في وقت يبحث فيه البابا راتسينغر عن لمّ شمل الكنيسة ورص صفوفها، بالسعي لإعادة المنشقين لبيت الطاعة، أفرادا كانوا أم جماعات، جراء ما يتهدّد المؤسّسة من تحلل قسري، ينفرط العقد مجدّدا بمجرّد تجميعه. فلا شك أن البابا الحالي في سعي دؤوب، لإقناع الجميع أن التحدّيات والمخاطر التي تواجه الكاثوليكية، هي تحديات تتربص بالجميع وليس بإكليروس روما وحده. فتحلّل الهوية المسيحية في قارة أوروبا العتيقة، وفي مقابلها حضور تكتل إسلامي نشيط بيولوجيا، يعد بنشاط حضاري ثقافي في المستقبل القريب، صار من الكوابيس الثقيلة. وأحداث الضواحي الباريسية في السنوات القليلة الماضية، كشفت تلك المصائر التي تسير نحوها أوروبا، باستفاقة الجموع الوليدة في الغرب عن هوياتها المغتصبة، في غرب يرنو لطحن المغاير داخل مطحنته الحضارية، من خلال سلبه حتى أبسط رموزه الثقافية.
حدثان بارزان يلخّصان محنة الكنيسة في عصر راتسينغر. فقد سعى البابا للقاء المنشقين فرادى وجماعات, وبادر في ذلك منذ اعتلائه كرسي الحبرية، كان ذلك مع منظّر اللاهوت النقدي، هانس كونغ، حيث دعاه للكفّ عما يسببه من نزيف، هو في نظر اللاهوتي إصلاح، لما يدعو إليه من ضرورة خوض حركة إصلاحية داخل المؤسسة الفاتيكانية، والخروج من باراديغمات القرون الوسطى، التي تهيمن على رؤية الكنيسة للعالم. والتي تتلخص في مسائل أساسية: دونية المرأة داخل الكنيسة (الراهبة لا تتمتع بأية حقوق على مستوى الرواتب أو المعاش على شاكلة رجال الدين) ورفض ترقيتها لاهوتيا، معارضة الكنيسة لعديد المحاور العلمية، مثل التخصيب المصطنع وموانع الحمل، خصوصا في البلدان التي يتهدّدها مرض فقدان المناعة، عدم مواكبة الكنيسة للعصر من خلال إصرارها على العزوبة، وهو ما سبّب نزيفا في جيش الكهنوت الأوروبي خصوصا. مع ذلك، فلازالت مجالس الكرادلة وتجمعات رؤساء الأساقفة والأساقفة من البيض أساسا، برغم التطورات الهائلة للكنيسة في إفريقيا. في مقاله المنشور في عدة صحف غربية، في منتهى الأسبوع الماضي، والمعنون بـ"لو كان راتسينغر مثل أوباما"، يقطع كونغ شعرة معاوية التي تربطه بزميله في التدريس في جامعة توبنغن راتسينغر. فقد عدّ اللاهوتي هانس كونغ البابا الحالي بوشا آخر، لما يشتركان فيه من تضييق على الحريات وحقوق الإنسان. تلك إحدى نماذج محن البابا مع أفراد صاروا رموزا.
ومن جانب آخر يحاول البابا جمع شمل التجمّعات، أو بعبارة أدق، الكنائس المنشقة، سواء في أوروبا أو في أمريكا اللاتينية. ففي أوروبا تبرز تجليات ذلك الانشقاق، أساسا مع أتباع لوفابر. وهو تنظيم رفض قرارات المجمع الفاتيكاني واعتبرها فاقدة لقيمة دغمائية، لما اتخذه المجمع من مواقف تمس الليتورجيا واللغة اللاتينية. فقد رفض اللوفابريون مواقف الكنيسة بشأن الانفتاح على الأديان الأخرى، حتى ولو كان ذلك الانفتاح براغماتيا، لاختراق شعوب تلك الأديان، واعتبروا ذلك مسا من مبدأ "لا خلاص خارج الكنيسة"، لما يقدرون ما يتضمنه من وقوف ندّي، مع أديان، يعتبرونها زائفة ومنحرفة وضالة. لقد تعمق ذلك الرفض بالأساس حين دعا البابا السابق كارول ووجتيلا إلى صلاة أسيزي، التي حشد لما ممثلي عدة أديان للتضرّع من أجل السلام، ومن أجل خير البشرية، فاعتبروا تلك الندية حطّا من سموّ المسيحية.
غير أن لم الشّمل الذي تتطلّع له حاضرة الفاتيكان لكفّ نزيف الكنيسة، يبدو بمثابة وداوني بالتي هي الداء. فقد سعت كنيسة روما يوم 21 يناير 2009 لرفع الحرمان المسلّط على الأساقفة الأربعة، برنار فلاّي، وألفونسو دي غالاريتا، وتيسيي دي ماليري، وريتشارد وليامسون، الذين تولى ترسيمهم، دون تزكية الكنيسة، المونسنيور مارسال لوفابر، المتوفى سنة 1991، في الثلاثين من شهر يونيو من العام 1988 في قلعته السويسرية بإيكون. فكان تسليط الحرمان عليه مع مجموعته، من طرف البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. والحقيقة أن اللوفابريين يمثلون خطا رؤيويا محافظا وتقليديا داخل الكنيسة، جعلتهم رؤاهم يصطدمون لاهوتيا وفكريا بكنيستهم، جراء ما يرفضونه بالأساس من قرارات المجمع الفاتيكاني، وما يعدونه انحرافا، بالتحوير في نص القداس اللاتيني، المعروف بالتريدنتيني.
ولكن مساومة اللوفابريين بالدخول مجددا تحت مظلة الكنيسة، جاء بمقابل، ألا وهو الإذعان لمطلبهم بالعودة للقدّاس اللاتيني (القداس الذي تتضمن بعض فقراته دعوة لليهود بالتوبة والدخول في ظل الكنيسة)، وهو قدّاس، يتناقض مع وثيقة "نحن نتذكر"، التي تلخّص سياسة الفاتيكان مع إسرائيل ومع اليهود، والتي تتضمن اعترافا وإقرارا بالمحرقة، بحسب الصيغة الإسرائيلية.
ولكن بالعودة للقداس اللاتيني، الذي أراده اللوفابريون، توتّرت من جديد علاقة الفاتيكان مع اليهود ومع إسرائيل. ولم يتوقّف اللوفابروين عند ذلك الحد، بإصرارهم على صيغة القدّاس التي تسيء لليهود، بل إن أحد رموزهم، الأسقف ريتشارد وليامسون، نفى ولازال مصرّا، حصول المحرقة، وما شاع حولها من غرف الغاز، واعتبرها خدعة تاريخية. كانت المسألة خطيرة، لأن هناك تجريما لكل من يشكّك في هذا الموضوع، سواء داخل الكنيسة أو خارجها. الأمر الذي أثار غضب كبير حاخامات إيطاليا أوديد وايدر، معتبرا العملية نكأت جرحا غائرا من جديد. وامتد الغضب إلى أن يعلن الحاخام دافيد روزن، رئيس الرابطات اليهودية العالمية، أن رفع الحرمان على جاحد المحرقة ريتشارد وليامسون، يشكل تهديدا لمستقبل المصالحة بين الكنيسة الكاثوليكية والشعب اليهودي.
في وقت يستعد فيه البابا بنيديتو السادس عشر لزيارة الحاخامية الكبرى في إسرائيل، يبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار في بحثه لجمع شمل الكنيسة المتآكلة.
غير أن لم الشّمل الذي تتطلّع له حاضرة الفاتيكان لكفّ نزيف الكنيسة، يبدو بمثابة وداوني بالتي هي الداء. فقد سعت كنيسة روما يوم 21 يناير 2009 لرفع الحرمان المسلّط على الأساقفة الأربعة، برنار فلاّي، وألفونسو دي غالاريتا، وتيسيي دي ماليري، وريتشارد وليامسون، الذين تولى ترسيمهم، دون تزكية الكنيسة، المونسنيور مارسال لوفابر، المتوفى سنة 1991، في الثلاثين من شهر يونيو من العام 1988 في قلعته السويسرية بإيكون. فكان تسليط الحرمان عليه مع مجموعته، من طرف البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. والحقيقة أن اللوفابريين يمثلون خطا رؤيويا محافظا وتقليديا داخل الكنيسة، جعلتهم رؤاهم يصطدمون لاهوتيا وفكريا بكنيستهم، جراء ما يرفضونه بالأساس من قرارات المجمع الفاتيكاني، وما يعدونه انحرافا، بالتحوير في نص القداس اللاتيني، المعروف بالتريدنتيني.
ولكن مساومة اللوفابريين بالدخول مجددا تحت مظلة الكنيسة، جاء بمقابل، ألا وهو الإذعان لمطلبهم بالعودة للقدّاس اللاتيني (القداس الذي تتضمن بعض فقراته دعوة لليهود بالتوبة والدخول في ظل الكنيسة)، وهو قدّاس، يتناقض مع وثيقة "نحن نتذكر"، التي تلخّص سياسة الفاتيكان مع إسرائيل ومع اليهود، والتي تتضمن اعترافا وإقرارا بالمحرقة، بحسب الصيغة الإسرائيلية.
ولكن بالعودة للقداس اللاتيني، الذي أراده اللوفابريون، توتّرت من جديد علاقة الفاتيكان مع اليهود ومع إسرائيل. ولم يتوقّف اللوفابروين عند ذلك الحد، بإصرارهم على صيغة القدّاس التي تسيء لليهود، بل إن أحد رموزهم، الأسقف ريتشارد وليامسون، نفى ولازال مصرّا، حصول المحرقة، وما شاع حولها من غرف الغاز، واعتبرها خدعة تاريخية. كانت المسألة خطيرة، لأن هناك تجريما لكل من يشكّك في هذا الموضوع، سواء داخل الكنيسة أو خارجها. الأمر الذي أثار غضب كبير حاخامات إيطاليا أوديد وايدر، معتبرا العملية نكأت جرحا غائرا من جديد. وامتد الغضب إلى أن يعلن الحاخام دافيد روزن، رئيس الرابطات اليهودية العالمية، أن رفع الحرمان على جاحد المحرقة ريتشارد وليامسون، يشكل تهديدا لمستقبل المصالحة بين الكنيسة الكاثوليكية والشعب اليهودي.
في وقت يستعد فيه البابا بنيديتو السادس عشر لزيارة الحاخامية الكبرى في إسرائيل، يبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار في بحثه لجمع شمل الكنيسة المتآكلة.