«معرفةُ أهميّة فهم دور المشاعر لا ينبغي أنْ يدفعنا إلى الظّن أنّ قيمة العقل أقلّ منها، ويجب أن يكتفي بمكان ثانويّ بجانبها، أو أنّه لا جدوى من أنْ يسعى إلى تطويرها. على العكس من ذلك، فإنّ إدراك الدّور الكبير الّذي يمكن أن يلعبه فهمُ المشاعر قد يمنحنا الفرصة لزيادة تأثيرها الإيجابي والحدّ من آثارها السّلبيّة المحتملة. وبشكل أدقّ، ودون الإقلال من قيمة التّوجيه الّذي قد يكون للإدراك العادي للمشاعر، يمكن توقّع حماية العقل من التّقلّبات الّتي قد يُدخلها الإدراكُ غيُر الطّبيعي للمشاعر (أو التأثيرات غير المرغوب فيها على الإدراك العادي) في عملية صنع القرار[1]»
«من المُضحك بنفس القدر الاكتفاءُ بمطالبة المشتغل بالرّياضيّات بالحجج المعقولة، ومطالبةُ الخطيب بالأدلّة العلميّة[2]»
فاتحة:
أَدَرنا المقالةَ الأولى الّتي خصّصناها لاعتراض العمري على الجابري حول الشّقّ "الإجماليّ" لذلك الاعتراض، وسنُدير المقالة الحاليّة على ما اعتبرَه اعتراضا متعلّقا بـ "الأجزاء والفروق والممهدات". وسنسلك نفس النّهج، فَنوزع فقراتها على عنوانين، الأوّل نُخصّصه لِصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ ونُفصّل في كلٍّ منهما. فَلْنَقرأ كلامَه أوّلا:
الملحق التّوضيحي:
يقول العمري: «هذا على الإجمال، أما بالنظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات الموصلة إلى تعميم الأحكام فإني لا أجد فيما فهمت من قراءة كل من الباقلاني والجرجاني ما يجعل الخطاب عند هذا مساويا للنظم عند ذاك. بل أميل إلى أن الباقلاني تلافى باستعمال كلمة خطاب استعمال كلمة نظم التي كانت شائعة في عصره وقبله عند علماء الإعجاز من الجاحظ (255ه) إلى الخطابي (386ه)، هروبا من مرجعيتها.
وإذا أضفنا إلى النص المذكور نصوصا أخرى من المبحث نفسه (بنية العقل 148-247)، فيمكننا أن نسجل عدم فهمنا لعدة أمور:
1- اختزال البلاغة في التشبيه
2- حصر مفهوم التشبيه في وجهة نظر عبد القاهر الجرجاني
3- ربط التباعد بين الطرفين بالانفصال والتجويز الناتجين عن البيئة العربية في حين أن عبد القاهر كان في منحاه هذا يصوغ نظرية المحاكاة الأرسطية حسب قراءة الفلاسفة العرب لها.
4- حين نتأمل وجهة نظر ابن سنان في القرب (قرب المأخذ) نصل إلى نتائج عكس التي وصل إليها تحليل الأستاذ الجابري.[3]»
صيغة الاعتراض:
2. غياب التّرابط بين الاعتراض "الإجمالي" والاعتراض "التّفصيلي":
يَنُصّ العمري في بداية كلامه الّذي نقلناه أعلاه على أنّه ينتقل من الإجمال إلى "الأجزاء والفروق والممهّدات" الموصلة إلى تعميم الأحكام. ونحن القرّاء نفهم من ذلك أنّه سيشرح بتفصيل وتدقيق ما لم يتوفّق في تبليغه بكلامه المجمل الّذي أورده مضطربا مُلتاثا؛ فنتوقّع أنّه بتوقّفه عند الممهّدات والأجزاء والفروق الّتي أوصلت الجابري إلى تعميم أحكامه سيفسّر الكيفَ الّذي ترتبط به "المقولتين" اللّتين اقتطفهما من "بنية العقل العربي"، ودواعي انتقائهما ووضعهما موضعَ المناقشة، ويدقّق في ما استدلّ به على "تجاهل" الجابري للفرق بين الخطابات وعدم وجاهة اعتماد أعمال "البلاغيين" لإثبات "لا برهانية الفكر العربي". لكنّ العمري يُحبط التّوقّع، فينتقل إلى إيراد إثباتات أخرى لا تدلّ، حتّى لو سلّمنا بصحّتها وصحّة ما ينسبه للجابري، على أنّ هذا الفيلسوف يتجاهل الفرق بين الخطابات، ولا تمنع بأيّ وجهٍ أنْ يكون "الفكر العربي لا برهانيّا"! فَلا نفع في القول إنّ "الخطاب" عند الباقلاني ليس هو "النّظم" عند الجرجاني في هذه المسألة مثلا؟ لأنّه يُمكن أنْ لا يكون هناك علاقة بين مفهوم "الخطاب" ومفهوم "النّظم" عند هذين الكاتبَين، ويكون الجابري أخطأ في إشارته إلى أنّ لهما نفس المعنى، ولا يكون ذلك دليلا البتّة على أنّه "يجهل" أو "يتجاهل" الفرق بين الخطابات، كما لا يكون دليلا على أنّ الفكر العربي ليس "بيانيّا". وما قلناه عن مفهومي "الخطاب" و"النّظم" يجري على "الأمور" الأربعة التي "لا يفهمها" العمري ويوردها مرقّمة إيهاما منه بالدّقّة والضّبط. كيف يدلّ اختزال البلاغة في التّشبيه على تجاهل الخطابات وعلى "لا برهانيّة الفكر العربيّ" مثلا؟ وعلى فرض أنّ عبد القاهر الجرجاني كان يصوغ نظريّة المحاكاة الأرسطيّة حسب قراءة الفلاسفة العرب لها، ما الّذي يمنع أنْ يرتبط تباعد طرفي التّشبيه لديه وتقاربهما عند غيره بالانفصال والتّجويز الموروث عن بيئة الأعراب؟ وَقِسْ على هذا، فنحن لا نتوسّع في ذلك في هذه الفقرة الّتي نخصّصها لعلاقة شِقّ الاعتراض الإجمالي بشِقّه الرّاجع إلى "الأجزاء والفروق والممهّدات"!
2. تَبَلْبُلُ الاعتراض "التّفصيلي":
بِمُجرّد إعلان العمري انتقالَه إلى الأجزاء والفروق والممهّدات، يؤكّد أنّه لا يجد ما يُمَكِّن الجابري من المساواة بين "الخطاب" عند الباقلاني و"النّظم" عند الجرجاني، ويقول إنّه يميل إلى أنّ الباقلاني "تلافى" كلمة "النّظم" لحمولتها الّتي اكتسبتها عند من سبقه، ويورد تاريخيْ وفاة الجاحظ والخطابي! ويقول مباشرة " وإذا أضفنا إلى النص المذكور نصوصا أخرى من المبحث نفسه (بنية العقل 148-247) فيمكننا أن نسجل عدم فهمنا لعدة أمور" ويشرع في إيراد تلك الأمور مرقّمة!؛ وهو لم يذكر أي "نصّ" غير "المقولتين" اللّتين أوردهما في بداية كلامه، واستنبط منهما ما ناقشناه فيه في المقال الأوّل؛ وليس في تَيْنِكَ "المقولتين" أيّ مساواة بين مفهوم الخطاب ومفهوم النّظم! وظاهرٌ أنّه يقول إنّه ذكر "نصّا" لم يذكره!، ويشير إلى "نصوص أخرى" لا يُعَيّنها، ويسجّل بخصوصها عدم فهمه للأمور التي يوردها مرقّمة دلالة منه على اعتماد الدّقة كما هو شأن ذكر تاريخ وفاة الجاحظ والخطّابي! والحاصلُ أنّ "الممهّدات والأجزاء والفروق" كلمات ظلّت جوفاء في سياقٍ مُهلهل وناقص، ومحشوّ بما لا يَسْنُد اعتراضه على الفيلسوف بأيّ وَجه.
مناقشة مضامين الاعتراض "التّفصيليّ:
3. إسقاط كلمة "نظام" من المركّب الإضافي "نظام الخطاب" الّذي يستعمله الجابري:
يقول العمري: "إني لا أجد فيما فهمت من قراءة كل من الباقلاني والجرجاني ما يجعل الخطاب عند هذا مساويا للنظم عند ذاك. بل أميل إلى أن الباقلاني تلافى باستعمال كلمة خطاب استعمال كلمة نظم التي كانت شائعة في عصره وقبله عند علماء الإعجاز من الجاحظ (255ه) إلى الخطابي (386ه)، هروبا من مرجعيتها". وهذا قولٌ فيه تزويرٌ وتغليط، لأنّ العمري يقول إنّه لا يجد عند الباقلاني ما يجعل "الخطاب" عنده مساويا "للنظم" عند الجرجاني مِن دون أنْ يضع أمام القارئ كلام الجابري الّذي أقام فيه تلك المساواة، أوْ يُحِل على مكانه. والجابري لم يقل ذلك في ما نعرف، بل قال «إن «نظام الخطاب» - وهذا تعبير للباقلاني، وهو ذاته «النظم» عند الجرجاني- ..[4]»، والمقولة الثّانية نفسها الّتي أوردها العمري في بداية ملحقه التوضيحي والتي نقلناها عنه في مقالتنا الأولى تنتقد الاهتمام "بنظام الخطاب على حساب نظام العقل"؛ واستعمالُ "نظام الخطاب" ليس هو استعمال كلمة "الخطاب". ومن البيّن أنّ لا أحدَ يمكنه أن يقول إنّ "النظم" هو "الخطاب" أو "الكلام" أو "القول"! وإشارة الجابري جاءت في جملة اعتراضيّة، وهي لا تقول أكثر من أنّ تعبير «نظام الخطاب» هو للباقلاني، وهو النّظم نفسه عند الجرجاني. لكنّ العمري الّذي أسقط كلمة "نظام" "استنبط" من كلامٍ هو من أنشأه إنشاءً أنّ الباقلاني يستعمل "الخطاب" ولا يستعمل النّظم، فأغراه ذلك بأن يغلّط الجابري ويستدلّ على التّغليط، ويبيّن الفرق بين "الخطاب" عند الباقلاني و"النظم" عند الجرجاني. ولأنّ إظهار ذلك يتطلّب جهدا، وقد لا يقدر -بعد الجهد - أن يتوصّل إلى أكثر من كون الجرجاني فصّل مُجْمَل سلفه ودقّقه ومهّد بدوره للسكاكي الذي نقّحه ونظّمه وضبط معاقده وسمّاه المعرفة بـ "خواص تركيب الكلام وصياغات المعاني"، فقد اختار الطّريق السّهل: الباقلاني يستعمل كلمة "الخطاب" ولا يستعمل كلمة "نظم"، بل "يتلافاها هروبا من مرجعيّتها"!
3.2. ادعاء "تلافي" الباقلاني استعمال كلمة "النّظم":
وهل تلافى الباقلاني كلمة "النّظم" "هروبا" من مرجعيّتها؟ لا، بالقطع. وكلمة "النّظم" متردّدة في كتابه تردّدا لا يقاس بما يمكن أنْ يقوم مقامها[5]. و"نظام الخطاب" الّذي أشار إليه الجابري هو ممّا أقامه الباقلاني مقام النّظم في المكان الّذي استعمله فيه. يقول الباقلاني: «ثم قال: (إنّ الّذي يُلْحِدون في آياتنا)، إلى أن قال: (إن الذين كفروا بالذِّكْر لمّا جاءهم، وإنّه لكتابٌ عَزيزٌ، لا يأتيه الباطلُ مِنْ بين يَدَيْه ولا مِنْ خَلْفِه). وهذا وإن كان متأوّلاً على أنّه لا يوجد فيه غيرُ الحقّ مما يتضمّنه من الإخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنْبَأ أنها تقع في الآتي – فلا يخرج عن أن يكون متأوّلا على ما يقتضيه نظام الخطاب، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة/ تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه. وكذلك لا يأتيه من بعده قَطُّ أمرٌ يُشكِّكُ في وجه دلالته [وإعجازه]. وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.[6]» وبذلك يكون حمل الجابري لـ"نظام الخطاب" على "النّظم" عملا دالاًّ على فَهْمٍ لم يُرْزَقه المُنتقِد. ولا يخفى أنّ الجابري هو مَن أبرز أنّ "نظام الخطاب" و"النظم" عند الباقلاني استعملا بمعنى إجمالي وعام وأنّ الجرجاني هو من فصّل ودقّق، وأنّ السكّاكي هو من نقّح ونظم وضبط المعاقد، وهذا يعرفه كلّ متثبّت منصف!
ولكنّ إرادة تغليط الجابري لا تظهرُ فقط في إسقاط تركيب "نظام الخطاب" وإقامة كلمة "الخطاب" مقامه، ولا في تغييب كتاب "إعجاز القرآن" وادّعاء تلافي الباقلاني لكلمة "النّظم"، وإنشاء تفسير لذلك "التلافي"، بل يظهر في نفي العمري لتوكيداته هو نفسه: فقد قال في الكتاب عينِه الّذي يُزوّر فيه كلام الجابري ويغلّطه إنّ الباقلاني انتهى في مقارنته للنّصوص الشّعرية والخُطبية بالقرآن إلى وضع شرطين للمعجزة البلاغيّة للقرآن: «1- ألّا يكون الوجه البديعيّ مما يمكن تعلّمه، والوصولُ إليه بالصّنعة والتعمُّل. 2- ألّا يُدّعى الإعجاز في الوجه نفسه بل في النظْم الذي يتضمّنُه[7]». وقد أنهى العمري، من جهته، الكلام عن الباقلاني-وبعد أن استشهد بمقتطفات يشترط فيها مُؤلّف "إعجاز القرآن" أن يكون الوجه البلاغي داخلا في النّظم حتّى يُعتبَر في الإعجاز[8]- بهذه الخلاصة الّتي هي ظلٌّ باهت ومحرّف[9] لكلام الجابري: «بهذا يخطو الباقلاني خطوة متقدّمة نحو الإعجاز النظمي القائم على التفاعل بين الصور كما سنلاحظ عند الجرجاني. والغريب أن الجرجاني لم يذهب إلى هذه الحقيقة مباشرة بل وصل إليها بعد معاناة البحث عن بلاغة المعنى وحده، كما سنوضح[10]»
فيظهر أنّ الجابري أشار إلى علاقة مفهوم "نظام الخطاب" عند الباقلاني بمفهوم "النظم" الّذي فصّل فيه الجرجاني ودقّق، ولم يقل إنّ "الخطاب" عند هذا يساوي "النّظم" عند ذاك؛ ويظهر، أيضا، أنّ الباقلاني استعمل كلمة "النّظم" نفسها وجعلها وصفاً لما به وقع الإعجاز البياني في القرآن ولم يهرب من مرجعيّتها؛ ويظهر، بالتّبع، أنّ كلام العمري مجرّد تزييفٍ وتغليط وتخليط ولا رابط يربطه بمستلزمات البحث والمناقشة "العلميّة" في مستوى الضّبط ومستوى النّزاهة معا.
3.3. ادّعاء اختزال البلاغة في التّشبيه:
الأمرُ الأوّل الّذي يصرّح العمري أنّه لا يفهمه هو اختزال الجابري البلاغة في التّشبيه. وعدم فهم العمري هو حجّة ضد الجابري: إنّه استغراب لِما قام به وإدخالٌ له في باب ما لا يُعقل. ولكنّنا نحن القرّاء نحتاج، لكي نستغرب مع العمري ما يَستغرب ونُنكر على الجابري ما يُنكر، أن يَضَع أمامنا مستنداته الّتي بنى عليها دعوى الاختزال، بل وأن يوضّح لنا طبيعة ذلك الاختزال؛ مادامَ الاختزالُ يمكن أنْ يكون من صميم ما يتطلّبه العمل "العلمي". وهو لم يفعل ذلك، واكتفى بالإشارة إلى نصّ "مذكور" و"نصوص أخرى من المبحث نفسه"، وهي "إشارة" ظلّت فارغة لا دورَ لها إلّا ما يتعلّق بتقويّةِ الإيهام بالتّوفّر على حُجَج تدلّ على اقتراف الجابري لاختزال غير مبرّر! لهذا، نترك حجّة عدم الفهم، ونقوم بتفسير ما قام به صاحب "نقد العقل العربي" بالاحتكام إلى عمله ومنهجه ومقاصده تفسيرا مركّزا، وفقا لما يقتضيه هذا المقام.
لفهم أيِّ عمل يُفْتَرض في القارئ أنْ يضع في الاعتبار مُحدّدات أساسيّة، أهمّها التّخصّص الّذي يندرج فيه، والمَوضوع الذي يتناوله في ذلك التّخصص، والفرضية التي ينطلق منها صاحبه، والغاية التي يسعى إلى تحقيقها، والمنهج الّذي يقترحه للتحقّق من الفرضية وبلوغ الغاية. (1) فأمّا التّخصّص الّذي يضع فيه الجابري "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" فهو الفلسفة، ومعلوم أنّ الفلسفة تقلّبت في أطوار وتداولتها تصوّرات في غاية التّباين[11]. وقد توزّعها في المجال العربي القديم تياران أساسيّان: تيارٌ استخدمها لمحوها من منظور عقدي- كلامي، وتيارٌ استعملها من أجل فسح مكان للعلم في إطار إسلامي منغلقٍ؛ أمّا لدى المعاصرين من الغربيين فقد صارت عند البعض فلسفةً للّغة، وساوى بعضٌ آخر بينها وبين البلاغة في شقّها الحجاجي. وقد كان أن اطلّع بعضُ المغاربة على أعمال فلاسفة اللّغة والحجاجيّين، فربط ما غنمه من كلّ ذلك بتراث المتكلّمين وبالتّيار الّذي قلنا إنّه خدم بالفلسفة تصوّرا عقديّا-كلاميّا وخلط كلّ ذلك بالتّصوف. ونحن نذكر هذا لأن العمري استند في نقده للجابري إلى ظنّه بأنّ طه عبد الرحمان انتصر للبيان الّذي "انتقص" منه الجابري. وقرّاء الجابري غير المتمذهبين يعرفون أنّ من فضائله وضعُه المسافةَ مع "المنعطف اللغوي" ومع البلاغة الّتي تسعى إلى أن تحلّ محلّ الفلسفة، ومنها، قبل ذلك، اختياره اعتبار العلم نموذجا أمثل، من غير أنْ يعنيَ ذلك أنّه ينطلق من الاعتقاد بإمكان تحقيق الموضوعيّة في حقل الفلسفة والعلوم الإنسانية على نحو ما يتم في مجالات العلم. إنّ الفلسفة عند الجابري فعاليّة نقديّة تقف بقوة ضد إرادات التّنقيص من العقل الّتي تحكم استراتيجيّات تأويليّة متباينة عابرة للأمكنة والأزمنة، وعلى رأسها الاستراتيجيّة "العرفانيّة" والاستراتيجيّة "الكلامية- المنطقية". لهذا، فإنّ الزّعم بأنّ الجابري يقف ضد البيان -وضد الإيمان!- وينحاز للمنطق الصّوري قولٌ يقع بعيدا عن عمله. فالفلسفة عنده تنظر في ما يجب على العقل أنْ يقول فيه كلمته، والبرهان في كتبه وصفٌ لاستراتيجيّة عقلانيّة يضعها في مقابل الاستراتيجيّة الكلاميّة-المنطقيّة من ناحية، والاستراتيجيّة الصّوفيّة –العرفانيّة من الناحية الأخرى. وهذا لا يعني أنّه يُلقي بالعرفان إلى خارج العقل العربي، ولا أنّه يقول بانتفاء الحاجة إلى الآليّات البيانيّة من مُماثلة ومُقايسة.. إنّه يعني، فقط، أنّ البرهان هو الّذي ينبغي أن تُضفر فيه تلك الآليات وتخضع للتّكييف والمراقبة في مجالات العلوم، وهو الّذي ينبغي أن تكون له السّيادة ويعتمد عليه أيضا في رسم الإطار العام لكلّ حياة اجتماعيّة، إذْ عليه وحده يمكن التّأسيس في مجالات السّياسة والقانون والأخلاق، عليه وحده يمكن وضع "أسلوب كبير" يُتيحُ التعدّد ويستوعبه في إطار تعاقد حرّ وعقلاني؛ (2) وأمّا الموضوع الّذي أدار عليه كتابيه فهو "نقد العقل العربي"، ذلك العقل الّذي شكّلته الثّقافة العربيّة وشكّلها على نحوٍ خاصّ ومميّز. واختيارُه استعمال "العقل" بدل "الفكر" أو "الثّقافة" دلالة منه على أنّه لا يقصد إلى تقديم المضامين وتتبّع الآراء والمذاهب، بل يقصد تتبّع المنهج ورصد الآليّات وتحديد نوع الرّؤية في كلّ نظام من أنظمة ذلك العقل. فيكون نظر الجابري متعلّقا، إذا اقتصرنا على البلاغة، بما يُنْتِج مسائلَها ومفاهيمَها وإشكالاتها ويتحكّم في تشكيلتها الخطابيّة؛ (3) وأمّا فرضيّة الجابري المحوريّة فتتمثّل في وجود أسباب تتجاوز الأسباب الاقتـصادية والاجتماعية والسياسية والعقدية كانت وراء المسار الذي اتخذه تكوّن العقل العربي واتّخذه الإنتاج وإعادة الإنتاج في إطاره، وهي أسباب ابستيمولوجية. والجابري ينصّ على أنّ الأسباب الاقتـصادية والاجتماعية والسياسية والعقدية كان لها دور أساسيّ في رسم ذلك المسار من غير شكّ، ولكنّه يؤكّد أنّها ما كانت لتكون حاسمة لولا وجود تلك الأسباب الابستيمولوجيّة في «الصورة الابتدائية «العاميّة» المؤسّسة[12]» للنّظام البيانيّ الّذي يهمّنا في هذا السّياق : لِذا يقرّر أنْ يقوم بنوع من "الحفريات" بقصد استكشافها وتفسير دورها؛ (4) وأمّا المنهج فيستعمل في "الكتاب الأوّل" التّحليل التّكويني ويتتبّع من خلاله سيرورة تشكّل الثّقافة العربيّة تتبّعا أوصله إلى التّمييز بين ثلاثة مكونات أساسيّة للعقل العربي هي ما سمّاه بالنّظم المعرفيّة، وفي الجزء الثّاني "التحليلَ البنيوي" الّذي عمل من خلاله على فحص آليّات ومناهج ورُؤى تلك النّظم وتوضيح طبيعة العلاقة بينها في إطار ما سمّاه بالبنية الداخليّة للعقل العربي؛ ونحن لا نتوقّف عند تفاصيل المنهج، لأنّ ما يشغلنا هو ما له مَتاتَة بالمسائل الّتي نناقشها. لذا نعيد هنا الإشارة إلى إلحاح الجابري على ضرورة القطع مع القراءات الّتي تعتمد منظورات من خارج الثّقافة العربيّة والمنظورات الّتي تنطلق من داخل التّراث لكنّها تسقط في الانغلاق وفي التّمذهب والانخراط في صراعات الماضي بالاقتصار على استغلال مضامين ورؤى وأراء الأقدمين، وسعيه، بالمقابل، إلى القيام بقراءة تلتزم بأقصى ما تستطيع من الشّمولية، وتركّز على الآليّات والوسائل وما ترتبط به من رؤية ومنهج؛ (5) وأمّا الغاية فتتمثّل في التّمكين للعقل، بالسّعي إلى نزع هيمنة نسقين اثنين، نسق ثقافة البدو بالشّكل الّذي استعادها به علماء "عصر التدوين" في وعيهم، فشكّلت منظورهم في فهم الدّين وفهم العالم فهما كلاميّا-منطقيّا، ونسق "العرفان" الّذي ساءَ أهلَه ضيقُ نسق ثقافة البدو فسعوا إلى الخروج عنه بتبنّي استراتيجيّة تفصل في الخطاب القرآني بين الظّاهر والباطن، ونسجوا خيوط حقيقتهم الباطنيّة من خليط الإسماعيلية والأساطير الفارسيّة والهرمسيّة وفلسفات عالم الافلاك والعقول السماويّة ..فـ«اختلط كلامُهم وتشابهت عقائدهم[13]» وقلوبهم، فأقاموا عالما سحريّا وأوّلوا تأويلات بدون ضوابط أو حدود[14]. وبالطّبع، فإنّ نزع هيمنة هذين النّسقين ليس سعيا لاجتثاث المتخيّل والأسطورة البتّة، ذلك أنّ العقل كما يفهمه الجابري ليس ضيّقا وليس من حقّه أن يتمذهب. وهذا بالضبط ما يُبْعده عن أرضيّة المنظورَيْن الضّيّقيْن: الكلاميّ- المنطقي، والعرفاني- السّحري.
في ضوء هذا يمكن فهم قراءة الجابري "للعلوم العربيّة". فإذا فَرَز من هذه العلوم الأعمدة الأساسيّة الّتي تقوم عليها وتضبط مفاصلها وأوصالها ونطق بحكم مبرّر تبريرا كافيا يشملها جميعا، فلا معنى لأن نقول له إنّك لم تتناول جميع مسائل ومضامين العلم، بل ولأنْ نقول له إنّك لم تتناول جميع آلياته، ولا يؤثّر على سداده تركٌ مقصودٌ لآلية من الآليات إمّا لأنها تقع تحتَ حكم غيرها أو حتّى لخروجها عن ذلك الحكم، فقد يُخالف حكمُ الجملةِ حكمَ الأجزاءِ كما يقول القدماءُ أنفسُهم.
نَصل الآن إلى ادّعاء اختزال البلاغة في التّشبيه، فنقول: لو اختزل الجابري البلاغة في التّشبيه لما كان ذلك ممّا لا يُعْقَل، فالتّشبيه هو الغالب على اهتمام معظم البلاغيين والنقاد القدامى بحسب أقوالهم هم أنفسهم وبشهادة المهتمين بأمر البلاغة من المعاصرين، وفي ذلك يقول حمادي صمود إنّه "من ثلاثة محاور أو علامات بارزة تتحرك منها وتؤول إليها مواقف جلّ النقاد والبلاغيين في ما يتعلق بالصورة"، و«أوّلها غلبة الاهتمام بالتشبيه على بقية الأنواع البلاغية واعتباره أصلا للاستعارة مما جعلهم لا يهتمون منها إلا بما يقوم عليه.[15]»، وتقديم حمادي صمود للتّشبيه مبني على أنّ معرفة الأسباب التي تكمن وراء اهتمامهم بالتّشبيه يسمح بفهم المحاور الثّلاثة الأخرى لكونها « متأتيّة من هذا الاهتمام ومرتبطة به ارتباطا وثيقا[16]». قلنا لو اختزل الجابري البلاغة في التّشبيه لما كان فعله عبثاً لا يُعقل؛ ولكنّ الواقع أنّه لم يَقُم بذلك البتّة، بل اختزل الاستدلال الّذي يعتمدُه النّظام المعرفي البياني في بنية «مكوّنة من ثلاثة عناصر: طرفان وواسطة[17]» وأرجع هذه البنية إلى "أصلها" في «الفعل العقلي الّذي كان الأعرابي ينتج به المعرفة ويتعامل به مع الأشياء[18]» وهو «التّشبيه[19]». فيظهر أنّ المستوى الّذي تقع فيه هذه البنية الأصليّة ليس مستوى "علم البلاغة" وإنْ أطلق عليها اسم "التّشبيه"، ولا حتّى في أيٍّ من العلوم العربيّة، بل تقع في المستوى الابتدائي «العامّي»، أي في ثقافة بدو الجزيرة العربيّة قبل الإسلام الّذين اتخذهم البيانيّون على اختلاف مجالات عملهم سلطة مرجعية عليا في "اللغة": فالتّشبيه هو الفعل العقلي الّذي كان الأعراب ينتجون به ثقافتهم ويتعاملون به مع الأشياء. إنّه فعل عقلي «دفين» شَكّلَتْهُ البيئة الصحراوية، فنما وتعزّز في "عصر التدوين" فصار من الخيوط الناظمة لكلّ "العلوم العربية": فهو التّشبيه في البلاغة والقياس في النّحو والفقه وأصوله والاستدلال بالشّاهد على الغائب في علم الكلام. وإذا كان هذا هكذا، فعلى أيّ أساس يدّعي النّاقد أنّ الجابري اختزل البلاغة؟! وبالطّبع، فإنّ ما يقوله الجابري لا يدلّ على أيّ تنقيص من التّشبيه في البلاغة خاصة، بل وفي غيرها أيضا، فهو يدرك أنّه آليّة عقلية لازمة في التّفكير وبناء المعرفة في كل المجتمعات والبيئات، ويدرك أيضا أنّه آلية فاعلة في الخطاب الأدبي والديني والفلسفي، بل، وفي الإبداع في مجالات العلوم الدّقيقة في لحظات انبثاق الفكرة وحتى في مرحلة البناء الاستدلالي ولكن بالطّبع تحت مراقبة الأفعال المنطقيّة الواعية المنظِّمة، فـ«في العلوم، لا يمكن أن تكون الكلمة الأخيرة للمماثلة[20]» كما يؤكّد بيرلمان نفسه الّذي أعاد الاعتبار للحجاج في الزّمن المعاصر بالاستناد إلى أرسطو أساسا.
ما الذي انتقده الجابري واعتبره خاصّاً بالمجال العربي في هذه النقطة؟ يرى الجابري أنّ عصر التدوين "وَأَدَ" ما أتاحته الظّاهرة القرآنيّة والدّعوة المحمديّة من شروط جديدة تسمح بتحرير الإبداع وإنشاء العلم، وذلك بأنْ رفع من شأن الثّقافة البدويّة وجعلها معيارا يتوجّب أن يقيسوا عليه[21]، دون تمييز بين ما يلائم عصرا ولا يلائم آخر، وما يصلح في الشعر، وما يتوجب في الدّين، وما يقتضيه التّفلسف وما تتطلّبه التّخصّصات العلميّة الطّبيعيّة، وما تستلزمه الرياضيّات..إلخ[22]. وبذلك صارت ثقافة العصر الجاهلي كما عاشها عرب ما بعد البعثة في وعيهم نموذجا أمثل، وصار التّشبيه قياسا والقياس تشبيها. يوجز الجابري خطأ البيانيّين في ما يتعلّق بمنهجهم القائم على مبدأ "المقاربة" قائلا: «فالقرآن كما نعرف جميعا يستعمل التّشبيه والتمثيل والاستعارة والكناية على نطاق واسع، ولكنه لا يرتفع بهذه الأساليب البلاغية إلى مستوى الاستدلال العقلي الذي «يوجب الحكم»، بل يستعملها قصد التّنبيه فقط، قصد الإشارة والإيحاء. فالقرآن لا يقرّر طريقة معينة في الاستدلال وإنما يدعو إلى «الاعتبار» و«يضرب الأمثال للناس» ليحرّك خيالهم وعقولهم وينبهها إلى مسألة معينة. والخطأ الذي وقع فيه البيانيون، فيما نعتقد، هو أنهم جعلوا من وسائل التّنبيه التي يستعملها القرآن قواعد للاستدلال ومنطقا للفكر، ولكن لا باتخاذ النص القرآني سلطة مرجعية وحيدة بل بقراءته بواسطة سلطة مرجعية أخرى هي عالم «الأعرابي»، عالمه الطبيعي والفكري الذي تحمله معها اللغة العربية التي جعلوا منها مرجعية حَكَماً، بدعوى أنها اللغة التي نزل بها القرآن[23]».
وبالطّبع، فإنّ التّشبيه والقياس آلية عقليّة واحدة، ولكن من اللازم أن يختلف الاستعمال بمراعاة المجال والهدف؛ ويجب أن تخضع في مجالات العلوم والخطابات الخاصّة بها للمراقبة والفحص المستمرّين، وإلا اختلط العلم بـ"بادئ الرأي" بعبارة ابن رشد.
أمّا الرّبط بين الآليّات البيانيّة والقياس فالبلاغيّون هم الّذين أقاموه وهو ما يُحسب لهم أو عليهم تبعاً لمجال التّوظيف وطبيعته، فالتشبيه ضربٌ من القياس «لأنك تشرك طرفين في حكم من الأحكام لعلة جامعة بينهما، وقد تنبّه البلاغيون لهذا الأمر فأدرجه بعضهم في هذا القياس، وعرفه بعضهم بأنه «قياس والقياس يجري فيما تعيه القلوب وتدركه العقول وتستفتي فيه الأفهام والأذهان»[24]». وهذا، بالضّبط، ما تتبّعه الجابري بمهارة وصبر ونزاهة، وانتهى إلى أنّ البلاغيّين إنّما تصدّوا لمهمّة تشييد « القسم الثّاني من «المنطق العربي»، منطق اللّغة العربيّة، بعد أنْ كان النّحاة قد انتهوا من تشييد القسم الأوّل منه ..ببيان وجوه الإعجاز في نفس الخطاب أيْ الكشف عن آلياته في البرهان[25]». وقد أوضح الجابري إسهام عبد القاهر الجرجاني البارز في إنشاء هذا المنطق بأخذه مفهوم "معاني النحو" من السيرافي وإبرازه الطّابع الاستدلالي للآليّات البيانيّة[26] في إطار نظريّة النّظم الّتي قدّمها بصيغة أقوى ممّا كانت عليه لدى سابقيه، وبَيّنَ أنّ السكاكي وصل بذلك إلى "منتهى ما يمكن أن يبلغه على نفس الأسس التي قام عليها أول الأمر[27]"، فطابق بين الأساليب البيانيّة العربيّة والأساليب الاستدلاليّة المنطقيّة بـ"قصد واحد": هو «إبرازه استقلالية الحقل البياني واستغناءه عن الأخذ من الغير[28]».
3.4. حصر مفهوم التّشبيه في وجهة نظر عبد القاهر الجرجاني:
وَلنفرض أنّ الجابري حصر مفهوم التّشبيه في وجهة نظر الجرجاني، فهل يكون فعلُه من قبيل العبث وما لا يفهم؟ لا نكلّف أنفسنا الجواب عن هذا السّؤال، بل نأخذه من قول العمري ومن تصنيفه، ولا نلتفت في هذه الفقرة لِما يحاول الإيحاء به من تفاوت نوعيّ في مفهوم التّشبيه بين الجرجاني وابن سنان[29]. يقول: «يمكننا اليوم أن نختلف مع عبد القاهر الجرجاني في مراهنته على المعنى وإقصاء الأصوات، ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل كشوفاته الرائعة وتحليلاته العميقة وتفسيراته الوجيهة التي يقرؤها الخبير اليوم دون إحساس بأية مسافة زمنية بينه وبين المؤلف [30]»، ويقسّم، في مكان آخر، البلاغة إلى "زمنين": "زمن الانتشار" و"زمن الانحسار" وينسب «الزمن الأول للمتقدم زمنا ومكانة، للمؤسس الفعلي للبلاغة العربية، عبد القاهر الجرجاني[31]». فكيف يترك الجابري من تَنسب إليه البلاغة ولا تحسّ بأية مسافة زمنيّة بينك وبينه[32]، وينشغل بمن تُلْحِقه به!
ثُمّ إنّ انشغال الجابري ليس مقصورا على التّشبيه في بعده البلاغي الخاصّ وحده، ولا حتّى بالبلاغة نفسها، وقد سبق أن وضّحناه.
ومع كلِّ هذا، فإنّ الجابري لم يحصر التّشبيه في وجهة نظر الجرجاني، بل تتبّع إسهام البلاغيّين في تشييد المنطق البياني[33]، وفي أثناء ذلك توقّف، بشكل خاص، عند جهد الجرجاني في كشفه عن الطّابع الاستدلالي للتّشبيه والتّمثيل والاستعارة والكناية، وتوقّف عند السكاكي الّذي أعطى لذلك الصّيغة النّهائيّة فجعل منطق البيان مماثلا للمنطق الأرسطي، وقال بعدم افتقار من أتقن أصلا واحدا من الأوّل إلى الثّاني!
3.5. التّباعد بين طرفي التّشبيه: صوغٌ للمحاكاة أم نتاج الانفصال والتجويز؟
في المسألة الثّالثة -الّتي يسجّل العمري عدم فهمه لها- يظهر غرضه من ادّعاء حصر الجابري مفهوم التّشبيه في وجهة نظر الجرجاني، ويظهر سوء فهمه لكلام الجابري ولبلاغة عبد القاهر ولعموم البلاغة العربيّة. فهو يقول إنّ الجابري أخطأ لأنّه ربط التّباعد بين طرفي التّشبيه بالانفصال والتّجويز، والصّواب، في نظره، أنّ ربط عبد القاهر بين المتباعدين هو صياغة لنظريّة المحاكاة الأرسطيّة حسب قراءة الفلاسفة العرب لها. لنُسلّم أنّ الرّبط بين المتباعدين صياغة للمحاكاة، ما الّذي يمنع أن تكون تلك الصّياغة محكومة بمبدأي الانفصال والتّجويز اللّذين ولّدتهما بيئة الجزيرة العربيّة في ثقافة الأعراب وورثها عصر التّدوين؟ لا مانع البتّة، فمستوى الصياغة هو مستوى الوعي والقصد، والمستوى الّذي يضع فيه الجابري كلامه هنا شيءٌ آخر، وقد فسّرناه سابقاً. ونضيف إلى هذا أنّ مفهوم المحاكاة الأرسطيّة ليس ممّا يسعف في خلق المسافة مع الأساس الّذي تُقيم عليه التّصوّرات التّبسيطيّة فهمها للخطاب الإبداعي، إنْ لم نقل إنّه مفهوم قد يعزّز لديها مكانة "الواقع" الّذي تنطلق أصلا من كونه، بداهةً، حقيقة مطلقة ومؤسِّسة. وفي هذا السّياق لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الجابري إنّما استحضر أرسطو باعتباره لحظة سيكون لها ما بعدها في الثّقافة الغربية، لا باعتبار ما قدّمه حقائق علميّة نهائية تَفْضُل غيرها كما يحاول الإيهام بذلك من لا ينتبه للبعد التّاريخي غير القابل للإلغاء في منظور الجابري ومنظور كلّ متثبِّت. لهذا فإنّ مفهوم المحاكاة قد يكون عزّز نوع الفهم لطبيعة التّشبيه وغيره من الصّور لدى عبد القاهر وقوّى وظيفة الإظهار والتّبيين والإخراج من الخفيّ إلى الجليّ والنّقل من العقل إلى الإحساس ومن العلم بالفكر إلى العلم بالاضطرار والطّبع..
والعمري يظنّ أنّ الجابري ربط بين تباعد طرفي التّشبيه و"الانفصال والتجويز"، وهو ظنٌّ لا مستند له، ذلك أنّ الجابري لا يضع فاصلا بين من يتمسّك بواجب مراعاة التّقارب ومن يحبّذ التّباعد ومن يميل إلى التوسّط؛ فهم جميعاً قريب من قريب، ينطلقون من نفس الأصول، ويعتمدون "المقاربة" ويعلون من شأن التّبيين والإفهام، وبالطّبع فهو يدرك أنّهم يتراتبون في درجات الاجتهاد والتّدقيق، وهذا ما يوّضحه بعض المختصّين في البلاغة بأنفسهم؛ فـقد ظل الجرجاني، يقول حمادي صمود، « يؤكّد في نصوص عديدة على أن إيقاع الائتلاف بين المختلفات مفيد بشروط منها صحّة وجه الشّبه في المتباعدين وقدرة العقل على إدراك ذلك الوجه حتّى لا يخرج التّشبيه عن الغرض الموضوع من أجله وهو الفهم والإفهام والتّوضيح [34]»، لذلك فإنّ فهمه للتّشبيه، «رغم قيمة الإضافات في ذاتها وأهمية الجهد النّظري الواضح في تأصيل مسائله وتنظيمها في نطاق بناء متكامل في فهم الفصاحة والبلاغة، رغم كلّ ذلك يبقى في حدود ما رتّبه القدماء وأقرّوه على الأقلّ في مستوى الوظيفة المعلّقة به وهي الفهم والتّوضيح الّتي عمق الجرجاني درجتها ولكنه لم يبدل نوعها[35]»
3.6. "قرب المأخذ" ونتائج العمري العكسيّة:
لا يذكر العمري ما هي النّتائج الّتي توصّل إليها من خلال تأمّله لوجهة نظر ابن سنان في "قرب المأخذ" وقال عنها إنّها عكس ما توصّل إليه الجابري في نفس المكان الّذي يعترض فيه عليه. وما يقوله في الصّفحات الّتي خصّصها للكلام عن ابن سنان تحت عنوان "بلاغة الصّحة والتّناسب"[36] ليس فيه أيّ نتائج مخالفة للوصف الّذي قدّمه الجابري لآليّة التّشبيه عند البلاغيّين باعتبارها آليّة تقوم على المقاربة لتأديّة وظيفة محوريّة هي البيان، ممّا يجعل الحدود بين التّشبيه والاستعارة من ناحية والقياس من النّاحية الأخرى تلتبس، فلا يتّضح الفرق بين توظيف هذه الآليّة في الشّعر والرّسائل وتوظيفها في الخطاب العلميّ مثلا. وهذا ممّا انتقده الجابري فقال إنّ التّشبيه عندهم قياس، ومعناه أنّ ذلك مما يُفتَرض أن لا يقع في مجال الأدب الّذي يعوّل فيه على تحريك الخيال والعقل، وقال إنّ "القياس، عندهم، تشبيه كذلك[37]"، ومعناه أن القياس "التّشبيهي" ممّا لا يفترض أن تكون له السيادة وأن يُقْتَصر عليه في مجال العلم الّذي يعوّل فيه على الضّبط والأخذ بشروط الاستدلال الصّحيح، ذلك أنّ«العقل الذي يعتمد القياس البياني إنما يعمل على المقاربة تماما مثل العقل الذي يعتمد المماثلة، هذا العقل لا يعرف اللزوم المنطقي، لا يصدر عن مبدأ السّببية، بل عن مبدأ التجويز[38]». وصحيحٌ أنّ القرآن قد استعمل «التشبيه والتمثيل والمجاز والاستعارة والكناية على نطاق واسع، ولكنه لا يرتفع بهذه الأساليب البلاغية إلى مستوى الاستدلال العقلي الذي «يوجب الحكم»، بل يستعملها قصد التنبيه فقط، قصد الإشارة والإيحاء. فالقرآن لا يقرر طريقة معينة في الاستدلال وإنما يدعو إلى «الاعتبار» و«يضرب الأمثال للناس» ليحرك خيالهم وعقولهم وينبهها إلى مسألة معينة[39]». وفي ظنّي أنّ المطّلع على أعمال البيانيّين اطّلاع الجابري لن يجد جعل ابن سنان "فائدة" التّمثيل قائمةً في التّوضيح والبيان "في جميع العلوم أمرا مثيرا خاصة أن موضوعه الّذي حدّده، هو نفسه، هو الشّعر والرّسائل وما كان على شاكلتها "[40]! لأنّ ذلك ممّا يشترك فيه البيانيّون على نحو واضح. أمّا "إحساس" العمري "بأنّ أحد الرجلين-يقصد الجرجاني وابن سنان- أو المذهبين، ينقض الآخر"، فلا كلام لنا فيه؛ و"مستنده" في ذلك المتمثّل في "بساطة تحليل ابن سنان وتقديمه للعقلي على الحسي ورفضه البناء على الصور"[41]، هو ممّا يدل على تشدّد في التّمسّك بالأصول تمسّكا يدعّم وصفَ الجابري، ولا يعكسه!
وابن سنان يدخل، في فئة النّقاد و"البلاغيّين" الّذين تمسّكوا بالأصول[42]، فدافعوا (1) عن الصّحة، (2) ووقفوا ضد تشبيه ما يُرى بالعيان بما يُنال بالفكر. ومن الصّحة، يقول ابن سنان، «صحّة التّشبيه، وهو أن يقال أحد الشيئين مثل الآخر في بعض المعاني والصّفات، ولن يجوز أن يكون أحد الشّيئين مثل الآخر من جميع الوجوه حتى لا يعقل بينهما تغاير البتّة، لأن هذا لو جاز لكان أحد الشيئين هو الآخر بعينه، وهذا محال، وإنّما الأحسن في التّشبيه أن يكون أحد الشّيئين يشبه الآخر في أكثر صفاته ومعانيه، وبالضّد، حتى يكون رديء التّشبيه ما قلّ شبهه بالمشبّه به[43]»، وما يقوله عما يحسن في التّشبيه، يقول مثله عن الاستعارة. فللاستعارة تأثير «في الفصاحة ظاهرٌ وعلقة وكيدة، والبعيد منها يقضي باطّراح الكلام، ويذهب طلاوته ورونقه، .. وهي على ضربين: قريب مختار، وبعيد مُطّرح، فالقريب المختار ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوي وشبه واضح، والبعيد المطّرح إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل، أو لأجل أنّه استعارة مبنية على استعارة فتضعف لذلك، والقسمان معا يشملها وصفي بالبعد.. [44]»
فيكون موقفُ ابن سنان، باختصار، داخلاً، ومِن باب الأوْلى، في توصيف الجابري وتأويله.
خاتمة:
هذا ما قدّمه العمري باعتباره اعتراضاً على "الأجزاء والفروق والممهدات" الّتي بنى عليها الجابري تفريقه "الحاسم"! بين الأبحاث البيانيّة الّتي تُعنى بـ"قوانين تفسير الخطاب" والأبحاث البيانيّة الّتي تـ"هتم بشروط إنتاج الخطاب"، وبنى عليها أقوله بـ "لا برهانية الفكر العربي" وأسقط، بذلك، الفرق بين الخطابات. والجابري، قبل هذا الكلام المرسل وبعده، لم يتحدّث عن "لا برهانية الفكر العربي" هكذا بإطلاق، فالعقل العربي –لا الفكر العربي، وقد برّر اختيار كلمة "العقل"- عنده مكوّن من ثلاثة نظمٍ، والنّظام العربي "الخالص"، هكذا بالتقييد، هو الّذي تتبّع مسار تكوّنه الدّينامي في علاقته بالنّظامين البرهانيّ والعرفانيّ ورسم بنيتَه ونعتَه بـ"البياني". لذا لا يصح وصف "العقل العربي" عنده بمجموعه بـ "اللابرهاني" ولا حتّى بـ"البيانيّ". وتَرْكُ العمري للتّقييد بـ"الخالص" -مثل إسقاطه لكلمة "نظام" من تركيب "نظام الخطاب" الّذي استعمله الجابري- غير مبرّر، بل غير نزيه. وكلّ ذلك لا يختلف عن وصف تفريق الجابري بين البيانيّين الّذين يُعنون أساساً بقوانين إنتاج الخطاب والبيانيّين الّذين ينشغلون أكثر بقوانين التّأويل بـ"الحاسم". ودع عنك ادّعاء "تلافي" الباقلاني لكلمة "النّظم" والانجرار إلى إنشاء تفسيرٍ لذلك الـ "تّلافي" بقصد التّدليل على سوء فهم الجابري وعدم تمييزه بين "الخطاب" عند الباقلاني و"النّظم" عند الجرجاني .. وغير ذلك من العجائب!
بقي أن نوضّح في خاتمة هذه المقالة أنّ وقوفنا عند طريقة استعمال العمري لخطاب الجابري في الدّفاع عمّا يظنّه التّصور "العلمي" للبلاغة لا يحكمه إلا قصدٌ محوري واحد: إظهار الانزلاقات التي توقع فيها الأهواء والمشاعر حين تنفلتُ من رقابة العقل. وهل كان على الفيلسوف أن يتوقّف عند " كثير الرماد" و"قرب المأخذ" و"الجمع بين أعناق المتنافرات" و"لزّ في قرن.."..، وينخرط في سلك الغرابة والإنشاء البيانيّ منذ البداية حتّى لا يكون عليه –بزعم الناقد- أن ينتظر التّوبة والأوبة من الفلسفة إلى البلاغة حتى مَطْلَعِ الرّباعيّة «الثانية التي اتجهت إلى "التعريف" بالقرآن الكريم و"توضيح" معانيه[45]»؟!
ابن خلدون: المقدمة، ت. حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط. 1، 2004، ص.584
ابن سنان: سر الفصاحة، اعتنى به داود عطاشة الشوابكة، دار الفكر-عمان، ط.1، 2006
الباقلاني: إعجاز القرآن، تح. أحمد صقر، دار المعارف-القاهرة، ط. 5، 1997.
السكاكي: مفتاح العلوم، تح. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 2000.
حمادي صمود: التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، منشورات كلية الآداب-منوبة، ط. 2، 1994.
محمد العمري: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.
المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.
الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016.
الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 10، 2009.
بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004.
PEREMAN: • Analogie et Métaphore en science, poésie et philosophie, in REVUE INTERNATIONALE DE PHILOSOPHIE, 23e année, No 87, PUBLIEE AVEC LE CONCOURS DU GOUVERNEMENT BELGE ET DE LA FONDATION UNIVERSITAIRE DE BELGIQUE, 1969.
L'empire rhétorique, Librairie philosophique J.VRIN, Paris, 2éme Éd., 2012.
ANTONIO R. DAMASO: L’erreur de Descartes, Marcel Blanc, ODILE JACOBE, Paris ,2006.
--------------------------------------------------------------
الهوامش:
[1]- ANTONIO R. DAMASO: L’erreur de Descartes, tr. Marcel Blanc, ODILE JACOBE,Paris,2006, P. 308-309.
[2] - Chaim Perelman: L'empire rhétorique, Librairie philosophique J.VRIN, Paris, 2éme Éd., 2012, P. 19.
[3]- محمد العمري: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999، ص. 215-216.
[4]- من كلام الجابري الذي يفسده العمري بالتصرّف والتقويل: «إن «نظام الخطاب» - وهذا تعبير للباقلاني، وهو ذاته «النظم» عند الجرجاني- ..لا يتعدى في أعمق معانيه، عندهم، ما عبر عنه الجرجاني بـ«تعليق الكلام» بعضه على بعض مع «توخي معاني النحو وأصوله وقوانينه» مع ما يرتبط بذلك مما أسماه السكاكي المعرفة بـ«خواص تركيب الكلام وصياغات المعاني» وواضح أن نظام الخطاب بهذا المعنى هو غير نظام العقل: نظام الخطاب هو «ما يوجب الفاعلية والمفعولية على صعيد الكلام»، أما نظام العقل فهو ما يوجب الفاعلية والمفعولية على صعيد الأشياء، أشياء العالم الفكري والحسي. إنه بكلمة واحدة نظام السببية. وهذا ما لا يريد العقل البياني أن يراه..». أنظر: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004، ص.107.
[5]- استعمال الباقلاني لكلمة "النظم" واضح، لا غبار عليه. ومن أمثلته: «والذي ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السُّوَر..» ص. 14؛ ومنها: «والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناهٍ في البلاغة إلى الحد الذي يُعْلَم عجز الخلق عنه» ص. 35؛ ومنها: «فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوه: منها: ما يرجع على الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم..» ص.35؛ ومنها: «وفارق حكمه حكمَ غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء؛ لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصْفٍ مُنْضاف إليها؛ لأن نظمها ليس معجزا، وإن/ كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا. وليس كذلك القرآن؛ لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز..» ص. 14-15؛ ومنها: «وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين» ص. 36. أنظر ذلك في: إعجاز القرآن، تح. أحمد صقر، دار المعارف-القاهرة، ط. 5، 1997.
[6]- نفسه، ص.13.
[7]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، م.م، ص. 170.
[8]- نفسه، من: ص. 170 إلى ص: 174.
[9]- نقول ذلك نظرا لهذه الإضافة الغريبة المتمثّلة في تأكيده أنّ ما قاله الباقلاني بخصوص تفاعل الصور هو "الحقيقة" الّتي كان على الجرجاني الانطلاق منها!
[10]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، م.م، ص. 174.
[11]- لا نستحضر، هنا، إلّا ما هو ضروري لفهم المسألة المطروحة للنّقاش؛ فوجب التّنبيه.
[12]- بنية العقل العربي، م.م، ص.239.
[13]- ابن خلدون: المقدمة، ت. حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط. 1، 2004، ص.584.
[14]- يقول ابن خلدون: «وأما كلامهم في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات، فأكثر كلامهم فيه من نوع المتشابه، لما أنه وجداني عندهم، وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه.. واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه». نفسه، ص.588.
[15]- ننقل هنا الفقرة التي اقتطفنا منها رغم طولها، يقول حمادي صمود: «إنّ النّاظر في التراث العربي من زاوية الصورة الفنية تشدّ انتباهه ثلاثة محاور أساسية هي بمثابة العلامات البارزة التي تتحرك منها وتؤول إليها مواقف جلّ النقاد والبلاغيين من الصورة.
أوّلها غلبة الاهتمام بالتشبيه على بقية الأنواع البلاغية واعتباره أصلا للاستعارة مما جعلهم لا يهتمون منها إلا بما يقوم عليه.
وثانيها ربطهم البراعة في التشبيه بتأليف المختلف والجمع بين العناصر المتباعدة، مع ما يقتضي ذلك من غوصٍ على الشبه النّادر ووقوف على العلاقة اللطيفة الدقيقة، وربطهم صحة الاستعارة وقيمتها بالمقاربة والمناسبة، ووضوح العلاقة بين المستعار منه والمستعار له، وهي أحكام تثير الحيرة والاستغراب لما يبدو عليها، في الظاهر، من التناقض والتنافر.
وثالثها إجماعهم على أن وظيفة الصورة الرئيسية هي التمثيل الحسّي للمعنى و«قلب السمع بصرا» على حد عبارة ابن رشيق». أنظر: التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، منشورات كلية الآداب-منوبة، ط. 2، 1994، ص. 531 و532.
[16]- نفسه، ص. 532.
[17]- بنية العقل العربي، م.م، ص.243.
[18]- نفسه، ص.243.
[19]- نفسه، ص.243.
[20]- Ch. PEREMAN: Analogie et Métaphore en science, poésie et philosophie, in REVUE INTERNATIONALE DE PHILOSOPHIE, 23e année, No 87, PUBLIEE AVEC LE CONCOURS DU GOUVERNEMENT BELGE ET DE LA FONDATION UNIVERSITAIRE DE BELGIQUE, 1969, P. 7.
[21]- يقول الجابري، ونحن نقتطف بعض ما يخص المسألة موضوع المناقشة: «الفحولة الشعرية عندهم لا تكون إلا بمحاكاة الشاعر البدوي في «قوة» ألفاظه وطرائق تعبيره وأنواع تشبيهاته والنسج على منواله وفي ذات الموضوعات من مدح وهجاء وفخر ورثاء.» أنظر: تكوين العقل العربي، م.م، ص. 92.
[22]- يقول الجابري عن انشداد الذهن العربي إلى عالم عصر التدوين الذي بني على أدنى درجات الحضارة العربية، حضارة البدو: «لم يكن هذا في اللغة والأدب وحدهما، بل كان أيضا في مجالات أخرى، المجالات التي ينفرد بها «العقل»» أنظر: تكوين العقل العربي، م.م، ص. 93.
[23]- بنية العقل العربي، م.م، ص.247 و248.
[24]- التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، م.م، ص. 536.
[25]- تكوين العقل العربي، م.م، ص. 128.
[26]- يقول الجابري: «التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية والتمثيل مصطلحات بلاغية معروفة. وتحليل مضامينها وبيان وجوه البلاغة فيها موضوع تناوله البلاغيون قبل الجرجاني. نعم إن تحليلات الجرجاني لهذه المضامين والوجوه أكثر بيانا وأشد حيوية، وقد فعل ذلك بمهارة وذوق أدبي فائقين، سواء في كتابه أسرار البلاغة أو في كتابه دلائل الإعجاز.. ومع ذلك فإن الجديد الذي نلمسه بوضوح عند عبد القاهر، وهذا ما يهم الباحث الإبستيمولوجي بالدرجة الأولى، هو أنه أبرز من خلال تحليله لمعنى «النظم» الطابع الاستدلالي للأساليب البيانية العربية من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية وتمثيل. وهذا الطابع الاستدلالي الذي يجعل الذهن ينتقل، من خلال الأساليب البلاغية تلك، من المعنى إلى معنى المعنى هو ما عناه مؤلفنا حينما فسر النظم على أنه تناسق دلالات الألفاظ وتلاقي معانيها «على الوجه الذي يقتضيه العقل»». أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.87 و88.
[27]- بنية العقل العربي، م.م، ص.90.
[28]- بنية العقل العربي، م.م، ص.101.
[29]- لأنه سيشير إليه مباشرة في النقطة التي "يتأمل" فيها وجهة نظر ابن سنان في "قرب المأخذ"!
[30]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، م.م، ص. 31.
[31]- محمد العمري: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017، ص. 13.
[32]- فسّر الجابري هذا الإحساس بغياب المسافة مع القدماء في الفصل الثاني "الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم" من كتابه: تكوين العقل العربي، م.م، ص. 37 وما بعدها.
[33]- في إشكالية اللفظ والمعنى ركز النحاة واللغويون على "الإعراب" في ارتباطه بـ«منطق» اللغة العربية، وركز الأصوليون والفقهاء والمتكلمون على الدلالة والتأويل، وركز البلاغيون المتكلمون والبلاغيون المتكلمون على المفاضلة بين اللفظ والمعنى. أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.77.
[34]- التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، م.م، ص. 563. ويستشهد بقول الجرجاني: «واعلم أني لست أقول لك إنك متى ألّفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت ولكن أقوله بعد تقييد وشرط، وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شيئا صحيحا معقولا وتجد الملاءمة والتأليف السرّي بينهما مذهبا وإليهما سبيلا، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحسّ(..) وإنما تكون مشبها بالحقيقة بأن ترى الشّبه وتبيّنه ولا يمكنك بيان ما لا يكون وتمثيل ما لا تتمثله الأوهام والظنون»
[35]- نفسه، ص. 564.
[36]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، م.م، من: ص. 411، إلى: ص. 474.
[37]- بنية العقل العربي، م.م، ص.243.
[38]- نفسه، ص.563.
[39]- نفسه، ص.248.
[40]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، م.م، ص. 443.
[41]- نفسه، ص. 442 و443.
[42]- يصنف حمادي صمود النقاد والبلاغيين إلى ثلاث فئات: فئة تمسكت بالأصول، وهم ضد تشبيه ما يرى بالعيان بما ينال بالفكر؛ وفئة تبحث عن تخريجات لرفع الحرج دون الخروج عن الأصول التي وضعها الرماني؛ وفئة تأخذ بالأصول ولكن تبحث في كيفية تطبيقها والتخفيف من ثقلها، وضمن هذه الفئة يضع الجرجاني الذي يقول عن تدقيقاته إنها ليست نوعية ولا تغير من جوهر الأصول شيئا. أنظر: التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، م.م، ص. 544-547.
[43]- ابن سنان: سر الفصاحة، اعتنى به داود عطاشة الشوابكة، دار الفكر-عمان، ط.1، 2006، ص. 234.
[44]- نفسه، ص. 114.
[45]- محمد العمري: الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016، ص. 104.