كتاب من تأليف المفكر المغربي عبد الله العروي، صدرت طبعته الأولى عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء في مطلع الثمانينيات، يندرج هذا العمل ضمن سلسلة من الكتب التي ألفها العروي حول مفاهيم متعددة (الحرية، العقل، التاريخ)، إذ انصرف فيه إلى تناول مفهوم الدولة على نحو لا يخلو من عمق ورزانة في المضمون الفكري، وتنويع معهود بالنسبة لطرق البحث والمقاربات المنهجية المعتمدة فيه.
أولا: نظرية الدولة في الفكر الغربي الحديث
لقد دشن المؤلف بحثه بالغوص في النظرية الإيجابية بشأن الدولة في التفكير الغربي، ممثلا لها بالفيلسوف الألماني هيغل (1770 – 1831) الذي أبدع تفكيرا متميزا حول الدولة، إذ يشدد على وجوب خضوع الفرد والمجتمع المدني باعتباره فضاء الاقتصاد والحياة المادية للمبدأ العام للدولة وقوانينها، الأمر الذي يناقض المفهوم الليبرالي التقليدي للدولة كما عبر عنه مثلا جون لوك بوصفها مجرد وسيلة لتأمين السوق وحماية حق الملكية الفردية، بحيث وضع هيغل الأخلاق ضمن دائرة الدولة، ولم يحصرها في الضمير الفردي، جاعلا الدولة فوق الفرد والمجتمع المدني.
وبعيدا عن النقد الأخلاقي الليبرالي لهيغل الذي وضع تصورا لدولة مطلقة استبدادية من واجبها استخدام القوة لتضمن الأخلاق وتقمع النوازع الشريرة للأفراد، ذهب البعض إلى أن نظرية هيغل ليست تجريدية وإنما هي واقعية تعبر عن جوهر وحقيقة الدولة المطلقة القائمة – وهو الطرح الذي يتبناه المؤلف - وبالتالي فهو لم يسبح في فلك التفكير الطوباوي حول الدولة.
وصولا إلى النظرية النقدية للدولة عند كارل ماركس (1818 – 1883)، والذي انطلق من نقد واقعي للدولة البرجوازية القائمة لارتباطها بمؤسسة الملكية (بكسر الميم) والصراع الطبقي، واضعا كهدف نهائي لنظريته إلغاء الدولة في المجتمع الشيوعي حيث تنعدم الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. لكنه في الوقت عينه يقر بأن هذا التحول نحو القضاء على الدولة والملكية يستلزم وقتا طويلا، وبذلك استحق أن يُطلق على تفكيره وصف نظرية واقعية رغم ما قد يلحظه البعض من نزوع طوباوي.
ثانيا: الدولة العربية بين الواقع والطوبى
يرى العروي أن عبارة دولة إسلامية غير دقيقة ولا تعبر عن حقيقة الدولة العربية على مر التاريخ الإسلامي (قبل وبعد عهد التنظيمات والحقبة الاستعمارية)، إذ لم توجد إلا في فترة الوحي والإلهام (النبوة)، لأن الدولة الإسلامية – بالتعريف – هي الخلافة، الشيء الذي يدحض مزاعم المستشرقين بأن الدولة في الفضاء الإسلامي كانت ثيوقراطية، إذ يشدد الكاتب على أنها دولة سلطانية في المقام الأول، القول الفصل فيها للسلطان، فتحولت بذلك الخلافة إلى طوبى ومثل أعلى ينشده الفقيه بما أن انبعاثها يستوجب معجزة ربانية جديدة اعتبارا للطبيعة البشرية العصية على الترويض: "تحت ظل المُلك تخدم الشريعة أهداف الدولة، وتحت ظل الخلافة تخدم الدولة أهداف الشريعة".
إن ذلك المنزع الطوباوي نجده كذلك لدى الفيلسوف الإسلامي (والمتصوفة أيضا) ولو في ثوب آخر، فبما أن الدولة الاستبدادية ما عادت تضمن تحقيق الغاية من الدنيا (مكارم الأخلاق) من المنظور الديني والمنطقي، فلا يبقى أمام الفرد العاقل من خيار سوى نهج سبيل العزلة والانفراد، مما حدا بالفلاسفة المسلمين إلى اللوذ بالطوبى من قبيل حديث الفارابي عن المدينة الفاضلة، والتي يحياها كل فرد داخل مجاله الخاص دون أن يحفل بالواقع المجتمعي البئيس. ومن ثم فإن الطوبى وإن كانت في أصلها رفض وإدانة للواقع القائم (السلطنة الاستبدادية)، إلا أنها تنتهي – من حيث لا تدري – إلى تكريسه وإدامته، لأنها لا تقترح بديلا عمليا له.
ثالثا: الفكر العربي والحاجة إلى نظرية في الدولة
إن أطروحة المؤلف الأساسية مفادها أنه إذا كان الفكر الغربي الحديث أفلح في بلورة نظرية حول الدولة وجدت تجسيدها العملي في نموذج الدولة الحديثة الغربية التي أفاض عالم السياسة الألماني ماكس فيبر في جرد عناصرها ومميزاتها، فإن الفكر العربي الإسلامي – بالمقابل – لم يتوصل إلى نظرية واقعية حول الدولة وظل حبيس التفكير الطوباوي بشأنها، ما دام أنه يقر بتعذر إصلاح الدولة القائمة بالطرق الطبيعية (إن طوبى الفقيه تستلزم تدخلا إلهيا)، مقارنة بالفكر الغربي الذي ينظر إلى الدولة كتجسيد عملي للعقل والأخلاق والحرية (عند ميكيافيلي وهيغل)، وأنها لذلك تعد غاية في حد ذاتها. فالنظرية تفترض إمكان إصلاح الدولة واستمرارها عمليا، خلافا للطوبى التي تنتهي إلى نفي الدولة (في الخلافة تنعدم الدولة حيث تذوب الأخيرة في الدين والمجتمع).
وهكذا، لا يسعنا تصور أي إصلاح فعلي خارج نطاق الدولة لأن نفي الأخيرة يعني تمهيد الطريق أمام الفوضوية: "طالما أمسك المرء بطرفي المعادلة، بأخلاقية الدولة وباجتماعياتها، فإنه يعمل على تهذيبها، ومتى تخلى عن الأخلاق ساعد على توحشها. كلما تخارجت الواقعية والطوبوية تركزت السلطانية، وكلما تقاربت وامتزجت اتجهت الدولة نحو الشرعية".
كما يرى المؤلف أنه برغم نقل بعض المذاهب الفكرية الغربية (الليبرالية، الماركسية، القومية... إلخ) إلى البيئة العربية تزامنا مع الإصلاحات التي عرفتها الدولة في عهد التنظيمات، وأيضا في الحقبة الكولونيالية (إصلاح الإدارة والبيروقراطية، التعليم، الخزينة والضريبة، الجيش، سياسات تطوير صناعي وزراعي... إلخ)، فإن تلك التحولات الموضوعية لم تفض إلى تأسيس نظرية في الدولة، بقدر ما عمقت من أزمة مشروعيتها، ما دام أن الدولة العربية ذات طبيعة استبدادية تعسفية عند الليبرالي العربي، وهي دولة طبقية استغلالية عند الماركسي العربي، فضلا عن الوحدوي الذي يُنَظر لدولة الوحدة المستقبلية دون أن يعبأ بدراسة وفهم الواقع الحالي للدول القُطرية.