الفهم للإسلام بوسائله الخاصة، وسائل الحضارة العربية طبعا، معزّزة ومؤيّدة بمكاسب ومنجزات الفكر الحديث والمعاصر. باختصار، طموحي كان ولا يزال هو عقلنة فهمنا للإسلام دينا ودنيا. الكتاب الأول والثاني يحاولان أن يعقلنا فهمنا للإسلام كتراث فكري ديني مجرد، كعقل مجرد. وهذا الكتاب يحاول أن يعقلن فهمنا للإسلام كمسيرة حضارية، كدولة وسياسة. وربما أطمح أيضا أن نتمكن يوما من تجاوز المعادلة الصعبة الخاصة بالأصالة / المعاصرة، إذا استطعنا أن نعقلن فهمنا للدين والدنيا معا.»[i]
«والدّوغمائية تقوم في جوهرها على تقديم مفتاح وحيدٍ يفتح جميع الأبواب. والمفتاح الّذي من هذا النّوع هو واحد من اثنين: إما مفتاح بوليس وإما مفتاح لصوص»[ii]
فاتحة:
تشكِّل المناقشة التّالية الجزء الثّاني الّذي نخصّصه لمقال العمري »الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية في أعمال الجابري « المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي المعنون بـ»محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة«. وقد أدرنا المقال الأوّل على محورين: الأوّل هو اعتراض العمري على جمع البلاغة والنّحو والفقة والأصول وعلم الكلام في إطار "النّظام البياني"، والثّاني هو ادّعاء العمري تحوّل الجابري من الفلسفة إلى البلاغة. وندير المقال الحالي على ثلاثة محاور، الأوّل هو استدراك العمري على الجابري بتشعيب "النّظام البرهاني" إلى "برهاني شبيه" و"برهاني صميم"!، والثّاني هو قوله إنّه "كان الأجدر بالجابري تناولَ "العقل السياسي" و "العقل الأخلاقي" ضمن مبحث البيان"، والثّالث هو "حسمه" في موقع رباعية "التفسير" بالنسبة إلى رباعيّته "النقد"، والزّعم أنّ الثّانية خرجت من الفلسفة إلى البلاغة التّطبيقيّة.
1. الاستدراك على الجابري بتشعيب "النّظام البرهاني" إلى "برهاني شبيه" و"برهاني صميم":
يقول العمري: «أعتقد أن هذا التحول نحو المجال البلاغي بدأ بمجرد الخروج من الجزأين الأول والثاني من نقد العقل العربي (التكوين والبنية): فبقطع النظر عن صلابة الرؤية وتماسك المنظومة في العقول الثلاثة (العرفاني والبياني والبرهاني) التي يدور حولها الكتابان، فلا نقاش في أن التصنيف هنا مبني على مستوى المعقولية التي تتصاعد صلابتها من العرفان إلى البيان، ومن ثم إلى البرهان. ونظرا إلى أن البرهان لم يستعمل بمعناه المنطقي الدقيق –بحسب تصريح الباحث- بقيت هناك درجة رابعة )عليا) في سلم المعقولية، هي درجة العقل البرهاني بحق. وربما تكون الرتبة التي سيحتلها «الفكر العلمي» الذي فكر الجابري في تناوله بعد الانتهاء من رباعية نقد العقل، كما جاء في مقدمة مدخل إلى القرآن الكريم. وبذلك نكون بصدد سلّم للصلابة العقلية من أربع درجات: عرفاني وبياني وبرهاني شبيه وبرهاني صميم.»[iii]
تخلى العديد من العرب ـ لأسباب مختلفة ـ عن إيمانهم بالأمة العربية، وأصبحوا يشككون علناً في وجود قومية عربية جماعية. وأخذ البعض يُفضّل اعتبار أنفسهم مسلمين في المقام الأول، وأنهم ينتمون إلى الأمة الإسلامية. وقد تحوّل مصطلح "العرب" في قاموسهم إلى تسمية مهينة ـ في بعض الأحيان ـ توحي بالإسراف، والسطحية، وعدم الكفاءة، والتبعية. فيما يُفضّل عرب آخرون أن يُعرفوا بوضوح بأنهم مصريون، أو سوريون، أو أردنيون، أو عراقيون. مواطنون في أكثر من إحدى وعشرين دولة مستقلة ـ باستثناء فلسطين المحتلة ـ لكل منها علمها ومصالحها الخاصة. حتى أن بعضهم لجأ إلى وصف أنفسهم بالشرق أوسطيين، تحسباً لسلام عربي إسرائيلي ونظام تعاون إقليمي جديد على غرار أوروبا. ويتمسك قلة من المثقفين على شعلة الحماس العربي والقومية متقدة. وهم غالباً ما يكونون في الخارج، في لندن أو باريس، أو في عواصم غربية أخرى حيث يتشاجرون حول ما إذا كانت العروبة والقومية العربية في حالة ركود، أم أنها في مرحلة التعافي.
كان الشعور بـ"العروبة" قائماً منذ أن وطأت أقدام العرب مسرح التاريخ، وظلت محل تفاوض من قِبَل كل جيل لما يقرب من ألف عام ونصف. في هذا الجيل، يجب أن يتكيف هذا الشعور "العروبي" مع ازدياد الولاء للدولة العربية القطرية، وتنامي التيارات الإسلامية، والانتصار العالمي للديمقراطية الليبرالية، وصعود رأسمالية السوق، والاختراقات التي حققتها إسرائيل في عدد من الدول العربية، واحتمال السلام معها. كانت جميعها عوامل أثرت سلباً على القومية العربية في تطورها على مدار معظم القرن الماضي ولغاية اليوم.
لا شك أن "العروبة" قادرة على استيعاب التحديات الجديدة، كما فعلت دائماً. فالقومية العربية ـ وهي إبداع حديث لهذا القرن ـ قد تتلاشى تماماً تحت وطأتها. ولكن مهما كانت آفاق القومية العربية، فإن تاريخها حتى هذه اللحظة يمثل أحد أبرز الأمثلة على سرعة نشوء أي قومية حديثة وصعودها وتراجعها. هذا التاريخ يستحق رواية جديدة، لأنه لم يُستدعَ في النقاش الأوسع حول تنامي عدم الاستقرار.
لقد كان هناك وقتٌ حظيت فيه القومية العربية بمكانةٍ بارزةٍ في الدراسات المقارنة للقومية، لكنها أصبحت لاحقاً حكراً على المتخصصين. حاول المؤرخان البريطاني "أرنولد توينبي" Arnold Toynbee والمؤرخ الأمريكي "هانز كون" Hans Kohnدمج القومية العربية في إطارٍ مقارن أوسع، أصبحا مناصريها الفعليين بين الحربين العالميتين، على الرغم من تحفظاتهما على القومية في كتابهما "القومية العربية: هوية خاطئة" Arab Nationalism: Mistaken Identity. لقد قبل ـ توينبي للسياسة البريطانية، وكوهن للصهيونية - أكثر شعارات القومية العربية تطرفاً باعتبارها بيانات عن حقائق اجتماعية أو ادعاءات أخلاقية لا تقبل الجدل، ولم يروا أياً من التناقضات الكامنة وراءها.
مثلت المسائل اللغوية أبرز ما أهتم به الفكر المعاصر لما لها من الأهمية الكبر ى، فقد جسدت وضعية نظرية دقيقة، حيث أصبحت اللغة المركز الذي تدور عليه اهتمامات متعددة في مجالات مختلفة. فانفتاح الثقافات على بعضها البعض ولد الحاجة إلى هذا الاهتمام المتزايد باللغة داخل كل أمة، وداخل كل ثقافة، ذلك أن اللغات لا تختلف باختلاف الشعوب فحسب وإنما تختلف أيضا باختلاف الاهتمامات الفكرية. إذ لا محيد للفكر عن اللغة والخطاب، أو لعل الفكر هو بالأساس لغة. إذا التفكير في بنية خطابات اللغة هو مرتبط بالعالم وبالإنسان. فكم من كلمة أشعلت حروبا وأقامت الدنيا ولم تقعدها. وكم من كلمة تبركنا على أعتابها في أوقات الضيق لتزيل عنا كربنا وغمنا، وقد تأتي هذه الكلمة على لسان علامة أو مفتي، كما قد تأتي على لسان نبي. وكم للكلمات الفواتح من فتح مبين. فوطن كل أمة أو شعب هي لغته التي بها تكلم، ذلك أن اللغة هي الأفق الذي فيه تتحدد علاقتنا بالعالم وبالآخر.
واللغة ، التي نحن بصدد تناولها، لغة ربانية ومعطى سماوي مقدس، إذ نحن بصدد انزياح أو عروج عن وثنية تأصلت في وجدان الأمة العربية الإسلامية. إذ لعلنا اليوم أشد حاجة من أي وقت مضى إلى التفكر في اللغة وباللغة وفي إعادة طرح مسألة الخطاب القرآني، وحل كل رابطات حقوق الله وما تمثله من الرابطات من غطرسة على بنية القول والتفكير.
فباسم المقدس ننسلخ عن آدميتنا، وباسم الدين تتعالى الأصوات لانتهاك ما هو بشري وتطويعه و تركيعه. وصار من الوجوب أن نعيد طرح "جهازنا " المفاهيمي من داخل النص القرآني وفق رؤية تكون مرجعيتها العقل والدين لأنه آن الأوان لرفع كل وصاية على ما هو مقدس، أو لرفع وصاية الأرض عن السماء.
من المعروف أن النص القرآني لا زال يلهم الكثير من القراءات المتعددة، وما تتعرض إليه حضارتنا من هجوم خارجي وداخلي على الإسلام، خارجي وهي نظرة الغرب الصليبية للعرب والإسلام بما هو رمز للإرهاب والتطرف، وداخلي يتمثل في احتكار أو محاولة احتواء النص القرآني من طرف قلة ارتأت لنفسها المشروعية في التكلم باسم الإله، وأنها نخبة الله المختارة على الأرض وما عداها فهو ضلال مبين. فمن الواجب أن يعيد المفكر العربي والمسلم إعادة تفكير الإسلام كمنظومة دينية وفكرية، أي لابد من قراءة جديدة للخطاب الديني بما هو نص شديد الثراء وكثيف المعاني، نص قصصي البنية ورمزي المقاصد، والقطع مع التأويلات الأيديولوجية المسيسة للإسلام. وتجاوز القراءات الدغمائية السطحية للنص القرآني. وفضح كل قراءة تدعي أنها قادرة على معرفة كلام بشكل متطابق مع غاياته النهائية والأخيرة. هذه الضرورة إلى أعادة قراءة النص الأصلي أو الأم سمح بتعدد التفاسير واختلاف الرؤى في تفكيك الخطاب المقدس وهو منهج اشتهر به جاك دريدا1.إذ يطور دريدا منهج التأويل في حواره مع النص الصامت والذي يشكل مصدر لغط وغلو. ولم يبق الخطاب القرآني كوحي أو كحديث للآلهة بل قد ارتبط بالإنسان والنسيان وقد كانت دائما هناك محاولات للهيمنة على هذا الخطاب والسيطرة عليه. وما تميزت بالسطحية في تناولها وتفسيرها للخطاب القرآني والوقوف عند تخوم العبارة وذلك بالتداخل بين المقدس والدنيوي وتظهر الذات الإلهية متجسدة في صورة هي أقرب للبشر منها للآلهة، ويتبدى الخطاب مفعما بروح التضاد والتوتر بين السماء والأرض، خطاب عمودي متعالي أساسه الوعد والوعيد. في هذا التداخل والتشابك بينما هو إلهي فينا وما هو دنيوي بما أننا قد نفخ فينا من روحه.
مقاطع أخرى
-
غسان كنفاني.. والتأسيس للأدب الفلسطيني بعد النكبة
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا في سنة 1936م، وعاش في مدينة يافا، ثمّ اضُطر للنزوح عنها تحت ضغط الاحتلال الصهيوني، وكان ذلك في سنة 1948م، ثم أقام لفترة وجيزة مع ذويه في جنوب لبنان، ثم بعدها انتقلت عائلته إلى دمشق، وقد عاش حياةً صعبة وقاسية فيها، حيث عمل والده في مهنة المحاماة، وقد اختار أن يعمل في قضايا كان معظمها قضايا وطنية خاصة بالثورات التي كانت تحدث آنذاك في فلسطين، وقد اعتقل لمرات عديدة، إلّا أنّه تميز بأنّه شخص عصامي وذو آراء متميزة، الأمر الذي ترك آثراً عظيماً في شخصية غسان وحياته.
عمل غسان منذ شبابه في مجال النضال الوطني، فقد عمل مدرساً للتربية الفنية في مدراس وكالة الغوث للاجئين الفلسطينين في دمشق، ثم انتقل بعدها إلى الكويت في سنة 1965م، إذ عمل هناك معلماً للرياضة والرسم في مدارس الكويت الرسمية، وكان خلال هذه الفترة يعمل أيضاً في الصحافة، فقد بدأ إنتاجه وإبداعه الأدبي في نفس الفترة، ثم انتقل في سنة 1960م إلى مدينة بيروت، حيث عمل هناك محرراً أدبياً في جريدة الحرية الأسبوعية، ثم في عام 1963م أصبح رئيس تحرير لجريدة المحرر، كما عمل أيضاً في كل من جريدة الحوادث، والأنوار حتى سنة 1969م، ثم بعدها أسس صحيفة الهدف، وظل رئيس تحريرها لفترة من الزمن.يعد غسان كنفاني نموذجاً مثالياً للروائي، والكاتب السياسي، والقاص الناقد، فقد كان مبدعاً معروفاً في كتاباته، كما كان مبدعاً في نضاله وحياته، وقد حصل على جائزة في عام 1966م بعنوان أصدقاء الكتاب في لبنان، وكان ذلك لرواية (ما تبقى لكم) والتي أاعتبرت وقتها أفضل رواياته، كما حصل على جائزة منظمة الصحافيين العالمية، وفي عام 1974م حصل على جائزة اللوتس، والتي منحه إياها اتحاد كتاب إقريقيا وآسيا في عام 1975م.
أشهر روايات غسان كنفاني:
عائد إلى حيفا. رجال من الشمس. أرض البرتقال الحزين. أم سعد. عن الرجال والبنادق. القميص المسروق. العاشق. ما تبقى لكم. عالم ليس لنا. الشيء الأخر.
وفاة غسان كنفاني:
استشهد الروائي غسان كنفاني يوم السبت صباحاً بتاريخ 8 /7/ 1972، وكان ذلك بعد انفجار عبوة ناسفة في سيارته، والتي وضعت من قبل جهة معينة بهدف اغتياله. -
الناقد فيصل دراج وعلاقته بالكتب والكتابة
الناقد فيصل دراج وعلاقته بالكتب والكتابة.
فيصل دراج
مفكر وناقد فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، فرنسا. عمل في عدة منشورات ومجلات ثقافيّة فكريّة منها: شؤون فلسطينيّة، سلسلة حصاد الفكر العربي...إلخ. نشر العديد من المقالات والمؤلفات، منها: "ذاكرة المغلوبين" (2001)، و"الرواية وتأويل التاريخ"(2004)، و"الحداثة المتقهقرة" (2005). فاز بعدة جوائز عربية، منها: جائزة الإبداع الثقافي لدولة فلسطين سنة 2004، وجائزة الدراسات الأدبية والنقد سنة 2010. -
ندوة الثقافة و الثورة للشهيد مهدي عامل
سيداً في ملكوت الكلام، عالمياً، متعالياً، بالتأمل يحيا، وللتأمل. هكذا كان الفكر، على امتداد قرون خلت، في انفصام مع الواقع، له الثبات المطلق، وللتاريخ المادي التّغير والحركة.
كان يحلو له بين حين وحين، أن يُطِلَّ من علياء تجريده على الواقع، فيدينه تارة، وغالباً ما يعذره. لكنّه من خارج كان يحكم، وما كان يقوى عليه. وكان، حين يتوق إلى واقع آخر، أو أفضل، يحكم، أو يتخيل، أعني يتأول. وما كان يرتبط بقوى التغيير الثوري حين كان يطمح إليه. وما كان يدرك شروط هذا التغيير وأدواته. لذا، كان يجنح نحو الطوباوية، في أشكال شتّى، فيقدم للواقع ذريعة بقاءٍ وحجة تأبُّد.أيّ موقع كان يمكن أن يكون للمثقف في مثل هذا الانفصام المتجدد بين الفكر والواقع؟
موقع المنبوذ، أو موقع خادم السلطان، سواء أكان شاعرا أم فقيها، حليما، فيلسوفا أم أديبا. وما كان الفكر، في الموقعين، بقادر على أن يغيّر. كان يرفض، أحيانا، أو يُبَرّر. يهجو أو يمدح، وفي الحالتين يرتزق. أو يتصعلك، إنّ خرجَ على السائد ونظامه، كأّنه محكوم بموت يتأجل. يحتج على الشرع ويثور، لكن، من موقع العاجز عن نقض الشرع. فيتصوّف. يستبدل الأرض بالسماء، ويزهد. أو يستكين للدنيا وللآخرة، فَيُعقلِنُ الاثنتين في نظام الاستبداد، لسلطته يرضخ.
والسلطة، بالدين، تبدو مطلقة. وهي المقدسة، في الغيب وبالغيب. وهي السلطةُ، فوق الرفض وفوق النقض، سيفها على الرقاب مسلّطٌ، والرقاب خاضعةٌ، راضية. فمن تمرّد، فعلى سلطة الدين يتمرد. إذّاك يُحَلُّ دمُه. حتّى لو كان الحلاجَ، أو السهر وردي. أما ابن تيميه، أو الغزالي، أو من شابههما، فعلى التمرد والمتمردين، في كل عصر، يشهران سلاح الدين، سلاح السلطة، فيكبلان العقل، يرهبان الروح، ويئدان الجسد
لم يكن للمثقف، في عالم كهذا، سوى أن يختار بين الاستتباع أو الموت، بين أن ينطق بلغة الاستبداد ونظامه، أو أن ينطق بلغة الصمت، أعني بلغة المكبوت ورموزه. هكذا كانت الثقافة تجري في صراع بين اثنتين: واحدة هي ثقافة الأسياد، بتياراتها المختلفة المتباينة، أو أخرى هي ثقافة المقهورين، بأنواعها المتعددة. لم تكن الثقافة يوما واحدة، وليس من الجائز حصرها في ثقافة رسمية، أو مسيطرة، أو معلنة. كانت ثقافة مناهضةٌ لهذه، مكبوتةٌ، مستترة، لعلها أكثر شيوعاً من الأولى، أو أصدق تعبيرا عن ضمير الناس وطموحاتهم. كانت، مثلاً، في حكايات ألف ليلة وليلة، أو في عروض خيال الظل، أو في سير الأبطال الشعبية. وهي، بالتأكيد، أكثر تمردا على الواقع القائم، وأشد رفضاً له. لكنها عاجزة كانت عن تغيير العالم، فيما هي كانت تطمح إليه.
ليس بالحلم تكون الثورة، وإن كان الحلم شرطاً من شروطها. ومن شروط الثورة أن يتوفر لها وعي متّسق، إليه تستند، وبه تستبق الممكن. أعني الضروري. ومن شروطها أن يتجسد وعيها المتسق هذا، أي العلمي، وفي وعي القائمين بها، جماهير الكادحين، المنتجين بأيديهم وأدمغتهم، صانعي التاريخ، بوعيهم الممارسيّ يستحيل الوعي النظري قوةً ماديةً تَدُكُّ أعمدة القائم، وتهيئ لولادة الجديد.
لمن يكن للثقافة، في زمن انفصام الفكر عن الواقع، دورٌ في تغيير العالم، إلا ما لا يكاد يذكر. كانت، كلما حاولت القيام بهذا الدور، تُقمع وتُهان، باسم الدين غالباً، وبتهمة الكفر أو الزندقة، وبتهمة التحريف أو الهرطقة. فالثقافي، حتى في ثقافة الأسياد، يرتدّ عليهم وعليها، فهو المبتدعُ في فعل الحرية، يتهدد ويزعزع. إنها القاعدة في كل العصور: كلما انحازت الثقافة إلى جديد ضد القديم، إلى المتغيّر ضد الثابت، إلى النار ضد الرماد، وإلى الحياة والحلم، اضطُهِدت واضطُهِدَ المثقفون، أحباءُ الحرية و الآفاق الزرقاء الرحبة. إنها البداهة في ضرورة أن يكون المثقف ثائرا، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكونيّ، ضد كل ظلامية، أو لا تكون.
تلك مشكلة المثقف والثقافة بامتياز. وهي قضية الثورة في آن.
ثم التحمت، لأول مرة في تاريخ الفكر، نظرية الثورة بحركة الثورة، فالتأم الفكر، في نشاطه المعرف نفسه، بقوى التغيير، فلم تعد الثورة تفتقد فكرها، ولم يعد الفكر سجين تأملاته. لقد بات الممكن قابلا للتحقيق، فهو الضروري في حركة التاريخ المادي، لا يتحقق إلا بنضال ثوري. والنضال وعدُ الكادحين بأن أنظمة الرجعية والاستبداد إلى زوال. وللنضال شروطٌ وأشكالٌ وأدوات. من شروطه أن يهتدي بعلم الثورة، أعني بتلك النظرية التي أسّسها ماركس، وأقامت ثورات الشعوب المضطهدة على صحتها البرهان، بالملموس التاريخي. ومن أشكاله ما تمارسه قوى المقاومة الوطنية في كفاحها ضد الاحتلال، وضد الفاشية والطائفية. ومن أدواته الأولى الحزب الثوري. حزب العمال والفلاحين والمثقفين.
منذ أن التحمت النظرية بالثورة، لم تعد الثقافة حكرا على نخبة من الكهنة. فلقد عمت ضرورتها حتى بات على العامل، كي يكون عاملاً، أن يكون بأدوات إنتاجه المادي مثقفاً، وعلى المثقف، كي يكون كذلك، أن يكون بأدوات إنتاجه الفكري كادحاً. والإنتاجان واحدٌ في سيرورة التاريخ الثوري، هذا الذي يؤسس لحرية اليد المبدعة. ليست الثقافة كتابة، وإن كانت الكتابة من أركانها. إنها تَمَلُّكٌ للعالم في حلم، أو حقل أو مصنع. أما المثقفون، فهم المنتجون، بأيديهم وأدمغتهم، ضد أنظمة القمع والاستغلال والجهالة، فكراً، فناً وجمالاً هو حبّ للحياة. وأما غير المنتجين، القابعين في قبحهم، فهم الأسياد بأنظمتهم. وأما هدم الأنظمة، فهو مهمة الثورة في كل آن.
والثورة في لبنان ما تزال فاعلةً في سيرورة حرب أهلية فجرتها الرجعية لإنقاذ نظامها الطائفي وفرض الفاشية، فانقلب عليها، وعلى نظامها، ثورةٌ وطنيةٌ ديمقراطية تخلخل وتصدّع، لا يخيفها عائقٌ، فهي التي تُخيف، بها ينهار عالم بكامله، ويشرئبُّ إلى الولادة آخر. تتفكك نُظُمٌ من الفكر والاقتصاد والسياسة يصعب عليها الموت بدون عنف، تتصدى لجديد ينهض في حجرشة الحاضر، وتقاوم في أشكال تتجدد بتجدد ضرورة انقراضها، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها على موعد الموت.
إذن، فليدخل الفكرُ المناضل في صراع يستحثّ الخطى في طريق الضرورة الضاحكة. فهو اليانع أبداً، وهو اليَقِظُ الدائم، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذّر. يستبق التجربة بعين النظرية، ولا يتخاذل حين يُفاجَأ : يتوثّب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمّن للنظرية قدرتها على التشامل، ورحابة أفق تتسعُ لكل جديد. هكذا يكتسب كل نشاط نظري طابعاً نضالياً، ويتوق كل نشاط ثوري إلى التعقلنِ في النظرية، فتتأكد، بالتحام النشاطين في الملموس التاريخي، ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية.
والحرب في لبنان حربان: حرب على إسرائيل، وحرب على الفاشية والطائفية، لكن الرجعية، بأطرافها المتعددة، تستميت في محاولة إظهارها مظهر الحرب الطائفية. وتفشل دوما في المحاولة، برغم كل ما أحاط وما يحيط بهذه الحرب من وحول الطوائف. وكيف تكون الحرب طائفية حين يكون الموقف من إسرائيل، مثلا، محوراً للصراع فيها؟ وكيف تكون طائفية حين يحتدم فيها الصراع بين القوى الرجعية ـالطائفيةـ وهي من مختلف الطوائف ـوالقوى الوطنية الديمقراطيةـ وهي أيضا من طوائف متعددةـ، حول الموقف من هوية لبنان، أو من الثورة الفلسطينية، أو من الامبريالية، أو من الاحتلال الإسرائيلي، أو من قوات الحلف الأطلسي، أو من اتفاق 17 أيّار، أو الاتفاق الثلاثي نفسه، ومن “الاقتصاد الحر” أيضاً، بل حتى من الطائفيّة إياها، بما هي النظام السياسي لسيطرة البرجوازية اللبنانية؟
ليست الحرب طائفية، ولا الصراع فيها بطائفي. إنه، في أساسه، صراع بين قوى التغيير الثوري للنظام السياسي الطائفي، والقوى الفاشية الطائفية التي تحاول، عبثاً، تأييد هذا النظام. إنه، باختصار، صراع طبقي عنيف بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة، في سيرورة حرب أهليةٍ هي في لبنان سيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية. فله، اذن، سمة العصر في زمن الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وله، تالياً، طابع كوني هو طابع الصراع إياه المحتدم، ليس بين معسكر الاشتراكية ومعسكر الامبريالية، أفقياً، وحسب، بل رأسياً أيضاً، أو عمودياً، في كلٍّ من بلدان المنظومة الرأسمالية العالمية، بما فيها، بالطبع، البلدان العربية. فما هو موقع الثقافة والمثقفين من هذا الصراع؟ ما هو موقفها وموقفهم منه؟ ما هو دورها ودورهم؟.
والسؤال لا ينحصر في لبنان، ما دام الصراع فيه هو إياه، بطابعه الكوني نفسه، في جميع البلدان العربية، وإن اختلفت شروطه بين بلد وآخر، وتنوّعت أشكاله، أو تفاوت تطوره. فالحروب الأهلية تتهدد بلدان العالم العربي جميعها بلا استثناء، وآلية الصراع فيها تنبئ بإمكان اندلاعها في كل آن. وأنظمة البرجوازيات العربية في أزمة. والتغيير الثوري بات ضرورة ملحة في كلّ منها، وحاجة يومية في نضال الجماهير الكادحة. لكن الثورة في انتظار قيادتها. والثورة سيرورة طويلة معقدة، ولها مراحل وأحوال. وعلى الثقافة تطرح سؤالها: أمع الثورة أم ضدّها؟ وعلى المثقفين تطرح السؤال: أمع التغيير أم ضدّه؟ والسؤال سياسي بامتياز. وثقافي في آن.
لا تعارض بين السياسة والثقافة. وكيف يكون تعارضٌ بين الاثنتين، كيف يصح اختيار الواحدة ضدّ الأخرى في منظور التاريخ الثوري؟ لئن كانت في البدء الكلمةُ، فلقد كانت، بدئيا، مبدعة. وللحرية كانت، ضد القمع، تناضل وتثابر في رفض الظلم، وللحب كانت في قلب الإنسان. تؤسس في فعل التغيير معناها. وتجود بالجميل يحتج على قبح العالم في نُظُم الاستبداد. هكذا تتكون الثقافة دوماً ضدّيّاً، تنمو وتتكامل في صراع مستمر ضد كل قديم يموت. وفي البدء كانت السياسةُ، صراعاً مستمراً بين قوى التغيير الثوري وقوى تأبيد الواقع. يخطئ من يظن أن السياسة نظام، حكم، أو مؤسسات، أو أنها بالدولة تتحدد. إنها، في ذلك، من موقع نظر البرجوازية وإيديولوجيتها المسيطرة. لكنها، في منظور العلم والتاريخ، صراع طبقي شاملٌ كلّ حقول الحياة، لا هامش فيه للرافض، بالوهم، أن يكون له فيه موقع. إنها حركة التاريخ في مجرى صراع له المتن، والهامش فقط لمن قد مات، أو كان، من موقعه في الماضي، رفيقَ دربٍ للموت.
إذن لكل ناشط في الحياة أن يأخذ موقعاً وأن يحدد موقفاً: أمع الثورة أم ضدها؟ بالكلمة الفاعلة واليد المبدعة. والثورة ليست لفظاً أو تجريداً. إنها طمي الأرض لا يعرفها من يخاف على يديه من وحل الأرض.
وكيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر مُتّسخة به، وتهدمه وتغتسل بوعدٍ أنّ الإنسان جميلٌ حراً؟ فلتتوضح كل المواقف، ولتتحدد كل المواقع، ولتكن المجابهة في الضوء. كيف يمكن للثقافة أن يكون لها موقع الهامش في معركة التغيير الثوري ضد الفاشية والطائفية؟ كيف يمكن للمثقف أن يستقيل من نضال ينتصر للديمقراطية، هو أكسجين الفكر والأدب والفن؟ بوضوح أقول، فالوضوح هو الحقيقة، من لا ينتصر للديمقراطية ضد الفاشية، للحرية ضد الإرهاب، للعقل والحب والخيال، وللجمال ضد العدمية وكل ظلامية، غي لبنان الحرب الأهلية، وفي كل بلد من عالمنا العربي، وعلى امتداد أرض الإنسان، من لا ينتصر للثورة في كل آن، مثقّف مزيف، وثقافته مخادعة مرائية. إذا تكلم عن الثورة، في شعره أو نثره، فعلى الثورة بالمجرد يتكلم، من خارج كل زمان ومكان، لا عليها في حركة التاريخ الفعلية، وشروطها الملموسة. وإذ يعلن، في نرجسية حمقاء أنّه يريدها، فبيضاء لا تهدم ولا تغيّر. تُبقي القائم بنظامه، وتحنّ إليه إذا تزلزل أو احتضر. كثيرون هم الذين في لبنان يحنّنون إلى لبنان ما قبل الحرب الأهلية، ويريدون التغيير للعودة إلى الماضي، ويريدونه إيقافا لانهيارات الزمان. أما الآتي، فمن الغيب، إلى الغيب. إنه موقف المنهزم، لا بصراعٍ، بل بتسليمٍ واستكانة. إنه موقف من يُصنعُ التاريخ بدونه. وله في التاريخ موقعٌ ترفضه الثقافة، إذ الثقافة، في تعريفها، مقاومة. فإذا ساوت بين القاتل والقتيل انهزمت في عدميتها، فانتصر القاتل، وكانت، في صمتها، شريكته.
أيُّ ثقافة هذه التي تتساوى فيها الأضداد، فيختلط الأسود بالأبيض في رمادية اللون والمعنى؟ إنها الثقافة المسيطرة بسيطرة البرجوازية وإيديولوجيتها، في أشكال منها قد تتخالف، لكنها، في اللحظات التاريخية الحاسمة، دوما تتحالف ضد الثقافة الثورية النقيض. هكذا تنعقد بين العدمية والظلامية مثلا، أو بين هذه وتلك، وأشكال من الفكر الديني، تحالفاتٌ ترعاها البرجوازية، بل تتوسلها في مجابهة الفكر المادي، محور الثقافة الثورية وقطبها الجاذب. أليسَ من الطبيعي أن ينعقد التحالف وطيداً في مجرى هذه الثقافة بين جميع المثقفين المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، الطامحين إلى تغيير العالم وتحريره من سيطرة الرجعية والامبريالية؟ أليس من الضروري أن تتشابك أيدي الكادحين جميعاً ـفي زمن الثورات العلميةـ ضد الجهل تُعمِّمهُ أنظمة البرجوازيات العربية؟
فرحة للثقافة والمثقفين أن تتهاوى أنظمة القمع هذه في كل أرجاء الوطن العربي، بفعل نضال الثوريين يتوحدون، على اختلاف تياراتهم وانتماأتهم الفكرية والسياسية، في حركة ثورية جديدة واحدة، تعيد إلى العالم نضارته، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكراً على فكر، أو حزب، أو طبقة. إنها سيرورة تتكامل في الاختلاف، وتغتني بروافد التغيير تصبّ فيها من كل صوب، في كل مرحلة. لكنها تتعطل، أو تظل زاحفة، أو منحرفة، إن لم يكن للطبقة العاملة فيها موقعٌ هو موقع الطبقة الهيمنيّة النقيض، ودورٌ هو دورها التاريخي نفسه، ليس في قيادة الانتقال إلى الاشتراكية وحسب، بل في كل مرحلة من سيرورة هذا الانتقال. لا بقرارٍ، بل بالممارسة الثورية، وعلى قاعدة نهجها الطبقي الصحيح، وبقيادة حزبها الشيوعي، تحتل الطبقة العاملة موقعها ذاك في الحركة الثورية، وتضطلع بدورها. والتاريخ الثوري لا يرحم متخلّفاً عنه، ولا هو يسير بعكس منطقه. فلئن فعل، فلِأجلٍ، لا تلبث، بعده، أن تستعيد سيرورته الثورية منطقها. ومنطقها أن تنتكس الثورة، حتى في طابعها الوطني الديمقراطي، فتراوحَ، فتنهزمَ إلى مواقع رجعية، كلما استأثرت بقيادتها قوى غيرُ هيمنية، من فئات وسطية تحتل في السلطة موقع السيطرة الطبقية، همّها الأول ألا تستكمل الثورة سيرورتها، بحسب منطقها الضروري في تقويض علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بارتباطها التبعي بالامبريالية، وفي إقامة السلطة السياسية الثورية القادرة على انجاز هذه المهمة.
بين منطق الثورة ومنطق هذه القيادة غير الثورية تناقضٌ يشل الحركة الثورية ويضعها في أزمة تنعكس في ممارسات سلطوية قمعية ضد قوى الثورة وجماهيرها، وبالتحديد، ضد الطبقة العاملة التي هي، بحزبها الطليعي ونهجها الوطني الصحيح، النقيض الثوري. إنّ الحل الجذري لتلك التناقضات بات يفرض، بضرورة منطقه، ضرورة تغيير تلك القيادة الطبقية لسيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية، واستنهاض حركة ثورية هي، في اتساقها مع مهماتها، من نوع جديد، ولها وحدها القيادة. ومن أولى خصائصها، أن تسعى فيها الطبقة الهيمنية النقيض إلى أن يكون نهجها الطبقي نفسه، في سعيها إلى السلطة، نهج الحركة بكاملها. لا بالقمع، بالممارسة الديمقراطية الثورية.
لئن كان القمع أو الفئوية، في لغة أخرى، أو الاستئثار بالسلطة، أو الانفراد بالقيادة هو الشكل الطبقي الذي يحكم علاقة القوى غير الهيمنية، في وجودها في موقع الهيمنة الطبقية، بأطراف التحالف الطبقي الثوري، وكان، بالتالي ضروريا بضرورة التناقض في أن تحتل تلك القوى هذا الموقع، فإن الديمقراطية، كناظم للعلاقة بين أطراف التحالف إياه، وحق للجميع في الاختلاف، واحترامٍ لهذا الحق وممارسته، أقول إن الديمقراطية هذه هي، بالعكس، الشكل الطبيعي، أعني الضروري، الذي يحكم علاقة الطبقية. ذلك أن علاقة الاتّساق والتلاؤم بينها وبين موقعها هذا هي، بالضبط، الأساس المادي لضرورة الديمقراطية في علاقة القوى الثورية بعضها ببعض. وهي ضمانة تحقق هذه الضرورة.
-
الحزن جميل جدا ـ مظفر النواب
الحـزن جمـيـل جـدا
والـليـل عـديمُ الطعمِ بدون هموم
والناسُ خريفٌ يمطـر
والأيام على الـذل سـموم
أهـلا بدعاةِ الـموضوعية
جـارتـنـا إسـرائـيـلُ حـبيـبتـنا
ذات الفضـل عـلى تـطـويـر ديمقراطيتنا
هي صاحبة الأرض
ونحن الغرباء وشـذاذ الآفاق
ونحلم أنّا وطن عربي مزعـوم
ونكاد نقبل كفيها مـنحتـنا إحدى البـلـديات
وبالكـاد مطـارا تحت الـمجهر ليلا ونهاراً
ويؤذن بالعبرية بعد قليل
وعلى مدفع إسرائيل نصوم
أنزل سحابك للأرض ولا تخجل
دولٌ خَـلعت
مارست العهر المكشوف
بعورات ست نجوم
عارض إن شئت ملائكة الأمن تحيطك
مطلوب خمس دقائق
ياالله
وتدخل إنسانا وتخرج
لاشيء من الإنسانية فيك سوى الصمت
وتسأل أين الله
وكيف توحـدت الموسـادات العربية والموساد
وتُسرُّ بصمت قـدر محـتوم .. محـتوم
وتفضل حارب إسرائيل
بكل عروبة عورتك الزرقاء
وقاتل دون سلاح دون حدود تفتح
علّ حدوداً تجرح بعض المعنيين
من الآن نقول تخوم
إياك وإن عريت أمام العالم أن تيأس
ثم قتال شرس باق ما بقي الله
ويحتاج سلاحاً وحدود داخل رأسك
احـذر أن تزرع إسرائيل برأسك
حصـن رأسك
وابدأ بسلاح أبـيض منه
هـجوم بعـد هـجوم
بعد هجوم يا ولدي
لا نصر بدون هجوم
أو تصبح قوادا دوليا يا ولدي
مفهوم مفهوم يا ولدي مفهوم
آخر المواضيع في
إضاءة :
كم نحن بحاجة ماسة للحفر في المتن الشعري والغنائي الإنشادي للتعبيرات الشعبية المغربية التي طالها الإهمال والتناسي. إنه إرث المغاربة الأحرار الذي أبدعه بسطاء المواطنين و الحرفيين و الصناع التقليديين المعبرين بشعرهم وزجلهم و نظمهم الشعبي عما كابدوه من هموم حياتهم ، وما صاغوه من أغراض شعرية لفن الملحون باعتباره أحد التعبيرات الجمالية التي رأت النور في بيئة خاصة ، مذيبة وملهبة لم تعقهم مع ذلك عن الإفصاح بنظم الكلام المعسول ، والصدح بإنشادهم المصقول عن آمالهم وأحلامهم وتصوراتهم للحياة والأحياء ؛ إنها بيئة : "تافيلالت" ، مرتع الإنشاد والطرب، والمروءة والعجب .
- عن فن الملحون ونشأته :
يرجع الدارسون وفق موسوعة : "معلمة المغرب " (2) إلى ظهور البوادر الأولى من شعر الملحون بالمغرب إلى العهد الموحدي في القرن الثاني عشر ويعتبر هذا الفن رافدا أساسيا للذاكرة الفنية المغربية، اتخذ من لهجة المغاربة الأحرار أداته المعبرة عن مشاعر بسطاء القوم من الحرفيين والصناع التقليديين، و قد رأى النور بمنطقة : " سجلماسة " و " تافيلالت " تحديدا، ثم تطور وانتشر بعد ذلك في المدن التاريخية التي اتخذتها الأسر الحاكمة في العهود الماضية عواصم لها ك: مراکش و فاس ومکناس وكذا مدينة سلا.
و الملحون شعر شفهي له حفاظه ورواته ومطربوه المنشدون لأشعار شيوخه بفصاحة في الأداء وبيان في الايصال وفق ايقاعات دقيقة بواسطة آلات موسيقية تقليدية من صنع الحرفيين و المغاربة الشعبيين.
و يمكن اعتبار فن الملحون ؛ توثيق للذاكرة الجماعية، وحفظ لتراثها الشفهي من الضياع عبر تسجيلها صوتيا . وهو يختزل بعضا من مقومات الثقافة ؛ المغربية / العربية / الأمازيغية / الاندلسية ،
و مظاهر حياتها الأصيلة.
وقد أدرج هذا الفن أخيرا في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية بمنظمة اليونيسكو في دورتها الثامنة عشرة ، بتاریخ : 6 دجنبر 2023 .
إنَّ المَنْفَى لَيْسَ مَحصورًا في إطارٍ زَمَانيٍّ ، أوْ حَيِّزٍ مَكَانيٍّ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تأثيرِهِ العَمِيقِ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ ، واشتمالِهِ عَلى آلامِ الغُربةِ وَالحَنِينِ إلى الوَطَنِ ، واحتوائِهِ عَلى مَعَاني الاستلابِ والاغترابِ ، رُوحًا ومَادَّةً ، فِكْرًا ومُمَارَسَةً . وَالمَنْفَى لا يَحْمِلُ فَلسفةَ الانتقالِ في الزَّمَانِ فَحَسْب ، بَلْ أيضًا يَصْنَعُ زَمَانَهُ الخاص الذي يَقُومُ عَلى صُوَرِ الذاكرةِ المُحَاصَرَةِ . وَالمَنْفَى لا يُمَثِّلُ فِكْرَةَ الاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ فَحَسْب ، بَلْ أيضًا يَصَنَعُ مَكَانَه الخاص الذي يَقُومُ عَلى أحلامِ الوَطَنِ المَفْقُودِ . وهَكذا يُصبح المَنْفَى هُوِيَّةَ مَنْ لا هُوِيَّة لَه ، ويُصبح التاريخُ عِبْئًا عَلى الحَضَارةِ ، وتُصبح الحَضَارَةُ إعادةَ تأويلٍ للتاريخ . فالتاريخُ الشَّخْصِيُّ للفَرْدِ يَطْرَحُ تَساؤلاتٍ عَن قِيمَةِ الإنسانِ بِدُون وَطَنٍ ، والتاريخُ العَامُّ للمُجْتَمَعِ يَطْرَحُ تَسَاؤلاتٍ عَن مَعْنَى الزَّمَانِ بِلا مَكَانٍ . لذلكَ صَارَ المَنْفَى نَوَاةً مَركزيةً في الشِّعْرِ والفِكْرِ عَلى حَدٍّ سَوَاء ، فالشاعرُ الفِلَسْطِينيُّ محمود دَرْويش ( 1941 _ 2008 ) وَظَّفَ المَنْفَى في شِعْرِهِ كَقِيمَةٍ لُغويةٍ وَحَقيقةٍ مُتَشَظِّيَةٍ . يَقُولُ درويش في قصيدته ( رسالة مِنَ المَنْفَى ) : (( مِنْ أيْنَ أبْتَدِي ؟ / وَأيْنَ أنْتَهِي ؟ / وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ دُونَ حَد )) .
صَارَ المَنْفَى عَمليةَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ ، لا تُعرَف البِدَايةُ ، ولا تُعرَف النِّهَايَةُ . إنَّهُ مَتَاهَةٌ وُجودية ، والإنسانُ فِيهَا ضَائعٌ وحَائِرٌ ، وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ مَفتوحةٌ بِلا حُدُودٍ ، وَتَضْغَطُ عَلى المَشاعرِ والأفكارِ ، وَالوَقْتُ دائمًا طَوِيلٌ عَلى الشخصِ المُعَذَّبِ ، حَيْثُ إنَّهُ يُعَاني في كُلِّ لَحْظَةٍ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَمَرُّ الوَقْتُ سريعًا وَيَنْقَضِي كَي يَرتاحَ مِنَ الألَمِ والعَذابِ ، فالثَّوَاني بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالدَّبَابيسِ المَغروسةِ في جِلْدِه . وَشِدَّةُ الوَخْزِ تَمْنَعُهُ مِنَ الاستمتاعِ بِعُمْرِهِ ، وَشِدَّةُ الألَمِ تَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَن قَضَاءِ الوَقْتِ مَعَ أحْبَابِه . حَتَّى هَؤلاء الأحباب لَيْسَ لَهُمْ وُجُود في الواقعِ، فَهُمْ غَائبونَ أوْ مُغَيَّبُون . وَالمَنْفَى قَادِرٌ عَلى تَوليدِ الاغترابِ بشكلٍ مُستمر في الإطارِ الزَّمَانيِّ ، وإنتاجِ الغِيَابِ بشكلٍ دائم في الحَيِّزِ المَكَانيِّ. لذلك ، كانَ المَنْفَى هُوَ الغِيَاب الذي لا يَغِيب ، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي .
مُبرّر اختيار هذا العنوان، هو البيت التّالي للمتنبّي الذي نقترحه للتّحليل:
وَشَرُّ مَا قَنَصَتْهُ رَاحتي قَنَصٌ***شُهْبُ البُزَاةِ سَوَاءٌ فِيهِ وَالرَّخَمُ
ومن السّياقات العامّة الحاضنة لقصيدة هذا البيت، ما ذكره الخطيب التّبريزي أنّ المتنبّي نظمها مُعاتبًا، وأنشدها في محفلٍ من العَرَبِ، أمّا السّياق الخاصّ فيروي الشّارحُ أنّ سيف الدّولة إذا تأخّر المتنبّي عن مدحه شقّ عليه ذلك وأحضر من لا خير فيه، وتقدّم إليه بالتّعرّض له في مجلسه بما لا يُحبّ، أمّا السّياق الثّالث الأخصّ فيُذكر أنّ القصيدة قيلت لمّا أكثر سيف الدّولة في التّعريض بالمتنبّي مرّة بعد مرّة، وعندها قال يُعاتبه.
ثلاث سياقات متداخلة، ولكنّها متباينة من حيثُ طبيعة العلاقة بين الشّاعر والأمير، فنجدها عتابًا في السّياق العامّ الأوّل وتعرّضًا أو تعريضًا في السيّاقيْن الثّانييْن. والعتاب يقع في درجة أقلّ من التّعريض لأنّه خطابٌ يضمر مودّة ورغبة في إدامة الوصال، وإذا ما تجاوز حدّه شارف التوبيخ والتعريض وربّما تحوّل هجاءً. وفي العتاب قال ابن رشيق في كتاب العمدة: "العتابُ وإن كان حياة المودّة، وشاهد الوفاء فإنّه باب من أبواب الخديعة، يُسرعُ إلى الهجاء، وسببٌ وكيدٌ من أسبابِ القطيعةِ والجفاء، فإذا قلّ كان داعية الألفة، وقيد الصّحبة، وإذا كثُر خشُن جانبه وثقُل صاحبه"[1].
فالعتاب واقعٌ بين الودِّ والصدِّ، والولاءِ والبغضاءِ، والقطيعةِ والجفوةِ. منطقةٌ وُسطى يمكن أن يزلّ فيها اللّسانُ ويُغالى فيها بالكلام الموحش، فتُحزّ الرقابُ بسببه وتطيرُ الأرواح. فالعتابُ موضوعٌ زلقٌ رخوٌ لأنّه مزيجٌ من الشيء ونقيضه، ولذلك أوردَ ابن رشيق خبرًا حول قصيدة المتنبّي التي تضمّنت البيت المُصدّر يقول أنّه "كاد يُقتل عند انصرافه من مجلسِ إنشادها وهذا الغرورُ بعينه"[2]. ويبدو من خلال الخبر أنّ الشّاعر قد أضرعته حمّى العتاب فأفرط وتجاوز الحدّ وخرج من تلك المنطقة الوسطى الرجراجة إلى "السُّباب" وشارف تخوم الهجاء. وما يؤكّد ذلك شواهد كثيرة منها أنّ المتنبّي غيّر عجز بيت في المقطع الأخير من القصيدة فقال في الأوّل [البسيط]:
لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيْرًا عَنْ مَيَامِنِنَا*** لَيَحْدُثنَّ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ النَّدَمُ
ثمّ بدّل العجُز مستدركًا بالتكنية عليه بضمير الغيبة الجمع قائلاً:
لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيْرًا عَنْ مَيَامِنِنَا*** لَيَحْدُثنَّ لِمَنْ وَدَّعْتُهُمْ نَدَمُ
ويكاد ابن رشيق ينفرد بهذا الخبر وقد رأى فيه رغم جودته "غايةً من القبح والرّداءة"[3] من جهة الواجب والسّياسة. وعلى الرّغم من خروج المتنبّي من التّصريح (لسيف الدّولة) إلى التّعريض والتّلميح (لمن ودّعتهم)، فإنّه في كلّ الأحوال قد جاوز العتاب لا محالة، وربّما كان التّعريض والتّورية بضمير الغيبة الجمع، أهجى من التّصريح.
وإذا ما تجاوزنا مسألة السّياق ونظرنا في البيت المذكور من حيثُ موضعُه من القصيدة ككلّ، لألفيناه واقعا في المقطع الأخير، فهو البيت الخامس والثّلاثين من جُملة سبعٍ وثلاثين بيتًا للقصيدة ككلّ. فالبيت ينضوي ضمن قفلة القصيدة وحصيلة العتاب ومآل الكلام، سبقته شكوى من برود قلب الممدوح وعدم الاحتفال به والإقبال عليه، إلى مدحٍ خفيف لسيف الدّولة بعلوّ الهمّة ووقوع مهابته في قلوب الأعداء أبلغَ من الأبطال والسّيوف التي معه، ثمّ يستأنف العتاب من جديد فيذكره بأنّه لم يشمله عدلُه ولم ينصفه وقد استوت في عينيه "الأنوارُ والظّلمُ"، وفي قسمٍ لاحق يتحوّل العتاب إلى فخرٍ بالقلم والسّيف وركوب الأهوال، ثمّ يستأنف اللّوم والعتاب في مقطع ثالث مع تلميح بالرّحيل والانقطاع بقوله "أرَى النّوى تَقْتَضِينِي كُلَّ مَرِحَلَةٍ"، ثمّ تأتي القفلة المتكوّنة من ثلاثة أبيات أخيرة يمكن أن نختزلها في معنييْن: حصيلة ما كسبَ (مَا قَنَصَتْهُ رَاحَتِي) وحصيلة ما قال (عتابٌ إلاّ أنّه مِقَةٌ، درٌّ إلاّ أنّه كَلِمُ)، أو لنُسمّها حَصِيلَة المال والأقوال، المالُ يستوي فيه الشّاعر مع أراذل الشّعراء وخِساسهم (البُزاة والرّخم)، وكذلك القول الشّعري الذي يستوي فيه الحبّ مع العتاب فهو درٌّ وكَلِمٌ في آنٍ.
وإذا ما نظرنا إلى البيت المذكور في مستوى بنية القصيدة ككلّ، وجدناه أقرب إلى بيت التّخلّص باعتباره يأتي بعد أن أزمع المتنبّي الرّحيل إلى مصر وقرّر الانقطاع النّهائي عن الممدوح. مثلما تشِي صياغته التركيبيّة القائمة على الإخبار بجملة تقريريّة مثبتة ومُصدّرة بواو الاستئناف الدالّة على الجمع والترتيب والتّعقيب. إذْ تأتي جملة البيت وصلاً معنويّا على ما سبق من ثلاثة شُرور جناها الشّاعرُ خلال صحبته لسيف الدّولة وهي على التّوالي:
- شرُّ الصُّحبةِ من خلال قولِه في البيت الذي سبِقَ: "شرُّ البلادِ مَكَانٌ لاَ صَدِيقَ بِهِ"
- شرُّ الكَسْبِ عامّة في قوله في نفس البيت: "وشرُّ ما يكسبُ الإنسانُ ما يَصِمُ"، أي ما شرّ ما كسبه هو ما عابه وأذلّه في إشارة خفيّة إلى أنّ هبات وعطايا سيف الدّولة وإن كثرت، فهي لا تُعادلُ تقصيره في حقّة وإيثاره لحُسّاده.
- شرُّ الكسب بالشّعر خاصّة في البيت المذكور "وشرُّ ما قَنَصَتْهُ راحتي".
فالاستئناف في جملة البيت الأخير، جاء على معنى التّعقيب إذْ هان الكسبُ والرّبحُ عَقِبَ انتفاء الصّحبة والمعاملة اللائقة بالشّاعر، وكذلك على معنى التّرتيب أو الترتّب في الشدّة نزولاً، إذْ لا قيمة ولا مذاق لما يكسبُ من عطى الممدوح إذا اهتزّت العلاقة وشابتْها الجفوة والتبرّمُ.
البيتُ يعتريه الكثير من اللَّبس والإبهام لغويًّا ومعجميّا وبلاغيّا ودلاليّاً، فعلى المستوى النّحوي جملةٌ اسمية واحدة: مبتدأ "شرُّ ما قنصته راحتي" وخبر قائم على مركّب تمييز "قَنَصٌ شهبُ البُزاة سواءٌ فيه والرَّخمُ"، وصرفيًّا هو مُركّب تفضيل صيغته "شرُّ"، وهي من الصّيغ الخلافيّة بين النّحاة فثمّة من يراها صيغة سماعيّة جامدة مثلها مثل "خير"، وثمّة من يُجوّز إرجاعها إلى صيغة "أَخْيَرًا وأشَرًّا" وسقطت الهمزة لكثرة استعمالها حذفًا شاذًّا. غير أنّ اللَّبس يلامس التّفضيل نفسه، فإن كان يُوحي في ظاهره التركيبي بالتفضيل على الزّيادة من قبيل "وأفعلُ ما"، فإنّنا نُلفيه في مستوى المعنى "وشرُّ" دالاًّ على التّفضيل على النّقصان، أي الزّيادة طردًا في أمرٍ سيّء وقبيح. فكأنّ ظاهر القالب التركيبي الشكّلي مدحٌ وتفضيلٌ، أمّا معناه ومقصده فذمٌّ وعتاب.
وقد لا يقف اللّبس والاشتباه عند الجانب التّركيبي، فبلاغيّا يحقّق البيتُ حُكما خبريًّا ذا فائدة، إلاّ أنّه قد يخرجُ عن مقصوده الإخباري إلى معانٍ سياقيّة ثاوية فيه كإظهار الضّعف والتحسّر على انفراط العلاقة بسيف الدّولة وخيبة الأمل، وقد لا يخلو البيتُ أيضًا من معنى الإنكار وإن جاء على صيغة جملة خبريّة مثبتة شكلًا. أمّا على مستوى الأسلوب فلو اختزلنا البيت في معنى "أسوأ القنص ما اشترك فيه شهبُ البُزاة والرَّخم"، لألفيناه محقّقا لظاهرة التّناصّ مع مثلٍ عربيّ قديم تعاورته كتب الأمثال ونصّه "شرّ صيدٍ صِدْتُه، ما شاركتني فيه اللّئامُ". فهل يمكن القول بالتّالي أنّ البيت المذكور هو إخراجٌ للمثل القديم من مستوى الإطلاق والإرسال إلى مستوى التّقييد والتّخصيص على سيف الدّولة وشُعرائه؟ وقد يمتدّ التناصّ إلى الشّعر أيضا إذْ رأى أصحاب كتب السّرقات والمآخذ مثل أبي العبّاس المهلّبي ومحمد بن أحمد العميدي[4] أنّ المتنبّي قد أخذ المعنى بغير اللفظ من بيتٍ لشاعر اسمه الحسن بن القاسم ويُلقّب بالدّاعي العلوي وفيه يقول:
إذا كُنتَ ذا بَصَرٍ فميّزْ فضْلَ مَا*** بين الفَراءِ وبينَ صَيْدِ الأرنبِ
ويعتقد العميدي أنّ المتنبّي قد قلبَ الفَراءَ وهو حمار الوحش بازًا والأرنب رخمةً.
أمّا إذا يمّمنا النّظر في عجز البيت من النّاحية البلاغيّة، سنكتشف تداخُلاً آخر أساسه تركيب الاستعارة على التّشبيه، فداخل كلّ من المشبّه والمشبّه به استعارة تصريحيّة، ويمكن تمثيل هذا التّداخل والتّراكب بالخُطاطة التّالية:
ولئن تساءلنا عن سرّ الاستعارة الكامنة في التّشبيه، لِمَ أرسى اختيار المتنبّي على صورة الباز وطائر الرّخمة لإجراء المقارنة بينه وبين خِساس الشّعراء في بلاط سيف الدّولة؟
مرّة أخرى، نرى وأنّ مبدأ اللَّبس والتّماهي هو النّواة المولّدة للصّور والمعاجم في القصيدة، فيبدو الاختيار المعجمي متناسبًا ومعقودًا على ما قبله وتحديدا على ما جاء في شكل قالبٍ حكميّ في أبيات المطلع وفيه يقول:
وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِنَاظِرِهِ***إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأَنوَارُ وَالظُّلَمُ
ومغزى الحكمة في المُطلق هو أنّه لا نفعَ للإنسان البصير إذا لم يُميّز بين الأنوار والظّلم، وتخصيصًا تصبح الحكمة موجّهة لسيف الدّولة ليُميّز بين المتنبّي وغيره من الشّعراء ممّن لم يبلغوا درجته، فلا ينبغي أن يستويا في عينيْ الممدوح. وبالتالي نستطيع أن نفهم مبرّر الاختيار على الباز والرّخمة بناءً على مبدأ الخلط والتماهي في عين الممدوح التي لم تميّز الشّاعر الباز من بقيّة الطّيور الرّخم. غير أنّه مرّة أخرى قد لا تفي فكرة التماهي بالإجابة إذا لم نتساءل عن سبب الاختيار للباز والرّخمة عن دونها من بقيّة الطّيور. وهنا تُسعفنا الدّلالة المعجميّة بأحد مكوّنات التّناسب في القصيدة بين الصّورة والمعجم والسّياق. فبالعودة إلى المعاجم نكتشف أنّ الباز والرّخمة يتعارضان في أغلب الخصائص والطّباع ويتشابهان في اثنين فقط وهما: اللّون والشّكل، ويمكن أن نتمثّل المقارنة بينهما بالجدول الموضّح التّالي:
|
الباز |
الرّخمة |
نقاط التّعارض |
- يصطادُ بالانقضاض على الفريسة. - يعشّشُ في الأماكن العالية. - يُضرب به المثل في الذّكاء وحدّة البصر. - قالوا: "إنّ المعالي لها بازٌ به افتخرت". - من فصيلة النّسور. |
- لا تصطاد، وإنّما تعيش على أكل الجيف وجثث الموتى المتعفّنة - تعشّش في المنحدرات والأماكن الواطئة. - يضرب بها المثل في الغدر والموق والقذارة. تأكل العذرة (مجمع الأمثال للميداني). - قالوا في كتب الأمثال: "أمْوَقُ من الرَّخْمَةْ" والموقُ هو الحمق في غباوة. - من فصيلة العقبان النسريّة. |
نقاط التّشابه |
- الباز أشهبُ، وهو ما فيه بياضٌ يصدعه سوادٌ. |
- الرخمة طائرٌ أبقعُ على شكل النّسر خلقةً، إلاّ أنّه مبقّعٌ بسوادٍ وبياضٍ يقالُ له الأَنُوقُ. |
بين بياضٍ غلبَ على السّواد (أشهب) وسوادٍ غلبَ على بياضٍ (أَنُوق)، اختلطت الألوان على سيف الدّولة ولم يعد يفرزُ بَازِيه عن فصيلة العقبان النّسريّة، ولا صوتَ "طائره المحكيّ" عن الصّدى، تماهت أمام عينيه الألوان، فزاغت بصيرته وصار يراه ولا يراه، بل يراهم ولا يراه، وهو "أخيرُ زمانه" "والنّفيسُ الغريبُ حيثما كان"، فهو النّسرُ وسط العقبان وشتّان بين الأصيلِ والهَجينِ، ولذلك لامه وأغلظ في عتابه ليقول له سائلاً: كيفَ يُساويهم في المَنْزِلَةِ والنّوالِ وهمْ دونَهُ في القِيمة والمَقَالِ؟ وكيف يكون بينهم ومنهم وهو الصّوتُ وهمُ "الصّدى"؟
وليست سمة التناسب وحدها هي ما يبرّر تركيزنا على هذا البيت بعينه، بل ظاهرة أخرى تكادُ تخترق الشّعر العربي والإنساني بقديمه وحديثه، ألا وهي استعارة "الشّاعر الطّائر" وفي مقابلها صورة سلطان المجلس ناثر الحَبَّ، والأديبُ طائر يحطّ ويلقطُه من هُنا وهُناك. صورة اعتورها الشّعراءُ قبل المتنبّي وبعده باستعارات متقاربة. فها هو الشّاعر اليمنيّ محمد بن حمير الهمداني يقول[البسيط]:
مُيمِّمًا قَصْدَ أبوابِ المُلوكِ ولي...قَدْرٌ يُجَلُّ وحظٌّ عِنْدَهُمْ يَفِـــرُ
إِذَا الغَوِيرُ نَبَا بي زُرْتُ دُمْلُوةً...فالطّيرُ يسقُطُ حيثُ الحَبُّ ينتَثِرُ
وقريبٌ من هذه الصّورة يقول بشّار بن بُرد في والي البصرة في خلافة المنصور عُقبة بن سلم مُشيدًا بجزالة عطاياه[الخفيف]:
حَرَّمَ اللّهُ أنْ ترى كابنِ سَلـْـمٍ...عُقْبةِ الخَيْرِ مُطْعِمِ الفُقَـــراءِ
يسْقُطُ الطّيرُ حيثُ ينْتثِرُ الحَبـْ...بُ وتُغْشَى مَنَازِلُ الكُرَمــَـاءِ
غير أنّ المتنبّي وإن سار على سَمت القالب الاستعاري القديم، فإنّه وسّع من طاقة التّرميز والتّخييل، فزاغَ عن صورة الطّائر اللاّقط للحَبّ إلى الطّائر الصّائد من الجوارح، يصيد الفريسة الحيّة ولا يقتات من الجيف. وكأنّه بذلك يحاول إسْماء منزلة الشّاعر الطّائر من مجرّد فرخٍ داجنٍ لاقطٍ للحبّ، إلى كاسرٍ حُرٍّ متوحّشٍ يتأبّى عن التّرويض والتّدجين، بل شحنه بسمة الكبرياء والتّعالي وعزّة النّفس، فهو الطّائر الصّادح الذي يظلّ مستعليًا منفصلاً ولا يحطّ وسط العقبان والرّخم.
وداخل نفس الحيّز التّصوّري للشّاعر الطّائر، استطاع المتنبّي أيضًا أن يلعبَ على رمزيّة الألوان لا سيما ثنائيّة الأبيض والأسود، فصوّر لنا طائر الباز الأشهب (بياضٌ غالبٌ على قليل من السّواد) وهو يحطّ وسط أسراب الرّخم فينطمسُ بياضه ولم يعد يُرى وسط السّواد الغالب على الرّخم الحمّاء. فبين الشُّهْبَةِ التي هي بياضٌ مُشربٌ بأدنى سوادٍ والحَمْأةِ وهي السّوادُ الغالبُ على البياض، انطمست الألوان وتشابهت ولم يعد يُرى النّسرُ الأشهبُ وسط العقبان السّوداء المُدجّنة. تماهت الأشياء وضاعت الرؤية بضياع النّظر والتّمييز والكلُّ معقودٌ بما سبق من كلامٍ في أوّل القصيدة وهو استواء "الأنوار والظّلم".
هكذا شكّلت استعارة الطّائر مَحْمَلاً خصبًا اصطفى منه الشّعراء عديد المعاني مثل الإباء والانعتاق والتّسامي، فبعد ما يقارب عشرة قرون من الزّمان سيكتب الشّاعر الفرنسي "شارل بودلير" قصيدة "طائر القطرس" بنفس الأحياز التّصوريّة القائمة على ثنائيّة الشّاعر الطّائر. وبحسّ فنّي بديع اختار "بودلير" القطرس ملك السّماء الذي يقضي جلّ حياته مُحلّقا ولا يحطّ على اليابسة إلاّ نادرا ليمارس الحبّ. غير أنّه أحيانا قد يحطّ في المكان الخطأ فيقع على دفّة السّفن وعندها يقبض عليه البحارة، فيتسلّون بنتف ريشه وقتله مغالبةً للسّأم والملل.
وبين قطرس بودلير "ملك الغيوم"، وباز المتنبّي "الصّادح المحكيّ" تواشجات وتقاطعات كثيرة وإن تباعدا في الزمان والمكان، وقد يكون من أهمّ ما يجمع بين المثاليْن خاصّيتان يشترك فيها المتنبّي مع بودليير: الأولى هو فكرة الشاعر الطائر الممزّق بين الأرض والسّماء، بين حاجيات اليومي ومنشود العالم المثالي، والثانية هو إمكانيّة أن يحطّ الشّاعر الطّائر في المكان الخطأ فيصبح محلاّ للسّخرية والتّشنيع والإذلال مثلما حطّ القطرس على دفّة السّفن فعبث به البحاّرة وحطّ الباز وسط العقبان الدّاجنة فتلوّث بهم. فكأنّ الصّوت الخفيّ بين الشاعريْن يقول لنا وللشّعراء: أيّها الشّاعر، إذا رمت أن تعيش عظيما عزيز النّفس فلا تحطّ في المكان الخطأ.
بهذا البيت الواقع في نهاية القصيدة أصاب المتنبّي مقاتل الكلام، بلطف الخروج وذكاء التخلّص. وقد اعتبر القدامى أنّ من بين أسرار حذق صناعة الشّعر حسن خاتمة الكلام باعتبارها أبقى في السّمع، وألصق بالنّفس؛ لقرب العهد بها؛ فإن حسُنت حسن، وإن قبحت قبح، والأعمال بخواتيمها. ولعلّ آخرَ ما علق بالنّفس في هذه القصيدة صورتان أو حالتان: بازٌ يتأهّب للطّيران والرّحيل ليحطّ في أرضٍ أخرى (مصر) وقد ضاق بالمكان، وقولٌ يتلجلجُ بين المودّة والقسوة، ظاهرهُ كَلِمٌ وباطنه كَلْمٌ.
[1] ابن رشيق القيرواني. كتاب العمدة في محاسن الشّعر وآدابه، باب العتاب. بيروت، دار الجيل، 1981، ص160.
[2] المرجع نفسه، ص 165.
[3] المرجع نفسه، ص 165.
[4] محمد بن أحمد بن محمد العميدي. الإبانة عن سرقات المتنبّي لفظا ومعنا. القاهرة، دار المعارف، سنة 1961، ص125.
توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية
إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، تُوظَّف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وعي الأفراد وتوجيهه تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة والأفكار الرأسمالية، وخصوصًا تمجيد الحضارة الغربية، وبشكل أكثر تحديدًا القيم الرأسمالية الأمريكية. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين والمستخدمات، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وغيرها، ويتم تصميمها بحيث تُغذّي الأفراد بمحتوى يتماشى مع القيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها وافكارها.
على سبيل المثال، وفي معظم المنصات الرقمية، تُعرض الإعلانات والمحتويات الترويجية التي تُشجّع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة، والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة، والاستهلاك، وأنماط الحياة الفاخرة كمعيار للحياة "الناجحة". مثال آخر على ذلك هو خوارزميات محرك البحث "غوغل"، التي تُصنّف النتائج وفقًا لمنطق السوق والإعلانات المدفوعة، لا وفقًا للأهمية الاجتماعية أو الفكرية أو العلمية للمحتوى. فعند البحث عن مفاهيم مثل "النجاح"، "التنمية الذاتية"، أو حتى "السعادة"، تظهر النتائج الأولى مرتبطة بشركات تطوير الذات، ودورات مدفوعة، ونصائح استهلاكية تقوم على الفردانية والربح، في مقابل تغييب أو تهميش التحليلات العلمية الرصينة والأفكار اليسارية والتقدمية، بل وحتى عدم اظهارها ويعني حضرها بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في العديد من الحالات.
يؤدي هذا إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية. ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى زمني طويل، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها أدوات محايدة. إن هذه السياسة تُشكل خطرًا بالغًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية، وتُسهم هذه الأساليب والسياسات الدقيقة في تكريس الهيمنة الرأسمالية أكثر فأكثر، وتعزيز ولاء الجماهير وخنوعها للنظام القائم.
أُلقي القبض في الأسابيع الأخيرة في لبنان على عدد من المشتبه بهم بالتعاون مع إسرائيل والمكلفين بالتجسس على حزب الله، مما ألقى الضوء مجدداً على مدى انتشار وعمق التجسس الإسرائيلي في لبنان، والذي يُعتقد أنه منح الكيان الصهيوني ميزة كبيرة في حربها الأخيرة.
يقول محللون إن مستوى اختراق الموساد لدوائر حزب الله لم يكن ممكنًا إلا بتجنيد هؤلاء الجواسيس في لبنان. وأفادت التقارير أن حزب الله فقد آلافًا من مقاتليه في هجمات إسرائيل خلال الحرب الأخيرة. فقد أعلنت السلطات اللبنانية عن اعتقال أربعة أشخاص على الأقل في الفترة الأخيرة. ينحدر معظم المشتبه بهم من جنوب لبنان، وبعضهم لديه أقارب قضوا في صفوف حزب الله.
في النبطية، جنوب لبنان، أعلن جهاز أمن الدولة أنه ألقى القبض على رجل عُرف بأحرفه الأولى باسم أ.س. بعد عودته من إسرائيل "التي دخلها خلسةً".
وأفاد بيان صادر عن جهاز أمن الدولة أن المشتبه به "اعترف خلال التحقيق معه بحيازته جهازاً متطوراً زوده به الإسرائيليون، يُستخدم لمراقبة وتصوير بعض المراكز المهمة في لبنان، ويتيح التواصل المباشر بينه وبين العدو الإسرائيلي"، مضيفاً أنه أُعطي سترة لإخفاء مبالغ نقدية كبيرة لاستخدامها في مهامه التجسسية. وزُعم أن أ.س. اعترف ببدء تعامله مع إسرائيل منذ بدء حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وصرح جهاز أمن الدولة بأنه تم ضبط جميع المعدات التي قدمتها إسرائيل والتي عُثر عليها في منزله.
وفي الفترة نفسها تقريباً، أعلن الجيش اللبناني عن إلقاء القبض على متعاون آخر مشتبه به، قيل إنه جُنّد عبر فيسبوك. أفادت التقارير أن الشخص الذي عُرف باسم ح.ع. من قرية بيت ليف الحدودية الجنوبية كان عضواً في حزب الله، وقدّم معلومات للإسرائيليين عن قادة الجماعة المسلحة. وورد أنه زار إسرائيل تحت حماية طائرة إسرائيلية مسيرة كانت تراقب كل تحركاته. ولم يتضح بعد كيف أو متى عبر إلى إسرائيل، لكن القوات الإسرائيلية لا تزال متمركزة في أكثر من 60 بلدة وقرية حدودية في جنوب لبنان، على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينص على انسحابها.
كما ألقي القبض على رجل آخر من جنوب لبنان، يُقال إن عائلته معروفة بانتمائها الوثيق لحزب الله، ولديه أقارب لقوا حتفهم في الحرب، من قبل مخابرات الشرطة اللبنانية، أو شعبة المعلومات. ووفقاً لتقارير إعلامية محلية، فإن هذا الشخص، الذي انتشرت صورته على نطاق واسع على الإنترنت بعد انتشار خبر عمله المزعوم مع إسرائيل، قدّم أيضاً معلومات حساسة عن قادة حزب الله مقابل ما يصل إلى 20 ألف دولار.
أفادت التقارير أنه سافر إلى تركيا حيث التقى بمسؤولي تجسس إسرائيليين كلفوا بمهام من بينها جمع معلومات استخباراتية عن مراكز حزب الله في قرى جنوب لبنان. كما طُلب من الرجل جمع معلومات عن مستودعات أسلحة حزب الله وكيفية استلامها وتوزيعها.
وأُلقي القبض على جاسوس رابع مشتبه به من منطقة البقاع شرق لبنان، حيث استهدفت إسرائيل عشرات البلدات والقرى بشكل مكثف. وقد أُحيل جميع المشتبه بهم إلى الجهات المختصة لمزيد من التحقيقات.
يحمل الصمود أو ما يمكن ترجمته حرفياً بـ "الثبات" ـ بصفته مفهوماً وطنياً فلسطينياً ـ معنى العزيمة القوية، والإصرار على البقاء في الوطن والتمسك بالأرض. ويُرجّح أن الصمود كان جزءًا من الوعي الفلسطيني الجماعي بالنضال من أجل الأرض والتشبث بها، يعود تاريخه على الأقل إلى عهد الانتداب البريطاني. إلا أن الصمود، كرمز وطني استخدم في ستينيات القرن الماضي. وأصبح جزءًا من إحياء الوعي الوطني الفلسطيني بعد نشوء حركات المقاومة الفلسطينية كمنظمات رائدة في مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان. حيث كان اللاجئون المقيمون في المخيمات يُعرفون بالصامدين، إذ كان النضال من أجل الحياة اليومية والحقوق الوطنية في تلك المجتمعات يتطلب مستوى عالياً من الصمود. لقد عزز الصمود رسالة الكفاح المسلح التي سيطرت على خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك. وكان الحاضر الأكبر حين تغيرت الأدوات من النضال المسلح إلى المقاومة اللاعنفية
الصمود هو أكثر من مجرد سمة شخصية، فهو أداة ثقافية ونفسية تربوية فعّالة، وقد أصبح سمة مميزة للمقاومة اللاعنفية في فلسطين. يأتي صمود النساء الفلسطينيات خاصة كنموذج حيّ وعالمي للصمود في ظلّ ظروف بالغة الصعوبة. لهذا النموذج إمكانات تعلّمية هائلة، لا سيما في فلسطين، كما يُجسّد الصمود سرديةً فلسطينيةً راسخةً تتحدى المحاولات العديدة لقمعها أو تشويهها، كما هو الحال في كثيرٍ من الخطاب الغربيّ الشعبيّ حول فلسطين. الصمود إذن فعلٌ من أفعال الوجود والتأكيد على الحق في الحياة على أرض الأجداد.
لقد شهدت المئة عام الأخيرة من التاريخ الفلسطيني ندوباً من النزوح، والتشريد، والنفي، والفقدان. فبالإضافة إلى التطهير العرقي ومصادرة أراضيهم، واجه الفلسطينيون أيضاً تشويهاً متعمداً لتاريخهم وإنسانيتهم. يشعر السكان المدنيون الفلسطينيون يوماً بعد يوم بآثار احتلال عسكري يُعدّ الآن من أطول الاحتلالات في التاريخ المُدوّن، إذ تمتد جذور هذا الظلم إلى عام 1948 حين طردت إسرائيل وهجرت بقوة السلاح حوالي مليون فلسطيني مما أصبح فيما بعد يُعرف بدولة إسرائيل. يتعرض الفلسطينيون الباقون لتمييز ترعاه الدولة، يؤثر على كل جانب من جوانب حياتهم. ومما زاد الطين بلة، أن الواقع الكئيب للمحنة الفلسطينية قد خيم عليه خطاب "سلام" هش وغير فعال خلال العقود القليلة الماضية، لم يترك مجالاً للقصص اليومية عن معاناة الفلسطينيين.
ونظراً لطول المدة التي تحملوا فيها هذا القمع والظلم الصهيوني، فإن هناك عقلية معينة تربط الفلسطينيين ببعضهم البعض. غالباً ما تُغفل، وبالتأكيد لا يتشاركها الجميع، ولكن لا يزال يُنظر إليها على أنها سمة فلسطينية أصيلة. إنها تتعلق بشعور مشترك بالهوية، والحفاظ على القوة الداخلية في مواجهة كل الصعاب - التكامل في مواجهة التشرذم، والحياة في مواجهة الموت. هذا ما يعنيه الفلسطينيون عندما يتحدثون عن الصمود والثبات.
يشكل الذكاء الاصطناعي اليوم محورًا لتحول جذري يمس مختلف أبعاد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ لم يعد مجرد أداة تكنولوجية، بل أصبح رافعة استراتيجية لإعادة رسم خريطة التنافسية العالمية. وفي هذا السياق، يندرج تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الذكاء الاصطناعي بالمغرب، باعتباره وثيقة مرجعية تستشرف آفاق هذا التحول وتقدم رؤية مركبة حول مكامن القوة ونقاط الضعف، وتوصيات استراتيجية قابلة للترجمة إلى سياسات عمومية فعالة.
ينطلق التقرير من تشخيص دقيق لمنظومة الذكاء الاصطناعي في المغرب، حيث يُسجَّل توفّرُ إرادة سياسية ناشئة وتنامي وعي جماعي بأهمية الانخراط في الثورة الرقمية. وتبرز في هذا الصدد بعض المبادرات المؤسساتية الرائدة كمركز AI Movement وبرنامج "الخوارزمي"، إلى جانب انخراط المغرب في التوصيات الدولية بشأن الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا. غير أن هذه الدينامية تصطدم بجملة من الإكراهات البنيوية، أبرزها غياب إطار قانوني وتنظيمي خاص بالذكاء الاصطناعي، وضعف تحرير المعطيات العمومية، وعجز المقاولات الناشئة عن الولوج إلى التمويل الملائم، ناهيك عن النقص الحاد في الكفاءات المؤهلة، سواء في مجالات البرمجة أو تحليل البيانات أو التسيير المبتكر للمشاريع الرقمية.
لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على كونه محركًا للنمو الاقتصادي، بل يشكل أفقًا لتجديد نماذج التنمية، من خلال تحسين الخدمات العمومية، وتعزيز الإدماج الرقمي والاجتماعي، وتوفير حلول أكثر نجاعة في مجالات حيوية كالصحة والتعليم والفلاحة. كما أن ربط الذكاء الاصطناعي بإنتاج المعارف والمهارات يفتح آفاقًا جديدة لإعادة هيكلة سوق الشغل، رغم المخاوف المرتبطة باختفاء بعض الوظائف التقليدية. على هذا الأساس، يشدد التقرير على ضرورة التأسيس لحوكمة وطنية للذكاء الاصطناعي تراعي التوازن بين تسريع وتيرة الابتكار من جهة، وضمان احترام القيم الأخلاقية والحقوق الرقمية من جهة أخرى، مع ما يقتضيه ذلك من حماية للمعطيات الشخصية، والحد من التحيزات الخوارزمية، وضمان الشفافية وقابلية تفسير القرارات التكنولوجية.
أكدت صحيفة "إيكونوميست" البريطانية في تقرير حديث لها أن المخاوف المتزايدة بشأن قيام الذكاء الاصطناعي بالقضاء على الوظائف لا تزال حتى الآن غير مدعومة بأي أدلة اقتصادية حقيقية، مشيرة إلى أن سوق العمل العالمي لا يزال صامدًا بل ويُظهر مؤشرات نمو في عدة قطاعات.
وقالت الصحيفة إن الذكاء الاصطناعي يواصل تطوره أسبوعًا بعد أسبوع، حتى بات قادرًا على تنفيذ مهام متقدمة مثل كتابة التقارير وإنشاء الفيديوهات الفورية، مع انخفاض ملحوظ في معدلات "الهلاوس" التي كانت تميز الجيل السابق من هذه النماذج.
ومع ذلك، لم تظهر أي موجة تسريح جماعي بسبب الذكاء الاصطناعي، رغم أن مصطلح "AI unemployment" (البطالة بسبب الذكاء الاصطناعي) سجل أعلى معدل بحث عالميًا عبر غوغل في وقت سابق هذا العام.
واستند التقرير إلى دراسة شهيرة نُشرت مؤخرًا للباحثين كارل بنديكت فري وبيدرو يانوس-باريديس من جامعة أكسفورد، والتي تربط بين الأتمتة وتراجع الطلب على المترجمين. إلا أن بيانات وزارة العمل الأميركية تكشف أن عدد العاملين في مجالات الترجمة والتفسير ارتفع بنسبة 7% مقارنة بالعام الماضي، وهو ما يدحض هذه الفرضية.
كما أشار التقرير إلى شركة التكنولوجيا المالية "كلارنا" التي كانت قد تباهت سابقًا باستخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة خدمات العملاء، لكنها عادت مؤخرًا عن هذا التوجه. وقال المدير التنفيذي للشركة، سباستيان سيمياتكوفسكي: "سيظل هناك دائمًا إنسان إذا أردت ذلك".
تضافرت جهود قوات الأمن في أوروبا وأميركا الشمالية معا من أجل الإيقاع بمجموعة من القراصنة الروس الذين عاثوا فسادا في عدة دول من ضمنهم بريطانيا وكندا والدانمارك وهولندا وفرنسا وأميركا، كما أصدرت السلطات القانونية في هذه الدول مذكرة اعتقال في حق قادة هذه العصابة التي يقيم أغلبهم في روسيا ودبي.
ووصل إجمالي عدد المتهمين في هذه الشبكة إلى 16 شخصا بحسب ما نقلته صحيفة "ذا غارديان" (The Guardian) عن السلطات المختصة، وهم الأفراد المسؤولين عن البرمجيات الخبيثة "كاكبوت" ( Qakbot) و"دانابوت" (Danabot) التي تسببت في العديد من عمليات الاختراق وطلب الفدية، وتضمنت المجموعة أسماء بارزة مثل رستم رافايليفيتش جالياموف (48 عاما) المقيم في موسكو، وألكسندر ستيبانوف (39 عاما) المعروف باسم جيمبي، وأرتيم ألكسندروفيتش كالينكين (34 عاما) المعروف باسم أونيكس، وكلاهما من نوفوسيبيرسك في روسيا.
وتعد هذه المجموعة مسؤولة عن العديد من الهجمات السيبرانية الشرسة ضد المؤسسات الحكومية في البلاد المذكورة إلى جانب بعض عمليات السرقة والاختراق البسيطة، ومن بينها اختراق مجموعة "ماركس آند سبنسر" (Marks & Spencer) الشهيرة التي نتج عنها خسائر وصلت إلى 300 مليون يورو بحسب ما نقلت صحيفة "ذا غارديان" في وقت سابق.
وأصدرت الوكالات الأوروبية بقيادة وكالة مكافحة الجريمة الألمانية بيانا عالميا في محاولة منها لتعقب المجرمين والوصول إليهم، تضمن البيان الحديث عن برمجية خبيثة ثالثة وهي "تريك بوت" (Trickbot) بالإضافة إلى الإشارة لمجموعة من 18 متهما بشكل عام، ومن ضمن هؤلاء المتهمين، يأتي فيتالي نيكولايفيتش كوفاليف ذو الـ36 ربيعا والذي يعتقد بأنه المسؤول عن مجموعة "كونتي" (Conti) للقرصنة السيبرانية، وهي المجموعة التي توصف بأنها الأكثر احترافية والأفضل تنظيما بين جميع مجموعات القراصنة السيبرانين، وهو الأمر الذي دفع السلطات الألمانية لوصف كوفاليف بأنه أفضل مبتز في تاريخ الجريمة السيبرانية.