عاشت تونس في أواخر عصر الدولة الحفصية، لا سيما في بداية القرن السادس عشر الميلادي، أطوارا من الضعف السياسي والعسكري -شأنها في ذلك شأن بلدان شمال أفريقيا- فوقعت ضحية للاحتلال الإسباني الذي كان قد استولى على العديد من سواحل الجزائر والمغرب الأقصى فيما بين عامي 1535-1574م، وهي الحقبة التي شهدت فيها الدولة العثمانية ذروة قوتها وتمددها في عصر سلطانها الأعظم سليمان القانوني.
خلال تلك الحقبة، تمكنت القوات العثمانية من بسط سيطرتها على ليبيا في الشرق والجزائر في الغرب، ونظرا للظلم والاضطهاد وبغي الاحتلال الإسباني فقد "كان للعثمانيين أنصار في كل مكان، ويمكن القول إن حضورهم السياسي في المناطق المحتلة كان دائما، في حين اعتُبر مَن كان إلى جانب الإسبان خائنا، فكان يُقتل وتصادر أمواله، ولم تكن مخافر حيدر باشا (القائد العثماني) الأمامية تبعد عن مدينة تونس أكثر من أربعين ميلا"(1)، وهكذا انهارت الروح المعنوية للإسبان ومعاونيهم بسبب القوة العثمانية العسكرية والتأييد الشعبي الجارف لها من الشرق والغرب والجنوب، وانتهى الأمر بانتصار العثمانيين وفتح تونس في عام 1574م، لتصبح البلاد منذ ذلك الحين "إيالة" عثمانية.
صحيح أن الوجود العثماني في تونس مر بمراحل مختلفة منذ البكرلبكوات (الباشوات الولاة) مرورا بالمراديين ثم الدايات فالبايات، الذين استقلوا جميعا في جزء كبير عن الدولة العثمانية كما يصف الكثير من المؤرخين التونسيين المعاصرين، فإن المراسلات العديدة بين تونس والباب العالي تُبيِّن طبيعة العلاقات السياسية بين تونس باعتبارها ولاية أو إيالة عثمانية وبين مركز السلطة في إسطنبول.
في هذا السياق، يرى المؤرخ التونسي "مصطفى الستيتي" أن تبعية تونس للسلطنة العثمانية كانت قائمة على مجموعة من العناصر، على رأسها أن الوالي في تونس كان يتسلم الحكم بعد استلام خطاب الولاية بواسطة مبعوث خاص يُرسل من الأستانة، والجدير بالذكر أن الحكم في تونس كان وراثيّا في عصر البايات الحسينيين، وفي عهدهم أيضا كانت الخطب تُقرأ باسم السّلطان العثماني ويُدعى له في المنابر، وتُضرب السّكة (العملة) باسمه، وتُرسل إليه المساعدات الماليّة والعسكرية من عتاد ورجال في وقت الحروب، كما كانت تُبعث إليه ضريبة غير منتظمة كانت تسمّى هديّة، تزيد وتنقص حسب حالة البلاد الاقتصاديّة(2).
ونظرا لهذه الاستقلالية الكبيرة التي تمتعت بها ولاية تونس، شأنها في ذلك شأن ولاية مصر العثمانية التي أضحت وراثية لمحمد علي باشا وأبنائه، فقد أبرم بايات تونس العديد من الاتفاقيات والقروض مع الدائنين الأوروبيين بعيدا عن السلطات العثمانية في إسطنبول، ولهذا السبب، ومنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ الدائنون مثل الإيطاليين والفرنسيين والإنجليز في تعزيز نفوذهم السياسي في البلاد، وحاربوا بكل قوة المجهودات الإصلاحية الكبيرة التي قام عليها الوزير "خير الدين باشا" التونسي الذي اضطر في نهاية المطاف إلى الاستقالة من منصب الوزارة التونسية والهجرة صوب إسطنبول.
مر عقد من الزمن على هذه الاستقالة، وأُجبرت تونس على التوقيع على اتفاقية الحماية الفرنسية التي بدأت بتولي فرنسا مسؤوليات الدفاع والشؤون الخارجية لتونس وانتهت بالاحتلال الدائم الذي شرع في تغيير صورة الحياة السياسية والاقتصادية بل والاجتماعية والثقافية في البلاد، وكان من نتائجها محاربة التعليم والتعلُّم. فكيف حاربت دولة "الأنوار والتنوير" التعليم بجميع أشكاله في تونس؟ وكيف عملت على تخريج نخبة تكون عونا لها في حكم البلاد؟
تونس تحت "الحماية" الفرنسية
تعتبر تونس أول تجربة لنظام الحماية في تاريخ الاحتلال الفرنسي، حيث قررت الحكومة الفرنسية برئاسة "جول فيري" في مارس/آذار 1881م احتلال البلاد التونسية، بعدما أعدت تخطيطا عسكريا ودبلوماسيا كاملا على مرحلتين: الأولى احتلال شمال البلاد وفرض الحماية على "الباي"، والثانية السيطرة على كامل التراب التونسي وتبرير الحملة العسكرية بدواعي تأمين الحدود الفرنسية في الجزائر من غارات القبائل شمال تونس(3).
بعد حملة برية وبحرية فرنسية انطلقت من الجزائر والبحر المتوسط استمرت أسبوعين، وعلى إثر نزول القوات الفرنسية التي ضربت بالمدافع والأسلحة المختلفة كل مقاومة وجدتها أمامها، وقّع "محمد الصادق باي"، حاكم تونس، مع الجنرال الفرنسي "برنار" في 12 مايو/أيار 1881م اتفاقية "قصر باردو"، التي تنص على فرض الحماية الفرنسية على البلاد والتي ستستمر لـ75 عاما تالية، وقد حاول فيها الفرنسيون في تونس تلافي أخطائهم الدموية في الجزائر، فأقروا استمرار حكم البايات وضمان حقوقهم وامتيازاتهم لكن على أساس الاعتراف بالمصالح والحماية الفرنسية على البلاد. وفي عام 1883م ومع الاستسلام التام من قبل باي تونس "الطيب علي الحسيني" الذي تولى عقب وفاة صادق باي سنة 1882م، فرض المقيم العام الفرنسي "بول كامنون" توقيع معاهدة "المرسى" التي فُرضت بموجبها الحماية على تونس، وخولت لفرنسا التدخل في جميع شؤونها الداخلية بعدما اقتصرت في عام 1881 على الدفاع والشؤون الخارجية. وبهذا فرضت فرنسا سلطانها التام على التراب التونسي كافة(4).
هكذا فرضت باريس سيطرتها على مفاصل الدولة التونسية ومؤسساتها المختلفة، واستطاعت بسهولة شديدة الهيمنة المطلقة على المجال التعليمي والثقافي في البلد، وقد أدت حالة الهدوء في السنوات الثلاثين الأولى للاحتلال إلى إطلاق يد المحتلين دون رقيب أو حسيب في نوع التعليم المفروض وعدد المدارس ووضع المعايير التي يُختار على أساسها التلاميذ، وقد رأت فرنسا في السيطرة على التعليم الابتدائي والثانوي أداة مكملة لتدخلها العسكري، ووسيلة فعَّالة للتغلغل الثقافي، وآلية مهمة لدعم نفوذها داخل البلاد.
فرنسا والهيمنة على التعليم في تونس
مرَّ دخول التلاميذ التونسيين إلى المدارس الفرنسية عبر مراحل فرز معياري يراعي المصالح الفرنسية في البلاد، ورغم ذلك لم يكد الاحتلال يصل إلى عام 1900م حتى "قامت ضجة من جانب الاستعماريين ضد العلم والتعليم، وباتوا تحت كابوس الخطر الموهوم، فأوقفت الإنشاءات والمؤسسات العلمية، بعد أن أُقفلت عدة مدارس، من بينها مدرسة قفصة، وأقفلت الثانوية الوحيدة -ليسي كارنو- أبوابها في وجه التونسيين بدعاوى أوهى من بيت العنكبوت"(5).
يرصد الباحث المغربي "أحمد سوالم"، في دراسته "التعليم الاستعماري في تونس خلال الحماية الفرنسية"، بالأرقام والإحصائيات الدقيقة السياسة الممنهجة للاحتلال الفرنسي التي عملت على تقليص أعداد المتعلمين التونسيين والتونسيات مقارنة بالجاليات الأوروبية والأقلية اليهودية في البلاد، ففي الفترة الممتدة بين عامَي 1897-1903م انخفضت أعداد التلاميذ التونسيين بشكل ممنهج ومتعمد، حيث وصل عددهم عام 1897م إلى 4656 تلميذا بنسبة 28.9% من الملتحقين بالمدارس الحكومية الفرنسية-العربية، لنتفاجأ بانخفاض أعدادهم مجددا سنة 1903م إلى 2927 تلميذا بنسبة 17% من مجموع الملتحقين بالمدارس، ويرجع هذا الانخفاض إلى العراقيل التي وضعتها سلطة الاحتلال الفرنسي، مثل: بلوغ السن القانوني، ورغبة ولي الأمر، ووجود مكان شاغر، وموافقة مجلس الرقابة "الفرنسي". وعلى النقيض، وجد أبناء الفرنسيين والأوروبيين واليهود أماكنهم بسهولة ودون شروط في مقاعد الدراسة(6).
لم يتوقف النهج الفرنسي عند تقليص أعداد التونسيين في سلك التربية والتعليم، وإنما عملوا على إضفاء الطابع الفرنسي على المناهج والبيئات التعليمية، وأصبح التعليم باللغة الفرنسية هو الأصل بجانب حضور خجل للعربية في المدارس العمومية، حتى أصبح الطالب يتقن الفرنسية ويفقه أسرارها ويتذوق أدبها، أما أدبه ولغته فهي بعيدة عنه. وقد عملت فرنسا على إخراج طبقة نخبوية معجبة بالثقافة الفرنسية لتكون عونا لها في السيطرة على الشعب التونسي. غير أن الفرنسيين فشلوا في السيطرة على "جامع الزيتونة" الذي كان آخر قلاع الإسلام والعروبة في البلد، حيث اقتصر التعليم فيه على العلوم الدينية واللغوية ونشر الثقافة الإسلامية(7).
بعد عام واحد فقط من فرض الحماية الشاملة على تونس، وفي أبريل/نيسان 1884م، أصدر المقيم الفرنسي "كامبون" قرارا باستحداث "الإدارة العامة للعلوم والمعارف"، فتولاها "لويز ماشويل"، ذلك المستشرق الفرنسي الذي عرف العربية، حيث وضع برنامجا لأهم المعاهد العلمية في تونس آنذاك، وهو المعهد الصادقي، وفي هذا البرنامج حرص "ماشويل" على إقرار منهج مُتماهٍ مع المناهج التربوية الفرنسية، ثم ألغى التعليم باللغتين التركية والإيطالية، فأصبح التعليم بالفرنسية مطلقا أمام التونسيين والأوروبيين غير الفرنسيين، وبلغ عدد المدارس في تونس في ذلك العام 24 مدرسة، كلها مدارس درَّس فيها رهبان ومبشرون فرنسيون وأوروبيون(8).
وبالرغم من ضغوط المثقفين والأهالي على الحكومة للسماح بتأسيس مدرسة ابتدائية عربية فرنسية وهي "الخلدونية" التي اعتمد تأسيسها على تبرعات الأهالي في تونس، فإن اللغة العربية ظلت مقررا اختياريا لا يؤثر على نجاح الطالب أو رسوبه. وسرعان ما أينع تأثير التعليم الفرنسي مجموعةً من مشاهير المثقفين التونسيين إبان تلك الحقبة، من بينهم "محمد الأصرم" (ت1925م) الذي طالب بنشر التعليم الفرنسي حتى في الكتاتيب القرآنية، ودمج أطفال تونس بأطفال الفرنسيين منذ الطفولة المبكرة، ودعا أن يكون الشباب التونسي مثقفا ثقافة فرنسية محضة، وأن تتيسر سبل الاتصال بين العرب والفرنسيين في كل المجالات(9).
كيف كان التعليم في تونس قبل الاحتلال؟
في كتابه "تونس الشهيدة"، يرصد عبد العزيز الثعالبي (1876-1944م) -المصلح التونسي وأحد الذين وقفوا بصرامة شديدة ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد- جرائمَ الاحتلال الفرنسي بتونس في ميادين مختلفة بما فيها التعليم، ويقارن حال بلاده قبل الاحتلال بما بعده، فيرصد أن ثمة خطة مدروسة كانت تتطور قبل مجيء الاحتلال، وفي ظلها تقدَّم مستوى التعليم التونسي باطراد، فقد "أعيد النظر بالتعليم كله، فصدر في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1842م قانون ينظم سير الدروس، ويُحسِّن رواتب الأساتذة، ويفرض عليهم الدوام، ويضمن حُسن التدريس… وفي السابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1870م، ضاعفت الحكومة جراية جهاز التعليم من أجل أن تمنح أساتذة المسجد الجامع الكبير أجرا يزيد في حماستهم ويدفعهم إلى إقامة الدليل على دأبهم الضروري لتقدم التعليم"(10).
ويعتبر الثعالبي أن ذروة الإصلاحات التي قامت بها دولة البايات في ميدان التعليم الجامعي كان قبل 6 سنوات فقط على الاحتلال الفرنسي، فقد قضى مرسوم 26 ديسمبر/كانون الأول 1875م بإعادة النظر في البرنامج التعليمي، ليشمل، إلى جانب العلوم الدينية والفلسفية، دراسة الحقوق والفقه والأدب والتاريخ والجغرافيا والرسم الهندسي والحساب والهندسة المعمارية والفلك وعلم المساحة، وقد راعى هذا المرسوم الأوضاع النفسية للتلاميذ، "فلا ينبغي أن يكون زمن الدرس قصيرا ولا طويلا، أي ألا تقل مدته عن 45 دقيقة، وألا تزيد عن ساعة ونصف". وتقول المادة (24) إنه -وبما أن رأي الأستاذ في تلميذه هو أهم دافع لعمله- كان لزاما أن يوجد لكل طالب استمارة يضع فيها الأساتذة آراءهم في دأبه وذكائه، ثم توضع في هذه الاستمارة الدرجات التي يحصل عليها التلميذ في فحوصه"(11).
يعترف الثعالبي بأسى وحسرة شديدة أن الاحتلال الفرنسي دمّر هذه النهضة التعليمية الناشئة، فقد جاءت معاهدة "المرسى" التي فرضت الحماية الفرنسية على البلاد سنة 1883م "لتحطم هذه النهضة العظيمة؛ فقد تركت المادة الأولى منها للحكومة الفرنسية وللمالية العامة سلطة التوجيه المعنوي لشعبنا. منذ الساعة الأولى للحكومة الجديدة وجدت مشكلة… فهل تترك للتونسيين لغتهم وثقافتهم الوطنية وتمكنهم من مناهج أكثر عقلانية، أو أنها على عكس ذلك تعمد إلى تعليمهم باللغة الفرنسية؟ وما كانت الحكومة لتفكر بالتعايش أو المعاملة بالمثل بين اللغتين، لأن العربية كانت بلا شك تحل محل الفرنسية، وهو أمر طبيعي… لقد حُكم على العربية دون مناقشة، لأنها من طبيعتها تحفظ وتنمي في الشعب التونسي جذور شخصيته، بالتالي تجعل استعماره غاية في الصعوبة"(12).
وهكذا اضطُهد التعليم التونسي منذ حطت الجيوش الفرنسية أقدامها ومدافعها وأسلحتها في البلاد بشكل لا هوادة فيه، وسيطر الاحتلال على أموال الأوقاف والتبرعات، وضرب مقومات التعليم الوطني لصالح مشروعه المؤسسي القائم على فرنسة التعليم ومن ثم تغيير الهوية والثقافة والتوجه للأجيال الجديدة. وهكذا جعلت حكومة "التنوير والأنوار الاستعمارية" التونسيين بين خيارين، فإما نشر الظلام والتجهيل وتخريب التعليم الذي يحفظ للناس دينهم وثقافتهم، وإما تعليم فرنسي يخرج تابعين لفرنسا فكريا وثقافيا، وقد واجهت في ذلك مقاومة لا هوادة فيها، وذلك أمر سنقف عليه لا ريب.
المصادر
1. نيقولاي إيفانونف: الفتح العثماني للأقطار العربية ص250.
2. مصطفى الستيتي: تونس في وثائق الأرشيف العثماني، ترك برس.
3. خليفة الشاطر وآخرون: تونس عبر التاريخ، ص22.
4. تونس درمونة: تونس بين الحماية والاحتلال ص25- 30.
5. محمد الجعايبي: جريدة الصواب التونسية، عدد 466، تونس 1925م.
6. أحمد سوالم: التعليم الاستعماري في تونس خلال الحماية الفرنسية، مجلة كان التاريخية ص59.
7. السياسة الفرنسية في تونس وآثارها الاجتماعية ص88، 89..
8. علي المحجوبي: انتصاب الحماية الفرنسية بتونس ص143.
9. الطاهر عبد الله: الحركة الوطنية التونسية ص37.
10. عبد العزيز الثعالبي: تونس الشهيدة ص54.
11. الثعالبي: السابق ص55.
12. الثعالبي: السابق ص58.