بداية لا بد من توافق معرفي مبسط لمفهوم ودلالات كل من ظاهرة الأصولية والسلفية حتى لا ينأى بنا الإختلاف في تفسير هذين المصطلحين الذين تتعدد وتتباين استخداماتهما في وقتنا الراهن, وبالتالي تتعدد وتتباين التقييمات و المواقف ازاءهما. فهل هما صفتان لظاهرة واحدة أم أن كلا منهما يعبر عن ظاهرة متميزة عن الأخرى، خاصة بعد أن شاع استخدامهما في الخطاب السياسي والإعلامي ,سواء بوعي أو بغير وعي, طوال السنوات الأربع الماضية أي منذ انطلاق الانتفاضات الشعبية العربية التي هدفت لاقامة الحياة الديمقراطية السليمة ؟ وهل أن كلا منهما بالتالي يعبر عن مذهب او تيار ديني أوفكري او سياسي او اجتماعي خاص.
في الأساس يدل مصطلح الأصولية على انماط معينة تفكيرا وأخلاقا وسلوكا، وسواء أكانت اصولية مسيحية أم اسلامية ام في الديانات الأخرى كاليهودية والهندوسية وغيرها ... وقد نشطت الأصولية المسيحية كحركة بروتستانتية ظهرت في أوائل القرن العشرين لتؤكد أن الكتاب المقدس معصوم عن الخطأ في كل مايتعلق بمسائل العقيدة والأخلاق والسلوك الإنساني والخلق والغيب. و في الوقت الحاضر تشهد ظاهرة الأصولية في البلدان الغربية وفي البلدان المتقدمة بصورة عامة وكما هو معروف تماوجات تتراوح بين مد وجزر وذلك تبعا للمسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكل منها اوبتأثير بعض العوامل الخارجية الطارئة كما في حالات الحروب والارهاب العابر للقارات والنزوح الكثيف كما هو حاصل الآن. لكن وفي المحصلة فان الحركات الأصولية في البلدان المتطورة تبقى حركات ثانوية محدودة الفعل والتأثير بالنسبة للتيار العام في المجتمع.
أما الأصولية الاسلامية التي شكلت تيارا دينيا وسياسيا واجتماعيا واسعا على مدار العقود الأخيرة فقد دعت وعملت منذ نهايات القرن التاسع عشر الى ارجاع البلدان الإسلامية التي يحكم معظمها باحكام وقوانين وضعية الى انظمة حكم تعتمد الشريعة الاسلامية , ومن ثم السعي الى اعادة دولة الخلافة التي أنهى وجودها أتاتورك عام 1924. خلال العقود الأربعة الأخيرة اذن شاع استخدام هذا المصطلح في العالمين العربي والاسلامي وفي سياق ما سمي بالصحوة الإسلامية لوصف التيارات المتشددة والمتزمتة سواء في فهم و تفسير صحيح الدين أم في ممارسة التدين بكيفية تكتسي طابع التشدد والجمود والتعصب الأعمى المقيت. كان مفهوم تيارالسلفية الذي اندمج مع مفهوم الأصولية في العالمين العربي والاسلامي في الخطاب العام طوال نصف القرن الماضي ,والذي كان يدعو في اساسه الى ضرورة التمسك بصحيح الدين المتمثل بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ,قد عرف في داخله مروحة واسعة تتباين في نظرتها وفي موقفها من دور الدين في حياة الفرد والجماعة ومن حقوق وواجبات الفرد المؤمن تجاه نفسه وتجاه غيره. كما عرف التيار السلفي عبر مساره التاريخي محطات ومراحل نوعية شديدة التباين والاختلاف. فاذا كانت جذور هذا التيار المعرفية والفقهية تعود الى ابن حنبل ومن بعده الى ابن تيمية كمذهب موصوف بالتشدد والتزمت واغلاق باب الاجتهاد وصولا الى عصرنا الراهن حيث تتجلى استمراريته في الوهابية وابي الأعلى المودودي وسيد قطب ومعظم حركات الاسلام السياسي. لكن التقييم الموضوعي لدور التيار السلفي في الحياة العامة للمجتمعات العربية يحتم علينا ان نميز في اطاره العريض وفي سيرورة تطوره العديد من الاتجاهات التي تباينت وظائفها وادوارها وفق كل مرحلة تاريخية وذلك منذ ان بسط الفكر السلفي هيمنته على ا العقل العربي في اعقاب محنة المعتزلة وانهاء أي دور للفلسفة العربية في الحياة العامة بعد غياب بن رشد .في هذا المجال علينا أن لا نغفل الدور التنويري الحضاري الذي اضطلع به العديد من رموز هذا التيار سواء في مشرق الوطن ام في مغربه منذ منتصف القرن التاسع عشر ,نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: رفاعه رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب ارسلان وعبد العزيز الثعالبي وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي وعلال الفاسي وعبد الرحمن الكواكبي وعبدالله العلايلي وغيرهم كثيرون..... لكن التيار السلفي خلال نصف القرن الماضي اي منذ ان حققت البلدان العربية استقلالها وبدأت تتصدى لمهمات الجهاد الأكبر المتمثل ببناء دول حديثة عصرية كان نتيجة تقوقعه في تراث الماضي وعدم انفتاحه على العصر, ومايزال, كابحا ومعرقلا لصيرورة التطور المنشود وذلك بسبب عاملين رئيسيين: قصور في البنية المعرفية لهذا التيار من جهة، وغياب استراتيجيات حقيقية للتنمية الشاملة والتجدد الحضاري في تلك البلدان من جهة ثانية. واليوم نشهد في كل المجتمعات العربية وخاصة منها تلك التي شهدت انتفاضات شعبية تطالب بالتغيير خلال الأعوام الأربعة الماضية طبيعة الدور السلبي ومدى التاثير الذي تمارسه جماعات التيار السلفي والتي يمكن تصنيفها في ثلاثة تيارات فرعية :التيار الدعوي، تيار الاسلام السياسي ,والتيار السلفي الجهادي الذي هو المصدر الرئيس لمختلف المجموعات السسلفية الإرهابية.
ومن وجهة نظرنا فان التعامل الواعي والحصيف مع التيارات الأصولية والسلفية في مجتمعاتنا العربية المتطلعة نحو التحرر والتقدم ومواكبة مسيرة العصر ينبغي ان يستند الى رؤية استراتيجية طويلة الأمد قوامها المنطلقات التالية:
أولا- لا بد أولا من اقرار الحقيقة الأساسية التي تعتبر قاعدة الإنطلاق لكل اصلاح ديني وكل نهضة ثقافية وفكرية ,وذلك بالاجابة على السؤال التالي وهو: هل هناك شكل ما للدولة أو صيغة معينة لنظام الحكم في الإسلام؟ أي هل الاسلام دين ودولة, أم هو دين فحسب جاء ليكمل رسالة الأديان السماوية التي سبقته ويتمم مكارم الأخلاق؟ الإسلام دين سماوي وليس هوية أو نظام سياسي، الإسلام دين والدين مرجعيته الضمير والإيمان وليس هو سلوك ضوابطه الردع والإلتزام والقوة . هذه هي الحقيقة الموضوعية التي لا بد من وعيها أولا حتى يمكن فصل المجال الروحي والديني عن المجال السياسي والاجتماعي. فاذا كان الإتفاق على هذه الحقيقة أمرا مفروغا منه في الوعي الجماعي عندها يمكن ارساء الخطوة الأولى في سيرورة تحرير العقل العربي من أغلال الماضي . بذلك يمكن أن يأخذ الاجتهاد والتأويل مجالهما الخاص بهما في شؤون العقيدة وبذلك يمكن الحفاظ على جوهر الدين ورسالته من جهة, وعلى كونه عاملا هاما في تكوين الخصوصية الوطنية من جهة أخرى . هذه هي الخطوة الأولى التي لابد منها لمنع استخدام الدين في السياسة ومنع استخدام السياسة في الدين. فلقد أدى استغلال الدين في السياسات الدنيوية التي مارستها الأنظمة السلطانية في الدولة العربية الاسلامية في العصر الوسيط والسعي لاعطائها المشروعية والقداسة الى ان يشرعن ابو الحسن الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية دور الخليفة بانه ظل الله على الأرض وان من اولى مهامه ترتيب اوضاع الرعية على الصورة التي يرتضيها لها أي بدل الأخذ بالقول المأثور : كما تكونون يولى عليكم , يصبح ماهو مطلوب وما هو بديل ذلك: كما يولى عليكم تكونون أنتم.
ثانيا – ان الظاهرة الأصولية أوالسلفية والتي تتبادل التأثير والتأثر مع طبيعة ومستوى تطور المجتمع ,هذه الظاهرة لا تقتصر على دين أومذهب معين ,ولا على اتجاهات سياسية أو مجتمعات بعينها ولذا فان مفاعيل التطرف في ممارسة هذه الظاهرة لا تتوقف على شعوب بحد ذاتها, ولنتذكر في هذا الصدد حروب المئة عام في اوربا بين الكاثوليك والبروتستانت ,والصراعات الدينية داخل الهند ,والأصولية اليهودية داخل اسرائيل ,والأصولية المسيحية في العديد من المجتمعات الغربية. أما المجتمعات العربية التي تواجه الآن أخطار الارهاب المدمر الذي يستهدف حاضرها وتاريخها ومستقبلها، فمصادر هذا الارهاب الذي تحكمت فيه آلية ردود الفعل ,والذي تحول مع الأسف في العديد منهاالى صراع سني شيعي,لا تتوقف على طا ئفة معينة او مذهب معين. هذا واقع قائم بكل ماتمثله هذه الظاهرة من اخطار جسيمة داخل الدين الواحد وداخل المجتمع نفسه وتجاه الآخر المختلف ,وما يمكن أن ينجرعنها من ايديولوجيات وممارسات التكفير والتعصب والارهاب , او ما قد تسهم به في تغذية النزعات الداعية الى صراع الحضارات والثقافات والأديان لتعطيل سعي الانسانية وتوقها نحو حضارة واحدة. ومع تاكيدنا على أن التيارات الأصولية وما ينجر عنها من ممارسات تمييزية وارهابية تجاه الآخر المختلف عنها، هي ظاهرة عالمية بلا جدال ,ينبغي الاعتراف في الوقت نفسه أن هذه الظاهرة التي لا تشكل الا حالات جزئية ومعزولة في البلدان المتقدمة تعتبر في بلداننا العربية والاسلامية، نظرا لحواضنها الاجتماعية الواسعة , ظاهرة خطيرة لا بالنسبة لأمن تلك البلدان واستقرارها وتقدمها وانما بالنسبة لوجودها بالذات . هذا الواقع يستدعي التقييم الصحيح للاسباب والجذور العميقة لظاهرة السلفية الجهادية والحركات الارهابية حتى يمكن مواجهتها بالطريقة و الأساليب المناسبة.
ثالثا – ان الظاهرة الأصولية بما تشكله الآن من عوائق جدية في طريق رقي وتطور مجتمعاتنا العربية والتي ينبغي النظر اليها كصورة تعكس درجة تخلف وفوات هذه المجتمعات، هذه الأصولية لا تتوقف على مجال معين او وحيد في بنية الوعي العربي بصورة عامة وفي بنية ودينامية الوعي السياسي خاصة. وهذا أمر مفهوم حيث أن مستوى تطور كل مجتمع هو حصيلة تطور شامل ومتكامل في المناحي الثقافية والإقتصادية والسياسية والاجتماعية... أليست السمة العامة لرؤية ومواقف وكذا خطاب وسلوك أحزابنا وحركاتنا السياسية منذ منتصف القرن الفائت وحتى اليوم هي سمة الأصولية والدوغما الايديولوجية. هذا هو الواقع الذي ينبغي الاعتراف به كي يمكن مواجهته والتعامل معه بما يكفل تجاوزه وبناء البديل الذي يستجيب والمهمات التي يطرحها الواقع. نعم ما تزال معظم أحزابنا وحركاتنا السياسية سواء على صعيد الفكر والتنظير أم على صعيد العمل والتدبير تنطلق من مرجعيات عقائدية أصولية :فهناك أصوليات ترفع رايات اليسار والماركسية وأخرى قومية او وطنية او اشتراكية او اسلاموية او ليبرالية .....احزاب وحركات اصولية ترفع شعارات متباينة ولكنها وبسبب ضمور قيم العقلانية في فكرها وسلوكها وقناعتها بانها تمتلك الحقيقة المطلقة تلتقي في ميدان واحد في نطاق الممارسة العملية.
رابعا – من هنا وتأسيسا على هذه المنطلقات التي جئنا على ذكرها فانه يتضح بكل جلاء ان التعامل مع التيارات الأصولية والسلفية وافرازاتها الخطرة المتمثلة اليوم بالمجموعات الارهابية التي يتعاظم وجودها في معظم أقطارنا العربية, لا يمكن ان يتم في اطار خطة مجتزأة لجانب معين في حياة المجتمع أوأن تقتصر على الاجراءات الردعية والاستخباراتية والأمنية فحسب. لكن وباعتبار ان الارها ب والعنف بمختلف اشكاله وسواء اكان ارهابا ماديا أومعنويا هو صورة تعكس حالة المجتمع ومقياس تطوره، وهذا بطبيعة الحال دون اغفال ظواهر الارهاب العابر للحدود في عالم هو الآن معولم ,فان المعالجة الناجعة للارهاب لا بد ان تتم في اطار خطة تنمية شاملة مستدامة تتناول كافة قطاعات المجتمع السياسية والثقافية والأقتصادية والاجتماعية –خطة تستهدف الاصلاح الجذ ري لواقع هذه المجتمعات، لنقلها الى الحياة الديمقراطية السليمة والتصدي في سياق ذلك للمشكلات العاجلة والملحة وفي مقدمتها مكافحة الجهل والأمية والفقر والمرض والبطالة بانتهاج سياسات عملية ناجعة تستهدف معالجة جذور تلك المشكلات.
خامسا – فاذا ما قدر للمجتمعات العربية ان تحث الخطى وتنجح بتنفيذ البرامج التنموية الشاملة التي تؤهلها للحاق بركب التقدم العالمي,وفي صميمها تطوير وتحديث برامج الثقافة والتعليم، والاصلاح الديني الذي تأخر كثيرا .عندها يتوفر المناخ الضروري لانطلاقة العقل العربي وخلاصه من الأغلال التي مابرحت تشل فعاليته وتمنع اضطلاعه بما هو مطلوب منه. اذا ماتحققت هذه النهضة الثقافية والفكرية المطلوبة في كل بلد عربي، عندها تنفتح آفاق المستقبل المنشود امام شعوبنا العربية وعندها تستكمل هذه الشعوب القوام الايجابي الحضاري لخصوصيتها وهويتها الوطنية المتجددة وذلك في تصالح تام مع التراث وفي الآن نفسه امتلاك الدينامية القادرة على التجدد والعطاء الدائم. والخلاصة وكي لا يفهم مما اسهبنا في تناوله من خلال معالجة موضوع التيارات السلفية والأصولية في المجتمعات العربية اننا ننطلق في ذلك من ضرورة انهاء وتصفية كل تلك التيارات باعتبارها نبتا غريبا وطارئا في تربة تلك المجتمعات، فذلك بطبيعة الحال ليس ماقصدنا اليه ولا ما يمكن تحقيقه، لكننا أردنا التأكيد على أنه لو كانت سيرورة التطور الطبيعي في المجتمعات العربية منذ نهايات العصور الوسطى قد تواصلت دون تعطل وانقطاع وواكبت سيرورة تطوربلدان اوربا مثلا لكان وجود التيارات السلفية والأصولية في هذه المجتمعات من حيث حجمها ودورها أمرا طبيعيا ومنطقيا لا يعرقل ولا يتناقض مع سيادة قيم الحداثة وفي مقدمتها قيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية. لو كان ذلك قد تحقق، وفي تحد مقتدر لمكر التاريخ, لكانت الأمة العربية، التي كما يرى ريتشارد بولييه أنها قد اسهمت بأكبر قسط في حضارة العصر الوسيط، قد واصلت حمل رسالتها حتى اليوم بالمساهمة الفعالة والنوعية في الحضارة الانسانية الواحدة.