آخر مقالات التاريخ والتراث
المزيد
تاريخ وتراث
قال السهيلي " وولد بالغفر من المنازل وهو مولد النبيين". ومنزلة الغفر لمن لا يعرف من منازل القمر، يوافق طلوعها السنوي تقريبا الثاني عشر من شهر نونبر ؟؟ وقال الذهبي "نظرت في ان يكون مولده صلى الله عليه وسلم في ربيع وأن يكون ذلك في العشرين من نيسان - شهر أبريل- فرأيته بعيدا من الحساب يستحيل أن يكون مولده في نيسان إلا أن يكون مولده في رمضان" (سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي -ج 1- ص 336).
ولد الرسول محمد بن عبد الله حسب الرواية السائدة بمكة، يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وبعث يوم الاثنين على رأس الأربعين من عمره الشريف في شهر رمضان، وقدم المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعد ان بعثه الله بثلاث عشرة سنة، وتوفي - بعد عشر سنين كوامل- يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، في العام الحادي عشر للتاريخ العمري. (السيرة النبوية، ابن هشام الحميري- ج 1 ص 155. ج 2 ص 427).
ثمة أقوال أخرى غيبت في قاع الذاكرة الروائية، فقيل لاثنتي عشرة خلت من رمضان. وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر. وقيل في المحرم لخمس بقين منه...، ليستقر قول جماهير أهل السنة بالخصوص على ما ورد أعلاه من تقرير لا يخلو من اشكالات و تناقضات حسابية، في ظل استحالة مولده بربيع الأول لما كانت بعثته في شهر رمضان على رأس الأربعين من عمره الشريف؟ واستحالة مواطأة هذه الأثانين المذكورة كلنداريا، ما يجعلها والحالة هذه أياما شبحية لا وجود لها في الرزنامة السائدة، وأقرب إلى تواريخ محددة بالتقدير الحسابي الارتجاعي؛ أكثر من كونها أخبارا أصيلة عن شهود عيان. ولم يتجاوز الاخباريون على ما يبدو فيما يخص تحديد تأريخ المولد سقف طرح 53 عاما، وهي عمره الشريف ساعة هجرته - كما نص على ذلك ابن اسحاق في السيرة- من تأريخ وصوله إلى المدينة في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، الموافق في الكرنولوجيا السائدة شتنبر 622 ميلادية، ثم أضافوا إليه عشرة أعوام كاملة، لتكون وفاة النبي بالتالي في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من العام الحادي عشر للتاريخ العمري، الموافق يونيو 632 ميلادية. فكأن القوم لم تتوفر لهم من كسور الأيام إلا الثاني عشر فاحتاجوا إلى اعتبار جل مدد مراحل دعوته مددا كاملة بعمليات طرح وجمع لا أقل ولا أكثر، ليكون الناتج دائما هو الثاني عشر من ربيع أول، فكان تقريرهم مولده في الثاني عشر من ربيع الأول حاصل عملية حسابية لا محصلة رواية عن شاهد عيان، وأنى لهم ذلك وربيع قريش ربيع ضلالة لا ربيع عدة مستقيمة؟
كتاب من تأليف الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا، صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في العام 1987، قبل أن تعيد مؤسسة هنداوي نشر هذا العمل في طبعة عصرية مؤخرا. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية، تدور في مجملها حول رصد مَواطن القصور التي تعتور تعاطي نماذج من الفكر الإسلامي المعاصر مع قضايا مصيرية يتوقف عليها مصير الأمة، وذلك في سياق الصعود الكاسح لما سمي وقتئذ ب "الصحوة الإسلامية"، التي اكتسحت المشهد الفكري والمجال التداولي في أعقاب انحسار تأثير التيارات الأيديولوجية المنافسة (قومية، اشتراكية، ليبرالية).
أولا: في نقد مضمون الصحوة الإسلامية
إن تعبير "الصحوة" - الذي يُستخدم عادة لوصف حركات الإسلام السياسي وتيارات سلفية متعددة - لا يخلو من لبس وتضليل، فالصحوة على مستوى الكم واتساع قاعدة المنتمين إلى تلك التنظيمات لا تعني البتة صحوة على مستوى المضمون الفكري المتعلق بها، لأنه أقل عمقا وجرأة من السلفية الإصلاحية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إبان عصر اليقظة العربية.
وتأسيسا على ذلك، يضيء المؤلف على مظاهر ذلك العجز الفكري، وفي جملتها الإمعان في التركيز على الجوانب الشكلية من العقيدة (اللباس، الشعائر التعبدية...الخ)، والذي يقابله عدم امتلاك رؤية واضحة وعملية فيما يخص القضايا المصيرية التي تتوقف عليها نهضة المجتمعات (التنمية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، العلاقات الدولية... الخ).
ثانيا: لماذا لا نمتلك رؤية واضحة للمستقبل؟
إن التفكير المستقبلي المبني على أسس علمية، والمرتكز على التخطيط والرؤية المتبصرة واستباق المشكلات قبل وقوعها، لم يجد طريقه بعد إلينا سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات ما خلا حالات محدودة، الشيء الذي يفضي إلى استفحال المشاكل البنيوية واستعصاء حلها (مديونية الدول، الانفجار السكاني، عدم تنويع الاقتصاد بالنسبة للدول الغنية بالموارد النفطية المعرضة للنضوب... إلخ).
وعليه، ينبه فؤاد زكريا إلى أهم الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة المقلقة، ولعل من أبرزها الاعتقاد بأن المستقبل ليس من صنع البشر وإنما هو في علم الغيب ويدخل في نطاق المشيئة الربانية، وهو التصور الذي يُسقط من حساباته دعوة الدين إلى إعمال العقل والأخذ بالأسباب. ولما كان عصر النبوة والخلافة الراشدة هو المرجع الأساسي والأمثل للتقدم في إطار الرؤية الإسلامية السائدة، فلا يمكن أن يكون المستقبل المنشود إلا إحياء لذلك التاريخ بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي يفسر سيادة النظرة التشاؤمية للتاريخ بدل النظرة التطورية والتصاعدية.
أن تدرج السنة النبوية كنص مقدس، يضاهي في حجيته النص القرآني، وأن يمنحها فقهاء الإسلام الشرعية التشريعية، على الرغم من كل المؤاخدات الموضوعية التي ووجهت بها، إن قديما أو حديثا، فإن ذاك ما يتطلب تسليط الضوء على مناطق العتمة العديدة التي تعتري تراثنا الديني.
يجمع فقهاء الإسلام أنفسهم، على أن السنة النبوية ليست إلا ظنية الثبوت، كما وأنها ليست كلها قطعية الدلالة. يقول النووي: " وذكر الشيخ ( أبو عمرو بن الصلاح ) أن ما روياه أو أحدهما (البخاري ومسلم) فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر."(1) . وحيث إن الاختلاف هو السمة المميزة في كل القضايا التي خاض فيها رجال الدين المسلمون، فإننا نجدهم هنا وقد اختلفوا كذلك فيما إن كانت المرويات الحديثية قطعية الثبوت أم ظنية. إلا أن النووي يؤكد في هذا النص، على حقيقة أن أكثرية " أهل العلم" ، تذهب إلى كونها ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة. وهذا ما أكده الفقيه الأزهري محمد شلتوت حين قال " وإذا كانت العقيدة لا تثبت إلا بنص قطعي في وروده ودلالته، كان لا بد من تبيين المبادئ التي تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها. وأول ما يجب التنبه إليه في هذا المقام، أن الظنية تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة... ومتى لحقت الحديث على أي نحو ...فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيا في وروده وفي دلالته " (2)
وإذا ما نحن علمنا؛ أن نسبة الأحاديث المتواترة لا تكاد ترى بالمقارنة مع أحاديث الآحاد، إذ لا تتجاوز في أحسن الأحوال خمسون حديثا من أصل آلاف الأحاديث المتضمنة بالمروية السنية المعتمدة؛ (مسند أحمد وحده يضم بين دفتيه ما يقارب 38 ألف حديث) خلصنا؛ إلى حقيقة أن المدونة الحديثية السنية ظنية الثبوت، ولا يصح بالتالي الأخد بها، وهذا بمعايير أهل السنة أنفسهم، وتطبيقا لقاعدتهم الفقهية القائلة بــ: "ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال". وهذا ما يحيلنا على حجم معضلة التشريع في الإسلام.
ولعل أسئلة مشروعة تطرح نفسها هاهنا؛ إذ كيف يعقل أن نجعل من السنة النبوية "وحيا إلهيا ثانيا" كما أصل لذلك فقهاء الإسلام، وهي ظنية الثبوت؟ وكيف يمكن اعتبارها "وحيا إلهيا ثانيا" وهي تخالف الوحي الأول (القرآن) في العديد من مواضعها؟ وكيف يمكن منح الشرعية التشريعية لأصل من دون أن يكون قطعي الثبوت؟
لقد ووجهت المدونة الحديثية السنية بالكثير من الانتقادلات إن قديما أو حديثا، تخص بالأساس ما تضمنه مثنها من غرائب وأساطير وأحكام، تخالف في العديد منها القرآن نفسه، وتخالف العقل والعلم والفطرة الإنسانية السليمة، وتشرعن للظلم، والقهر، والميز العنصري، والعنف، والكراهية... فكيف يمكن القبول مثلا؛ بمنظومة فقهية تشرعن قتل المرتد، بناء على حديث تشوبه عيوب كثيرة على مستوى السند كما المثن (من بدل دينه فاقتلوه)، في الوقت الذي يؤكد فيه نص قرآني صريح الدلالة، على حرية العقيدة (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)؟ سورة يونس الآية 99.
لعل متقدمي الأصوليين لم يفردوا قاعدة "لا اجتهاد مع نص" مبحثا أو بابا خاصا، وإنما اعتبروها داخلة في أبواب الاجتهاد ومتفرعة في بعض قواعده العامة، ولذلك يصعب على الباحث أن يصنف القاعدة هل تدخل في الحقل المعرفي الأصولي، أم في الحقل المعرفي الفقهي، مادام أن كلا من الأصوليين والفقهاء لم يهتموا بها حق الاهتمام، ولذلك لم يتم التكشيف عن مضمرات هذه القاعدة المهمة رغم ذكرها في المصنفات الأصولية خصوصا في باب التعارض والترجيح.
وعلى العموم فإن أكثر من تكلم عن هذه القاعدة قال بعدم تجاوز النص والاجتهاد مع وجوده، بل إن الاجتهاد يتطلب عدم وجود نص في المسألة، لكن السؤال المطروح هنا هو مالذي يقصده الأصوليون بإطلاقهم لفظة النص؟
وهل كل نص يسمى في عرف الأصوليين نصا يمنع معه الاجتهاد؟ ثم ماهو الاجتهاد المقصود عند الأصوليين؟ وماهي مضمرات القاعدة؟
وهنا سوف أسوق بعض تعريفات الأصوليين للنص ليتبين لنا مقصودهم من إطلاق هذا اللفظ:
يعرف صاحب المنخول النص بأنه " اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع"[1]
ويعرفه أيضا في موضع آخر بأنه " هو الذي لا يحتمل التأويل"[2]
ونجد القرافي يفصل في التعريف شيئا ما فيقول:" النص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء العدد، وقيل مادل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق، وقيل: مادل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء"[3]
ومن المتأخرين عرفه الأستاذ علي حسب الله بقوله: " هو اللفظ باعتبار دلالته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل مع قبوله للنسخ في عهد الرسالة"[4]
مقدمة..
أنْ توظّف المصطلح التراثي القديم في الكتابات الحديثة، يُقلل من قيمتها وقوتها؟ أم أنَّ التّخلّي عن المصطلح القديم وهجرانه والتنكر له بدعوى أنه لا يؤدي أو لا يُوصِلُ إلى المراد والمبتغى من النص، يعطي النص قيمة أكبر وإبداعا؟ وهل أمام التغييرات الطّارئة والوافدة من الغرب، وتسارع النظريات النقدية، وفي إطار ما يُسمّى بالمثاقفة، أصبح من الضروري على الكاتب الانخراط في هذه الموجة بدعوى مسايرة ما جدَّ في عالم الكتابة والنقد لإثبات قدراته على المواكبة والتطور؟
بين الإحياء والاحتفاء..
بما أن الكتابة دعوة إلى اكتشاف الاستثنائي والمنسي في اللغة، ـ إذ، لا يكتب الكاتب إلاّ إذا كان لديه دافع قوي لموضوع جديد، لغة وتيمة ـ والجميل والمدهش في السرد والحكي، وبما أن اللغة تُميّزُ نصّا عن نص، وتُعلي نصا وتخفض نصّا، بترويض مصطلحاتها واستخراج مكنوناتها الدلالية، وبما أن اللغة هي المُشَكّل الأساس لكل سرد، بل هي السرد ذاته، وبما أن اللغة كائنٌ حي، وانسجامٌ وتناغمٌ ونظامٌ، ونسجٌ يحتاج لقلم درب يشد القارئ دون أن يُشعره بتجوال النص وصراعه بين الحديث من المصطلحات وقديمها، بالحفاظ على المستوى الفني للنص، والخيط الجامع والنّاظم للسرد ليكون لبنة قوية ومتماسكة، وبناء معماريا مترابطا ومتراصّا بعضه ببعض، فإنّ حركية المصطلحات القديمة تحيى زمانها، ويتلاشى بريقها حين يقل استعمالها، وتتطور بتطور الحركات الحضارية أو الفكرية أو العلمية، وكل تحول في المسيرة الإنسانية عموما من تقدم فكري أو علمي يؤثر بالضرورة على المصطلح القديم، لكنه لا يموت، قد يركن إلى الظل، لكنه أبدا يظل في انتظار من يبعث فيه الحياة، ويسمح للمصطلح الجديد أن يحيى زمانه هو الآخر، مؤثّرا ومتأثرا بما يموج من حوله من تفاعلات نقدية وإبداعية وعلمية، مانحا لنفسه مكانة قوية راسخة تتجدد بتجدد اللغة.
إن توظيف المصطلح القديم في الكتابات الحديثة، لا بد أنه عمل شاق يحتاج إلى كاتب يفني أكثر وقته ـ حين كتابة نص ما ـ جُهدا وتمحيصا ومسْحا شاملا مضنيّا وذكيا للمعاجم العربية، لتدقيق المصطلح والمفهوم الدّال على المعنى المراد طرحه، كما يقتضي إلْماما كافيا وتفكيرا بلُغةٍ تمَّ نسيانها وإهمالها، والثقة فيها بأنها ما زالت قادرة على إيجاد صِيغٍ للتعبير وإيصال المعاني، مع استثمار ما تمنحه اللغة من أساليب الكتابة لإنتاج نص جميل بأثر قرائي جميل، وتأثير متميز يجعل القارئ يعود إلى منابع اللغة، والبحث في المعاجم، الشيء الذي افتقدناه حين قراءة أي نص أدبي غني بالمصطلحات.
إن أول ما ينبهنا عليه الكتاب، هو أنه يصعب علينا القول بالفصل بين علمي "الأصول" و" الكلام"، " مادام أن هناك تداخلا وتواصلا بين العقدي والعملي في التجربة الإسلامية الأولى"[1] خصوصا وأن المصنفين في علم الأصول كان أغلبهم ذا مرجعية كلامية، إذ أن الجانب العقدي يمثل ذلك التوجيه النظري أو الإيديولوجي للممارسات العملية داخل المجتمع، وخصوصا الممارسة السياسية نظرا لأهميتها في تحقيق استقرار المجتمع والسهر على تنظيمه.
لقد كان الهدف من إثارة هذا الموضوع هو الوقوف على تلك العلاقة الجامعة بين العالم والسلطان، والتي كما يصفها الأستاذ الوضيفي " علاقة مهادنة ومنافسة تارة، وموالاة وصراع تارة أخرى"[2]، وما كان ذلك كله إلا لأجل الاستئثار بالنص الشرعي من طرف السلطان وتأويله حسب ما تقتضيه مصلحته الخاصة ، ومن جهته يسعى الفقيه أيضا لحفظ هذا النص من التلاعب به على يد السياسيين ولي عنقه. وهذا مادفع الشافعي لوضع قانون يضبط به بعض المصطلحات الأصولية التي أصبحت مشحونة بشحنات سياسية كمصطلح البيان الذي عرفه بأنه "اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع"[3]
وما كان ذلك منه إلا لأجل إعادة النظر من جديد في تلك المصطلحات والمفاهيم، في سعي منه لجعل تلك المصطلحات ذات معاني شرعية محضة لا تكاد تفهم إلا من طرف العالم المتخصص الذي يدرك أسرارها وحقيقتها الشرعية، وذلك حتى لا يتسنى لأحد أن يتجرأ على تفسير النص الشرعي أو تأويله حسب الهوى، " وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول اللهﷺ أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا وفي العدل وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق"[4]ماخلق صراعا بين العالم أو الفقيه ورجل السياسة أو السلطان.
كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، وهو بمثابة استكمال للجزء الأول من الدراسة التي أعدها الباحث والموسومة ب "النبوة والسياسة"، صدرت الطبعة الثانية المنقحة من الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2012، إذ يقع في قسمين رئيسيين وعشرة فصول، بحيث يتناول أبعاد وخلفيات الصراع المسلح على السلطة الذي نال من وحدة المسلمين خلال عهد الخلافة الراشدة، وتحديدا أثناء حكم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وسنضيء فيما يلي على أبرز محطات ذلك الصراع الدامي، فضلا عن الخلاصات التي يسعنا استنباطها حول المسببات الفعلية لتلك الأحداث.
أولا: حروب الردة: تمرد سياسي من قبائل الأطراف على دولة المدينة
عرفت فترة حكم الخليفة أبي بكر الصديق وقائع صادمة اصطلح على تسميتها ب "حروب الردة" بعد وفاة الرسول (ص)، والتي هددت مصير الجماعة الإسلامية في وقت مبكر من اجتماعها السياسي بحيث طال التمرد أجزاء واسعة من الجزيرة العربية حينئذ (اليمن، البحرين، عمان... إلخ)، ويمكن إيجاز أهم أسبابها وخلفياتها كما يلي:
* لقد كان إسلام القبائل المرتدة في معظمه بعد فتح مكة إسلاما صوريا أو مصلحيا أملاه الخشية من فشو وتوطد سلطان دولة المدينة بعد إسلام قريش، وليس إسلاما عن قناعة وتصديق، بل حتى إسلام قريش كان – عند الكاتب - إسلاما سياسيا بمعياري توقي الضرر واستجلاب المصلحة.
* آذن حدث وفاة النبي عند القبائل المتمردة بانهيار دولة المدينة وانفراط عقدها، وهو التقدير السياسي الذي أثبتت وقائع الصدام المروعة بأنه بُني على حسابات خاطئة، إذ تصدى أبو بكر الصديق بكل حزم وغلظة لتمرد القبائل، مما أفضى إلى سحقه ومن ثم الحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية في حدودها الدنيا.
قدم صاحب البرنامج المذكور أعلاه والمذاع عبر اليوتوب الدكتور حسن نجمي كضيف متميز، فريد من حيث بروفايله، باعتباره يجمع بين الحسنيين: بين النخبة ورقيها ونخبة النخبة وبين نخبة الأرض وشعبيتها ورائحتها ووجعها، بالإضافة إلى أنشطة أخرى ومسارات متقاربة ومتقاطعة. كل هذا اجتمع في شخصية مغربية ووطنية التي هي الأستاذ والشاعر والأديب وابن الشعب حسن نجمي.
بعد هذا التقديم، شكر حسن مضيفه على هذه الاستضافة الكريمة. فما كان من صاحب البرنامج إلا أن جدد ترحيبه بضيفه، مذكرا إياه بأنه قال في إحدى المرات: "اسق نبتة النعناع قليلا كي يخضر طعم الشاي".
وافق الضيف الكريم على ما قيل وأشار إلى أنه قاله في قصيدة "النافذة" ولا يزال يذكر ذلك.
من أجل مواصلة الحوار، طلب بنشيكر من ضيفه الحديث عن علاقته بالشاي. فقال إنه كان منذ الطفولة يعتبر الشاي مشروبا أثيرا جدا، وعشنا المستوى الاجتماعي الذي فيه "كب وكسر حتى يوفى العمر". كان الشاي مركزيا في حياتنا كأسرة وعائلة بالنسبة إلي شخصيا. كان الشاي هو زيت الأعراس، هو سبب اللمة والجمع بين العائلات والناس والأصدقاء، خصوصا في الفضاءات القروية.
واصل حسن نجمي جوابه بالقول إن الشاي لا غنى عنه. فمنذ أن جاءت هذه النبتة الطيبة الكريمة الجميلة إلى المغرب في بدايات القرن الثامن عشر، وبالضبط في نهاية حكم السلطان مولاي إسماعيل، أثير حولها نقاش بين الفقهاء الذين حاولوا منع شرب الشاي واعتبروه عن خطإ حراما، تماما كما وقع مع القهوة والتبغ عند دخولهما إلى بلادنا.
لكن، اليوم أصبح الشاي مرتبطا بالوجدان والمتخيل وحياتنا اليومية. نعتز فعلا بكون الشاي مشروبا مرتبطا بالهوية المغربية، مع أنه نبتة آتية من بعيد، من أقصى جنوب شرق آسيا، من الصين بالخصوص والبلدان المجاورة، لكنها أصبحت تقريبا نبتة مغربية من حيث الشراب والأحاديث، وأصبح الشاي حاضرا في المتخيل والكتابة والملحون والعيطة وعدد من الأشعار الشفوية.
لقد غلب على ظن كثير من الباحثين المعاصرين أن أصول الفقه علم تجريدي لا علاقة له بواقع الناس، محتجين على ذلك بأن ما يدرسونه ومايتدارسونه داخل المدارس ومدرجات الجامعات لايجدونه مطابقا للواقع ما يدفعهم للقول بمثل هذه التفسيرات المغلوطة. هذا يطرحنا على سؤال لماذا أصول الفقه؟ وما الغاية منه؟
إن هذا السؤال يجعلنا نرجع للبحث في تاريخ نشأة هذا العلم، كيف نشأ الفكر الأصولي وكيف تطور، إلا أان هذا يستدعي أن يخصص له بحث مستقل ومفصل.
إذا كنا ندرك جميعا حقيقة أصول الفقه ونعتبره كمنهج في البحث والبناء، أي البحث في الأدلة وبناء الأحكام، فإننا سنجزم بأن هذا أمر متعلق بمنهج تنظيمي، ولايمكن أن يكون التنظيم تجريديا، هذا من جهة. ثم من جهة أخرى إذا ما أردنا أن نقرأ الفكر الأصولي كي نفهم حقيقته، فلابد أن نقرأه قراءة موضوعية وواقعية، وليس قراءة تجريدية متعالية. ولعلي أقصد هنا بالواقعية، قراءة الفكر انطلاقا من واقعه، إذ أن هذا الأخير هو الذي يكشف لنا عن الصورة الحقيقية للعلم أو الفكر.
نحن لا ننكر أن هناك بعض القراءات التجريدية لهذا العلم جردته من علميته وواقعيته، لكن هذا ليس دافعا للقول بانتهائه والحكم بموته.
يجب أن نعلم جميعا أن أصول الفقه قبل أن يكون علما، فهو منهج تفكيري يبحث في أدلة الأحكام بدقة عالية، ولذلك أطلق عليه ((منطق المسلمين))، ذلك لأنه يشبه المنطق الأرسطي في وضع قوانين توجه العقل الفقهي في عملية التفكير وبناء الأحكام، وتحفظه من الوقوع في الأخطاء في تفسير النصوص الشرعية، فالأصول "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في الاستدلال على الأحكام، كما أن المنطق عاصم لذهن الفيلسوف من الخطأ في التفكير"[1]
يَنبت مثقّف المهجر بمثابة الفسيلة البريّة الباحثة عن حضور في تربة غير تربتها، وفي مناخ لم تألف النّماء فيه. ولذلك غالبا ما يفرض الواقع المغاير على المثقف المهاجر العيش على الأطراف، في هامش الواقع الجديد، بعيدا عن المركز وضوابط المؤسسة. فيقنع بالحفاظ على وجوده المادي مؤجلا أحلامه ومطامحه إلى أجل غير معلوم. وقد تَطول رحلة البحث عن الاندماج أو تقصر، وقد لا تأتي أبدا، فكثير ممّن تحدّثهم النفس بالهجرة لا يدرون عواقب ما تخبّئه الأيام. فليس المهاجر غير القانوني وحده من يُفْرط في الأحلام، بل يشاركه المثقف والدارس على حد سواء. فاللافت أنّ إغواء الهجرة يطمس الوعي ويهوّن من تقدير العواقب. لمستُ هذا لدى العديد من الزملاء الجامعيين وغير الجامعيين، العاملين في حقل الثقافة، ممن يتحفّزون للهجرة وكأنّ العملية نزهة عابرة.
ففي المهجر كثير من المثقفين السائبين، أكرهتهم أوضاع العيش الجديد على تغيير المسار، والتفريط في ما كان يشغل بالهم قبل الرحيل. لأنّ معركة تسوية أذون الإقامة، وترتيب الوضع القانوني، والعثور على شغل كريم، هي معركة ضارية ومتجددة، قد تستنزف المهاجر وتأتي على آخر ما تبقى لديه من طاقة وعزيمة. ومن الهيّن أن يتحول المثقف العائم إلى رصيد إضافي في عالم المهمّشين في الغرب، فيغدو شغله الشاغل اللقمة التي يسدّ بها رمقه والمأوى الذي يأوي إليه في الملاجئ الاجتماعية التي يلجأ إليها المهمَّشون حين تتقطّع بهم السُّبل. إذ يتصور كثيرون أن الهجرة منتهى الإنجاز، والحال أنّ المُهاجر كلّما قطع شوطا في المصاعب داهمته أخرى. وكثيرا ما يرتطم الحالمون بواقع غير متصوَّر يسلب منهم ما تبقى من روابط بعالم الثقافة والمثقفين، وقد زاد "كوفيد" الطين بلّة بما خلّفه من برود في العلاقات وجمود في الاتصالات وركود في عمل الإدارات.
فالملاحظ أنّ جلّ المثقفين الحالمين بالهجرة يأتون إلى الغرب محمّلين برؤى طهرية عن عالم البحث والإبداع والكتّاب والدراسات، تخلو من الواقعية وفيها الكثير من السذاجة أحيانا. على أساس أنّ ذلك الوسط يخلو من مساوئ الاستغلال والانتهازية والميز والتدافع المحموم، ويسود فيه تقدير المواهب والترحيب بالقدرات، بفعل رواج عديد الأساطير عن الغرب الحاضن والشرق الطارد. ويكفي أن يكون المرء جامعيا أو شاعرا أو كاتبا ليلقى الترحاب والتبجيل. لذلك يمنّي المثقف الحالم نفسه باندماج سريع في أوساط المثقفين الغربيين العاملين في مجالات الصحافة والتدريس والدوائر الثقافية والحقول الفنية وما شابهها. والواقع أنّ المتحكِمين بتلك القطاعات ما إن يتفطّن الواحد منهم إلى هشاشة الوافد الجديد وحاجته وعوزه حتى يتحول في عينيه إلى غنيمة. يُقرَّب بالقدر الذي يظيفه من تحسين لمشاريعهم الكتابية والبحثية والأكاديمية، وفي هذه النقطة تبدأ رحلة أخرى للمثقف المهاجر مع الابتزاز، تكون أحيانا قهرية ومفروضة. وقلّة من تنجو من هذا الوضع المزري، لأنّ الاستغلال الثقافي أسوأ على المثقف من الاستغلال المادي، يكابد فيه أبشع أنواع السخرة. ومن الغربيين المقاوِلين في حقل الثقافة، ولا سيما المستثمرين في ثقافة الشرق، من تُنتِج لهم الترجمات والدراسات والأبحاث، وقد يرفعونك إلى مقام رئاسة التحرير أو يدرجونك ضمن الهيئات الاستشارية في مراكز الأبحاث والدوريات. حتى ليَحسب الغافل أن إسهامه الثقافي يقوم على الاحترام والتقدير لشخصه، بوصفه شريكا في المنجَز. يتنبّه مع تراكم التجارب وتعدد الوقائع إلى فضاعة الاستغلال ودناءة الخُلق في حقل كان يحسبه مبرَّءا من المساوئ. وفي حقيقة الأمر ما المثقف الشرقي الهشّ سوى جسر للمرور عليه، وواجهة للعرض لا غير. وإن حدّثك القائمون على تلك المؤسسات طويلا عن قناعاتهم اليسارية الكونية، وأن الأحرار جميعا، في الشرق أم في الغرب، جبهة واحدة ضدّ الرأسمالية المتوحشة وضدّ تسليع المعرفة.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" Benjamin Netanyahu في خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة "هذا صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب". وقام بتكرار هذا الكلام في الخطاب الهزلي الذي ألقاه في الكونغرس الأمريكي في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 2024. وكان نتنياهو قد أعرب عن هذه الفكرة مراراً وتكراراً، قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ــ وهي فكرة مفادها أن إسرائيل معقل للحضارة الغربية في منطقة غير حضارية ومتخلفة وبدائية.
إن ذكره لكلمة "الغابة" يذكرنا بتعبير إسرائيلي شائع، منسوب إلى رئيس الوزراء السابق "إيهود باراك" Ehud Barak قبل ثلاثة عقود من الزمن، مفاده أن إسرائيل "فيلا في الغابة". والغابة في هذه الحالة هي العالم العربي، والفلسطينيون فيه هم «غير الآدميون» بامتياز.
لكن الفكرة تعود إلى إلى المفكرين الصهاينة الأوائل. أراد "تيودور هرتزل" Theodor Herzl الأب النمساوي المجري للصهيونية الحديثة، إنشاء دولة يمكن لليهود فيها أن يكونوا في مأمن من معاداة السامية العنيفة التي واجهوها منذ فترة طويلة في أوروبا. لقد رسم رؤية لدولة يهودية في فلسطين من شأنها أن تمنح الحقوق المدنية للعرب الذين بقوا هناك (في مذكراته، طرح فكرة نقل البعض خارج الحدود). وقال إنه من خلال جلب الحضارة الغربية إلى المنطقة، سيعود اليهود بالنفع على العرب المحليين اقتصاديا وثقافيا - وأن الدولة اليهودية "ستشكل جزءا من جدار الدفاع ضد آسيا" وهي سنكون بمثابة موقع أمامي للحضارة ضد الهمجية.
تُعتبر أيديولوجية "البؤرة الاستيطانية للحضارة" هذه مفتاحاً لفهم كيف بررت إسرائيل تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم أمام الإسرائيليين والعالم، حيث استقر اليهود الذين لجأوا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين. عندما تأسست إسرائيل عام 1948، تم طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بالدولة اليهودية.
لكن منذ الأيام الأولى للدولة، كانت هناك فئة لم تقتنع بالتبرير: هم اليهود الذين لهم جذور في العالم العربي والإسلامي. يُطلق على هؤلاء اليهود اسم "المزراحيم" Mizrahi في إسرائيل، وهم اليوم أكبر مجموعة عرقية في البلاد. لقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل بعد عام 1948، وخلال معظم تاريخ إسرائيل، كانوا ضحايا لنفس النوع من الأيديولوجية المعادية للعرب التي تُمارس ضد الفلسطينيين.
حين أصدر عالم الاجتماع الإيطالي سابينو أكوافيفا كتاب "أفول المقدّس في الحضارة الصناعية" (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مجتمعات أوروبية تحثّ الخطى نحو "اللاتدين" و"العلمنة". ولكن تداعيات العولمة على أوروبا في الزمن الراهن أملت إعادة نظر في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصية ودائرة السياسة العمومية. لتلوح بوادر رهان على وظائف مغايرة للدين في مجتمعات تشرّبت العلمانية، وتعيش في أجواء مناخات ما بعد العلمانية. وهو جوهر ما تطرّق إليه كلّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحالية، عن شيوع نمط جديدٍ من التعايش بين الدين والعلمنة يتغاير مع ما ساد سلفًا. بما يحثّ على تجاوز النظر "العلمانوي" للحداثة، جرّاء حضور الدين في الفضاء العمومي الذي أضحى واضحا وجليّا.
ولربما لإحاطة أشمل بالموضوع، ينبغي تناول العلاقة المستجدّة بين الديني والسياسي ضمن إطار التحول الجاري داخل مرحلة تاريخية. فقد قيل إن الإنسان هو "كائن متديّن"، وقيل أيضا هو "كائن سياسي" أو "مدني"، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مجتمعة، بما يجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لون واحد. وضمن السياق المسيحي، الغربي تحديدا، عاد في العقود الأخير مصطلح اللاهوت السياسي للتداول، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في طروحات القديس أوغسطين الإفريقي. اُستعيدت الأطروحة في نطاق البحث عن إضفاء شرعية على الممارسة السياسية مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدين مع لاهوت التحرر، وبالمثل في نطاق التوظيف اليميني المكثّف مع السياسات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس كارتر. لكن الملاحظ أن اللاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعين: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيوية في النظام الليبرالي؛ ولاهوت سياسي أفقي، يمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل ضمن أنصاره، يسعى إلى بناء توازنات مستجدّة داخل الفضاء العمومي.
والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو ما معنى أن يطلّ الدين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلة للسياسة أو تسييسا للمسيحية بطريقة اقتحامية فجّة، وإنما تأتي العملية سياقية، يتعايش فيها أحد المكوّنَين مع الآخر بطريقة متداخلة وبطيئة، ويغدو الدين مخزونا أنثروبولوجيا معبّرا عن خصوصيات هوية وليس تعاليم عقدية أو منظورات لاهوتية صارمة.
إذ منذ محاوَرة البابا المستقيل راتسينغر الفيلسوف هابرماس في موناكو (2004)، تحت شعار "حوار العقل والإيمان"، طفت على سطح الفكر الأوروبي إرهاصات لافتة في علاقة الدين بالسياسة. وغدا الخطاب السياسي مستعيرا جملة من المفاهيم والمقولات الدينية، بعد أن كان حضورها ضئيلا أو منعدما. وفي الجوهر بدا سؤال إلى أين تجرّ العلمانية أوروبا حاضرا بقوة؟ لا سيما وأن مصائر العلمانية المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللائكي اليعقوبي، جرّت فئات واسعة إلى العدمية وحكمت على مسارات ديمقراطية بالتميّع أو الخواء. فالغرب "البراغماتي" بدا متشكّكا من مؤدى خياراته طيلة العقود الفائتة. لا سيما وأن الجسم السياسي الأوروبي يتحرك داخل خارطة سياسية ذات مشارب إيديولوجية متنوعة، ويعبّر عن روافد شتى وتوجهات عدة تبلغ حدّ التنافر. كما أنه يشتغل داخل ضوابط سياسية يُطلَق عليها تجوزا العلمانية أو اللائكية، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات متقاسَما بين سائر المكوَّنات بمختلف خلفياتها اليمينية واليسارية والدينية واللادينية.
يوجد عدد متزايد من السياسيين والمحاورين الأوروبيين الذين يرون الإسلام كدين يتعارض بشكل مباشر مع الثقافة الأوروبية، وبالتالي يعتقدون أن الإسلام يشكل عقبة أمام اندماج المهاجرين واللاجئين. اكتسب هذا الموقف زخماً بشكل خاص بعد الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001.
يتفق بعض المسلمين في أوروبا مع الرؤية التي قدمها "طارق رمضان" Tariq Ramadan استاذ الفلسفة الذي يقيم في سويسرا، الذي يرى نفسه مسلماً، ويعتبر أن كل شيء في الثقافة الأوروبية لا يتعارض مع الإسلام هو جزء منه. عملت هذه المجموعة من المسلمين بشكل هادف لتطوير تفسير للنصوص الإسلامية وأسلوب حياة يجمع بين المبادئ الإسلامية، والقيم، والممارسات الأوروبية، والدنماركية. هذا ينطبق بشكل خاص على جيل الشباب من المسلمين الذين يريدون فصل المبادئ الإسلامية عن تقاليد آبائهم أو أجدادهم من دول مثل تركيا وباكستان والعراق.
يعتبر الإسلام الأوروبي Euro-Islam محاولة لتفسير الإسلام في سياق أوروبي حديث، بحيث يصبح من الممكن الحفاظ على تفسير إسلامي للحياة وهوية مسلمة آمنة وفي نفس الوقت المشاركة البناءة والفاعلة في المجتمع. وبالتالي فإن الإسلام الأوروبي هو إعادة تفسير للإسلام يأخذ في الاعتبار الظروف الثقافية والسياسية الخاصة والتاريخ الذي يميز أوروبا، ولكنه لا يزال قائماً على كتاب القرآن الكريم. إنه ليس نصاً دينياً أنيقاً أو مكتملاً أو برنامجاً محدداً تعمل جمعية أو منظمة لعموم أوروبا على تحقيقه. على النقيض من ذلك، يُنظر إلى الإسلام الأوروبي على أنه اتجاه أو حركة في أوروبا اليوم.
يتناقض هذا الاتجاه من جهة، مع المسلمين "العلمانيين المتطرفين" الذين يريدون تحرير أنفسهم من غالبية خلفيتهم الإسلامية من أجل الاندماج والتكيف تماماً في المجتمع الغربي. ومن ناحية أخرى يتعارض مع الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين يريدون التحرر من الأعراف الثقافية والنظام الاجتماعي للغرب وتقويضها وإقامة دولة إسلامية بدلاً من ذلك.
المسلمون الثقافيون، والمعروفون أيضاً باسم المسلمين الاسميين، أو المسلمين غير الممارسين أو المسلمين غير الملتزمين، هم أشخاص يعتبرون أنفسهم مسلمين لكنهم ليسوا متدينين ولا يمارسون العبادات. قد يكونون أفراداً غير متدينين أو علمانيين. ما زالوا يتماهون مع الإسلام بسبب الخلفيات العائلية، أو التجارب الشخصية، أو التراث العرقي والوطني، أو البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها. ومع ذلك، لا يتم قبول هذا المفهوم دائماً في المجتمعات الإسلامية المحافظة.
يمكن العثور على المسلمين الثقافيين في جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص في البلقان، وآسيا الوسطى، وأوروبا، والشرق الأوسط، وروسيا، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا والولايات المتحدة. وفي العديد من البلدان والمناطق، يمارس هؤلاء المسلمون الثقافيون الدين على مستويات منخفضة، وبالنسبة للبعض، ترتبط هويتهم "الإسلامية" بالتراث الثقافي أو العرقي أو الوطني، وليس مجرد الإيمان الديني فقط.
«معرفةُ أهميّة فهم دور المشاعر لا ينبغي أنْ يدفعنا إلى الظّن أنّ قيمة العقل أقلّ منها، ويجب أن يكتفي بمكان ثانويّ بجانبها، أو أنّه لا جدوى من أنْ يسعى إلى تطويرها. على العكس من ذلك، فإنّ إدراك الدّور الكبير الّذي يمكن أن يلعبه فهمُ المشاعر قد يمنحنا الفرصة لزيادة تأثيرها الإيجابي والحدّ من آثارها السّلبيّة المحتملة. وبشكل أدقّ، ودون الإقلال من قيمة التّوجيه الّذي قد يكون للإدراك العادي للمشاعر، يمكن توقّع حماية العقل من التّقلّبات الّتي قد يُدخلها الإدراكُ غيُر الطّبيعي للمشاعر (أو التأثيرات غير المرغوب فيها على الإدراك العادي) في عملية صنع القرار[1]»
«من المُضحك بنفس القدر الاكتفاءُ بمطالبة المشتغل بالرّياضيّات بالحجج المعقولة، ومطالبةُ الخطيب بالأدلّة العلميّة[2]»
فاتحة:
أَدَرنا المقالةَ الأولى الّتي خصّصناها لاعتراض العمري على الجابري حول الشّقّ "الإجماليّ" لذلك الاعتراض، وسنُدير المقالة الحاليّة على ما اعتبرَه اعتراضا متعلّقا بـ "الأجزاء والفروق والممهدات". وسنسلك نفس النّهج، فَنوزع فقراتها على عنوانين، الأوّل نُخصّصه لِصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ ونُفصّل في كلٍّ منهما. فَلْنَقرأ كلامَه أوّلا:
الملحق التّوضيحي:
يقول العمري: «هذا على الإجمال، أما بالنظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات الموصلة إلى تعميم الأحكام فإني لا أجد فيما فهمت من قراءة كل من الباقلاني والجرجاني ما يجعل الخطاب عند هذا مساويا للنظم عند ذاك. بل أميل إلى أن الباقلاني تلافى باستعمال كلمة خطاب استعمال كلمة نظم التي كانت شائعة في عصره وقبله عند علماء الإعجاز من الجاحظ (255ه) إلى الخطابي (386ه)، هروبا من مرجعيتها.
وإذا أضفنا إلى النص المذكور نصوصا أخرى من المبحث نفسه (بنية العقل 148-247)، فيمكننا أن نسجل عدم فهمنا لعدة أمور:
1- اختزال البلاغة في التشبيه
2- حصر مفهوم التشبيه في وجهة نظر عبد القاهر الجرجاني
3- ربط التباعد بين الطرفين بالانفصال والتجويز الناتجين عن البيئة العربية في حين أن عبد القاهر كان في منحاه هذا يصوغ نظرية المحاكاة الأرسطية حسب قراءة الفلاسفة العرب لها.
4- حين نتأمل وجهة نظر ابن سنان في القرب (قرب المأخذ) نصل إلى نتائج عكس التي وصل إليها تحليل الأستاذ الجابري.[3]»
ضمن تفرّعات التخصصات الدراسية الجامعية في إيطاليا، أطلّ في العشرية الأخيرة من الألفية الميلادية الثانية مسمى "الاستعراب" (arabismo)، بمدلول اقتصر على فئة المعنيّين بدراسة وتدريس العربية وآدابها حصرا، وهو ما لم تخض القواميس الإيطالية في تفصيلاته كثيرا. حتى وإن تحدّر كثير من هؤلاء "المستعرِبين" في تكوينهم من مشارب دراسية متنوعة: دينية، أو اجتماعية، أو مجالات ذات صلة بالمخطوطات والفنون العربية أو غيرها من التفرعات المنضوية تحت الدراسات الشرقية عموما. ولم تشمل فئةُ المستعرِبين الأساتذةَ والباحثين والدارسين من مختلف التخصصات الأخرى، المشتغلين بالثقافة العربية والمجتمعات العربية والتاريخ العربي، مثل علماء الاجتماع، والمؤرخين، وخبراء القانون الإسلامي، وعلماء الآثار، ومتتبّعي سائري الفنون والعلوم وغيرهم.
وعادة ما يعرّف المستعرِبون أنفسهم، كونهم شريحة علمية متجاوزة للاستشراق التقليدي (المورَّط في زعزعة ثقافات، والإسهام في تكبيل شعوب، والتحكم بمصائر مجتمعات)، ويسعون في تمييز أنفسهم -كلّما سنحت الفرصة- باستحضار الوجه السلبي للاستشراق، والزعم أنهم بصدد التجريب والاشتغال على تجاوز سقطاته. وليس رميا بتُهمٍ باطلة، ولكن استرجاعا لوقائع حاصلة، أن الفترة التاريخية التي نشط فيها الاستشراق أملت على كثيرين منهم أن يعملوا مخبرين ومستشارين وموظفين سياسيين في مؤسسات كولونيالية وفاشية وإمبريالية (انظر بشأن تورط المدرسة الأنثروبولوجية مع المستعمر الفرنسي كتابَ الفرنسي جان-لو آمسال، إسلام الأفارِقة.. النزوع للتصوف، منشورات ميلتيمي، ميلان 2018).
والبيّن أن مولد الاستعراب الإيطالي قد أطلّ منذ تسعينيات القرن الفائت، وبما لا يعني انتفاء تدريس ودراسة العربية وآدابها قبل ذلك التاريخ في إيطاليا، ولكن، بدايات التفرع الجديد -أو إن شئنا- التمرد على الآباء والسعي لبناء هوية أكاديمية جديدة. فقد خرج رواد الاستعراب في إيطاليا من عباءة المستشرقين، تعلّموا على أياديهم وخبروا أفكارهم ثم انشقّوا عليهم. وقبل التسعينيات كانت دراسات العربية وآدابها في الجامعة الإيطالية، قليلة العدد ضئيلة الأثر. توزعت بين أربعة أو خمسة مراكز رئيسة: في مدن بولونيا وروما ونابولي وباليرمو، إلى جانب مؤسسات تابعة إلى حاضرة الفاتيكان متواجدة في روما مثل "المعهد البابوي للدراسات العربية الإسلامية" الذي انتقل مقرّه من تونس إلى روما سنة 1964، وكذلك "المعهد البابوي الشرقي" في روما أيضا. ويمثُل المعهدان قطبًا على حدة يتبع حاضرة الفاتيكان والمؤسسات التعليمية البابوية. في حين الاشتغال الأهم للأبحاث والدراسات والكتابة بخصوص الشرق، فقد كان يجري في أحضان مركزين، شبه حكوميين، تأسسا وتطورا منذ عقود سابقة، مع بروز حاجة النظام الفاشي للتشوف نحو إفريقيا والعالم العربي، وهما "المعهد الإيطالي لإفريقيا والشرق" (Isiao) و"معهد الشرق كارلو ألفونسو نللينو" (Ipocan)، ففي هاتين المؤسستين جرى التركيز على دراسة اللهجات العربية، وبداية إعداد القواميس العربية، وكتب النحو، وأنطولوجيات الأدب والشعر العربيين، هذا فضلا عن تقديم المشورة السياسية والمعرفية لمختلف الأنظمة والحكومات المتعاقبة التي شهدتها إيطاليا منذ مطلع القرن الفائت تقريبا. وإن كان المعهد الأول قد توارى منذ ما يزيد عن العقد، فقد ظلّ المعهد الثاني بؤرة علمية نشيطة إلى اليوم بخصوص الثقافة العربية ورصد مساراتها.
تقديم عام:
يندرج موضوع أسيف المال: الموقع وأصل التسمية، ضمن الدراسات الثقافية والاجتماعية في معناها الجامع والشامل، والتي لقيت في الفترة الأخيرة عناية كبيرة من الباحثين وأعطت للبحث التاريخي صبغة الشمولية وفتحت أفقا إضافية للتأويل والتفسير، وأزالت القيود والرؤى وبعض رواسب الكتابة التاريخية التقليدية التي كانت مهيمنة عليه.
إن محور هذه الدراسة وركيزتها الأساس هو محاولة تتبع وإيجاد معنى لبعض أسماء الأعلام المكانية والوقوف عند حجم التبدل والدينامية الذي طال الثقافة والإنسان في هذه الرقعة الجغرافية، فالانفتاح الجغرافي والسياسي والمزج الفكري والتجاري أدت إلى حدوث تبادل ثقافي ارتسمت معالمها على أسماء أعلامه فجسدت بذلك دور المرآة العاكسة لثقافة المجموعة البشرية التي تستقر هذا المجال.
- أسيف المال: الموقع
ينتمي مجال أسيف المال جغرافيا وفلكيا، إلى الناحية والجزء الشمالي الغربي لأطلس مراكش([1])، بين خطي طول 8°28’00’’ و8°33’00’’ غرب خط غرينتش، وبين دائرتي عرض 31°4’30’’ و31°5’30’’ شمال خط الاستواء، يحده من الناحية الشمالية مخرج واد أسيف المال، ومن الجنوب والشرق حوض نفيس، وحوض سكساوة غربا([2])، يحتل وادي أسيف المال موقعا هاما ضمن أودية الأطلس الكبير الغربي لإقليم شيشاوة([3])، وهو واد أخذت منابعه من أعلى الأطلس وصنع لنفسه أحواضا واسعة داخلية ومضايق قبل أن يتوسع مجراه عند بلوغه منطقة الدير على مشارف قرية سيدي بوعثمان([4]).
«..على هذا النّحو وحدَه يجبُ أن يكون الشّأن لدى الفيلسوف. فلا حقّ لنا في أنْ نكون مُتَحيّزين في أيّ مجال: لا حقَّ لنا في أن نخطئ جزئيّا، وفي أن نصيب جزئيّا. ذلك أنّ أفكارنا تنبثق منّا بنفس الضّرورة الّتي تُثْمِر بها الأشجار: قِيمُنا، وما نقوله من «نعم» و«لا» و«متى» و«إذا» ينشأ منّا، وهي كلّها متقاربة ومُرتبطٌ بعضُها ببعض: إنّها شهاداتٌ على إرادةٍ واحدة، وصحّةٍ واحدة، وأرضٍ واحدة، وشمسٍ واحدة. أمّا أنْ تُعجبـكم هذه الثّمار، الّتي هي ثمارُنا، فهذه مسألةٌ أخرى. - ولكنْ ما أهميّة ذلك بالنّسبة للأشجار؟ ما أهميّة ذلك بالنّسبة لَنا نحن الفلاسفة؟»[1]
« القَصص القرآني ليسَ مجرّد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهان: وسيلةٌ في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيداً عن أساليب اللّاعقل»[2]
فاتحة:
يَعترض محمد العمري على استدلال الجابري على "لا برهانية الفكر العربي من خلال أعمال اختارت عن وعي مجال عملها وحددت اختصاصها المتمثل في البلاغة"[3] . وقد أراد لاعتراضه أن يكون تقويميّا، يصحّح غلط الجابري ويضع الأمور في نصابها. فالأعمال البلاغيّة ينبغي، حسب ما يُفْهَم من اعتراضه، أن تُناقش في إطار البلاغة، أو ينبغي أن تُحترَم خصوصيتُها على الأقلّ فلا يُنَاقَش البلاغيّون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة أو يطالبون بعمل هؤلاء. لكنَّه بَدل أن يوفّر لاعتراضه صياغة تجعله قابلا للفهم أَوردَه مُلتبسا وفي غاية التّخليط؛ وبدل تفسيره وتقديم سنده في الاعتراض بإظهار ما يدلّ على أنّهم عوملوا معاملة الفلاسفة وطولبوا بعملهم وتوضيح كيف يُمْنَع تناول أعمالهم من زاوية فلسفيّة ومن زوايا تخصّصات أخرى، انتقل إلى موقع المدّعي –وهو ما ليس ممنوعا في ذاته- فأتى بآراء لا تَثْبُت؛ وبدل أن يلتزم بعضَ النّزاهة ويسلك طريق "العلم" الّذي يريد الانتساب إليه، فينظر إلى ما اقتطفه من عمل الجابري في ضوء سياقه المقالي والمقامي ومنطلقاته ومقاصده، نجده لا يكتفي بعزله وإغراقه في مسبقاته الخاصّة، بل يصل إلى حدّ تزييفه وتشويهه. لمناقشة ذلك نبتدئ بتقديم ما قاله في اعتراضه الإجمالي، ثمّ نوزّع فقرات مقالتنا على عنوانين أساسيّين، الأوّل نُخصّصه لصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ وفي كلٍّ تفصيل. أمّا ما اعتبرَه اعتراضا مبنيا على "النظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات"، فسنجعله موضوعَ مقالٍ قادم.
الملحق التّوضيحي:
ينهي العمري الفصل الرّابع من القسم الأوّل من كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" بالقول »إن عمل ابن وهب أقرب إلى نظرية معرفية، في حين أن عمل الجاحظ يندرج ضمن النظرية البلاغية: بلاغة الخطابة. وهذا يقتضي منا توضيحا بصدد مفهوم البيان والفكر البياني عند الأستاذ عابد الجابري، حيث وجدنا مجموعة من البلاغيين يناقشون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة، أو يطالبون بعمل هؤلاء [4] «؛ ثم يضع، في الصّفحة الموالية، ملحقا للتوضيح، يستهله بما يلي:
»يقول الأستاذ محمد عابد الجابري:
"انقسمت الأبحاث البيانية منذ نشأتها إلى اليوم إلى قسمين: قسم يعتني بـ"قوانين تفسير الخطاب" وقسم يهتم بـ "شروط إنتاج الخطاب".." .
"إن هذا الاهتمام بنظام الخطاب على حساب نظام العقل قد ترتب عنه جملة أمور: الانشغال والاهتمام بتجنب التنافر بين الكلمات على حساب الاهتمام بتجنب التناقض بين الأفكار"[5]. "
" هل نعيش زمن حراكٍ يتكرّر، أو صورة معدّلة لما وقع في الأزمنة السابقة، أم نحن أمام تحولات جديدة عمّا كان في القرن التاسع عشر وما قلبه؟"
هو ليس سؤالا للتأكيد أو النفي بإطلاقية القول، ولكنه إشكال مركزي موجّه لبحث تاريخي في الزمن الراهن موضوعه الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال، ومنطلق دراسة للباحث المغربي ابراهيم أيت إزي نشرها في كتابه الموسوم بعنوان "الحَراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال 1956-1975".
الكتاب صدر في طبعته الأولى شهر يناير 2024 عن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،،ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه، يقع في 392 صفحة من الحجم الكبير، إلى جانب بيبليوغرافيا وفهرس العام.
الكتاب يشمل تقديما من المؤرخ لطفي بوشنتوف تحت عنوان "في الحاجة إلى الكتابة في تاريخ الزمن المغربي" ومحتويات تتوزع ما بين ملخص تنفيذي في المدخل وثلاثة فصول، وكل فصل يتضمن مجموعة محاوربحثية، انتهاء بخلاصات وامتدادات .
الفصل الأول خصصه الباحث لتحديد الجهاز المفاهيمي ولائحة المصطلحات المستعملة في الدراسة التاريخية سواء كانت منتمية لحقل الموضوع أم مرتبطة بالذاكرة الشفوية أو منتسبة لبنية ثقافية- نظرية محددة. ومن تلك المفاهيم التي وقف عندها الباحث مفهوم "الحراك الاجتماعي" وموقعه المحوري في درس الحركات الاجتماعية والأبحاث ذات الصلة بنظرية "سيكولوجية الجماهير" منذ القرن التاسع عشر، وما عرفه من توسع في الدلالة وفي العناصر الوظيفية المكونة له منذ منتصف القرن العشرين، وكذا الشروط المؤسسة للحركة الاجتماعية ومبادئها التي تتحقق معها في المبنى والمعنى من حيث التنظيم والأهداف والقضية، مع التأكيد هنا على أننا لسنا أمام ظاهرة جديدة "بل ميزة رافقت الحياة البشرية منذ بدايتها"(ص51).