من غير الممكن إغفال دور الثورة الفرنسية في سيرورة تطور الفكر الليبرالي ؛ فهي الحدث الذي تتوج بالظهور المميز للدولة الحديثة وصحيح أن البنية الليبرالية للدولة التي حرّرت الاقتصاد من قيود التوجه السياسي لم تدم طويلاً إذ تطلبت الحروب النابليونية تشديداً للمركزية ولكن هذه المركزية استطاعت تكريس مفهوم المواطنة بفصلها عن توزيع السلطة السياسية وجعلها دالّة للإقامة في اقليم الدولة ، ولم تفض المركزية الى وأد الإنجاز الأهم للثورة ، وهو الفصل الرسمي للسياسة عن الاقتصاد .
يمكن القول إن اهم نتيجتين للثورة الفرتسية هما :
المساواة القانونية أولاً والحرية الاقتصادية ثانياً . هاتان النتيجتان اللتان تمخضت عنهما الثورة الفرنسية في علاقة التسبيب والنتوج وإن كانتا ممكنتين تاريخياً وليستا ضروريتين ، فإن تتبع سلسلة الأسباب التي أوصلت إليهما يفيد بأن التركيز على المساواة كان رد فعل من حاملي الثورة الرئيسي وهم الفقراءالريفيون ، فهؤلاء كانوا يشكلون الغالبية العظمى من الفلاحين الفرنسيين وليس ثمة فرق جدير بالذكر بين من يملك أرضاً صغيرة لا تقيم أود عائلته وبين من لا يملك ارضاً مطلقاً وقد عنى التحديث بالنسبة لهؤلاء أن الفلاحين الأثرياء سيحرمونهم من تحقيق مطالبهم التي كانت تتمثل بمطلبين أساسيين :
1- الحصول على قطعة أرض لمن لا يملك أو قطعة أرض أكبر لمن يملك .
2- الاحتفاظ بالعادات الخاصة بمجتمع القرية ، وهي عادات ضمنت لهم مكاناً متواضعاً ومعترفاً به داخل عالمهم الزراعي .
وهؤلاء الفلاحون الفقراء مع اللا متسرولين كانوا ضحايا السياسات الاقتصادية التي حاول ادخالها الوزير تورجو ، وهي معادية لمستهلكي الطعام الصغار بما انطوت عليه من تحرر تجارة الحبوب التي أدت إلى رفع الاسعار فأخذت مطالباتهم أثناء الثورة طابعاً معادياً للرأسمالية ومطالباً بعودة الاقتصاد القديم الموجه .
ما يلفت النظر هنا أن الطبقة البرجوازية كانت خاضعة للقيود الملكية ولم تكن هي الدافع لوضع قواعد المجتمع الحديث ، ولكن البيروقراطية الملكية ارتبط استبدادها بفشل الزراعة التجارية على عكس ازدهارها في إنكلترا التي قد تنفع الإشارة إلى التحولات التي رافقت مفهوم الأرض فيها في تسليط الضوء على مبتغانا في توضيح ما جرى في فرنسا ، ففي الأخيرة حصل تحول في مفهوم الأرض نتيجة للنمو المتسارع للأسواق الذي بدأ بالتحول من مفهوم الأرض في العصور الوسطى الذي قام على أنها أساس الوظائف والواجبات السياسية إلى الرؤية للأرض على أنها شيء يمكن بيعه وشراؤه واستخدامه واساءة استخدامه ، أو باختصار كملكية خاصة رأسمالية حديثة . وكانت كلمة السر في هذا التحول في إنكلترا هي السياجات فخلال القرن السادس عشر كان الأمر الأهم هو التعديات التي يقوم بها أصحاب الضياع أو فلاحوهم على الأراضي التي كان لسكان الضياع حقوق مشتركة فيها وتقع ضمن الحقول الزراعية المفتوحة . وقد استغلت هذه السياجات بدافع من تحقيق الأرباح من بيع الصوف . وهي التجارة الأهم آنذاك في انكلترا – او من خلال تأجير أراضيهم لمن يبيع الصوف الذي كان الأساس لصناعة النسيج .
إضفاء الصبغة التجارية على الزراعة يعني التحول من السيد الإقطاعي الذي كان في أسوأ الأحوال طاغية لا يضبطه قانون ، وفي أفضلها أباً استبدادياً أقرب الى رجل الأعمال الجاد الذي يستغل الموارد المادية للضيعة متوخياً الربح والكفاءة .
كان صغار الملاك القوة الرئيسة وراء سياجات الفلاحين وهم مجموعة من الرأسماليين الصغار الطموحين الذين يتسمون بالجرأة ويعون بأن لديهم فائضاً كافياً للدخول في مخاطرات كبيرة ويدركون أن المكسب غالباً ما يكون في الادخار بقدر ما يكون في الإنفاق ، غير أنهم عقدوا العزم على اهتبال أي فرصة لزيادة أرباحهم .
جعل هذا التطور المتنامي في قوى السوق الملكية الخاصة حقاً طبيعياً وشرطاً للاستقلال الخلقي مما ترتب عليه أن الحرية الاقتصادية هي الأساس في صميم أي تنظيم اجتماعي مناسب ، وأن على الدولة أن تكفل أي مستوى من الحرية لجميع الأفراد الذين هم مالكون أحرار وساعون إلى مصالحهم الشخصية .
أما في فرنسا فقد مثلت تجارة النبيذ الأهمية التي مثلتها تجارة الصوف في إنكلترا ، ولكنها لم تكن أساساً صالحاً لصناعة النسيج الذي تؤسس له تجارة الصوف، وقد كانت الأساس في ثراء طبقة النبلاء ؛ولهذا العامل الموضوعي يعزى فقد النبلاء الفرنسيين الأساس الاقتصادي الذي شكل فقدانهم له عاملاً مساعدا للملكية في حرمانهم من الاستقلالية الاقتصادية ؛ الأمر الذي ساعد الملكية على توسيع سلطتها وعلى حرمانها طبقة النبلاء من الكثير من وظائفها القانونية وعلى التدخل المباشر في شؤونها وزيادة الضرائب والجنود على اراضيها . وجدير بالذكرأن مونتسكيو كان أحد النتائج الثقافية لثراء طبقة النبلاء ؛ فقد كان أحد افراد جماعة الضغط المؤيدة لتجارة النبيذ وهو الموقع الذي مثل أحد مفاتيح فهم نظريته التي تبلورت في ظل الصراع الطويل بين الملوك الفرنسيين والارستقراطية .
قام الملوك الفرنسيون بالضغط على الارستقراطية التي كانت تعتمد في وجودها على استحقاقات الفلاحين وليس على الزراعة التجارية عن طريق عقد تحالفات مع البرجوازية الصاعدة فقد استطاعت البيروقراطية تحويل البرجوازيين إلى أرستقراطيين عن طريق منحهم ألقاب النبالة بآلية بيع المناصب التي تميزت بها فرنسا ، وهو ما دعم الاستبداد الملكي من جهة وقوض استقلال الملك من جهة أخرى ، فبيعهم المناصب وإن كان قد حوّل قوة الدفع البرجوازية لمصلحة الملكية ولكنه أعطى البرجوازيين إحساساً بالهوية الجمعية والحصانة من التأثيرات الخارجية ، وأكسبهم روح الجماعة فأصبحوا لكلّ ذلك مدافعين عنيدين عن المصالح المحلية والامتيازات المكتسبة ، وهي مصالح وامتيازات مرتبطة بملكية الفرد وقد ظهر ذلك جلياً عندما حاول لويس الرابع عشر إلغاء بيع المناصب ورشوة القضاء فدافعت هذه البرجوازية المصطبغة بصبغة ارستقراطية باسم الحرية السياسية وحرية الفرد والحقوق الطبيعية والعقد فكانت طبقة رجعية تساهم في تحريك افكار ثورية .
هذه العلاقة المزدوجة بين البرجوازية والملكية منعت الأولى من النمو بشكل كاف لتسم الثورة بميسمها فكان لا بد لها من التحالف مع المكون الراديكالي في الثورة وهو الدهماء الحضريين لكي يرتقوا الى السلطة .
من العرض السابق نستنتج أنه من المكون الراديكالي جاءت ردة الفعل العنيفة باتجاه المساواة ، ومن المكون البرجوازي باستقلاليته النسبية وقوته ذات السقف المنخفض بسبب الاستبداد الملكي السابق كانت النتيجة الثانية الابرز للثورة وهي الحرية الاقتصادية .