تلتقي الديمقراطية الإسلامية مع الديمقراطية الحديثة في بعض الوجوه. لكنها تختلف عنها في وجوه أخرى عديدة:
ـ الفرع الأول: وجوه التوافق بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الحديثة
إن الإسلام، الذي جاء في القرن السابع الميلادي، كان رائداً من روّاد الفكرة الديمقراطية. وقد كان العالم العربي بحق المهد الأصيل لهذه الديمقراطية.
لقد نادى الإسلام بالحرية والمساواة والعدل كما نادت الديمقراطية الحديثة بهذه المبادئ أيضاً. وإذا كان ((روسّو)) قال في القرن الثامن عشر أن الأفراد يولدون ويعيشون أحراراً، فقد قال قبله بكثير عمر بن الخطاب: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)). وإذا كانت الثورة الفرنسية نادت بالمساواة والحرية، فقد جاء الإسلام يساوي الناس فيما بينهم دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو اللغة. كما جاء محترماً للعقائد الدينية الأخرى، معتبراً أنه ((لا إكراه في الدين)). ودعا إلى التسامح في الحوار الديني. وأباح حرية الحوار والجدل والتعليم تماماً كما نادت الديمقراطية الحديثة في القرن الثامن عشر وفي القرون اللاحقة.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تؤكّد المساواة أمام القانون فإن الإسلام قد سبقها في إقرار المساواة أمام التكاليف العامة حرصاً على مصلحة الجماعة الإسلامية. وحدد واجب توزيع موارد الدولة على الفقراء والمساكين وغيرهم من المحتاجين، وألزم الغنيّ مساعدة الفقير، وأدخل المبادئ الاشتراكية والعدالة الاجتماعية قبل أن تتعرّف الديمقراطية الحديثة إلى تلك المبادئ.
وإذا نادت الديمقراطية الحديثة بالعدالة فقد سبقها الإسلام إلى ذلك. والعدل في الإسلام عدل مطلق يطبق على الذات وعلى ذوي القربى. وإذا كان ((روسّو)) وضع نظريته القائلة بأن الحاكم يستمد سلطاته من الأمة نائباً عنها نتيجة عقد حرّ بينهما، فقد أدرك فقهاء الإسلام قبل ((روسّو)) أن مبايعة الخليفة هي عقد حقيقي يربط الأمة بالحاكم ربطاً متيناً.
ولا يتوقف التوافق عند المبادئ والأهداف بل يتعداها إلى الوسائل أيضاً. فمؤسسة الشورى الإسلامية هي أقرب ما تكون إلى المؤسسة البرلمانية الحديثة. وإذا كانت النخبة الاجتماعية هي التي تتمتع بحق الاختيار وتحمل مسؤولية الشورى في الإسلام، فالنخبة البورجوازية كانت ولا تزال الدعامة الأولى للبرلمانات في الديمقراطية الغربية. وفكرة الشورى فكرة قابلة للتطور والتكيّف وفق الزمان والمكان.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تسعى للحد من سلطة الحكام وتقييدهم بدساتير، فقد قامت الديمقراطية الإسلامية على دستور هو الشريعة الإسلامية. ومصادر هذه الشريعة كما هو معلوم هي: القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع. وإذا كان الشعب هو الرقيب على أعمال الحكّام في الديمقراطية الحديثة، فالأمة الإسلامية هي التي تراقب عمل الحكام وتحاسبهم. فإذا ساروا وفق الشريعة اطاعتهم ونصرتهم، وإذا خرجوا على تلك الشريعة فلا طاعة لهم ولا نصرة، بل خروج وثورة وعزل.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تقوم على فكرة فصل السلطات في الدولة كوسيلة ناجعة لمنع هيمنة سلطة على أخرى، فالإسلام أوجد هذا الفصل قبل مونتسكيو بقرون. فالسلطة التشريعية في الإسلام تكمن في مصادر الشريعة بالذات أي في القرآن والسنة والإجماع. والسلطة التنفيذية تكمن في مؤسسة الخلافة. والخليفة لا يستطيع التشريع، بل إن سلطاته محصورة في اجراء وتنفيذ ما جاءت به الشريعة، لما فيه خير ومصلحة الجماعة الإسلامية. أما القضاء الإسلامي فقد تمتع باستقلال كبير، لأنه لا يستند في أحكامه على رأي القاضي بل على أحكام الشريعة الإسلامية.
وبالرغم من أن الإسلام جاء ديناً ودولة، إلا أن الخليفة لا يتمتع بسلطات دينية إلى جانب سلطاته السياسية. لقد أجمع فقهاء المسلمين أن للخليفة صلاحيات لا سلطات دينية. والسلطان الديني والسياسي في الإسلام لم يتحقق إلا مع النبي لضرورة قيام الرسالة. ولهذا فالحاكم في الإسلام هو ((حاكم مدني في جميع الوجوه)).
وعرف الإسلام الانتخاب والمعارضة قبل أن تعرفها الديمقراطية الحديثة. واجتماع السقيفة كان في حقيقته مؤتمراً سياسياً تحاور فيه المهاجرون والأنصار حواراً أشبه بحوار الأحزاب في ندوة برلمانية ديمقراطية. وخرج منه المؤتمرون بنتيجة أكدتها الأكثرية الساحقة. ولم يحاول ((الحزبان)) فرض آرائهما فرضاً، بل لجأ كل منهما إلى حجة الاقناع المنطقي لما فيه خير الأمة الإسلامية في انتقاء الرجل الذي يقود هذه الأمة بعد وفاة الرسول. ولم تختلف خطبة أبي بكر الأولى عن أي برنامج حزبي تعرضه حكومة برلمانية على الشعب فور تسلمها دفة السلطة ثم تطلب على أساس هذا البرنامج، ثقة المجلس النيابي.
لكن الديمقراطية الإسلامية وإن توافقت في بعض الوجوه مع الديمقراطية الحديثة إلا أنها تظل ديمقراطية اسلامية خاصة بالمجتمع الإسلامي وتتعارض في وجوه عديدة مع الديمقراطية الحديثة.
ـ الفرع الثاني: وجوه الخلاف بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الحديثة
إذا كانت الديمقراطية الحديثة تعني حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب، أي أنها تعطي المرتكز الأساسي للسيادة في الدولة للشعب وللأمة القائمة ضمن حدود جغرافية وقومية، فإن للأمة في الإسلام مفهوماً أعمّ واشمل. فالأمة الإسلامية هي مجموعة المؤمنين الذين اتخذوا الإسلام ديناً لهم. والإسلام هو الجنسية التي يحملها كل مسلم. فعبارة ((المواطنين)) التي ترتكز عليها الديمقراطية الحديثة لا وجود لها في الإسلام. والعبارة التي تملأ المجتمع الإسلامي هي عبارة ((المؤمنين)) بالإسلام. ذلك لأن الإسلام جاء عالمياً فلا تحده حدود قومية أو جغرافية. وقد جاء في القرآن الكريم: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً). وقد جاء فيه أيضاً: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وإذا كانت السيادة في القانون العام الحديث تكمن في الارادة العامة المنبثقة عن حكم الأكثرية الشعبية، وإذا كانت هذه السيادة هي سيادة مطلقة تعمل ما تشاء دون حدود أو قيود، فالسيادة بمعنى القدرة غير المحدودة هي شيء لا وجود له في الإسلام. لأنه يعتبر أن كل سلطان بشري هو سلطان محدود. والله وحده هو ذو السيادة المطلقة. وارادته وحدها تدير البشر جميعاً وتسيرهم. وقد أرسل للناس ارادته عبر رسوله. وبعد موت الرسول لم يترك الله الخليقة دون مرشد، بل أوكل هذه المسؤولية إلى الأمة الإسلامية قاطبة. فالسيادة في الإسلام تكمن إذن في الله وحده وقد فوضها إلى أمته جمعاء وليس إلى فرد أو هيئة محصورة. هي نوع من السيادة الإلهية ـ القومية، التي اختص بها المجتمع الإسلامي دون غيره من المجتمعات.
ونلاحظ أن أهداف الديمقراطية الحديثة هي أهداف دنيوية تسعى إلى إسعاد جماعة الناس المقيمة في إقليم محدد وفي إطار قومي. أما الديمقراطية الإسلامية فتهدف إلى تحقيق غايات زمنية وروحية في آن معاً. وهي في مداها تتجاوز الحدود الجغرافية والعنصرية. والغاية القصوى التي يهدف إليها الإسلام هي الآخرة. وما الحياة الدنيا سوى مطية لهذه الآخرة.
وإذا كانت سلطة الأمة في الديمقراطية الحديثة سلطة مطلقة، فسلطة الأمة الإسلامية مقيدة بنصوص الشرع ولا تستطيع تجاوزه في حال من الأحوال. وإذا كانت إرادة الأمة المعبر عنها بالإجماع هي أحد مصادر الشريعة الإسلامية إلا أن قدرة هذا الإجماع ترتكز على تفسير النص الوارد في القرآن والسنة لا إلى إيجاد نصوص جديدة تتعارض مع الكتاب وسنة الرسول. ويقول الدكتور محمد ضياء الدين الريس: ((إن السيادة في الإسلام هي سيادة مزدوجة ركناها (الأمة والشريعة) وهما مصدرا كل سلطة)). لكن سلطة الأمة تظل في جوهرها خاضعة للشريعة نصاً وروحاً.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تشدد على الحرية الفردية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فالإسلام سمح بالحرية ضمن نطاق الشريعة وحدها. وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تستطيع تغيير مبادئها بمجرد موافقة الأكثرية الشعبية على هذا التغيير، فالجماعة الإسلامية لا تستطيع تغيير المبادئ التي جاء بها الإسلام. ذلك بأن مبادئ الإسلام هي في جوهرها مبادئ سرمدية ثابتة وضعها الله وطبّقها رسوله ولا يستطيع أي بشر تغيير أو المساس بها. وإذا كان الاجتهاد يهدف إلى تطوير الشريعة الإسلامية لا إلى تعديلها، فقد توقف منذ القرن الرابع الهجري وغرق الإسلام بعد هذا القرن بدوامة الجمود. والجمود يناقض الديمقراطية الحديثة لأنها بمرتكزها الشعبي، تتطور وتنمو بتطور ونمو الشعوب.
وإذا كان الإسلام قد جاء بمبادئ مساواة سامية، إلا أنه ظلّ بعيداً عن المساواة في الديمقراطية الحديثة. فالمرأة، وإن رفع الإسلام شأنها الجاهلي، إلا أنه أبقاها دون الرجل منزلة. ولم يساوها به المساواة التي تنشدها الديمقراطية الحديثة. فالشريعة الإسلامية حددت للمرأة حقوقاً هي دون الحقوق التي حددتها الديمقراطية الحديثة. ولا تستطيع الجماعة الإسلامية تغيير هذه الحقوق دون خروجها على الشريعة. فحق المرأة في الميراث هو نصف حق الذكر. كما أن الإسلام أقر مبدأ تعدد الزوجات وإن فضّل الواحدة. أما الديمقراطية الحديثة فقد ساوت بين الرجل والمرأة في جميع الحقوق، في الميراث والزواج والسياسة والاقتصاد والدين.
والمساواة التي نادى بها الإسلام بين المسلمين وأهل الذمة ليست مساواة وفق المفهوم الحديث. فالمناصب الهامة في الدولة الإسلامية لا يستطيع غير المسلمين الوصول إليها. والدين الإسلامي شرط أساسي من الشروط الأخرى الواجب توافرها في أصحاب هذه المناصب. فلا ولاية لغير مسلم على مسلم. ولهذا، فمناصب الإمامة والوزارة والقضاء لا تجوز لغير المسلمين وإن جازت بعض الوظائف الثانوية لهم. لقد ميّز الإسلام بوضوح بين حقوق المسلم وحقوق غير المسلم في شؤون إدارة الدولة. ويبرر هذا المنحى التمييزي ضرورة المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية وعلى منعة وقوة هذه الأمة. وذلك لأن الشعور الديني حلّ محلّ العصبية القديمة لتحقيق هذه الوحدة. ولهذا فلا يجوز إشراك مَن ليس عضواً في الأمة الإسلامية في شؤون إدارتها العليا. أما الديمقراطية الحديثة فلا تؤمن بالحافز الديني بل بالعصبية القومية، وأفراد الشعب جميعهم متساوون في الواجبات والحقوق كافة، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية أو ميولهم السياسية.
والعدالة في الإسلام مقيدة بالشريعة الإسلامية أيضاً. وإذا كانت الديمقراطية الحديثة قد وضعت قوانينها الجزائية وفرضتها على الجميع إلا أنها تستطيع تعديل هذه القوانين متى تشاء. أما القانون الجنائي الإسلامي فهو محدد بنصوص القرآن تحديداً واضحاً. فالقاتل يقتل. والسارق تقطع يده والزاني يجلد. ونصوص صريحة وقطعية الدلالة كهذه النصوص لا يمكن الخروج منها. أما الديمقراطية الحديثة فهي حرّة في وضع قوانينها الجزائية وتطوير هذه القوانين وفق التطورات الاجتماعية والانسانية المختلفة. وإذا كانت الاتجاهات القانونية الحديثة في الديمقراطيات الغربية تميل إلى إلغاء عقوبة الاعدام للقاتل، فهل يمكن للشريعة الإسلامية الأخذ بهذه الاتجاهات التي تخالف النص الحرفي الواضح الدلالة والوارد في القرآن الكريم؟
وإذا كان نظام الحكم في الإسلام نظاماً شورياً فمن هم أهل الشورى؟ إنهم النخبة من القوم التي امتازت بعلو الكلمة وسداد الرأي والحكمة. لكن مَن هم الذين اختاروا هذه النخبة لتمثل الأمة؟ وهل انبثق الاختيار من القاعدة الشعبية كما هي الحال في الديمقراطية الحديثة أم أنه انبثق من القمة دون أن يكون هناك أي رأي لعامة الناس؟ صحيح أن أهل الحلّ والعقد كانوا يتمتعون بنوع من التمثيل الشعبي عند قيام الدولة الإسلامية، نظراً للعقلية القبلية التي كانت سائدة، لكن مبدأ الشورى القائم على أساس النخبة الاجتماعية التي تفرض نفسها على العامة، يبقى أمراً لا تستسيغه الديمقراطية الحديثة. ذلك أن الممثل في هذه الديمقراطية هو مَن يختاره الشعب اختياراً حراً لا مَن يفرض نفسه ممثلاً لهذا الشعب بالاختيار الطبيعي والتلقائي. وإذا كانت الشورى هي إحدى دعائم الحكم الإسلامي، لورود نص صريح عليها في سورتين من سور القرآن الكريم، فهل أنها ملزمة الاتباع؟ وهل أن الحاكم مقيد برأي مَن استشارهم، أكثرية كانوا أم أقلية، وهل أن المشورة واجبة في كل أمر؟
لقد أجاب الفقه الإسلامي على هذه الأسئلة. فقد قال بعضهم: إن الله أمر نبيه ((أن يشاورهم في الأمر فإن ذلك أعطف لهم وأذهب لأضغانهم وأطيب لنفوسهم فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم)). وقال آخرون: ((ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه لرأيهم، وإنما أراد أن يعلّمهم ما في المشاورة من الفضل لنقتدي به من بعده)). ويفسر الطبري الآية القرآنية: ((فإذا عزمت فتوكل على الله)) بعد قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر)، بأن معنى هذا الكلام هو أن يمضي النبي لما أمر الله به، وافق ذلك رأي أهل الشورى وما أشاروا به أو خالفه. فالمشورة في الإسلام، إذا كانت واجبة الإجراء شكلاً لما فيها من صفات الفضل، لكنها غير ملزمة وغير واجبة الاتباع من قبل النبي أو الخليفة الذي توافرت فيه الشروط اللازمة لتولي الرئاسة السياسية. فالاسلام ((لا يحتّم على الإمام (أي الحاكم) النزول عند رأي أهل الجماعة إذا لم يقتنع بصوابه)). ذلك بأنه (أي الحاكم) يظل وحده المسؤول الأول والأخير عن قراره أمام الله والأمة.
وإذا كان اجتماع السقيفة أول مؤتمر سياسي ديمقراطي في المجتمع الإسلامي، إلا أنه غلب عليه الطابع القبلي والبدائي الذي كان سائداً عند العرب قبل أن يعرفوا الإسلام. وهذا الاجتماع هو في حقيقة الأمر تعبير عن ديمقراطية بدائية تختلف كثيراً عن مؤتمرات الديمقراطية الحديثة. كما أننا نستطيع القول بأنه الاجتماع الديمقراطي الوحيد، الأول والأخير الذي عرفه المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول. وإذا كانت فكرة المعارضة قد برزت في هذا المؤتمر، إلا أن الإسلام لا يدعو إلى التعددية التي تنادي بها الديمقراطية الحديثة. بل على العكس، فهو ينادي بالوحدانية السياسية والدينية. زلهذا، فالإسلام لا يقبل إلا برئاسة واحدة وإمام واحد. وهو لا يعرف الرئاسة الجماعية التي تتبناها الديمقراطية الحديثة. وهذه الوحدانية التي ينادي بها الإسلام هي واجبة بالشرع كما هي واجبة بالعقل، وإن اعتبر بعضهم أن الإمامة غير واجبة لا بالشرع ولا بالعقل.
وإذا كان بعض الفقهاء المسلمين يعتبرون أن من حق الأمة الخروج على الإمام الذي أصابه جرح في عدالته أو فسق في تصرفه أو نقص في بدنه، وأنه من حقها عزله واستبداله بسواه، إلا أن البعض الآخر يرفض الخروج على الإمام كما يرفض العزل حفاظاً على وحد الأمة الإسلامية ومصلحتها العليا، وتطبيقاً للقاعدة الفقهي القائلة بأن ((الضرر الأكبر يزال بالضرر الأدنى)). أما في الديمقراطية الحديثة، فالأكثرية الشعبية أو البرلمانية تسقط أية حكومة وأي حاكم.
وإذا كان الإسلام قد فصل بين التشريع والتنفيذ، فإن هذا الفصل يختلف في جوهره عن الفصل الذي تنادي به الديمقراطية الحديثة. ذلك بأن الخليفة (السلطة التنفيذية) يخضع للشريعة الإسلامية (السلطة التشريعية) خضوعاً لا جدال فيه. فالشريعة في الإسلام هي مصدر كل سلطة وسلطان. ولا يوازن الحكم الإسلامي بين التشريع والتنفيذ كما تنادي بذلك الديمقراطية الحديثة.
وبالرغم من تمتع القضاء الإسلامي بنوع من الاستقلال والحرية، إلا أنه ظلّ تابعاً للسلطة التنفيذية وجزءاً لا يتجزأ منها. فالإسلام لا يفصل أيضاً بين التنفيذ والقضاء على عكس ما تنادي به الديمقراطية الحديثة.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تحدد مدة زمنية معينة لتولي الحكّام وظائفهم، فالإسلام لا يعرف فكرة التحديد الزمني لولاية الحكام. فمتى تمت المبايعة لخليفة بقيت الرئاسة له ما زال متمماً لشروط الولاية. فمدة الولاية تحددها الصفات الذاتية التي فيه. وقد يبقى الخليفة طوال حياته متمتعاً بالولاية. أما الديمقراطية الحديثة فلا تعرف حاكماً فعلياً للشعب يحكمه مدى الحياة.
وتقوم الديمقراطية على مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة، أما الإسلام فقد جاء ديناً ودولة في آن معاً. ولا يمكن للديمقراطية الحديثة أن تعيش في مجتمع لا يؤمن بضرورة هذا الفصل. ذلك بأن الغرب لم يحقق ديمقراطيته إلا بعد أن تخلّص من نفوذ رجال الكنيسة وبعد أن أصبح ((ما لقيصر لقيصر وما لله لله))، وبعد أن تقوقع الباباوات في الفاتيكان والمطارنة والقسس في أديرتهم.
وبالرغم من أن الإسلام جاء ديناً ودولة، إلا أن الخليفة لا يتمتع بسلطات دينية إلى جانب سلطاته السياسية. لقد أجمع فقهاء المسلمين أن للخليفة صلاحيات لا سلطات دينية. والسلطان الديني والسياسي في الإسلام لم يتحقق إلا مع النبي لضرورة قيام الرسالة. ولهذا فالحاكم في الإسلام هو ((حاكم مدني في جميع الوجوه)).
وعرف الإسلام الانتخاب والمعارضة قبل أن تعرفها الديمقراطية الحديثة. واجتماع السقيفة كان في حقيقته مؤتمراً سياسياً تحاور فيه المهاجرون والأنصار حواراً أشبه بحوار الأحزاب في ندوة برلمانية ديمقراطية. وخرج منه المؤتمرون بنتيجة أكدتها الأكثرية الساحقة. ولم يحاول ((الحزبان)) فرض آرائهما فرضاً، بل لجأ كل منهما إلى حجة الاقناع المنطقي لما فيه خير الأمة الإسلامية في انتقاء الرجل الذي يقود هذه الأمة بعد وفاة الرسول. ولم تختلف خطبة أبي بكر الأولى عن أي برنامج حزبي تعرضه حكومة برلمانية على الشعب فور تسلمها دفة السلطة ثم تطلب على أساس هذا البرنامج، ثقة المجلس النيابي.
لكن الديمقراطية الإسلامية وإن توافقت في بعض الوجوه مع الديمقراطية الحديثة إلا أنها تظل ديمقراطية اسلامية خاصة بالمجتمع الإسلامي وتتعارض في وجوه عديدة مع الديمقراطية الحديثة.
ـ الفرع الثاني: وجوه الخلاف بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الحديثة
إذا كانت الديمقراطية الحديثة تعني حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب، أي أنها تعطي المرتكز الأساسي للسيادة في الدولة للشعب وللأمة القائمة ضمن حدود جغرافية وقومية، فإن للأمة في الإسلام مفهوماً أعمّ واشمل. فالأمة الإسلامية هي مجموعة المؤمنين الذين اتخذوا الإسلام ديناً لهم. والإسلام هو الجنسية التي يحملها كل مسلم. فعبارة ((المواطنين)) التي ترتكز عليها الديمقراطية الحديثة لا وجود لها في الإسلام. والعبارة التي تملأ المجتمع الإسلامي هي عبارة ((المؤمنين)) بالإسلام. ذلك لأن الإسلام جاء عالمياً فلا تحده حدود قومية أو جغرافية. وقد جاء في القرآن الكريم: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً). وقد جاء فيه أيضاً: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وإذا كانت السيادة في القانون العام الحديث تكمن في الارادة العامة المنبثقة عن حكم الأكثرية الشعبية، وإذا كانت هذه السيادة هي سيادة مطلقة تعمل ما تشاء دون حدود أو قيود، فالسيادة بمعنى القدرة غير المحدودة هي شيء لا وجود له في الإسلام. لأنه يعتبر أن كل سلطان بشري هو سلطان محدود. والله وحده هو ذو السيادة المطلقة. وارادته وحدها تدير البشر جميعاً وتسيرهم. وقد أرسل للناس ارادته عبر رسوله. وبعد موت الرسول لم يترك الله الخليقة دون مرشد، بل أوكل هذه المسؤولية إلى الأمة الإسلامية قاطبة. فالسيادة في الإسلام تكمن إذن في الله وحده وقد فوضها إلى أمته جمعاء وليس إلى فرد أو هيئة محصورة. هي نوع من السيادة الإلهية ـ القومية، التي اختص بها المجتمع الإسلامي دون غيره من المجتمعات.
ونلاحظ أن أهداف الديمقراطية الحديثة هي أهداف دنيوية تسعى إلى إسعاد جماعة الناس المقيمة في إقليم محدد وفي إطار قومي. أما الديمقراطية الإسلامية فتهدف إلى تحقيق غايات زمنية وروحية في آن معاً. وهي في مداها تتجاوز الحدود الجغرافية والعنصرية. والغاية القصوى التي يهدف إليها الإسلام هي الآخرة. وما الحياة الدنيا سوى مطية لهذه الآخرة.
وإذا كانت سلطة الأمة في الديمقراطية الحديثة سلطة مطلقة، فسلطة الأمة الإسلامية مقيدة بنصوص الشرع ولا تستطيع تجاوزه في حال من الأحوال. وإذا كانت إرادة الأمة المعبر عنها بالإجماع هي أحد مصادر الشريعة الإسلامية إلا أن قدرة هذا الإجماع ترتكز على تفسير النص الوارد في القرآن والسنة لا إلى إيجاد نصوص جديدة تتعارض مع الكتاب وسنة الرسول. ويقول الدكتور محمد ضياء الدين الريس: ((إن السيادة في الإسلام هي سيادة مزدوجة ركناها (الأمة والشريعة) وهما مصدرا كل سلطة)). لكن سلطة الأمة تظل في جوهرها خاضعة للشريعة نصاً وروحاً.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تشدد على الحرية الفردية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فالإسلام سمح بالحرية ضمن نطاق الشريعة وحدها. وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تستطيع تغيير مبادئها بمجرد موافقة الأكثرية الشعبية على هذا التغيير، فالجماعة الإسلامية لا تستطيع تغيير المبادئ التي جاء بها الإسلام. ذلك بأن مبادئ الإسلام هي في جوهرها مبادئ سرمدية ثابتة وضعها الله وطبّقها رسوله ولا يستطيع أي بشر تغيير أو المساس بها. وإذا كان الاجتهاد يهدف إلى تطوير الشريعة الإسلامية لا إلى تعديلها، فقد توقف منذ القرن الرابع الهجري وغرق الإسلام بعد هذا القرن بدوامة الجمود. والجمود يناقض الديمقراطية الحديثة لأنها بمرتكزها الشعبي، تتطور وتنمو بتطور ونمو الشعوب.
وإذا كان الإسلام قد جاء بمبادئ مساواة سامية، إلا أنه ظلّ بعيداً عن المساواة في الديمقراطية الحديثة. فالمرأة، وإن رفع الإسلام شأنها الجاهلي، إلا أنه أبقاها دون الرجل منزلة. ولم يساوها به المساواة التي تنشدها الديمقراطية الحديثة. فالشريعة الإسلامية حددت للمرأة حقوقاً هي دون الحقوق التي حددتها الديمقراطية الحديثة. ولا تستطيع الجماعة الإسلامية تغيير هذه الحقوق دون خروجها على الشريعة. فحق المرأة في الميراث هو نصف حق الذكر. كما أن الإسلام أقر مبدأ تعدد الزوجات وإن فضّل الواحدة. أما الديمقراطية الحديثة فقد ساوت بين الرجل والمرأة في جميع الحقوق، في الميراث والزواج والسياسة والاقتصاد والدين.
والمساواة التي نادى بها الإسلام بين المسلمين وأهل الذمة ليست مساواة وفق المفهوم الحديث. فالمناصب الهامة في الدولة الإسلامية لا يستطيع غير المسلمين الوصول إليها. والدين الإسلامي شرط أساسي من الشروط الأخرى الواجب توافرها في أصحاب هذه المناصب. فلا ولاية لغير مسلم على مسلم. ولهذا، فمناصب الإمامة والوزارة والقضاء لا تجوز لغير المسلمين وإن جازت بعض الوظائف الثانوية لهم. لقد ميّز الإسلام بوضوح بين حقوق المسلم وحقوق غير المسلم في شؤون إدارة الدولة. ويبرر هذا المنحى التمييزي ضرورة المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية وعلى منعة وقوة هذه الأمة. وذلك لأن الشعور الديني حلّ محلّ العصبية القديمة لتحقيق هذه الوحدة. ولهذا فلا يجوز إشراك مَن ليس عضواً في الأمة الإسلامية في شؤون إدارتها العليا. أما الديمقراطية الحديثة فلا تؤمن بالحافز الديني بل بالعصبية القومية، وأفراد الشعب جميعهم متساوون في الواجبات والحقوق كافة، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية أو ميولهم السياسية.
والعدالة في الإسلام مقيدة بالشريعة الإسلامية أيضاً. وإذا كانت الديمقراطية الحديثة قد وضعت قوانينها الجزائية وفرضتها على الجميع إلا أنها تستطيع تعديل هذه القوانين متى تشاء. أما القانون الجنائي الإسلامي فهو محدد بنصوص القرآن تحديداً واضحاً. فالقاتل يقتل. والسارق تقطع يده والزاني يجلد. ونصوص صريحة وقطعية الدلالة كهذه النصوص لا يمكن الخروج منها. أما الديمقراطية الحديثة فهي حرّة في وضع قوانينها الجزائية وتطوير هذه القوانين وفق التطورات الاجتماعية والانسانية المختلفة. وإذا كانت الاتجاهات القانونية الحديثة في الديمقراطيات الغربية تميل إلى إلغاء عقوبة الاعدام للقاتل، فهل يمكن للشريعة الإسلامية الأخذ بهذه الاتجاهات التي تخالف النص الحرفي الواضح الدلالة والوارد في القرآن الكريم؟
وإذا كان نظام الحكم في الإسلام نظاماً شورياً فمن هم أهل الشورى؟ إنهم النخبة من القوم التي امتازت بعلو الكلمة وسداد الرأي والحكمة. لكن مَن هم الذين اختاروا هذه النخبة لتمثل الأمة؟ وهل انبثق الاختيار من القاعدة الشعبية كما هي الحال في الديمقراطية الحديثة أم أنه انبثق من القمة دون أن يكون هناك أي رأي لعامة الناس؟ صحيح أن أهل الحلّ والعقد كانوا يتمتعون بنوع من التمثيل الشعبي عند قيام الدولة الإسلامية، نظراً للعقلية القبلية التي كانت سائدة، لكن مبدأ الشورى القائم على أساس النخبة الاجتماعية التي تفرض نفسها على العامة، يبقى أمراً لا تستسيغه الديمقراطية الحديثة. ذلك أن الممثل في هذه الديمقراطية هو مَن يختاره الشعب اختياراً حراً لا مَن يفرض نفسه ممثلاً لهذا الشعب بالاختيار الطبيعي والتلقائي. وإذا كانت الشورى هي إحدى دعائم الحكم الإسلامي، لورود نص صريح عليها في سورتين من سور القرآن الكريم، فهل أنها ملزمة الاتباع؟ وهل أن الحاكم مقيد برأي مَن استشارهم، أكثرية كانوا أم أقلية، وهل أن المشورة واجبة في كل أمر؟
لقد أجاب الفقه الإسلامي على هذه الأسئلة. فقد قال بعضهم: إن الله أمر نبيه ((أن يشاورهم في الأمر فإن ذلك أعطف لهم وأذهب لأضغانهم وأطيب لنفوسهم فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم)). وقال آخرون: ((ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه لرأيهم، وإنما أراد أن يعلّمهم ما في المشاورة من الفضل لنقتدي به من بعده)). ويفسر الطبري الآية القرآنية: ((فإذا عزمت فتوكل على الله)) بعد قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر)، بأن معنى هذا الكلام هو أن يمضي النبي لما أمر الله به، وافق ذلك رأي أهل الشورى وما أشاروا به أو خالفه. فالمشورة في الإسلام، إذا كانت واجبة الإجراء شكلاً لما فيها من صفات الفضل، لكنها غير ملزمة وغير واجبة الاتباع من قبل النبي أو الخليفة الذي توافرت فيه الشروط اللازمة لتولي الرئاسة السياسية. فالاسلام ((لا يحتّم على الإمام (أي الحاكم) النزول عند رأي أهل الجماعة إذا لم يقتنع بصوابه)). ذلك بأنه (أي الحاكم) يظل وحده المسؤول الأول والأخير عن قراره أمام الله والأمة.
وإذا كان اجتماع السقيفة أول مؤتمر سياسي ديمقراطي في المجتمع الإسلامي، إلا أنه غلب عليه الطابع القبلي والبدائي الذي كان سائداً عند العرب قبل أن يعرفوا الإسلام. وهذا الاجتماع هو في حقيقة الأمر تعبير عن ديمقراطية بدائية تختلف كثيراً عن مؤتمرات الديمقراطية الحديثة. كما أننا نستطيع القول بأنه الاجتماع الديمقراطي الوحيد، الأول والأخير الذي عرفه المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول. وإذا كانت فكرة المعارضة قد برزت في هذا المؤتمر، إلا أن الإسلام لا يدعو إلى التعددية التي تنادي بها الديمقراطية الحديثة. بل على العكس، فهو ينادي بالوحدانية السياسية والدينية. زلهذا، فالإسلام لا يقبل إلا برئاسة واحدة وإمام واحد. وهو لا يعرف الرئاسة الجماعية التي تتبناها الديمقراطية الحديثة. وهذه الوحدانية التي ينادي بها الإسلام هي واجبة بالشرع كما هي واجبة بالعقل، وإن اعتبر بعضهم أن الإمامة غير واجبة لا بالشرع ولا بالعقل.
وإذا كان بعض الفقهاء المسلمين يعتبرون أن من حق الأمة الخروج على الإمام الذي أصابه جرح في عدالته أو فسق في تصرفه أو نقص في بدنه، وأنه من حقها عزله واستبداله بسواه، إلا أن البعض الآخر يرفض الخروج على الإمام كما يرفض العزل حفاظاً على وحد الأمة الإسلامية ومصلحتها العليا، وتطبيقاً للقاعدة الفقهي القائلة بأن ((الضرر الأكبر يزال بالضرر الأدنى)). أما في الديمقراطية الحديثة، فالأكثرية الشعبية أو البرلمانية تسقط أية حكومة وأي حاكم.
وإذا كان الإسلام قد فصل بين التشريع والتنفيذ، فإن هذا الفصل يختلف في جوهره عن الفصل الذي تنادي به الديمقراطية الحديثة. ذلك بأن الخليفة (السلطة التنفيذية) يخضع للشريعة الإسلامية (السلطة التشريعية) خضوعاً لا جدال فيه. فالشريعة في الإسلام هي مصدر كل سلطة وسلطان. ولا يوازن الحكم الإسلامي بين التشريع والتنفيذ كما تنادي بذلك الديمقراطية الحديثة.
وبالرغم من تمتع القضاء الإسلامي بنوع من الاستقلال والحرية، إلا أنه ظلّ تابعاً للسلطة التنفيذية وجزءاً لا يتجزأ منها. فالإسلام لا يفصل أيضاً بين التنفيذ والقضاء على عكس ما تنادي به الديمقراطية الحديثة.
وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تحدد مدة زمنية معينة لتولي الحكّام وظائفهم، فالإسلام لا يعرف فكرة التحديد الزمني لولاية الحكام. فمتى تمت المبايعة لخليفة بقيت الرئاسة له ما زال متمماً لشروط الولاية. فمدة الولاية تحددها الصفات الذاتية التي فيه. وقد يبقى الخليفة طوال حياته متمتعاً بالولاية. أما الديمقراطية الحديثة فلا تعرف حاكماً فعلياً للشعب يحكمه مدى الحياة.
وتقوم الديمقراطية على مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة، أما الإسلام فقد جاء ديناً ودولة في آن معاً. ولا يمكن للديمقراطية الحديثة أن تعيش في مجتمع لا يؤمن بضرورة هذا الفصل. ذلك بأن الغرب لم يحقق ديمقراطيته إلا بعد أن تخلّص من نفوذ رجال الكنيسة وبعد أن أصبح ((ما لقيصر لقيصر وما لله لله))، وبعد أن تقوقع الباباوات في الفاتيكان والمطارنة والقسس في أديرتهم.