كثيرة هي التساؤلات حول الوضع الحالي في الوطن العربي، وكثيرة هي التداخلات والمتشابكات داخل حقل الخصوصيات الجغرافية والسياسية، وكذلك التاريخية في شكلها الخاص. لكن وبما أن الواقع يتكلم بلسان حاله، فلا يمكننا إلا أن نستمع ونصغي إلى كل كلمة تقولها أيامه. فما يحدث وما سيحدث يعد منعطفا تاريخيا في الجغرافيا السياسية، إن لم نقل الإنسانية... فالعالم العربي اليوم يعيد صياغة أنظمته من داخل نسقه الشمولي، ويصلح تركيبته انطلاقا من الامتداد الأفقي الجزئي لتشمل بناءه العمودي الشمولي. مما يساعده ذلك في انتشار عدوى التغيير وكذلك الرغبة في تبني الإصلاح.
نجد أمامنا عدة محددات منها التاريخية والنفسية والسوسيو-اقتصادية... بفروعها وبتداخل مقومات الأثر والمسبب فيها بغية الارتكاز على الشكل البانورامي لصياغة الأحداث داخل نطاقها الزمني. أي أننا لا نتقيد بالحاضر فقط، بل إننا نرتهن في ذلك إلى ثلاثية الماضي-الحاضر-المستقبل. لكن ونحن على عتبات التغيير،لابد لنا من نسأل عن محركات هذه الهبات الشعبية الراهنة وعن جوهر هذا الحَـراك الاجتماعي والسياسي في الوقت الذي تتضارب فيه آراء القريب والبعيد حول هذا الحدث. فهل يمكن اعتبار هذه الهبات الشعبية الراهنة امتداد مرحلي لأحد المشاريع الفكرية ؟ أم انها شكل متجدد لمفهوم إعادة البناء من داخل النظم القائمة ؟ أم أن كل ذلك لا يمت بصلة بأي مشروع في شكله التنظيمي السياسي ، وإنما هو خليط منظومة من الأفكار؟
هناك عدة أسباب وعوامل لما تشهده المنطقة العربية من حراك، قد يكون بنيويا، ميداني في الساحة السياسية، تتمحور جلها في طرفي الصدام الرئيسي، ألا وهو الشعب والحاكم (نظام تسيير الحكم). هذه الأسباب ما هي إلا تعرية لحلقة الوصل التي تربط هذين الطرفين، وسبرا لطبيعة العلاقة بينهما.
الاستعمار الاستبدادي :
بعد أن انتهت الشعوب العربية، بفضل مقاومتها وصبرها، من صراعاتها الخارجية مع المستعمر الأجنبي دخلت في مرحلة جديدة عرفت بالاستقلال. كانت امتدادا لفترة ما بعد الاستعمار، لم تجد هذه الشعوب بعد ذلك بُـدا من انتظار تحقيق أمنها وآمالها مسلمة بذلك أمرها لحكامها... لكن، وبعد طول انتظار، اكتشفت أنها لم تستقل إلا بأعلامها وشعاراتها... وان مرحلتها تلك يمكن تسميتها، حسب عبد الكريم الخطابي ، بمرحلة الإحتقلال (الاحتلال-الاستقلال)، التي ظهر فيها اتساع الفجوة بين الشعوب والحكام على امتداد هذه الفترة. ظهرت كشكل استعماري جديد تمثل في غياب الحوار الداخلي مع الشعب من جهة وداخل الشعب من جهة أخرى، أي وجود تضارب بين الدولة والمجتمع المدني. كما أن تبعية النظام الحاكم لنظام أخر(معتقد، مصلحة خاصة، أجندات أجنبية،...) تزيد الفجوة اتساعا، حيث تؤدي إلى تمركزه حول ذاته إذ يعتبرها مركزا ومصدرا لكل شيء، مما يقود إلى انتفاء الشعب الذي ينزوي هو الآخر إلى ركنه ينتظر آملا مبادرة الحاكم فيتنازل عن دوره في دفعه نحو الخير.
التعريف "الكـواكبي" للاستبداد يتزامن مع نظام الحكم في وصفه الدقيق، بحيث عرفه، أي الاستبداد، على أنه "تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة... وبأنه "صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً ". الشيء الذي فتح المجال أمام التسلطية الهرمية لتسري كنظام اعتيادي في الذهنية الشعبوية، أو كضرورة أمنية.
تولـَّد بهذه الأشكال وغيرها لدى المواطن شعور وإحساس بالاهانة والمذلة، فذاق بها ذرعا بعدما انسل أثرها إلى ابسط تحركاته اليومية، فانتفض ناقما من اجل كرامته وحريته كنتيجة لبلوغ الحد الأقصى لأزماته الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية المدنية... وحتى النفسية. خلف هذا بالطبع لدى الفضلاء في الساحة السياسية ضرورة تبني مشروع إصلاحي أو برنامج سياسي قاعدته المجتمع (الحقيقي وليس الافتراضي). بدل إلقاء اللوم على الأحزاب القائمة بالتماسها التقرب من الحاكم وترك الشعب للشعب.
الوعي العربي بالديمقراطية :
لم يكن لينجح العقل العربي في اكتشاف حقه في كرامته لولا اكتمال صورة الديمقراطية لديه كآلية. فبعد تنزيلها من برج النخبوية إلى الأرضية الشعبية تم تداولها كمرادف للحرية وضدا على كل أنماط الاستبداد.
كما لم تسمح ظرفية الاغتراب، باعتبارها تباعد بين جهاز الدولة والمجتمع، بانتعاشة حقيقية لفكرة الديمقراطية. فالدولة بتعاملها القمعي، في تنظيم المجتمع وتأمين الحريات الفردية والجماعية عند الممارسة السياسية، كانت تصنع لنفسها ديمقراطية وهمية أو استثنائية مؤقتة، زادت، مما لا شك فيه، من حدة الأزمة الهرمية للدولة بسبب هذا الاغتراب.
لا يمكننا أن نحصر، بشكل جازم، الأحداث الراهنة بأنها مشروع أو امتداد لمشاريع بقيت لعقود حبيسة النظرية أو تم تحديث أسسها. هذه المشاريع عرفت في فترة من الزمن بانقساماتها واندفاعها نحو التصدر، مما ساعد في تشتت التركيز على متطلبات المرحلة وقابليتها لاستيعاب التجريب أو الانخراط فيها. فوقع المواطن البسيط عندئذ في شطط "اللامبالاة الفكرية" مبتعدا عن فكرة الديمقراطية السياسية.
لكن وجب الإشادة الى دور بعض التيارات والنخب التي ساهمت، باختيارها للديمقراطية في ترسيخ مفهوم الديمقراطية في تبسيط استعمالاتها اليومية، لتصير بعد ذلك هاجسا شعبيا ودربا من دروب الحرية. ساهمت فيه أيضا الوسائط التقنية بنقل النموذج الغربي الديمقراطي كشكل مساعد وأساسي للتقدم والتطور التنموي، لاسيما وان البنية العامة للاقتصاد العربي تعرى شكله ومضمونه داخل النظام الاقتصادي العالمي... وللمواطن العربي حزن دفين تجاه التقدم الغربي حضاريا وعلميا. الشيء الذي يجعل لمسألة التقرب من الحياة السياسية حضور في فكر المواطن العربي.
في ظل الظروف التي تعيشها الأمة العربية جمعاء، تكثر معها مخاوف وسيناريوهات تملأ عقل المواطن العربي، في الوقت الذي تسكنه متمنيات وأحلام لا يستطيع أن يصارح بها نفسه وان يفكر بما يجب وما لا يجب. كما لا يزال الأثر التاريخي يسري مفعوله في بعض العقليات الواعية. فما عاشته البقاع العربية في فترات غابرة من صدام و صراعات داخلية وخارجية جعلت من انتصاراته وفشله روتينا اعتياديا، طرحت فيه مساعي تحققت بعضها والأخرى لا تزال حبيسة النظرية، بعدما قوبلت كل المشاريع (الفكرية منها والاقتصادية الاجتماعية) بطبيعة النظم العربية وبسياستها التي لم ترقى بعد إلى آمال شعوبها. لكن الذي يمكننا أن نجمله في هذه الأوقات أن ذلك نتيجة لفساد مرحلة أدت لقيام ثورة.
لكن إصباغ صفة الثورية على الشعوب العربية التي تطالب بالديمقراطية أو بالتحرر من الاستبداد والاحتقار السياسي في الصورة المجتمعية الحديثة قد يكون قصرا في الرؤية. والمجال لا يسمح بالدخول في تفاصيل مقاربة الثورة ومدى ارتباطها بالعنف وبوتوبيا التغيير، ففي الوقت الراهن لابد أن نشير إلى ضرورة صياغة مفهوم يحد من عبئ الماضي وثقله الزمني على البناء المفاهيمي. وإخفاق الثورة في فهم ذاتها وتاريخها ومجتمعها الخاص بعيدا عن السياق الواقعي قاد إلى تبلورها إلى فكرة إعادة البناء، باعتبارها عملية للتغيير قابلة للتحقق لا كإمكانية مجردة ومثالية. وما نعيشه اليوم هو إعادة البناء يحيل إلى احترام معطيات وقائع التاريخ والتفكير في التغيير السلمي، باعتباره تصور منظومي يأتي بصورة شمولية، انطلاقا من الحاجة إلى هذه الوقائع لا إلى نفيها. لذا فالتغيير آت بتوفر الشروط الموضوعية وقربها من نضج العوامل الذاتية الواقعية للمشروع العربي.