إدراك الواقع يتطلب الإلتزام بتحليل محتواه, فالمسؤولية تتطلب أن يكون الإنسان إنساناً ملتزماً بالمعطيات الدالة على أهمية الحراك الاجتماعي وتفعيل الوعي بما ينسجم مع المتغيرات العالمية المرتبطة بوحدة المصير , فالإنسان الملتزم بالهموم والمطالب الأساسية لإحداث نقلة متوافقة مع المتغيرات الجارية في بنية العالم يدرك تماماً أهمية نشر ثقافة مؤثرة في إحراز التقدم اللازم والضروري لمجتمع التصق به وعاش بمعينته ومصنف من ارتباطه بالانتماء إليه , عليه الابتعاد عن المواقف المعادية لكل حركة فكرية وثقافية وكل حركة اقتصادية واجتماعية تتفق مع نظام التجديد السياسي والانسجام الإداري وسيادة المؤسسات وفقاً لما يفرضه منطق العصر الحديث . لن تغيير البنى المؤدلجة ضرورة ملحة لأنها تفتقر لنظام تجديد حقيقي وهي غير ميالة لتغيير منظورها عن الواقع المتجدد خارج إطار برامجها، فالعقلية المخادعة والمخالفة للوجود الحر ولآمن والمخدوعة بأوهام مترفة بالخجل والهروب من المواجهة تظل ملتصقة بالجمود القابع في صدور الحكام خوفاً من التبدل المؤثر على مراكزهم فيحرصون على الاتفاق غير الموثق والعقد الموثق بالتخاطر العقلي المرفق بالدعم المتبادل لجميع الأضاليل المنشورة مع الوهم المرتبط بوجودهم , لتهميش الثقافة وإبعادها عن القضايا الأساسية والمهمة لأن تجهيل الواقع السياسي يطرح حركة مخالفة ومعادية للتطور بما يؤثر وبشكل مدروس على جميع الفعاليات الملتزمة بالمهام المطروحة أمام تطور المجتمع لمواكبة المتغيرات الجارية في بنية العالم .
لا يهم في الثقافة الفاعلة من يقف مع أمريكا ضد روسيا ولا مع روسيا ضد الصين ولا مع الصين ضد اليابان ولا مع اليابان ضد أُروبا ولا مع أوربا ضد العرب ولا مع العرب ضد العالم ,المهم في الثقافة الملتزمة والإنسانية أن ترصد الأخطاء والانحرافات في مسيرة التطورات الإنسانية وتوضح أخطارها على بنية الشعوب وأن تدرك الأهمية البالغة الدقة في إعطاء الثقافة البديلة والإنسانية ، وأن تشرح التطورات المهمة والعمل لتعميمها في نفسية العالم . فالإنسان إما أن يكون مخلصاً لوجوده أو معادياً لهذا الوجود , إنها ثنائية قائمة ومتحركة مع المتغيرات شأنها شأن الذكورة والأنوثة وشأن الزواج والطلاق والسالب والموجب والحياة والموت , إنه واقع مفهوم بدون أن نحدد الفهم ومعروف بدون أن نحدد المعرفة . الثقافة تعمل في واقع يعيش في قلب التطور البشري هي القدرة المولدة للتحرر تكبر مع التحرر نفسه , وكل إعاقة لها تنزلق لتحقيق المآسي عند الشعوب والمراهنة على وقف حركة التطور أو التغيير المتعمد لمجراه وتوليد انحرافات هدامة في نظام العقل المرافق لها , فالإنكار المتعمد للحقوق والحريات يجري مع استمرار الخلط بين المصالح والمواقف وفق تقديرات غير موفقة في الحفاظ على المألوف .
فعندما تتأكد الشعوب بالتجربة القاطعة بأن التفافها حول فكر أو نظام لم يخلق لها غير المصاعب ستنقلب عليه بشكل يخالف كل التوقعات , فكل انهيار له حدود للتوقف ليبدأ التمركز من جديد وبالتالي فإن احتكار البناء الإنساني عمل هدام يؤدي إلى نسف البناء من أساسه وإعادة البناء بما يتفق ومواصفات العصر . المهم أن يتحرك الواقع الاجتماعي مع نمو الحياة الإنسانية لذا ينبغي فصل الفكر المبدع عن السلطة والثقافة عن السياسة ,فالتحول المربك للواقع يتزامن مع تحول الفكر والمفكرين إلى لوحات إعلانية تقوم بفعل الدعاية الإعلانية للسلطة والثقافة تتحول إلى تبريرات للسياسة القائمة أو تنظيرات هشة لمواقف متقلبة تلغي مصداقية الوعي في إحراز التطور الحقيقي , فالسياسي يهمه تحقيق برامج ومصالح فئة معينة من خلال حشد الوعي الاجتماعي في البرامج المطروحة متجاهلاً المؤثرات الأخرى في بنية المجتمع عندها تظهر الأفكار المخالفة له وكأنها معادية لهذه البرامج فيلجأ إلى الإقصاء المبرمج لخلق سلطة قادرة على التلاعب بالواقع السياسي وتوجيهه وفق مصالح مدروسة تعطل البواعث الحقيقية لكل توجه مخالف لتطلعاتها فيتراجع الوجدان الوطني وينتشر الفساد والتفكك في جميع الأجهزة المرافقة للوجود السياسي , فتغيب المسؤولية وينتشر الخراب ليبدأ الوعي تكوين نفسه من جديد.