لم نعد نسمع شيئا عن تيار الثقافة والفن الذي عرف باسم "الواقعية الاشتراكية"، جدير بالذكر ان هذا التيار احتل الواجهة الثقافية الاعلامية للتيارات الماركسية بعد ثورة اكتوبر وقيام الاتحاد السوفييتي، الاصطلاح نفسه صاغه الأديب الروسي – السوفييتي مكسيم غوركي صاحب رواية "الأم" الرائعة، التي اعتبرت بداية أدب الواقعية الاشتراكية.
خلال عقود وجود الاتحاد السوفييتي أصبحت الواقعية الاشتراكية معيارا ل "ألأدب الجيد" و"الأديب المناضل الثوري التحرري" في مواجهة التيارات الأدبية "البرجوازية والامبريالية المعادية للإنسان" حسب الصيغة التي روجها النظام السوفييتي واتباعه، لدرجة ان المدارس الأدبية التي برزت في الثقافة الانسانية مثل المذهب التاريخي، المذهب الاجتماعي، المذهب الجمالي، المذهب الكلاسيكي، المذهب الرومانسي، المذهب الواقعي (اطلق عليه ايضا اسم الواقعية البرجوازية)، المذهب الرمزي، المذهب الوجودي، المذهب العبثي وغيرها من التيارات الجديدة مثل تيار الحداثة وما بعد الحداثة... اختصرت كلها تحت صيغة "ثقافة برجوازية" مهمتها فقط تبرير النظام الرأسمالي الاستغلالي.. الخ، بتجاهل كامل لأعمال ابداعية انسانية وفكرية غير مهادنة وداعمة لحقوق الانسان، وحق الشعوب المستعمرة بالتحرر من نير الاستعمار!!
انا شخصيا تأثرت حتى النخاع بالأدب السوفييتي، بغض النظر عن تسميته واقعيا اشتراكيا كان بجذوره ادبا انسانيا، وقد قرأت تقريبا كل ما صدر من ترجمات الأدب السوفييتي، وكانت هناك دارا سوفيتية للنشر باسم "دار التقدم". طبعا بعض ما ترجم برزت فيه الدوغماتية الجدانوفية التي اضرت بالمضمون الجمالي.
ابواق الدعاية السوفييتية وابواق اتباعها في الحركات الشيوعية روجوا بشكل واسع للواقعية الاشتراكية، وما زال بعض نقاد الأدب يستعملون هذا الاصطلاح وكأن العالم لم يتحرك باتجاه مضاد حتى قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط كل المفاهيم عن الواقعية الاشتراكية، ولا اقول سقوط الأدب والفن الذي انتج شكليا تحت صيغتها، لأنه كان ادبا انسانيا رائعا بكل المقاييس.
هنا لا بد من سؤال: هل نشأ حقا تيار ثقافي بروليتاري باسم تيار الواقعية الاشتراكية؟
الأسئلة الجوهرية: هل يمكن نشوء تيار ثقافي بقرار سلطوي وبأوامر من الحزب الحاكم وقادته، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي؟
هل هناك تشابه بين قرار انشاء ادب الواقعية الاشتراكية ونشوء آداب للطبقات الاجتماعية السائدة في المجتمعات قبل المجتمع الاشتراكي؟
هل ما عرف بأدب الواقعية الاشتراكية هو أدب عمالي؟ ثقافة بروليتارية موازية ومعارضة للثقافة البرجوازية؟
الثقافة البرجوازية، او الواقعية البرجوازية كما يحب ان يسميها البعض، ظهرت الى حيز الوجود منذ ستة قرون على الأقل، أي في عصر النهضة (الرينيسانس) وبلغت اوج تفتحها في القرن التاسع عشر، ويمكن رصد بداية التيار الثقافي البرجوازي في عصر الاقطاع مع بداية انشاء الصناعات الرأسمالية الأولى.
التاريخ يبين ان نشوء ثقافة جديدة لطبقة سائدة جديدة، يحتاج الى حقبة من الزمن قد تمتد قرونا ولا تخضع لقرارات قوة سياسية ناشئة واوامر فوقية لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي وبالنهج الفكري السائد، او بالرغبات لنظام سياسي او حزب سياسي.
حتى لو قبلنا فكرة ديكتاتورية البروليتاريا التي لم تطبق اطلاقا بل طبقت ديكتاتورية قيادات حزبية لم يلتزموا اطلاقا بالفكر الطبقي الماركسي الذي ادعوا انهم يمثلوه ويطبقوه. لأنه حتى الدولة الاشتراكية بمبناها لم تختلف عن مبنى الدولة البرجوازية ( ولكنه موضوع آخر) المهم أن مفهوم طبقة البروليتاريا كانت نقلا عن واقع عايشه ماركس في كومونة باريس، وتلاشى هذا المفهوم بسرعة لأنه كان ظاهرة عابرة، وحتى مفهوم الصراع الطبقي التناحري بين البروليتاريا ( او الطبقة العاملة) والبرجوازية الذي يقود الى اسقاط النظام البرجوازي وبناء نظام شيوعي ( حسب نظرية المادية التاريخية لماركس) لم تثبت صحتها نظريا، أكثر من ذلك لم تنشأ البروليتاريا الا في عدد من الدول الأوروبية المتطورة اقتصاديا ولم تنشأ أي بروليتاريا خارج اوروبا، وظاهرة البروليتاريا ارتبطت بقوانين الأراضي في الدول البرجوازية التي قادت الى خراب المزارع واغلاق مساحات شاسعة من المراعي لصالح الصناعة والتطور الرأسمالي، فتدفق الفلاحون المنكوبون لبيع قوة عملهم لدى اصحاب المصانع...وشكلوا الجزء الأكثر فقرا واستغلالا في اوساط الطبقة العاملة، كان من الخطأ جعل اصطلاح البروليتاريا شموليا لكل الطبقة العاملة، لأنه اصطلاح يخص الفئة الأكثر املاقا في المجتمع، أصل الاصطلاح من الدولة الرومانية القديمة حيث اطلقت هذه التسمية على الفئات الأشد فقرا في المجتمع المعفيين من الضرائب. حتى الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي لم تكن ثورة بروليتارية بمضمونها، بل ثورة جمهورها الأساسي من الفلاحين الذين تلقوا وعودا بالحصول على الأرض من لينين قائد ثورة اكتوبر.
لا اكشف أي جديد بالقول ان النظام السوفييتي كان بعيدا عن الماركسية (شوهها لينين وقبرها ستالين) التي ادعى انها نظريته لبناء الاقتصاد، المجتمع والدولة. وقد سقط النظام مع اول محاولة للتصحيح حاول ان يقوم بها الرئيس السوفييتي الأخير غورباتشوف لإنقاذ المجتمع والاقتصاد السوفييتي.. لسبب بسيط، ان الجماهير فقدت ثقتها بالجذور الفكرية التي روج لها النظام بصفتها عدالة اشتراكية وحقوق انسان ورفاها اجتماعيا ومسابقة مع الغرب الرأسمالي للتفوق عليه، بينما كل الدلائل اشارت الى تخلف النظام السوفييتي في المسابقة الاقتصادية ومساحة الديمقراطية المتاحة ومستوى الحياة للمواطنين.
كل ما تبقى من تيار الواقعية الاشتراكية كان مجموعة من الدوغماتيين المتمسكين بأوهام لم يتحقق منها شيء في الواقع، والثقافة التي سادة عالمنا ظلت الثقافة البرجوازية، التي طورت اساليب ومدارس جديدة، تميزت بالفهم الانساني للواقع، وليس بالكتابة حسب نظريات وقيود فرضت على المبدعين، دمرت الثقافة ودمرت الأدباء وعاقبت بعضهم بسبب اعجاب الغرب بإبداعهم الأدبي.
اذن ، فنشوء تيار ثقافي جديد لا علاقة له بالنظام او بالقرارات الفوقية، ولا بتعيين قوميسار للثقافة أشبه بقائد عسكري يصدر اوامره للكتاب والفنانين حول ماذا يكتبون.
اشتهر القوميسار الثقافي السوفييتي المعروف باسم جدانوف وتعبير قوميسار من اللغة الروسية كان صفة لضباط سياسيين ملحقين بالوحدات القتالية، وأصبح اسم القوميسار جدانوف يرمز للتزمت السياسي والانغلاق الثقافي والقمع للمفكرين والأدباء، واعطاء الأوامر للمبدعين حول ما هو مقبول للنظام وما هو مرفوض ثقافيا وفنيا، لدرجة التدخل بفرض مضمون لشخصيات ابطال النصوص الأدبية او الفنية وما هي المضامين التي يجب الالتزام بها.
جدانوف وصم مرحلة كاملة باسمه وصفت بـ "الجدانوفية"، استمرت بعد وفاته أيضا، فرضت على الأدب السوفييتي نهجا متزمتا ألحق الضرر بالدولة السوفيتية وبالأدباء والفنانين، وبعضهم واجهوا النفي في سيبيريا وغير ذلك من وسائل القمع.
نهجت الجدانوفية على تأميم العقول وقمع الإبداع الثقافي والفني الذي تواصل بعد ستالين ايضا، من الموبقات التي ارتكبت اشهرها طرد وتجريد الكاتب الكبير سولجينتسين من جنسيته السوفيتية عام 1974 وهو في منفاه (من أشهر اعماله روايتيه "أرخبيل غولاغ" و "يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش" حيث فضح واقع معسكرات النفي والعمل القسري في سيبيريا) ، وتعرض الشاعر والروائي بوريس باسترناك لحصار شديد لقيامه بكتابة روايته الرائعة "دكتور جيفاكو" التي منعوا نشرها في وطنه وكان تبريرهم في منعها أنها تسيء إلى الثورة البلشفية، فاضطر أصدقاء باسترناك إلى تهريب "دكتور جيفاكو" إلى الغرب ونشرت الرواية هناك ومنح باسترناك جائزة نوبل للآداب عنها، ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف. الرواية لم تكن أبدا معادية للثورة البلشفية، إلا إذا اعتبرنا نقد التصرفات الغوغائية عداء.
اذن يمكن القول بدون تردد ، ان الثقافة لا تتطور حسب فرض من السلطة او الحزب، من هنا سقط واختفي تيار الواقعية الاشتراكية. رغم ان الابداع الثقافي السوفييتي حتى الذي التزم (تحايلا) ببعض شروط الرقابة الجدانوفية كان ابداعا راقيا ورائعـا.
ربما تكون الجدانوفية التي استمرت بعد جدانوف من محركات الغضب التي ساهمت في إسقاط النظام السوفييتي أيضا. اليوم لا اجد كاتبا روسيا واحدا يبكي على سقوط النظام السوفييتي. وبالطبع لم اعد أسمع عن بدعة الواقعية الاشتراكية.