تحتل الميتافيزيقيا مكانة مركزية في فكر نيكولا مالبرانش (1638-1715) حيث تعد أساس العلم والدين والأخلاق. وبصرف النظر عن اللاهوت، فإن الميتافيزيقيا عند مالبرانش تتمركز حول الله، وتؤكد دور الله كمبدأ وحيد. هنا يتصور الله على أنه عقل فعال؛ لذلك لم يختار أفضل العوالم الممكنة (كما يقول لايبنتس)، ولكن فقط أفضل عالم ممكن يمكن تحقيقه بأبسط الوسائل، الوسائل الوحيدة الجديرة بكمال كيانه.
- الأفكار كمثل
بحكم تأثره الشديد بالمفهوم الديكارتي للمعرفة، اعتبر مالبرانش أن “الفكرة الواضحة والمتميزة” هي نموذج المعرفة الكاملة. ولكن بينما يؤكد ديكارت، ثم سبينوزا والديكارتيون، أن أي نوع آخر من المعرفة يأتي من “فكرة غامضة ومربكة”، فإن مالبرانش أبدع في هذه النقطة ببراعة. بالنسبة له، كل شيء غير معروف بفكرة واضحة ومميزة ليس معروفا على الإطلاق بأي فكرة، ومفهوم الفكرة الغامضة والمربكة كنموذج غير مكتمل أو فاشل من المعرفة ليس له مكان في نسقه.
عند ديكارت، كانت الأفكار هي “صور” الأشياء التي تنطوي “موضوعيا”، في محتوى تمثلاتها نفسه، على ما تحتويه الأشياء “صوريا”، وهنا يكون الوجود الموضوعي بدرجة أقل من درجة الوجود الصوري. أما بالنسبة لمالبرانش يبدو هذا التمييز بين الوجود الموضوعي والوجود الصوري غامضا، بله متناقضا. المعنى الوحيد الذي قبل إعطاءه لكلمة “فكرة” للخروج من مآزق النظرية الديكارتية هو المعنى الأفلاطوني للمثال والنموذج.
الفكرة هي مثال واضح لا علاقة له بطريقة العقل، وبالتالي يتميز بوضوح عن الإدراك والأحاسيس الأخرى. لأن الأحاسيس هي تعديلات على روحنا، ليس لها قيمة تمثيلية؛ إنها لا تخبرنا بما هو خارجي بالنسبة لنا وبالتالي لا تسمح لنا بالمعرفة. من ناحية أخرى، تتيح لنا الأفكار أن نعرف، على وجه التحديد، أنها ليست طرائق موجودة في عقلنا، الذي يدركها خارج ذاته. خارجية الأفكار، ولكن أيضا كونيتها، لانهايتها، بنيتها المقاومة، كل شيء يشير إلى أنها ليست أنماطا للتفكير، أنها تفرض نفسها على العقل، أنها تُدرك من خارجنا وأنه يجب اعتبارها مثلا.
اهتدى مالبرانش أثناء تأمله في الأفكار إلى التمييز بين ثلاثة أنماط من المعرفة مختلفة اختلافا جذريا:
معرفة الوجود بذاته، هي المعرفة التي لدينا عن الله، لأنه من الواضح أن الله ليس لديه نموذج أصلي ولا يمكن رؤية اللانهائي إلا في ذاته؛
المعرفة عن طريق “الوعي” أو “الشعور الداخلي”، وهي مناسبة حصريا لـ “الأشياء التي ليست متميزة عن ذاتها”. بعبارة أخرى، المعرفة التي لدينا عن روحنا؛
المعرفة التي لدينا عن الأشياء من خلال “مثلها” أو “نماذجها”، المعرفة الوحيدة التي يمكن أن تكون لدينا عن أشياء مختلفة عنا وغير قابلة للمعرفة من تلقاء ذاتها. بعبارة أخرى، معرفة الأجسام وامتدادها.
ينطوي هذا النوع الثالث من المعرفة، وفقا لمالبرانش، على رؤية الله. كون الفكرة نموذجا إلهيا، فهي مفهومة في حد ذاتها، ولكنها ليست ممثلة للواقع الخارجي. يصبح الأمر كذلك فقط إذا حدث أن الله، بإرادته، خلق كائنات حسب هذا المثال؛ ولكن هذه الإرادة نفسها لا يمكن أن تكون معروفة لنا إلا عن طريق الوحي.
- رؤية الله
تسمح فكرة المثال “المرئي في الله” لمالبرانش بتفسير أصل الأفكار في الإنسان. تنبع فكرة رؤية في الله، التي اكتشفها مالبرانش في عمل القديس أوغسطين، من رفضه لفكرة الطريقة التمثيلية، النابعة من فلسفة ديكارت، والتي يعتبرها متناقضة. لا يمكن للعقل أن يدرك في حد ذاته ما هو غير موجود فيه، بينما الأشياء الخارجية، والامتداد الذي يحويها ، ليست موجودة فيه. لكن بما أننا ننجح في تكوين الأفكار، يجب على العقل رؤيتها في مكان ما. بعد القضاء على الإمكانيات التي توفرها الديكارتيّة (الأفكار المكتسبة والأفكار الفطرية بشكل أساسي)، لا يزال هناك احتمال فريد: هو أن يتم رؤيتها في الله، الذي يحتوي على النماذج الأولية لجميع الكائنات التي خلقها، بحيث ليست الأفكار هي التي يجب على المرء أن يحكم عليها في علاقة بالأشياء، كما هو الحال مع التمثلات، بل على العكس ينبغي الحكم على الأشياء وفقا لأفكارها.
وهكذا يعيد مالبرانش لكلمة “فكرة” معناها الأفلاطوني. معه لم تعد الأفكار حالات نفسية؛ إنها مثالات الأشياء، ويمكننا أن نؤكد أنها معروفة دائما بهذه الأشياء، سواء من قبل الله، الذي يخلق العالم على نموذجها، أومن من قبلنا، نحن الذين ليس لدينا اتصال مباشر إلا بها. ولكن بينما كان أفلاطون مهتما في البداية باقتياد الحكيم نحو “الأفكار”، سعى مالبرانش قبل كل شيء لاكتشاف شروط المعرفة العلمية للعالم المادي.
هذا البحث عن أساس العلم، المتبني لمشروع كانط، هو الذي يفسر أن نظريته تحد بشكل أساسي رؤية الله ب”الامتداد المعقول”، النموذج المثالي لجميع الأجسام. وهكذا، من وجهة نظر مالبرانش، وخلافا هذه المرة لروح مذهب أوغسطين، لا يتعلق الأمر باستدعاء اتحادنا مع الله من خلال معارضته لاتحادنا مع الأجسام، ولكنه يتعلق بإيلاء اهتمام خاص للامتداد، الذي هو في نفس الوقت أساس الهندسة والفيزياء (باعتباره جوهر الأجسام) ووسيلة مؤكدة لتوحيدنا مع الكلمة الإلهية (باعتبارها فكرة فكر الله فيها).
ومع ذلك، فإن نظرية رؤية الله لم تأت من مشروع أساس المعرفة. في الحقيقة، الاحتفاظ بكل المجد لله وحده جعل مالبرانش يرفض أي سلطة فكرية للروح البشرية. فباختزاله في كونه ليس أكثر من جوهر منفعل، يقتصر عقلنا على إدراك الله في هذه اللانهاية من الأفكار التي لا يخلقها بنفسه، والتي لا يتضمنها حتى (هكذا انتقد مالبرانش النزعة الفطرية الديكارتية). وبإرجاع الروح إلى حالتها كمخلوق بسيط، يُنظَر إليها على أنها أقل شأناً من الأفكار نفسها، التي وحدها ترشدها وتنيرها، لأنها (الروح) “ليست نورا في حد ذاتها”. ولهذا السبب، ينتهي تمجيد الله بمالبرانش إلى إنكار وجود أفكار معينة لديه عن أجسام فردية، وإلى التأكيد على أن الله لديه الامتداد الوحيد، والفكرة اللانهائية وغير المحددة التي يمكن من خلالها إدراك أي جسم أو التفكير فيه.
- العلل الظرفية
بعد لويس دي لا فورج وجيرو دو كورديموا، دافع مالبرانش وطور عقيدة تسمت لاحقا ب”الظرفية”، بموجبها العلل الطبيعية ليست عللا حقيقية، ولكنها فقط “علل ظرفية” تحدد الله وحده كسبب حقيقي للفعل. لا شيء مخلوق يكون علة الفعل أو الحركة. لا يمكن لجسم واحد أن يحرك جسما آخر، والله وحده هو الذي يضع الأجسام بالتتابع في جميع النقاط التي تشغلها. الأرواح ليست أكثر كفاءة من الأجساد، فالله خالق كل أسباب”حركات الروح”. سواءً كان الاتصال بين حدثين فيزقيين، أو بين فكرتين، أو بين فكر وحدث فيزيقي، لا يمكن أن يكون في المخلوق أصل للسببية الحقيقية. هذا الأخير موجود في الله وحده .
لكن ، باعتراف مالبرانش ، كلنا نعيش علاقة وثيقة بين الروح والجسد. تأتي نظرية العلل الظرفية على وجه التحديد لتفسير هذه التجربة: حركات الجسد هي بالنسبة لله مثل مناسبات لإنتاج الأفكار المترابطة في الروح أو العقل، والأفكار بالنسبة له مثل المناسبات لإنتاج الحركات المترابطة في الجسد. يفعل الله في كل من الجوهرين بمناسبة ما يحدث في الآخر. مثلا، الله الذي يرفع ذراعي عندما تكون لدي إرادة لتحريكه، وهو أيضا الذي يؤثر على روحي في الألم عندما يمزق الجرح لحمي. لذا، نكون واهمين عندما نعتبر رغبتنا أو إرادتنا كسبب حقيقي لأفعالنا، أو الأحداث المادية كأسباب حقيقية لما أصابنا.
يُظهر التسلسل الزمني لأعمال مالبرانش أن نظرية العلل الظرفية لم تنشأ من التفكير في طبيعة العلاقة السببية، ولكن من الرغبة في تمجيد الله، من خلال الإعلان عن قوته الكلية . إنها أولاً مسألة إعطاء الله أعلى فكرة وتدمير الكبرياء البشري، وأيضاً تدمير الوثنية الضمنية للسكولائيين الذين اعترفوا للطبيعة بقوة معينة.
تجاوزًا لأسلافه الظرفيين، نفى مالبرانش عن الروح البشرية ليس فقط كل سلطة على الجسد، ولكن أيضًا كل سلطة على ذاتها، مجيبا في نفس الوقت على المطلب العقلاني للمعقولية (كل شيء يفسره سبب واحد) وعلى الضرورة الدينية للاعتراف بعجزنا في مواجهة الله. ومع ذلك ، قام لاحقًا بتقليد هذا الموقف باقتراح نسخة طبق الأصل وقانونية تماما من الحتمية: ينطلق الله بمراسيم ثابتة وقوانين كونية تتجلى في السببية الظاهرة للطبيعة.
فكرة القدرة الإلهية الكلية تفسح المجال لفكرة الحكمة. يمكن للإله القدير أن يتصرف بسلسلة من الوصايا التعسفية دون الحاجة إلى قصر عمله على “المناسبات” التي تقدم له نفسها. لكن هذا يتعارض مع ما يعلمنا إياه اللاهوت عن الصفات التي يتعين أن يتصف بها السلوك الإلهي، وكذلك الفيزياء، التي تعلمنا أن الطبيعة خاضعة لقوانين ثابتة، تجعل معرفتها فعلنا في الأشياء ممكنا. وبالتالي، من الضروري في نسق مالبرانش الظرفي أن تكون إرادة الله عامة وليست خاصة، وأن تندمج مع قوانين العالم المخلوق.