في يقظتهم يقولون: “أنتَ والعالَم الذي تعيش فيه حبَّةُ رملٍ على شاطىء غير متناهٍ لبحرٍ لا حدَّ له”.
وفي حلمي أقول لهم: “أنا البحر الذي لا حدَّ له، والعالم كلُّه حبَّاتُ رمل على شاطئي ”.
جبران خليل جبران
بعيدا عن مفهوم فلسفة القوّة للفيلسوف "نيتشة"، ومفهوم الوجوديّة - الملحدة وغير الملحدة- خاصة لدى"جان بول سارتر" و"مارتن هايدغر، وفلسفة العبث لرائدها ألبير كامي. وبعيدا عن المفهوم الديني السطحي للقدر الذي يروّجه من يسمّونهم- تجاوزا- علماء الأمّة، فإنّ مقاربة جبران خليل جبران مطلع المقال، لمفهوم الإنسان الحقّ،المنسجمة مع مقولة أبو القاسم الشابّي الشعريّة "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر" تفيد أنّه ذو قدرات لا محدودة، كفيلة بتمكينه من نحت مصيره ونيل ما يريد بقلب كلّ الاوضاع لفائدته، بما يتّفق مع مفهوم التنمية البشريّة حديثة الظهور. ولا يتسنّى ذلك للإنسان إلاّ إذا «عرف نفسه بنفسه» كما جاء على لسان سقراط، وتفطّن الى مواطن القوّة فيه ووجّهها الوجهة الصحيحة.
ومن مفاعيل ذلك، أن بات اليوم من البديهيات التي لا يختلف فيها عاقلان ولا ينتطح فيها عنزان كما قالت العرب، أنّ الإنسان- أيّا كان سوء وضعه ومهما كانت الاكراهات والعقبات وقساوة المأساة التي يعانيها- لا تفيده، لا اللطميات والبكائيات، ولا الندبيات ولا حتّى المآتم على الحظ المنكود الذي قد يلازمه كظلّه في مرحلة ما من حياته، ولكن ما يفيده، بالتأكيد، ويثري تجربته الحياتيّة، إنّما هو النظر إلى الحياة من زاوية نظر جديدة غير التي كان ينظر من خلالها وأدّت إلى معاناته. ويترتّب عن ذلك -حتما- رسم غاية وتكريس كلّ الجهود لبلوغها وفق منهج مرسوم بدقّة لا يخضع للصدف، في إطار زاوية النظر الجديدة، بدل التعلّق بالأوهام الكاذبة وتنبّؤات الدجاجلة الهلاميّة أو بالأماني التي لا تتحقّق. وهنا يكتشف المرء أبعادا أخرى للحياة كان يجهلها وتظهر له صورتها شديدة الوضوح بتجلّياتها المختلفة، وما تنطوي عليه من تعدّد للرؤى، متجاوزة للأسوار الحاجبة لرؤية جمال الكون وورديّة المستقبل. ولكن- للأسف- السواد الأعظم من النّاس لا يغيّر زاوية نظره للحياة، ولو باتت شديدة الضيق، فيحكم على نفسه بالعيش في الضيق بما هو عيش ضنك. ولعلّ من نافلة القول، في هذا السياق، التأكيد على أنّ الحياة رغم أنّها فسيحة طولا وعرضا كما الأرض، إلّا أنّ آفاقها المضيئة، غير المتناهية في سعتها، لا يبصرها بوضوح وجلاء تامّ إلّا القليلون، الذين ينظرون إلى الحياة من الزاوية المناسبة بما ينسجم مع مقولة « إذا رأيت الصحراء تمتدُّ وتمتدُّ، فاعلم أنَّ وراءها رياضاً خضراء وارفةّ الظِّلالِ“ (1). ذلك أنّ الآفاق الرحبة لا تتجلّى إلّا لغير النمطيين ممّن أومأنا إليهم، الذين يرسمون الغايات، والمناهج لبلوغها ، فضلا عن توفّرهم على جذوة التعويل على النفس لصنع الذات الفاعلة، المؤثّرة، في المجتمع أو بالحدّ الأدنى، في محيطها القريب. ما يعني أنّ هذا الصنف من النّاس، يدخل معترك الحياة ولا يبالي بالمتاعب و يركب البحر ولا يخشى الغرق. وهو لإثبات ذاته يروم امتطاء صهوة المصاعب مهما بلغت من الشدّة و القسوة، ومهما بلغ وخز الأشواك المحيطة به من كل جانب. وهو كذلك يقبل- ساعة الفصل- بنتيجة مواجهة متاعب الحياة، وحيدا، في حالتي النجاح و الإخفاق، رغم نزوعه الشديد إلى النجاح والتفوّق. لأنّ الفشل، بمعنى من المعاني، إنّما هو حافز للنجاح وأوّل خطوة على الطريق لبلوغه. بهذا المعنى، فهؤلاء لا يهزمهم الدهر، ولا يستسلمون للهزيمة، ولا يرفعون الراية البيضاء منذ أوّل فشل، لا بل ولو تكرّر الفشل 99 مرّة كما كان الحال في تجارب "توماس أديسون" Thomas Edison)) التي أدّت في النهاية إلى اختراع المصباح الكهربائي ، فضلا عن تسجيل أكثر من 1000 براءة اختراع باسمه. وهي المقاربة ذاتها التي أيّدها لاحقا "ألبرت أينشتاين" : (Albert Einstein) بقوله "المعرفة ليست المعلومات، فالمصدر الوحيد للمعرفة هو التجربة والخبرة". فالحياة من منظور هذا الصنف من الناس ليست في نهاية الأمر سوى مغامرة - وليست قصيدة كما يرى الشاعر محمّد آدم-(2) ممتدّة في الزمان كما في المكان، بما هما (الزمكان) (3) بتعبير الفيزياء.
لا أعتقد أنّ أحدا يجادل في أنّ هذه المعاني -مجتمعة- تكاد تتماهى مع مفهوم العصاميّة كمصطلح يدلّ منذ العصر الجاهلي على "اعتماد المرء على نفسه حتى ينال الشَّرف والمجد" ويسودَ "بشرفِ نفسِه (فيكون عصاميّا) لا يشرّفِ آبائه" فيكون عظاميّا، كما جاء في المعاجم العربية.
للتذكير، فإنّ عصام بن شَهبَر الجِرمي، حاجب النعمان بن المنذر- أحد ملوك المناذرة قبل الإسلام - هو من نسب إليه هذا المفهوم بعد أن أشاد به الشاعر المسيحي، النابغة الذبياني، لإرادته القويّة وعزيمته الفولاذية واجتهاده المستمرّ الذي أهّله عن جدارة أن يصبح من أقرب المساعدين للملك المذكور، وهو الذي بدأ مشواره المهني عاملا بسيطا في قصر النعمان ثمّ حاجبا له. وقد قال فيه النابغة الذبياني :
نفس عصام سوّدت عصامِاً ... وعلمته الكر والإقداما
وجعلته ملكاً هماماً ... فتعالى وجاوز الأقواما
وقال فيه الملك النعمان نفسه" إنّ عصام بن شهبر بألف جندي".
ما دعاني إلى هذا المبحث في العصامية، وهذه المقدّمة التي قد تكون ممطّطة وركيكة لدى البعض هو، بداية، إسهامات العصاميين ممّن عرفوا مكامن القوّة فيهم وطاقاتهم الخلّاقة، فحوّلوها إلى إكتشافات وآختراعات وإبداعات وخدمات جليلة لفائدة مجتمعاتهم، وأحيانا لفائدة المجتمع الإنساني. وقد كان لي شرف الإطّلاع الواسع على السير الذاتيّة للكثير منهم في بعض المؤلّفات الغربيّة كما الشرقيّة -ولو بدرجة أقلّ- تلك الإسهامات التي كان لها عظيم الأثر في النهضة العلميّة و التقدّم الإنساني في مختلف مجالات النشاط الإنساني عبر الزمان والمكان بما هو الفضاء بأبعاده الأربعة (4) . وما شدّني، ثانية، هو كوني أنا أيضا عصامي في مجالي الصحافة والكتابة الأدبيّة، باعتباري علمي التكوين والمباشرة العمليّة. وإن كنت من غير صنف المؤثّرين، فأنّ ذلك لم ولن يثنيني عن ممارستي لهواية الكتابة. تلك الهواية بالغة المتعة، الممتدّة لنحو نصف قرن.
ولأنّي إزاء مبحث غير أكاديمي، والعصاميون كثر -وأكثرهم تأثيرا من الغربيين المعروفة سيرهم لدى الجميع مثل فلتة الدهر "توماس أديسون" سالف الذكر- فإنّي سأكتفي في المقالة القادمة، بعرض نموذج ملهم ووحيد، من العصاميين العرب؛ وهو الكاتب اللبناني النابغة جرجي زيدان، الذي دشّن عالم الشغل، وهو في سنّ الحادية عشرة، بالعمل في مطعم، بما يشبه ما كان لاحقا، حال الشاعر التونسي الموهوب صديقي منوّر صمادح، الذي، إن كتب لي البقاء رغم الوباء، قد يكون مادة لمقالة لاحقة، وهو العصامي الذي دشّن عالم الشغل كعامل بمخبزة، وكان لا يزال فتى يافعا، واللعب أنسب إليه من العمل، فإذا به يصبح رجلاً غير الرجال وشاعرا غير الشعراء، ويلقّب بشاعر الثورة والحريّة.(يتبع)
الهوامش
-(1) وردت هذه المقولة في كتاب "لا تحزن" لعائض القرني الذي يستشهد بقال الله وقال الرسول، لكنّه يسمح لنفسه بسرقة الكتاب المذكور من "دع القلق وأبدأ الحياة" للأميركي ديل كارينجي، المتوفّي عام، 1955، في تعارض تام مع العصاميّة موضوع مبحثنا.
-(2) لأنّ القصيدة في وجدان الناس ممتعة في كل الأحوال وبالتالي ترفع مستوى هرمونات السعادة لدى المتلقّي: بنسقها الشعري، وجمال صورها الفنية وكثافتها اللغوية، ما يفتح المجال أمام الفكرة للتمدّد في ذهن القارئ ، فيما المغامرة يترتّب عنها الخوف و التوجّس من القفز إلى المجهول.
-(3)و(4) الزمان والمكان معا أو الزمان المكاني المعروف باسم زمكان مينكوفسكي (Spacetime) ، بما هو الفضاء بأبعاده الاربعة أي أبعاد المكان الثلاثة من طول وعرض وارتفاع، وبعد الزمن، وهو البعد الرابع.ويرجع الفضل في ذلك إلى نظرية النسبية الخاصة لألبرت أنشتاين التي برهن على صحّتها هندسيّا أستاذ أنشتاين مينكوفسكي الذي اشتهرت بأسمه.