تمهيد الموضوع
صرّح ريمون بيلور* في مقال له حول "دولوز فيلسوف رحّال": "سوف يأتي اليوم الذي سيكون فيه القرن دولوزيا" بهذه العبارات الشهيرة احتفى فوكو ب "الاختلاف والتكرار" و"منطق المعنى"، "وهما كتابان كبيران من بين الكتب الكبيرة". لقد مرّ على هذا الكلام ثمانية عشر سنة الآن، وأصبح ضروريا مرة أخرى إعادة قول نفس ما قيل في حق هذا الفيلسوف."[1]
تكمن نقطة قوة فكر الفيلسوف دولوز في العودة إلى حدث تجاوز الوضعية الجديدة وكذا الفينومينولوجيا وفلسفة التاريخ كما أشار إلى ذلك فوكو.[2] استطاع دولوز التخلّص من فكر الدياليكتيك، من حيث القدرة على تخطّي مقولات السلب والتناقض والتركيب، والصراع ، فاجترح أفقا آخر للفكر والفلسفة؛ إنّه أفق الاختلاف والترحال والخروج وعدم مراوحة نفس الفكر الذي عهده التقليد الفلسفي الغربي.إنّ فلسفة من هذا النوع سوف تبغي الخروج من المناطق التي ارتكنت إليها الميتافيزيقا. إنّها ترنو نحو الخروج من تاريخ الفلسفة الرسمي منفتحة على الآداب والفن والسينما. لكن إنجاز هذا الانعطاف في مسار التقليد الفلسفي الغربي ليس سهلا إلى هذه الدرجة، بله صعب وشاق يتطلب عقد حوار نقدي مع هذا التاريخ من بداية الفلسفة إلى راهنها المعاصر.
الاشكالية المطروحة
أبدع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز شكلا جديدا من الممارسة الفكرية، فخلق به تطوّرا خلاّقا للفلسفة نحو اقتحام مجالات غير تقليدية، كالسينما، الرسم، الشعر والرواية. وقد استخدم في ذلك أسلوبا جديدا لمقاربة القضايا الفلسفية المستجدة للقرن العشرين، المتّصلة منها بالأدب والفن والسياسة خاصّة، سمته التفلسف على جهة الاختلاف والتّرحال وليس التماثل والتطابق. فماذا يعني ذلك؟
بداية لابد من الاعتراف بأنّه لتناول هذا الفكر تلزمنا المساءلة حول ماهية ملامح هذه الفلسفة الجديدة التي سلكها هذا الفيلسوف؟ ثم ما هي الأسس المعتمدة هنا كطريقة جديدة في مقاربة المسائل الفكرية الراهنة لعصره؟ ثمّ كيف ناقش وحاور تاريخ الفلسفة الغربية المتّسم في مجمله بغلبة ميتافيزيقا العقل والتمثّل والتطابق؟ وما هي مميزّات الأفق الاختلافي الذي وعد الفكر المعاصر بنهجه وسلكه؟
- بعض الملامح العامة لفلسفة جيل دولوز
ليس سهلا اختزال فلسفة دولوز في تلخيصات مدرسية كما الشّأن بالنسبة لبعض الفلسفات المدرسية والنسقية التقليدية؛ بل إنّ فكر هذا الأخير يقوم على نقيض هذا النوع من النقاش والمحاورة. كيف لا وهو الزاعم بكون الأمور الفكرية في عمقها ليست دائما على قدر من الجدّية التي نظنّها عادة في أفكار الفلاسفة.
يبدأ البعد الاختلافي لفلسفة دولوز من طبيعة نقاشها للقضايا الفلسفية سواء منها التقليدية أو الراهنة لعصره. لم يسلك هذا الأخير طريقة البرهنة والاستدلالات التقليدية في نقاشاته لهذه القضايا، بل خلاف ذلك هو الحاصل لديه، حيث يغلّب أسلوب الحوار الحذر والمساءلة النتشوية المفعمة بيقظة الفكر ورهافة الإحساس بالطابع المفارق للأشياء واختلاف المنظورات الممكنة لمقاربتها ومساءلتها.
انجاز هذه المهمة في التفكير لن تكون ممكنة بدون مساءلة المفاهيم التقليدية وقلب النظر فيها على جهة الاختلاف والتباين وليس التشابه والهوية والثبات. إذا لابد من إعادة مساءلة المفاهيم المؤسّسة لبنية الفكر الميتافيزيقي: الوجود، الحقيقة، الهوية، الثبات، الصيرورة، الجدل، العقل، الوعي... إلخ فهل يمكن انجاز هذه المهمة دون قلب بنية هذا الفكر برمّته؟
لفهم فكر دولوز جيّدا لا يمكن للقارئ أن يستغني عن قراءة كتاب "الاختلاف والتكرار"، ذلك أنّه ينزل منزلة الأساس النظري الذي يحاول فيه صاحبه وضع ملامح تفكيره حول مسألة "الاختلاف" التي يريد أن تكون أساسية في فلسفته حول العديد من القضايا الفلسفية التي ناقشها فيما بعد. لهذا السبب نقترح البدء من هذا الكتاب حيث النقاش حول الاختلاف في ذروته.[3]
قدّم الفيلسوف دولوز طريقة في التفلسف مختلفة عن السائد، طريقة تريد أن تبتعد قدر الإمكان عن معهود الفكر الفلسفي حول التزام الأصول والأعماق والتصوّرات المجرّدة الميتافيزيقية. إنّه يقرب هنا من نيتشه ضدا عن الأفلاطونية التقليدية، وإذ ينتهج هذا المسلك، يريد التأكيد على إمكانية التفلسف بشكل مختلف عن العقلانية الكلاسيكية الجامدة على قوالب ومقولات مسبقة. طريقة أخرى مختلفة، تلك التي يسلكها جيل دولوز وهو يحاور تاريخ الفلسفة، مستدرجا إياه إلى فكر الاختلاف القاضي بالنظر في المفاهيم الفلسفية بعيدا عن منطق الهوية والتطابق وعدم التناقض.
أولى فكر دولوز الأهمية للتعدّد والاختلاف، وقد ابتعد قدر الإمكان عن فكر التشابه والمطابقة؛ ولهذا السبب عارض طريقة التحليل والبرهنة السائدة في التقليد الفكري الميتافيزيقي الغربي. إنّ فلسفته في مجملها عبارة عن فكر رافض للعودة إلى الذات وتمثلات الوعي؛ إنّه فكر ينفلت من ختلف أشكال العودة إلى الأصول والثوابت الفكرية الكلاسيكية؛ بل أكثر من ذلك، هو رفض فكرة كمال الفكر وتمامه ذات الخلفية الهيغلية التي تبتغي الاستحواذ على الفكر بدعوى إطلاق الفكر وكمال العقل. وبذلك يتحقّق معه إمكانية جديدة للتفلسف، حيث غدت الفلسفة معه ممكنة مرّة أخرى كما حكى عنه فوكو.[4]
انتصر دولوز في فلسفته للحياة أيّما انتصار، وقد كان في ذلك متأثّر أيّما تأثّر بكلّ من نيتشه وبرغسون. كان لهذين الفيلسوفين دورهما في توجيه تفكير دولوز نحو إعارة الانتباه للجوانب التي همّشتها الفلسفة فيما قبل، ثم انصرف نحو التفكير في الهامشي من تاريخ الفلسفة، معتبرا التفلسف حول هوامش الفكر نوعا من إعادة الاعتبار للحياة كتجربة ومحاولة عيش التفرّد والاختلاف بعيدا عن المنظورات التأمّلية، الديكارتية والهوسرلية، السائدة في الساحة الفرنسية، والقاضية بتعزيز الفكر التمثلي.
رفض دولوز المنظور التمثلي بدعوى كونه يمحور الفكر حول ذات متعالية قبلية تدّعي امتلاك المعرفة المسبقة بالعالم، وتزعم امتلاك معناه وحقيقته. ضدّا على هذا المنظور، عقد علاقة وطيدة بين التفكير في الحياة والتفكير في الآخر، المتعدّد والمختلف. وانسجاما مع ذلك حاور كلا من هيوم واسبينوزا، اعتبارا من كون الأول قد أولى الأهمية للعلاقات (السببية) فأعلى من الإمكان ضدّا على الضرورة، بينما الثاني يعدّه دولوز فيلسوف الرغبة والمحايثة بامتياز.[5]
لا تسعى فلسفة دولوز إلى إصدار حكم مسبق على الحياة كدأب فلاسفة العقلانية والمثالية، بل خلاف ذلك ما حصل معه؛ حيث قام بتعزيز الانخراط فيها، جاعلا التفكير حولها ضدّا على الحقيقة والعقل والهوية والتشابه والتطابق.[6] كان منطلقه في هذا الجانب نتشويا، حيث توجّه نحو فلسفة هذا الفيلسوف الناقد للعقل والحداثة في وقت كانت الساحة الثقافية الفرنسية تصدح كلّها بالماركسية والبنيوية والفينومينولوجيا.[7]
جمعت فلسفة دولوز بين اسبينوزا ونيتشه، وذلك نظرا لما يمثلانه من قيمة فلسفية لصالح الاهتمام بالحياة والجسد والرغبة. زيادة على ذلك حقّق له الاهتمام بفلسفة هذين الفيلسوفين قدرا كبيرا من الرغبة في الخروج عن الأنساق النظرية الموروثة عن الحداثة الأنوارية. فمن جانبه، عزّز اسبينوزا لدى دولوز فكرة الجسد الراغب كمعطى طبيعي يحكم الحياة، خلافا لما كان سائدا في التقليد الميتافيزيقي، وهي الفكرة ذاتها التي روّج لها نيتشه في مختلف كتبه ضدّا على الموقف الميتافيزيقي الديني الغربي الحاط من قيمة الجسد.
تشكّل فلسفة جيل دولوز في عمقها وأصالتها قراءة نقدية لتاريخ الفلسفة، لذلك لا يفتأ وهو يحاور هذا التاريخ التذكير بأهمية بعض الفلاسفة بالنسبة لمستقبل الفلسفة، خاصة منهم الذين درجنا على ذكرهم آنفا (اسبينوزا، هيوم، نيتشه، برغسون). إنّ ملمح الاختلاف ومفهومه في هذه الفلسفة ينغرس في فكرة الترحال؛ ذلك أنّ الفكر الذي يحتفي بالهامش لا يفتأ يرتحل دون أن يقيم في هوية محدّدة، واحدة وثابتة.[8]
تأسيسا على هذا الفهم، أصبح الاختلاف رفضا للثقة العمياء التي يوليها الفكر للأصول المزعومة، إنّه شكّ دائم ومتواصل في كلّ بداية مزعومة للفكر وللمفاهيم؛ وبالتالي فالبدايات مفترضة فقط، ولا مجال للقول بوجود حقيقة ثابتة أو ماهية خالدة. وإذا هنا يطرح السؤال من جديد حول دور الفلسفة إزاء هذا الوضع؟ هل هي بحث عن حقيقة معيّنة كما يزعم التقليد القديم، أم خلاف ذلك هي استراتيجية وطريقة في التفكير ولا دور للبحث عن الحقائق فيها؟
- في أهمّية فكر الاختلاف ودوره في الفلسفة المعاصرة
فكّر دولوز فلسفيا ضدّ الطريقة التقليدية النسقية الأفلاطونية والديكارتية والكانطية والهيغلية، معتبرا الممارسة الفلسفية صياغة وخلق للمفاهيم. إبداع يتحقق عبر العلاقات التي ينسجها الفكر بين الأسئلة والقضايا الشائكة وبمعزل عن إغراء البدايات والأصول. ضد فكر كانط الصارم الذي يخضع الخبرة للمفهوم، أسّس دولوز، انطلاقا من حواره الشيّق مع نيتشه، لنمط جديد من الفكر، إنّه فكر منفتح على الحياة والخارج. جعله هذا الموقف الفلسفي من التقليد الفكري الكلاسيكي يقف على النقيض مع نسق هيغل المغلق، وبصفة خاصة مع منطقه الجدلي الرافض للاختلاف.[9]
تعتبر الفلسفة لدى دولوز تأريخا للهوامش، إنّها بهذا المعنى ترحال دائم للفكر وليس استقرار وجمود له. أما إبداع المفاهيم فيحتاج من دون شكّ إلى خلق لغة جديدة، لغة أخرى جديدة داخل لغتنا الرسمية؛ إنّها تمرد على اللغة الأولى التي هي لغتنا الأم، ثم التحليق بها إلى التخوم القصوى عبر علاقات خارجية مختلفة ومتشابكة مع الهوامش. استخدم دولوز وصديقه غاتاري في كتابهما المشترك "ما الفلسفة" مفهوم (الجيو- فلسفة)، وكان مقصودهما من هذا الاستخدام إبراز ارتباط التفكير بالأرض التي يقف فوق تربتها. يحيل هذا الأمر إلى نيتشه في زرادشته حيث الدعوة إلى شكل جديد من التفكير يسمّيه "فلسفة أرضية".
كذلك نجد عند دولوز أنّ الترحال كان دوما رديفا للشكّ ولانعدام اليقين، وهذا ما يفسّر الطرد الدائم لأولئك الرحالة الشكاك من أرض الحقيقة، غير أن فكر نيتشه استطاع أن يفتح هذه الأرض أمام أكثر من شمس، بل دعانا في أكثر من كتاب ونصّ إلى خلق شموس أخرى، مادام لكلّ واحد الحق في أن تكون له شمسه الخاصة.
استعار دولوز هذه الفكرة ثمّ عمل بها في معظم الأوقات متحدّيا بها حالات جمود الفكر على قوالب جاهزة ومقولات ثابتة. يكتب دولوز في "نيتشه والفلسفة"، أن نيتشه يدعوننا إلى البحث عن تلك المناطق البعيدة، معتبراً أن مناطق التفكير هي تلك المواقع المدارية التي يسكنها الغريب والمتوحش، أي الخارج عن نظام الحقيقة كما أسست لها شمس كانط والفلسفة الحديثة. ولقد جعل هذا الأمر نيتشه يتطلّع إلى مغادرة أوروبا نحو مناطق الجنوب الدافئة والتي من خلال مميّزاتها الصحيّة شحذ نظرته إلى كل ما هو أوروبي.[10]
استمد دولوز النظرة الاختلافية من الفكر النتشوي المطعّم بعناصر من اسبينوزا وهيوم وبرغسون، ليصبح بذلك توليفة فلسفية اختلافية في بنيته. غير أنّ تتبع لحظات تكوّن هذا الفكر الاختلافي لديه يطرح صعوبات جمّة، ولعلّ ذلك ما حدا ببعض المهتمّين بفلسفته يستنتجون صعوبة إخضاع تطوّر فكر دولوز لمقاييس زمنية محدّدة. ذلك أنّ أغلبية أعماله لم تكن تخضع لمنطق نمو أو تتطوّر محدّد ونسقي، إنّما عمل على تأليفها بطريقة التكرار التي تسم تحليلاته لمختلف القضايا الفكرية التي استأثرت باهتمامه، مثل تاريخ الفلسفة، الأدب الفن، التحليل النفسي.. الخ
رغم ذلك يمكن اعتبار كتاب "الاختلاف والتكرار" بالإضافة إلى "منطق المعنى" بداية مشروعه الفلسفي الخاص، حيث بدأت معالم تفكيره تظهر من خلال الطريقة التي ارتأى النظر بها في جملة من القضايا الفكرية المستأثرة باهتمامه. والفكرة المحورية هنا هي الردّ على تصوّرات هيغل الذي يقترح حركة للمفهوم المجرّد بدلا من حركة الطبيعة والنفس، فأراد إحلال الصلة المجرّدة للخاص بالمفهوم عموما، محلّ الصلة الحقيقية للفريد والكلّ، ممّا أبقاه عند العنصر المتفكّر للتمثّل، أي عند عنصر العمومية.[11]
فكّر دولوز في المفهوم الفلسفي خلافا لهيغل وذلك على أسس جديدة، كان أبرزها التفكير كممارسة إبداعية وليس تصوّرية. وعلى هذا الأساس لم يعد الاختلاف سلبا وتناقضا كما يتصوّره هيغل، بل تكرارا ليس للهوية والعينية، وإنّما للتنوع والكثرة. لذلك ففكر الاختلاف عند دولوز يبدو على نقيض تام لفكر التمثّل[12] القاضي باعتبار الذاكرة والوعي والذات محدّدات الفكر الأصيل. يقوم الاختلاف الدولوزي كلّه على إسقاط المنطق التمثلي الأحادي التفكير، لصالح منطق مخالف، منطق الاختلاف والتكرار والتنوع والترحال.
لا يستطيع التمثّل أن يفكّر الاختلاف إلاّ باعتباره سلبا وتناقضا وجب رفعه وإزاحته، التمثل عدو الاختلاف وهذا ما يكشفه دولوز في كتابه "الاختلاف والتكرار". أمّا بالنسبة للاختلاف، فتعتبر التجربة الواقعية المحسوسة حاسمة فيه، ليس هناك مجال للتعالي والمثاليات في الاختلاف، ذلك أنّ الفكر قد تعوّد الانتباه إلى الاختلافات ولم يعد يهتم لتشابهات، إنّه إبداع للمعاني الجديد المختلفة وللقيم الجديدة.[13]
يرفض دولوز موقف الحس المشترك من الاختلاف الذي يسيء فهمه وفهم التكرار. يفهم الحس المشترك مسألة الاختلاف على ضوء المشابهة والمطابقة، يرى فيه السلبيات وليس الايجابيات، ويعتقده فرعا ومجازا وليس واقعا. خلاف ذلك ما يعزيزه دولوز مصداقا لقول نيتشه الشهير بهذا الخصوص حين صرّح قائلا :"ألا ترى سوى التشابه؟؟ هذا من علامة على ضعف فكرة". إنّ الاختلاف هو الأصل، وكلّ ما يتعرض له فكرنا لا يتعرّض له إلاّ على جهة الاختلاف، وإذا فالاختلاف هو ما يشكّل بنية تفكيرنا في العالم.
الاختلاف تحفيز للتفكير على أصعدة مختلفة، إنّه إبداع مستمر للمعنى وللقيم، تحرير لحركية التفكير ولطاقاتها، رغبة دائمة في مجابهة صعاب الحياة وشنأنها. إنّه إرادة قلب الوثوقية وتجاوزها، نزوع نحو تعرّف الفكر على أساس من المغامرة والحماقة والترحال الدائم، ليس هناك داع للاقامة بجوار الاشياء المألوفة، بل يلزمنا الترحال ولما لا القسوة الخسّة والعنف تجاه كلّ ما يكرهنا على الجمود.
هكذا هو فكر الاختلاف لدى دولوز، إنّه فكر يزاوج بين فلسفة نيتشه واسبينوزا، وأيضا بين برغسون وكيركيجارد. إنّه فكر لا يعترف بالحدود بين الأفكار، ولا يؤمن بالقطائع بين الفلسفة والفن والأدب والسياسة. إنّه فكر رحّال لا يستقرّ على أرضية مسبقة وثابتة، بله مثل رمال متحرّكة لا تفتأ عن التحرك خلسة وبعنف حيانا إذا لزم الأمر.[14]
- فكر الاختلاف بما هو فلسفة حياة
عندما نتحدث عن الحياة والاهتمام بها وبقضايا، نجد فلسفة جيل دولوز تنصرف بقوة إلى التفكير في القضايا الآنية للفكر، إنّها خوض في ما يسمى لدى فلاسفة الاختلاف قضايا ال "هنا" والآن، أي قضايا الحياة الراهنة للناس. ولئن كان دولوز قد ارتأى السير على هذا النهج، فلأنّه كان على قدر كاف من الوعي بأهمية ترك المنهجية التأملية التقليدية وكذا الطرق والأساليب التحليلية التي سلكتها فلسفة الظاهراتية وفلسفة التحليل اللساني والمنطقي. اتسمّت منهجيته، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، بصرف النظر إلى صنف القضايا الهامشية، القضايا التي همّشت على مضار تاريخ الفلسفة، مثل الرغبة، الجسد، اللون، الصورة، الاختلاف...إلخ
جعل دولوز مصير الفلسفة بهذه الطريقة رهين قدرتها على تناول الجوانب المختلفة لمعتاد التقليد الميتافيزيقي، فلم يعد التعالي منطق التفكير ولا غاية له؛ بل أصبحت صيرورات الحياة والجسد والحركة، بما هي عوامل ونشاطات حيّة ومتحركة، حاسمة لفهم ما يقع من حولنا. ليس في هذه الفلسفة الجديدة مكان للتعالي، بل للمحايثة، كما تخلو من أيّ عمق مزعوم مسبقا. [15]
إنّها فلسفة للخارج وليس للأعماق والداخل. فلسفة لا تفكّر بنفس الطريقة التقليدية، بل هي مأخوذة بهذه الحياة التي نقع في صلبها، حيث المفكرّون لا ولن يفكّروا بنفس الطريقة التقليدية، كما لن يتفقوا وليس من مهمّتهم ذلك. ليس يوجد في هذا النمط الجديد من التفكير ما هو مشترك، ولا تاريخ عام، لكن الكثير من الأحداث المتشابكة والخيوط المتقاطعة بشكل ضروري ومؤقت.[16]
يعتبر الحدث مركز اهتمام فلسفة دولوز، والحدث هنا ليس مأخوذا على منوال الفكر التاريخي العقلاني، ولكن باعتباره واقعا معاشا. إذاً فالمعاش في الواقع هو ما يجعل الحدث يطفو ليكتسب راهنيته على ضوء فكر الاختلاف الدولوزي. يستجيب فكر دولوز هنا لإحدى أهم الدعوات التي طالب بها نيتشه قراءه في المستقبل، ألا وهي أن يكونوا فلاسفة أطباء وفنانين. ذلك ما يحاول دولوز تجسيده حين يضع الحدث (الواقع) مركز اهتمام فلسفته، فالتفكير في الحدث لا يمكن إلاّ أن يكون فنّيا على جهة الإبداع، ذلك أنّه يستعصي على التصوّر التقليدي المنطلق من قوالب تمثلية مجرّد (مفاهيم مسبقة).
إذاً فالحياة هي منطلق تفلسفنا الحقيقي، دونها نكون نمارس التقليد الميتافيزيقي القاضي بالانطلاق من المثال أو القبلي والمتعالي أو المثال. غير أنّ التفكير في الحياة لا يعني الركون للمبتذل والاعتيادي وللحس المشترك، بل خلاف ذلك هو ما يدعو إليه دولوز ؛ إنّه تفكير جاد وحازم ذلك ما يحتاجه التفكير في الحدث. فليس سهلا في أيّ شيء أن نفكّر في الحدث، لأنّ التفكير في الحدث هو في حد ذاته تفكير بالحدث، أي جعل الفكر نفسه متعلّق باللحظي ومن ثم يقع في أسر التكرار والاختلاف.[17]
الارتباط بالحياة مسألة ضرورية للفكر الناهض بالاختلاف، إذ في الحياة تتولّد حركية الفكر، حيث يحدث الحدث الباعث على التفكير والإبداع والتفلسف. والفكر المرتبط بالحياة هو بالأساس فكر يجابه الحماقات التي تعجّ بها هذه الحياة؛ فالحماقة هي الباعثة على التفكير الجدّي في شؤون الحياة. فالفكر الجاد فكر يتوجّه إلى الحماقة ويجابهها. يأخذ دولوز بالمفهوم البرغسوني للحياة كما يأخذ بمفهومه للديمومة ليعطيهما أبعادا فلسفية اختلافية يراها الأنسب لاستعمالهما؛ ثم يجعل الديمومة تكرارا والطاقة الحيوية نشاطا وحركة للفكر في الحياة.[18]
وكذلك يركّز دولوز على معطى الرغبات، باعتبارها إنتاجا اجتماعيا، في اهتمامه بحركة الفكر في الحياة، وينتقد هنا المفهوم الليبيدي للرّغبة كما جاء بذلك التحليل النفسي. فليس يمكن أن نفهم تدفّق الرغبة من دون العودة إلى حقل إنتاجها الواقعي، فالحقل الاجتماعي محكوم بالرغبات وهو بهذا المعنى نتاج تاريخي لها.[19]
إنّ التفكير الفلسفي في الحياة لا يكون ممكنا دون التفكير في الجسد ومنه في الرغبة، لذا فالحياة هي هذا الواقع الذي يعيش فيه الإنسان كجسد قبل أن يعيشها كفكر، ليس الفكر سوى إفراز طبيعي لهذه العلاقة القوية بين الجسد الراغب والحياة التي يعيشها. والفلسفة في ظلّ هذه العلاقة ليس أمامها سوى الانصراف نحو الاهتمام بهذه العلاقات الشائكة على جهة الاختلاف والتكرار الذي يحكم منطق إنتاج المعنى كإبداع وليس كتمثل وتصور.
على سبيل الختم
أخيرا، نودّ القول إنّه ليس بعمل سهل تلخيص فكر الاختلاف كما مارسه جيل دولوز، سواء في محاضراته ومقالاته الكثيرة، أو في وكتبه الفلسفية الرئيسية. كما ليس يسيرا بالمرّة أن نقرّب كلية هذا الفكر المتعدّد والمختلف في بضعة فقرات. غير أنّه إذا كان من اللازم تلخيص القول في معنى الاختلاف ودلالته بالنسبة لفلسفة هذا الفيلسوف، فإنّه يمكننا أن نؤكّد الدور الهام الذي لعبه جيل دولوز في مواجهة سطوة الفكر العقلاني الجدلي النزّاع نحو الهيمنة والتطابق ونفي الاختلاف. لذلك يلزم القول بأنّ تركيز دولوز قوله الفلسفي على الاختلاف، هو بمثابة مجابهة فكرية ضدّ منطق التمثّل السائد في الفكر الغربي، والقاضي بإزاحة المتعدّد والمختلف والهامشي.
يفتح فكر الاختلاف الباب أمام التفكير لمواجهة قضايا الواقع الحقيقية وليست الصورية والمثالية المتعالية التي تزعمها الميتافيزيقا الغربية الكلاسيكية. لذلك كان من أخصّ سمات هذا الفكر الجديد قدرته على الترحال بين فروع المعرفة والآداب والفن والسياسة دون أن يفقد التفلسف هويته المتمثّلة في إبداع المفاهيم الفلسفية. ولعلّ من حسنات هذا النمط من التفكير، أن فتح المجال للممكن أمام الفكر، بعدما غلبت سطوة الضروري والمنطقي عليه. لذلك فالاختلاف بهذا المعنى، إنّما هو كلّ ما يتكرّر التفكير حوله دون أن يفقد بريقه أمام استمرارية الحياة والفكر معا.
الحسين أخدوش - باحث أكاديمي من المغرب
* Raymond Bellour
[1] Raymond Bellour: « Gille Deleuze un philosophe nomade » dans Magazine littéraire, num 257, septembere 1988. P 14
[2] ibidem
[3] جيل دولوز: الاختلاف والتكرار، ترجمة وفاء شعبان، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، سنة 2009.
[4] « Foucault, Deleuze : un dialogue fécond et ininterrompu » ; in Magazine littéraire , p 48
[5] Pierre Macherey : « Penser dans Spinoza », in Magazine littéraire , op. cite, p 40
[6] بهذا الخصوص، يلزم الانتباه إلى أنّ منطق التفكير، بحسب دولوز، هو منطق بيولوجي وفيزيولوجيـ حيث تغلب علاقة الكتابة/الحياة على العلاقة التقليدية ذات الشكل الكتابة/الكاتب. أنظر بهذا الخصوص مجلة مدارات فلسفية: العدد الثاني، ماي 1999، ص 69.
[7] Marc B. Delaunay : « Deleuze et Nietzsche ou l’inverse », p 44
[8] يقول بهذا الخصوص م عريصة: "ينتمي كلّ من دولوز وفوكو إلى ما يمكن تسميته بفكر التعدّد، حيث يتمّ تعليق الذات والتصوّر الواحدي للذات كمرجع ودعامة لفعل التأسيس الفكري كما عوّدنا على ذلك التقليد الفلسفي منذ ديكارت إلى هوسرل. وليس غريبا أن يعتبر دولوز وفوكو نفسيهما من بين ورثة رواد النزعة الشكّية المعاصرة الثلاثة، ونعني: ماركس، نيتشه، فرويد حيث الذات تحيل إلى مناطق تشتّتها وتكونها ومحدوديتها بيلوجيا ولا شعوريا وتاريخيا، أي باختصار إلى مركزيتها في عملية التأسيس تلك." أنظر مجلة مدارات فلسفية، مرجع سلبق، ص 69 و70.
[9] John Rajchman : Logique du sens, éthique de l’événement, in Magazine littéraire, op cite, p39
[10] رشيد بوطيب: "فلسفة جيل دولوز عودة إلى الحياة"، جريدة الحياة اللندنية، أنظر الموقع الاكتروني للجريدة: الاربعاء 17 فبراير 2016http://www.alhayat.com/Articles/9383697/
[11] جيل دولوز: الاختلاف والتكرار، مرجع سابق، ص 24.
[12] يعتبر جيل دولوز التمثل مصدر الوهم المتعالي الذي يقابل الحس مع العقل، مع أفضلية المتعالي المجرّد للمحسوس. يقوم الاختلاف على نقض هذا المنطق وتجاوزه أنظر كتاب الاختلاف والتكرار، مرجع سابق، ص 25
[13] نفس الرجع، ص 27.
[14] نفسه، ص 28.
[15] John Rajchman : Logique du sens, éthique de l’événement, in Magazine littéraire, op cite, p 37
[16] Ibid. Je cite : « Le destin de la philosophie, c’est la question de ses devenirs singuliers et incontrôlables. Dans la pensée, il n’y a jamais de fonds commun ; les penseurs ne posent jamais les mêmes questions ; il n’y a pas de « sens commun », pas de d’histoire, mais des mouvements insolites, des lignes qui s’entrecroisent d’une façon nécessairement temporaire. » p 37
[17] Ibid. Je cite : « Penser en termes d’événement, ce n’est pas facile. D’autant moins facile que la pensée elle-même devient alors un événement. » p 39
[18] جيل دولوز: التكرار والاختلاف، مرجع سابق، ص 449.
[19] Gille Deleuze et Félix Guattari : l’anti-oedipe, éd minuit, paris, 1976. P 36