كيف يمكن تقرير شبح في العتمة. اِن هذه هي مهمة كل تأويل، والتأويل في الأساس لا يجد غايته ولا يحققها الا في العتمة، لأن « الخفاء يفتح الباب امام الخيال ويبعث على الحلم ويضفي على العالم بعدا من الغور كما انه يجعل الاشياء المألوفة والبسيطة موضوعات ذات إثارة وجاذبية »[1] فالشيء الجلي والواضح ليس له من الجاذبية ما يكفي ليبعث التوجس في النفوس، وكل توجس هو دفع الى الاقتراب ومحاولة سبر اغوار الشيء الباعث على التوجس والغرابة. هذا ما يفعله الشيء المعتم والخفي ،فالضبابية التي تحيطه وعدم الوضوح يطلبان اقرار المعنى والبحث عنه، ان العتمة لها من الخصب ما لها، ولا تحافظ النصوص بذلك الشكل من الراهنية والمعاصرة الا بفضل العتمة التي تميزها وتصاحبها، وكل نص لا تلفه العتمة يموت بعد تأدية مهمته الوحيدة والمحدودة، العتمة تجذب القراء والشراح والمؤولين، نصبح إزاء هذه النصوص كما الشخص الاعشى بإزاء كل مساء، تؤسس العتمة فيما تؤسس لثنائية اللفظ والمعنى وتكون النظرة متجاوزة لحدود اللفظ باحثة في الغور البعيد عن معنى او معان بالجمع وتكون مقابل ثنائية الظاهر والباطن .
إن التفكير في الاصل يستدعي منا القيام بعمليات مركبة ومتداخلة، هذه العملية فن من الفنون له أدواته الخاصة ، ويعطي المشروعية لاستحضار فن التأويل في قراءة النص ما للهرمينوطيقا من علاقة بالإله هرمس ف« لقد كانت لهرمس مهمة في غاية التعقيد – على ما تقول الأسطورة – وهي ان يشرح للبشر ما يتجاوز فهمهم السطحي البسيط »[2] ان وظيفة هرمس اذن على مستوى عال من التعقيد، يكون هرمس بهذا الموجب متعددا ومنفردا في نفس الآن فهو يشبه الظاهرة الحلمية – ظاهرة التكثيف – حيث من المتوجب على مؤول الحلم إعادة تعدداته الى اصولها لفهم افكار الحلم الكامنة ، يكون التأويل اذن نفسه سؤال الاصل اذ يعني « المرجع والمصير»[3] ذلك ان « الفهم عندما يعمل لا يلغو فقط اي لا يقول رموزا وإنما هو يؤول اي يبحث عما هو أول في الشيء عما هو الأس والأصل »[4] هكذا تؤسس الهرمينوطيقا داخل العتمة وبمساندة لها لأكبر ثنائية في تاريخ الفكر البشري ؛ الدال و المدلول / اللفظ والمعنى ، ولا تكتفي للتأسيس لهذه الثنائية على ما هو مكتوب وحده وإنما على كل خطاب مكتوبا كان ام شفهيا ، وفي يحثها عن المعنى المتواري فإنها تتجاوز الظاهر وتعلي من شأن الباطن فيكون الظاهر وسيلة والباطن غاية ، وإذن فإن ثنائية الظاهر والباطن من ثنائية اللفظ/الرمز والمعنى.
وكذلك فإن سؤال الاصل يستدعي منا التساؤل. عن الخيط الناظم بين ثالوث العنوان [ الباطنية – الفلسفة – التصوف ]
قد يكون جليا أن التفكير الباطني له علاقة وطيدة بالتصوف، غير أن المسألة ليست جلية الى هذا الحد اذا فكرنا فيما يجمع الباطنية بالفلسفة، يكون ملمح السر هو الجامع بين هذا الثالوث، فقد طبعت السرية الفلسفة في إطار نشأتها ذلك انها نشأت على هامش المدينة قبل أن تكون ابنة لها ومن امورها، نشأت الفلسفة وكبرت في حضن الاخويات السرية « في إطار المدينة لم تعد المسارة قادرة سوى على التحول " الروحي" والمختارون هم مطهرون وقديسون ... فهم مدعوون بالتأكيد الى قدر استثنائي»[5] داخل هذا الجو نمت الفلسفة في " أ ولها " « وهكذا تشكل الحكمة الأولى في نوع من التناقض حيث تعبر طبيعتها غير المألوفة عن نفسها ؛ فهي تسلم للجمهور معرفة تعلن في الوقت نفسه انها بعيدة عن متناول الأغلبية»[6] وهذا تعبير عن النفسية التي صاحبت الفلسفة وهو إعتداد النخبة بنفسها ،فحتى بعد ان كان إشاعة الفلسفة بين الناس بقيت في أغلب اوقاتها اداة من ادوات العزل الاجتماعي، فها هو سقراط يهاجم معلمي الحكمة ( السوفسطائيون ) بتهمة إشاعة الحكمة ويرفض الكتابة التي كانت العنصر المشكل لفرادة العنصر اليوناني* بدعوى انها إشاعة الحكمة وتجرد للمعلمين يحاورهم على هذا الاساس وهنا يتبين دور العزل الاجتماعي الذي انيط بالفلسفة ذلك « أن الكتابة وسيلة لإزالة الفوارق بين البشر وقد يصبح بفضلها البشر كلهم حكماء لذلك آلى افلاطون على نفسه محاربتها للابقاء على التراتبية الاجتماعية الواضحة للعيان في كتاب الجمهورية وجعل مرتبة الحكمة مرتبة متعذرة على العامة ولا يطاولها الا الخاصة»[7] هذا وفكرة السر والمضمون به على غير اهله يدخل في تركيب الخيط الناظم بين ثالوث العنوان [ الباطنية- الفلسفة- التصوف ] وهذه الفكرة القائمة على العزل هي التي تسربت الى الفلسفة في العالم الاسلامي وبنت فكرة " المضمون به على غير اهله " وقد يكون الباعث على هذه الفكرة من دواعي التقية من الاخر، والآخر هو السلطة والعامة ، تكون اذن فكرة السر هي المشكلة لثنائية الظاهر والباطن واشكالية العزل الاجتماعي داخل هذه التقاليد وثنائية النخبة والعامة جميعها.
يذهب الاستاذ الى ان الغزالي «ساهم في ربط صورة سيئة عن كل باطنية بما فيها الباطنية العامة التي كان هو جزء منها وهي الباطنية الصوفية»[8] من بداية الكتاب تظهر لنا غاية مهمة من غاياته وهي اثبات كونية الباطنية، ونتساءل عن معنى ان التصوف باطنية عامة. قد يعني هذا كونية التقاليد الصوفية وعموميتها في سائر حقب التاريخ وسائر المجتمعات، فقد يكون هناك باطنيات محلية مخصوصة، باطنية لها خصوصيتها وشروطها المعرفية التي تميزها، غير ان التصوف ولأنه ليس ملة ولا نحلة يظهر انه ظاهرة كونية تشترك كافة المجتمعات فيه بإعتباره نزعة روحية عالية. ف«كل سر يحيل على سر اخر بشكل لا متناه اي ان الاشياء تتحول في نهاية الأمر إلى حجب تخفي الحقائق كما تخفي اشياء العالم وموضوعاته مثلا الحقيقة الإلهية في التصور الصوفي»[9] تكون فكرة السر والحجب خيطا ناظما لثالوث العنوان وبين الباطنية والتصوف بشكل جلي ، والتصوف هو الأكثر تعبيرا من حيث هو تقليد باطني كوني عن وحدة اللاعقل البشري* وقد كان سؤال الاصل شديد الارتباط و وثيقه بفن التأويل من أجل محاولة الفهم من جهة ومن جهة علاقته باحد اهم رموز الباطنية الاله هرمس ف«الباطنية ذات اتصال وثيق بنظرية التأويل l'herméneutique فبمجرد ما نعلن ان ليس هناك سر نهائي فإن كل شيء يعتبر في النهاية سرا، ان التأويل هنا ضرورة ملحة انه الطريق الوحيد لكشف السر الباطني الذي تنطوي عليه الرموز وولوج عالم الحقائق»[10]
تحاول الفلسفة ان تهرب من الثنائيات التي حكمت تاريخها وليس من السهل ان تتحقق لها هذه الغاية، ففي الخطابات الفلسفية يعيش السابق في اللاحق بشكل شديد التداخل والتركيب، فالفلسفة «ستجد نفسها عند نشأتها في وضع ملتبس: فهي ستنتمي في إجراءاتها واستلهامها الى مسارات الهيئات السرية وخلافات الاغورا (agora ) في آن واحد وستتردد بين ذهنية الاسرار الخاصة بالطوائف و علنية النقاش المتناقض الذي يتسم به النشاط السياسي»[11] يتضح لنا عمق العلاقة بين الفلسفة والتقاليد الباطنية كما تجمع عبارة فرنان ثنائية العامة والنخبة والعنصر السياسي الذي سطر هذه المشكلة، فقد تكون أي دعوة إلى المعرفة مصادرة لشكل اخر من اشكال المعرفة، فالعلاقة هذه يشوبها التوجس والخوف وتحمل في رحمها تناقضات جمة.
ان الباطنية "تعرف ولا تعرف" فهي ما ان تبدو للعين والتعيين معا تفقد مشروعية وجودها، إن ما تجيده هو التحرك في الخفاء وتجيد نفخ الرموز والاشكال لتبعث على التوجس في النفوس، وتتزيى بلحافها الغامض كي تفرض على الرائي التساؤل عما وراء الحجاب، يكون الشك والتوجس والفضول والحذر من جنودها لكي تقوم بالقاء تعويذتها المحبوبة ، و « لا يحظى الشيء المحتفظ به سرا بالأهمية في ذاته »[12] بقدر ما تكون فكرة السر هي الاهم.
1 محمد البوغالي الباطنية بين الفلسفة والتصوف منشورات فضاء آدم . طبعة 2016 .ص 15
2 محمد علي الموساوي في القراءة الهرمينوطيقية الاصول والآليات . عالم الفكر العدد 181 يناير مارس 2020 ص 220
3 المصدر نفسه ص 217
4 المصدر نفسه ص 217
5 جون بيار فرنان أصول الفكر اليوناني ترجمة ساليم حداد . المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع .ص 48
*انظر نفس المصدر ص 44
6 نفس المصدر ص 50
7 عمر التاور استراتيجية التفكيك عند جاك دريدا الهدم والبناء .مجلة تبين عدد 3/9 صيف 2014 هامش الصفحة 31
8 محمد البوغالي الباطنية بين الفلسفة والتصوف .ص 8
9 المصدر نفسه ص 68
*انظر نفس المصدر 44
10 المصدر نفسه ص 17
11 جون بيار فرنان أصول الفكر اليوناني ص 50
12 محمد البوغالي الباطنية بين الفلسفة والتصوف ص 74