4-القراءة المنهجية وبناء الفكر النقدي :
نلاحظ بكثير من الاستغراب أن القراءة المنهجية تقدم حلولا نهائية لقراءة النصوص وتتجاوز كل الأزمات والمآزق التي تطرحها النصوص -بدون توقف- أثناء قراءتها ، مما يؤدي إلى القضاء على كل الوضعيات المشكلة والإشكاليات والأزمات التي تدفع الانسان إلى التفكير وإعمال العقل وتقليب النظر وتجبر العقل على التساؤل والمقارنة والتجاوز من أجل الخروج من هذه الأزمات ، وهو ما لا تتيحه القراءة المنهجية لكونها تقدم للمدرس والمتعلم على السواء حلولا جاهزة وطريقا سوية معبدة للوصول إلى معنى وحيد في الغالب ، ويساهم في ذلك حرص بعض المدرسين وتفانيهم في بلوغه ، ومن ثمة فإن المعرفة التي تقدم من خلال هذا النوع من المقاربة القرائية هي معرفة يقينية خطية تكاد تنعدم فيها هوامش الانحراف والزيغ والتحلل من الخطوط المرسومة للسير القرائي .
أما الشك والغموض وغياب اليقين فهي مبادئ ومداخل لا تقبلها القراءة المنهجية لأنها تعمل على الوصول إلى نهايات بعينها غالبا هي تلك النهايات التي يتبناها المدرس ، سواء كانت من بنائه أو من بناء غيره ، ولكنها تغدو بعد ذلك ملزمة للمتعلم الذي يفرض عليه فرضا أن يعيد بناء هذه النتيجة عينها ، ولا يسمح له بالشك في صحتها والوقوف عند الغموض الذي يلفها والذي يحدث كثيرا من التردد في ذهن المتعلم ، ومع ذلك فإن المدرس ، وبناء على احترام القراءة المنهجية وإيثار السلامة وتغليب مبدإ الراحة ، يعمل المدرس على محاربة الغموض الذي يمكنه أن يعتور هذه النتيجة ، وبالمقابل فهو يحتضن اليقين الذي يضفي عليها مشروعية "مقدسة" في بعض الأحيان .
والأصل أن دور المدرس ينبغي أن يكمن في " تحفيز وتوجيه المناقشة نحو الهدف والتبادل اللغوي بين التلاميذ ، وبديهي أن يكون هدف المناقشة هو الربط بين تجارب التلاميذ ومنظورات النص ، وتتطلب المناقشة التي تدور حول تحليل النص أن تكون تدخلات الأستاذ هادفة ، وتتيح للتلاميذ فرصة صوغ الفرضيات وتجميع الأفكار ، وتقريب نتائج التأويل حسب تجربتهم الخاصة "[1] .
والأصل في تقدم المعرفة وتطورها هو تجاوز اليقينية وإعمال الشك والتفكير الإيجابي المنتج في هذه النتائج ، وذلك بهدف بناء المعرفة والمشاركة الفاعلة في تكوينها ، وليس الاقتصار والانحصار في خانة ضيقة من أجل تحصيل ومراكمة مجموعة من المسلمات واليقينيات الجاهزة ، فالمطلوب ليس هو شحن الذاكرة وإنما المطلوب تنمية وتطوير عمليتي التعلم والفهم لما بينهما من فروق جوهرية رفيعة ف"الفهم بالنسبة للمتعلم هو إعطاء معنى لما يقرأ ويسمع ويكتب ، وإذا كان التعلم هو تحصيل العلامات للاستعمال الشخصي ، فإن الفهم هو اقتسام القيمة الرمزية لهذه العلامات "[2] .
5-القراءة المنهجية ولحظة التعلّم :
بالإضافة إلى ما سبق تفتقد القراءة المنهجية إلى خصائص وصفات أساسية من قبيل الحيوية والنشاط والتجديد والتطور ، ذلك أن القراءة المنهجية باعتبارها لحظة للتعلم وأداة منهجية واعية لبناء المعرفية ، وبالنظر إلى أنها قائمة بالأساس على الثبات والنمطية فإنها تشكل حاجزا وعائقا أمام تأهيل تعليمنا إلى نشر وتشجيع التفكير وإعادة النظر في الممارسات التربوية والطرائق البيداغوجية والمقاربات المنهجية المعتمدة ضمن الوسائل الديداكتيكية المعتمدة .
وهذه المبادرات الواعية والقائمة على التأمل هي المؤهلة لأن تكون قادرة على تطوير تدريسية النصوص الأدبية المقررة في السلك الثانوي والتي تقتضي رفض المطلق والإيمان بالنقد وإمكانية التجاوز والتناقض والدينامية والحوارية والأخذ والرد لإنتاج الأفكار والمعارف الجديدة والمتجددة التي ترفض الجمود وتتحدى الموت ، وبالتالي إنشاء وإيجاد حيوات جديدة قائمة على الارتقاء والإبداع وبالتالي حضور إنسانية الانسان .
فإصرار المدرس على التزام القراءة المنهجية كطريقة في التفكير والتأمل الموجه والتفاعل المسيج يحول بشكل كبير دون تمكن المتعلم من التفكير بالمفاهيم التي تقدمها هذه القراءة ، لأنه لا يفهمها بشكل كاف ولا يستوعبها لأنها تفرض عليه فرضا ، وهذا ما يجعله بعيدا عن بناء مفاهيمه الخاصة والجديدة التي تستوعب وتتجاوز المفاهيم القائمة منذ وقت طويل ، دون إقامة الاعتبار للتطور المطرد والضروري والسريع للمعرفة الانسانية التي تستلزم تطورا محايثا لمفاهيم المعرفة وبنائها والمساهمة في تطويرها بشكل من الأشكال بعيدا عن التقليد والاجترار والمحاكاة .
وإصرار التوجيهات التربوية الرسمية على تكريس الدغمائية القائمة على رسم الحدود المعرفية والمنهجية للمدرس والمتعلم ، والتي يفترض فيها أن تكون مجرد صوى على طريق بناء المعرفة والاستمتاع بلحظة التعلم وتذوق لذة الفهم ، وبعد ذلك مكابدة الآلام المنعشة الناجمة عن مخاض بناء المفاهيم الجديدة الخاصة بالمتعلم ، ولا يكون ذلك إلا بالتفكير والتصرف في التصورات والممارسات الديداكتيكية ، والتفكير كذلك في طرق إنجازها وتنفيذها ومدى مساهمتها في بناء المعرفة وبناء القيم وترسيخها ومدى جدواها في بناء الذات .
كل ما تقدم يفرض اعتبار واستحضار الإدراك النسبي المتجدد وغير النهائي من أجل تطوير العملية التعليمية التعلمية والسمو بها إلى مراق جديدة من الفعالية والإيجابية .
ومن الجوانب التي تعوق انطلاق التفكير عند المتعلمين هي أسبقية وجود المراحل والعناصر والأسئلة ، وأحيانا كثيرة وجود الأجوبة ضمن تخطيط المدرس للسيناريو الذي يرتضيه لدرسه في إطار القراءة المنهجية ، وكلها عناصر وممارسات ديداكتيكية معارضة ومناقضة لما ينبغي أن يكون عليه الحال ، ذلك أن المسار الذي يتبعه تقديم الدرس يتميز باستئثار المدرس بالقدر الأكبر إذا لم يكن الكلي في طرح الأسئلة وانتظار الأجوبة والتي تكون في الغالب محددة ، مما ينتج عنه حرمان المتعلم من حقه في طرح الأسئلة التي تدل على انطلاقه وانخراطه في عملية التفكير وأهمية ذلك في بناء المعرفة من خلال المشاركة الفعلية و الفعالة ، ومن ثمة القدرة على استثمار هذه المعرفة والتفكير فيها والإنتاج الفكري حولها ، وعندها فقط يصبح المتعلم ذاتا قادرة على التفكير .
ومن الأسئلة التي تفرض نفسها حول القراءة المنهجية -كخريطة تربوية منهجية صارمة- سؤال مدى توفر تعدد الخيارات وحرية الاختيار بالنسبة للمتعلم ، خصوصا وأن منظومتنا التربوية تعتمد في مداخلها الأساسية بالإضافة إلى المقاربة بالكفايات والتربية على القيم مدخل التربية على الاختيار ، والذي يفرض بالضرورة حضور وتعدد الامكانيات والاحتمالات التي يختار من بينها المتعلم ما يراه مناسبا لتمثلاته وميولاته ، والاختيار ليس فعلا مجردا ومعزولا عن محيطه ومستغنيا عن سياقاته ، بل هو أكبر من ذلك ، فهو بالأساس ممارسة ووعي ومعرفة بمختلف الخيارات والامكانات ، كما أنه يعكس من جهة ثانية وعي المتعلم بذاته ورغباتها ، خصوصا وأن المتعلم ليس حديث العهد بمسألة الاختيار والتي تنطلق معه منذ طفولته الأولى ، إذ يفضل طعاما على آخر وبعده لباسا على غيره ، ولونا دون لون ، وألعابا على أخرى وما إلى ذلك .
فالاختيار ممارسة كامنة في لا شعور المتعلم ، وهي تحتاج فقط إلى جو مناسب من أجل استدعائها وتفعيلها بشكل أرقى وأكثر وعيا واستحضارا للتعليم والاستدلال ، مما يفرض ضرورة إعادة النظر في الاحتمالات والاختيارات المحدودة التي توفرها القراءة المنهجية ، وبالتالي فإن القراءة المنهجية مدعوة إلى تنويع أنشطتها وانفتاح عناصرها ومراحلها على الإضافة والحذف والتعديل .
6- مقترحات على سبيل الختم :
بنا على ما تقدم من تساؤلات وملاحظات حول نتائج نقل القراءة المنهجية من تربتها الأصلية إلى تربة المنظومة التربوية المغربية وما نجم عنه من اختلالات وتعثرات بسبب المسار الطويل الذي قطعته هذه القراءة عبر مجموعة من المحطات ، ومساهمة منا في التفاعل مع هذه التساؤلات الكثيرة التي تزداد تناسلا كلما طال واتسع النقاش حول وضعية القراءة المنهجية نقدم المقترحات الآتية :
- ضرورة العودة إلى الأصول النظرية والنقدية التي قامت وتأسست عليها القراءة المنهجية بهدف المحافظة على الروح المرجعية والخصائص المحضة التي تستند إليها كما تم صوغها في التوجيهات التربوية الرسمية بهدف الاقتراب من الأصل أكثر والعمل على تجاوز الشوائب التي علقت بها خلال رحلتها الطويلة من أصولها التربوية الفرنسية إلى الممارسات الصفية .
- تشجيع المدرس على التحرر من قداسة المراحل والعناصر الصارمة التي تقدمها القراءة المنهجية واعتبارها صوى وعلامات على طريق قراءة النصوص ، ومن ثمة تحفيزه على الإبداع وعلى إغناء هذه المقاربة بما يراه مناسبا ، إما بالحذف أو الإضافة أو التعديل ، وكذلك بتنويع الأنشطة التي تلقي الضوء على الجوانب التي أغفلتها القراءة المنهجية في قراءة النصوص ، وتساعد على إشراك المتعلمين وحثهم على الانخراط في القراءة .
- إغناء وتطعيم القراءة المنهجية بما يصطلح عليه "المقاربة بالنوع" والتي تستحضر بشكل ضروري نوع النص وخصائصه البيانية والفنية ، وذلك بهدف تجاوز مظاهر الرتابة وصور النمطية ، وأشكال التجزيء والتشظي التي تلحق النص الأدبي بفعل تطبيق تعليمات القراءة المنهجية من النواحي الإجرائية والمنهجية والمضمونية والتقنية .
- الانطلاق في قراءة النصوص الأدبية من بدهية الاختلافات الجوهرية التي تتميز بها النصوص ، واعتبار ذلك واستحضاره في التحاور والتفاعل مع النصوص الأدبية ، بهدف تنمية مهارات الإحساس والتذوق والاستمتاع بخصوصيات وجماليات النصوص بدل إخضاع وإجبار النصوص بمختلف أنواعها وأجناسها لمتطلبات وتعاليم القراءة المنهجية الصارمة .
أحمد هيهات
[1] - محمد مكسي ، سلسلة "علم التدريس" ، "استراتيجيات الخطاب الديداكتيكي في التعليم الثانوي " ، دفاتر في التربية 5 ، منشورات رمسيس الرباط ، ص :20 .
2- المرجع السابق : ص : 8 .