القضية المطروحة أولا على الدول الأوروبية، وثانيا علينا نحن العرب، بعد حادثة اغتيال الصحافيين العاملين في مجلة «شارلي إيبدو» في باريس، ليست جديدة؛ هي قضية أصبح لها الآن أكثر من نصف قرن تقريبا، تنمو في خلفية المشهد المُكون للعلاقات الأوروبية مع الجوار الجنوبي، وفي السنوات القليلة الماضية بدأت تتصدر المشهد، وعادة ما تُتناول تلك القضية، إما بشكل موسمي، أو عندما يحدث حادث خطير، كما حدث في الأسبوع الماضي، ثم تختفي القضية خلف أولويات دولية أخرى، أو مناورات سياسية. القضية الأساس في الصورة الأوسع لا في الأجزاء أو التفاصيل، هي الإجابة عن سؤال: هل تعترف أوروبا (بما فيها فرنسا) بالديانة الإسلامية والمسلمين بين ظهرانيها، بأنهم أحد مكونات أوروبا الحديثة التي يجب التعايش معها أم لا؟ الإجابة عن هذا السؤال بأي توجه كان، يقدم لنا مشروع حلول للكثير من القضايا العالقة، ولكنه سؤال لا يأبه بالإجابة عنه السياسيون، لأنهم في العادة يوظفون الأحداث بشكل يخدم مصالحهم الآنية، لا مصالح الكتل السكانية الكبيرة التي من المفروض أن يمثلوا مصالحها الاستراتيجية، فيبحثوا عن الحلول الآنية لا الحلول طويلة الأمد.
أذكر منذ نحو 12 عاما، وفي إبان دخول القوات الدولية إلى العراق عام 2003، أن عقدت وزارة الخارجية البريطانية لقاء حواريا في ولتون بارك، المقر الذي تستخدمه الوزارة لإقامة الندوات ذات الموضوعات الخاصة خارج لندن، وكان التركيز وقتها على العلاقات المستقبلية بين الشرق الأوسط وبين أوروبا وبريطانيا على وجه الخصوص، فقال أحد المتدخلين، وكان يحتل مركزا متقدما في الدبلوماسية البريطانية، إنه يقلق كثيرا على بلده، عندما ينشب صراع بين باكستان والهند حول كشمير، لأن الجاليتين؛ الهندية والباكستانية، في بريطانيا تتحمسان كل لفريقها، ويمكن أن يسبب ذلك صداما بينهما يسبب صداعا للأمن البريطاني، عدا ذلك لا شيء يهم كثيرا. مثل هذا القول وفي توقيته يثير العجب، بأن راسم السياسة الأوروبي ينظر إلى المشكلات في الشرق الأوسط بمدى علاقتها بأحداث اضطراب ما في شوارعه الخلفية، ولا يهتم كثيرا بتقديم حلول للمشكلات الإنسانية والاقتصادية العالقة على المدى الطويل، سواء في بلاد قد يؤثر اضطرابها المستمر عليه، أو حل المشكلات التي تعاني منها الأقليات التي أصبحت كبيرة ودائمة في داخل الجسم الأوروبي.
دول الإسلام المشرقي عرفت التعددية في العصور الوسطى، وتعاملت معها في أكثر الأوقات تعاملا متسامحا. أوروبا لم تعرف التعددية في تلك الأزمان، بل قامت بين مكوناتها الدينية والعرقية حروب دموية كثيرة من أجل سيطرة مذهب على آخر (في الديانة المسيحية الواحدة)، حرب المائة وثلاثين عاما بين البروتستانت والكاثوليك موثقة تاريخيا، بسبب الرغبة في تهميش الآخر، وبالتالي فإن أوروبا ورثت ثقافة إقصائية، رغم كل ما يقال اليوم من قبول التعددية والاختلاف، وهو قول صحيح إن نظرنا إلى القوانين أو تصريحات المسؤولين، ولكن الثقافة الشعبية الغائرة في نفوس الناس ما زالت رافضة لقبول الآخر، ديانة أو عرقا، وما زالت هي السائدة والمؤثرة، وتظهر بسرعة عند أي احتكاك سلبي.
من هنا، فإن التفسير الطبيعي مثلا لمقاومة فرنسا علنا دخول تركيا إلى النادي الأوروبي، ليس لسبب إلا لأن الأتراك (غير)؛ أي مسلمون! ولعل أحد تجليات الإدارة الفرنسية السابقة (في حكم ساركوزي) بتجريم إنكار مذبحة الأرمن ما قصد منه إلا غلق الباب موصدا أمام الأتراك، وجعل ذلك القانون شماعة يشار إليها كلما نشطت شهية الأتراك في طرق باب الدخول إلى النادي الأوروبي، وليس بعيدا عن ذهن الجيل الأوروبي الحالي (ليلة تكسير الزجاج) التي عرفت في التاريخ الألماني بحرق معابد اليهود برمتها إبان صعود النازية.
يظهر لنا هذا التمييز المضاد مؤخرا وحديثا في استطلاع أخير نشرت نتائجه في بداية الأسبوع الحالي على وسائل الإعلام، وهو نتائج استطلاع للرأي من بريطانيا. تقول نتائج الاستطلاع إن نصف البريطانيين يُضمرون مشاعر معادية للسامية! هذا التوجه ضد اليهود الذين يشكلون اليوم أقل من واحد في المائة من مجموع سكان بريطانيا، فماذا عن المسلمين الذين يشكلون في أقل التقديرات 3 في المائة من مجمل السكان، وإن الإسلام هو الديانة الثانية في البلاد، والإقبال عليه ينمو سريعا بين السكان غير المسلمين!
إذن الصورة الأكبر في المشهد هي القبول الثقافي للتعددية، أو بالأحرى عدم القبول الثقافي، الذي يتجلى في أشكال من التصرف العنصري، ولعل تزامن أحداث مجلة «شارلي إيبدو»، مع ظهور رواية بعنوان «الخضوع» روج لها كثيرا في فرنسا، وتتناول فكرة تحول فرنسا إلى الإسلام في وقت قصير لا يتعدى منتصف القرن الحالي، ينم عن ذلك الشعور المضمر (حسب تعبير الاستطلاع البريطاني) تجاه الآخر، وفي هذه الحالة، المسلم! وانتشار عدم اليقين المرضي حتى بين النخبة.
تأتي بعد ذلك مجموعة من الأسئلة المستحقة، على رأسها لماذا صدرت في أوروبا وفرنسا أيضا قوانين تجرم إنكار المحرقة التي تمت على يد النازيين تجاه يهود أوروبا، وهي قوانين مستحقة، كما تجرم ألمانيا بقوانينها المختلفة تناول اليهود بشكل سلبي في وسائل الإعلام، وفي الوقت نفسه يعتبر انتقاد رموز إسلامية هي وجهة نظر يرى البعض أنها جزء من حرية الرأي؟! التفسير أن هناك آخر طارئا بعيدا لا ينتمي إلينا، وهو في الواقع قريب وجزء منهم! عدم الاعتراف يجر وراءه عددا من السياسات والمواقف تهمش المواطن الذي يجد نفسه ضائع الهوية.
لا أرغب أن يفهم المتعجل أنني أدين تلك القوانين التي تجرم الشاذ، فهي مستحقة، كما لا أرغب أن يقرأ المتعجل أنني لا أدين عملية القتل البشعة التي تمت في باريس الأسبوع الماضي، إلا أنني أريد أن أشير إلى جذور المشكلة وهي الصورة الأوسع التي لا يرغب كثيرون في الإشارة إليها، وهي أولا الاعتراف بأن أوروبا اليوم أصبحت تعددية، وأن الوقت قد أزف لتحويل النصوص في المساواة والحقوق إلى ثقافة. الطريق طويل أمام المجتمعات الغربية لفعل ذلك تجاه المُسلم؛ حيث إن حل المشكلة يكمن في الاعتراف بوجود دائم لهذا المسلم كمواطن له من الحقوق وعليه من الواجبات ما على الآخر، وهو أمر لم يتغلغل في الضمير الأوروبي بعد.
في الأحياء الفقيرة في مدن أوروبا تتكدس الأقليات، ومنها المسلمون سواء في ضواحي مدينة برمنغهام أو في ضواحي باريس، تلك الكتل البشرية متروكة لحظوظها التعسة، بعيدة عن التيار العام للتطور. بل في بريطانيا تحت شعار الحريات، تُركت كتلة كبيرة منهم لبرامج تعليم يتخلله التعصب ونبذ الآخر.
جزء كبير مما يحدث من خلال الأفراد المهمشين الذين يسقطون من خلال فتحات شبكات الحماية المتوفرة للمواطنين، بسبب معتقداتهم أو مصادفة مكان ميلادهم، ينتهون إلى السجون التي تعلمهم الكراهية فوق كراهيتهم، فينساقون إلى الجريمة باسم الديانة. فالقضية التي نحن بصددها هي أكبر من مجرد جريمة قتل وأكثر من مجرد تعاطف أو صفوف مسؤولين للتصوير في صدر المظاهرات العارمة، تلك مظاهر لمخابر أكبر يحتاج حلها من جذورها إلى البعد عن التزلف السياسي أو التعاطف اللفظي، يحتاج إلى بناء الثقة المفقودة المعتمدة على المواطنة، وأن هؤلاء موجودون بشكل دائم لا مؤقت، وتلك مسؤولية الدولة الأوروبية أولا.
آخر الكلام:
أهم ما صدره الاعتداء على الصحافيين الفرنسيين انتشار نظرية المؤامرة في فضائنا العربي، وهي تريح مُطلقها وتفسر له ما غمض لديه، فـ«داعش» من نتاج المخابرات الأميركية، وقتل الصحافيين الفرنسيين مؤامرة صهيونية، وكفى الله المؤمنين، بنظرية المؤامرة، شر التفكير!