في تسعينيات القرن الماضي، وفي غمرة الأجواء المشحونة بالتوتر السياسي، لما أحكم الطغيان حصاره على شعبَ تونس، تخلى شقٌّ واسع من المثقّفين عن أدوارهم وانخرطوا في آلة القمع الغاشمة: فكان أن كوفئ البعض منهم بمهام الوزارات والسفارات، وآخرون بالتصعيد إلى البرلمان، وغيرهم بتوكيلهم شأن المنابر العلمية والإعلامية والأكاديمية، على أن ينضم من قَبِل العطية إلى جوقة العمل من أجل اجتثاث كل نفس ديني وعروبي ووطني من التونسيين، بدعوى قطع دابر الإسلاميين؛ ولكن مقابل ما أُجزل للمثقفين العائمين من وافر العطاء، انتزع منهم وكيل نعمتهم مبادئَهم، وصادر فيهم ما تبقى من رجولتهم.
مما حولهم إلى خصيان في حضرة السلطان، وإلى كلاب حراسة شرسة تذود عن حياضه. قلّة قليلة من الطائفة العالمة، التي تربينا على تقديسها وإجلالها، امتزج لديها العمل الثقافي بالنبل الأخلاقي خلال تلك الفتنة، وتعففت عن الإغراءات ولم تأبه للتهديدات، كذلك الرسام الباسل الذي لقيته هائما على وجهه، قبيل رحيلي إلى إيطاليا؛ بعد أن اطمأن إلي بثني لوعته من العسس الذين صادروا لوحته، لأنه رسم سبعة ذئاب تنهش ضبيا. فأوحى لهم الرسم ما أوحى حول "السابع من نوفمبر" وما كانوا يُجلّون.
أثناء تلك المحنة التي ألمّت بالمثقفين، من لم يلذ بالتقيّة لاذ بالصمت، ظنا أنه الخندق الأخير الذي تبقّى؛ لكن سرعان ما تبين أن الصمت ليس ملجأ فهو مقام واهن كبيت العنكبوت. فراودت الهجرة وقتئذ كثيرا من المثقفين والإعلاميين والأكاديميين، إلا من أقعدته الحيلة وقنع بما رماه الدهر. كنت شابا في مقتبل العمر حينها، تركت تونس ويممت وجهي شطر روما، عقب عشر عجاف مُنعت خلالها حق العمل وحق السفر، لكن "قلبي كان على وطني".
ذلك أني لا أجد توصيفا لكربلاء المثقّف التونسي، الذي أبى أن ينحاز إلى صف الرذيلة، أبلغ من قول المسيح (ع) في إنجيله: "سيُخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله".
ما زلت على رأيي أن تورط الثقافة في حبال الدكتاتورية في تونس كان من نسج المثقف وصنعه، لأن طاغية تونس الفار أعجز عن المكر والدهاء بمفرده. قليل من لا يعرف، من القاصي والداني، أن سيء الذكر كان وافر البلادة شحيح النباهة، وقد نلتمس له عذرا في ذلك لبالغ انهماكه في صبغ فروة شعره والسهر على اصطناع وسامته، ولكن لا عذر للروائيين والقانونيين والكتّاب والصحافيين وفقهاء الدين، الذين زينوا له صنعه، فحق ذلك القول: أعداؤك هم أهل بيتك!
ونحن ننفض غبار السنين عنا، نفطن كل يوم أن الثقافة الموبوءة التي بُثّت فينا طيلة عقود، لم تذهب أدراج الرياح مع انهيار النظام الآفل، بل عششت في قلوبنا حتى حورت أفهامنا وبدّلت أذواقنا. خلّفَ فاسد الأجواء مرضا عضالا استحكم بوعي المثقف ولا وعيه، متمثلا في صراع يحسبه المرء أبديا بين الديني واللاديني، والحقيقة أن الصراع في الأرض وليس بين السماء والأرض؛ وبالمثل خلّف فاسد الأجواء وهما موغلا لدى المثقف أنه في قلب الثقافة الكونية والحال أنه على هامشها، جراء الاغتراب الفكري الذي بات مستحكما بعقله.
خمسون عاما ونيفا وإعلامنا المصادَر يضخّ عقلنا المحاصَر ببذيء الكلام وسافل القول، مما أورثنا زعزعة في الهوية وعجمة في اللسان. وما زالت الصحافة الباهتة مستمرة في صنيعها، تُذهب العقل وتُميت الروح وتصنع البهتان، حتى بعد الثورة، لذلك كلما تصفحتُ تلك الصحف، أتأكد أن الثورة الثقافية ما زالت مؤجلة وتنتظر يومها الموعود.
الثقافة التونسية اليوم تراوح في مكانها، تحن إلى بطاركتها الذين تم سبكهم في فرن النظام السابق. وما فتئت تطلب من سحرتها الهديَ والهدايةَ وقد سبق أن أضلّوها السبيل. إذ ثمة شغف بـ"الأوليائية" الزائفة في الوعي الثقافي التونسي الحالي، حيث البحث عن استعادة دهاقنة الشعر والرواية والدين والفن، ومن لف لفهم، وإعلائهم إلى مصاف المراجع والأعلام، في الاقتصاد والاعتقاد، وفي شأن البلاد والعباد، وهو خطأ جسيم. فلا خلاص لعقلنا إلا بحركة نقدية جادة تخلصنا من الأساطير.
حصلت ثورة سياسية في تونس، لكن الثقافة لا تزال في قبضة الأنبياء الكذبة. لا أقول حقيقة ولكن أعرض واقعا: صعبٌ قتل الثعابين الطاعنة في السنّ، لأن الثورة التونسية الوليدة ليس لها أعلامٌ حتى نقول للناس بأيّهم اقتديتم اهتديتم. فقد دنّس النظام الآفل الماء والهواء، وأضر بالعاملين في مؤسساته والخارجين عنها، وقليل منهم من لم يشرب من مياهه العكرة.
أما أحزابنا الثورية والديمقراطية والإسلامية، وعلى كثرتها، فهي لا تراهن على الثقافة ولا تبالي بالمثقفين، ليس نكاية بالعاملين في هذا القطاع، ولكن لسبب بسيط وهو افتقارها إلى فلسفة ثقافية في بنيتها التأسيسية. السواد الأعظم ممن يتولون الشأن السياسي التونسي في الراهن هم أناس ثقاة، وليس في ذلك شك، ولكن في الثقافة يفتقرون إلى قدرة ودربة وخبرة. جراء ذلك يبقى جانب كبير من فوضانا السياسية، ومن جدلنا المحتدم بلا معنى ولا مبنى، متأتيا من افتقارنا إلى خلفية ثقافية، وهو ما يزيد من خشيتي على ثورة المحرومين في تونس. فأية ثورة تفتقر إلى أفق معرفي رحب تبقى مهددة بالانتكاس، وكل ثورة لا تصحبها ثقافة تفصح عن هويتها وتترجم قيمها، تبقى مرشحة أن تتحول إلى حيرة.
يقرّ المثقفون والسياسيون الإيطاليون أن تلفزيون "الراي" الوطني كان له دور حاسم في نشر اللغة الإيطالية في ربوع إيطاليا، وفي تشكيل بنية ثقافية جامعة بين مختلف الشرائح الاجتماعية. وفي الخضراء الحالمة بغد أفضل ليس ذلك على الصادقين بعسير، "أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيَّع والمكبَّل...".