لأقلها منذ البداية: هذه قراءة موجزة لمقالة فلسفية نشرها بول ريكور سنة 1988 في مجلة اللاهوت والفلسفة.
لا ينفرد هذا النص، الممتد بين الصفحة 1 والصفحة 19، بكونه يستدعي المنهج الطبي لاستثمار الظاهرة المدروسة - وقد استحوذت أخلاقيات علم الأحياء على هذا الموضوع. ويترتب على ذلك أننا، كقراء، لن نستكشف هنا الجانب الأخلاقي المروع الذي يمكن أن تتخذه الأزمة، كما حللها بول ريكور على شكل عقلنة ضرورية لألم المعاناة "التي كانت المهمة البابلية والمهمة العبرانية شاهدتين رائعتين عليها".
أكد بول ريكور منذ البداية أنه تعامل مع الأزمة على أساس أنها أزمة الزمن الحاضر، هي بطبيعتها مشوشة، إذ - بحكم التعريف - لم يتم حل النزاعات التي تعبرها. وأشار إلى خمس نقاط ارتكاز لهذه الفكرة، بل خمسة نماذج دراسية: ا) نموذج طبي، بل علاجي، بمعنى عملية تطهير؛ ب) حالة نفسية - فيزيائية - (مرضية) - منطقية من الضيق الجسدي والنفسي العميق ؛ ج) الانتقال من نموذج الأقلية إلى نموذج الأغلبية ؛ د) نموذج معرفي، يتجسد التقدم الذي يتطور عبر القطيعة ضمن عملية تعقيد المعرفة؛ ه) الاقتصاد، الذي ليس العامل الوحيد للأزمة.
معتبرا النموذج الطبي كمرجع، حدد بول ريكور أن الآلام دائما هي التي تعمل كمؤشرات على التباينات والتفاوتات والتناقضات التي تؤثر على النظام الاجتماعي ككل. واستنتج من ذلك ما يلي:
"هذه المعاناة في نهاية المطاف هي التي تشكل تهديدا لجميع التوازنات الأخرى وفي النهاية للأيديولوجية المهيمنة، أي التسلسل الهرمي للقيم الذي يتم من خلاله تعريف المجتمع العالمي".
من هنا، وضع الناس "نظرية" للأزمات: الاستقلال الذاتي لوسائل الإنتاج، وتواترها، والعولمة باعتبارها "إيديولوجية الليبرالية الجديدة" التي "فرضت على العالم الغربي تمثيل الظواهر الاقتصادية على أنها منفصلة عن المجتمع و تشكل في حد ذاتها نظاما متميزا يجب أن يخضع له العالم الاجتماعي بأسره "(وفقا لـ Dumont) وتؤثر ، وفقا لـ K. Polanyi، "ليس على العوامل الثقافية بل أيضا على البعد السياسي، على الرأسمالية الليبرالية التي كانت تحتضر سنة 1939، عندما دفنت الفاشية بشكل غير رسمي".
الاقتصادات المختلطة التي تضررت من الأزمة منذ سنوات، ويشعر الرأي العام بأنها طريق مسدود للسياسات التي تنهجها الدولة. عند الحديث عن "الواقعة الاجتماعية الكلية" وفقا للمفهوم الذي قدمه مارسيل موس، يفضل بول ريكور القيام بمقاربة شاملة لفهم تكوين الأفكار والقيم التي من خلالها يفهم المجتمع نفسه. وهكذا، فإن المجتمع الذي يمثل الجسد ، والجسد مريض - أي يتأثر بقدرته على الاندماج (تزامني) وعلى التوازن ( تعاقبي) - فمن هو الطبيب الذي سيُصرح له بتشخيص المرض وتوقعه؟ كما هو شأن الطبي، يتعلق الأمر بأزمة شرعية، والمطلوب هو الحاجة إلى الشرعية على جميع المستويات: سياسية، تربوية، إبستمولوجية.
يجد هذا التعميم حدوده في مسألة التبرير النهائي للمعرفة، المكان الذي تتكامل فيه كل الأفكار والقيم التي تكمن وراء الظاهرة الاجتماعية العالمية. لذلك يجب على الفلسفة الغربية أن تهيكل ذاكرة أوروبا، التي ليست منطقة كما يقول هوسرل، ولكنها "فكرة" وتظهر غطرستها عندما تعلن نفسها "مسؤولة عن الإنسانية".
وهكذا فإن الأزمة، بالنسبة لبول ريكور، هي في نفس الوقت أزمة عضوية للجسم الاجتماعي، أزمة هوية في النمو الدائم للمجتمعات والجنس البشري، أزمة شرعية مرتبطة بظاهرة الهيمنة وأزمة "متعالية" (transcendantale) مست الأسس، أزمة حلت بالاقتصاد أكثر من كونها أزمة أصابت إيديولوجية الليبرالية الاقتصادية.
من الضروري، كما يقول ريكور، إيجاد نموذج شامل قادر على تنسيق هذه المخططات غير الكاملة عن "التعميم". بعد ذلك نميل إلى التحرك نحو الأساليب الشمولية، مثل الأساليب الوجودية التي تواجه فكرة الأزمة كبنية دائمة للشرط الإنساني. يعطي التصور النضالي للإنسان الملتزم مكانا كبيرا للصراع، للقطيعة، للمخاطرة، وبهذا المعنى، لمفهوم الأزمة.
يصور الإنسان بملامح درامية، ممزقًا بين القوى الحيوية التي تجذبه نحو نشوة سوداء والقوى الروحية التي تجذبه نحو نشوة أعلى. الأزمة إذن هي "الوسط" وتعبر عن "الشجاعة على الوجود".
يجب على الإنسان أن يجد مكانا في الكون الذي ليس مكانا طبيعيًا من خلال "عملية هرمية، والتي هي نفسها لا تمر دون حكم على التفضيل، ازمة تخترق ارتباك الدافعية. "إن تصور الموقف على أنه أزمة ... يعني عدم معرفة مكاني في الكون بعد الآن”.
في الحقيقة، يعترف ريكور هنا بأن الأزمة، مؤقتة أو نهائية، تفترض عبورا يميز بالضرورة مسارا إنسانيا؛ تكمن العقدة في مواجهة المستقبل مع الماضي في عملية شخصنة. ومن خلال مقاربة تاريخية، يوضح أنه عندما يكون المتعاليان اللذان يمثلان "أفق التوقع" و "فضاء التجربة" متباعدين جدا، تحدث الأزمة.
مثلا، في عصر التنوير، شهدنا جدة الأزمنة (الحداثة)، وتقصير الوقت الذي يفصلنا عن البشرية البالغة، وطاعة التاريخ لـ "العمل البشري"؛ الشيء الذي وفر قبضة وعي معيش، بحيث كانت (الطاعة) بمثابة كاشف فيما يتعلق بالفئات التي يمكن التفكير في هذه الفئة ضمنها.
استعرض بول ريكور حينذاك تنازليا جميع الميول لتعميم النماذج الإقليمية وأعلن أخيرا أن الطابع التمييزي لأي بنية تاريخية، رغم أنه يتمتع بعمومية كبيرة، هو المعيار الطبي. الأزمة هي أعراض مرضية لمسار تزمين التاريخ: تتمثل في خلل وظيفي في العلاقة المتوترة عادة بين "أفق التوقع" و "فضاء التجربة" (على حد تعبير راينهارت كوسيليك).
بعد ذلك اوضح ريكور محددات الأزمة: أزمة الفرد، أزمة العقلانية، أزمة النزعة الإنسانية (التي أصبحت ضحية الأزمة، من خلال التحلل الداخلي). لهذا، يستجيب ريكور بنوع من الأمل، في شكل نداء إلى المجتمع المسيحي الذي أصبح أقلية، من خلال هذه الفرصة المزدوجة للتجديد وإعادة التأويل التي تسمح بها الأزمة.
في الواقع، بالنسبة له، من الضروري العمل في توافق بين الأصالة والحداثة وما بعد الحداثة؛ العمل من أجل القدرة على الالتزام بقناعات متوافق في شأنها والعمل لصالح المقدس، سواء كان أفقيا (سياسيا) أو عموديا (ديني بالمعنى الواسع).
ثم يأخذ بول ريكور الطب الحيوي كنموذج لفهم الأعراض المرضية للأجساد: الطب، مثل العلوم الفيزيائية أو البيولوجية، يدرك حاليا أنه يعمل وفقا لتعددية في النماذج التي تقارب الحقيقة، هذه الحقيقة المسكوت عنها بالنسبة للمريض، ما يؤثر على سبب ومسؤولية معاناته، وأخيراً على وحدة الجسد المراد علاجه.
من السيميولوجيا إلى البيولوجيا (بما في ذلك علم الوراثة)، إلى التصوير أيضا، يحاول الطب، باستخدام تقنيات مشتقة من عقلانيتنا التجريبية، فهم المجالي التي تبنيها من أجل التقدم نحو المزيد من الواقعية. وانطلاقا من الجسد الكلي والمقاربات المتمايزة والمفيدة التي أنتجها الفكر الطبي، يتم بناء الطب الحيوي كمعرفة. فعندما تجري اختبارات معملية، لا تتذكر إلا بعد ذلك أن الأرقام كانت تعني المعاناة. بإضفاء طابع الرياضيات على الطبيعة (الإحصائيات بالنسبة لميشيل فوكو)، يشترك تجريد البدن في الفصل بين المحسوس والمحسوب، بين التجربة الذاتية والملاحظة الموضوعية، ومن ثم الفصل بين الفحوصات والمعاناة.
يعد الطب أحيانا بتجديد الأنسجة والأعضاء التي ظهرت عليها أعراض مرضية، إما لأسباب وراثية أو بسبب الشيخوخة؛ غالبا ما يرتبط هذا الخطاب بالخلايا الجذعية والطب النانوي باعتباره ظهورا لمعرفة جديدة يجب الاستناد إليها في ممارسة البحث وفي العيادة بطريقة تخصصية أومتعددة التخصصات على حد سواء، على محور ينطلق من الحوسبة الحيوية النانوية إلى المعرفة.
ومع ذلك، فإن هذه الأشكال الجديدة من الطب، سواء كانت بيولوجية بحتة أو مشتقة من نموذج NBIC (تقنيات النانو والتقنيات الحيوية وعلوم المعلومات والعلوم المعرفية)، تعد بأحلام (إنشاء حياة اصطناعية) أو على الأقل بالتغلب (أو تحسين) على الحدود السابقة للمحدودية عن طريق تحقيق واجهات بين الإنسان والآلة تقرن الحوسبة بالفكر البشري، بالروح، وحتى بالخلود. خطاب غير نقدي بشكل غير عادي يتشكل بمرح عن محدودية الإنسان.
ها هي المخالفة الأخلاقية الصارخة: لا نعكس بأي حال من الأحوال (في الخطابات) مكافحة المرض، بل نعكس بالأحرى مكافحة المحدودية ذاتها. بهذا المعنى، وبعيدا عن اعتبارات هذه المقال، من الضروري أن نضيف إليها اعتبارات الشعور بالذنب والمحدودية الذين برع ريكور في الكشف عنهما في فلسفته عن الإرادة سنوات 1950-1960. كذلك، على هذا المستوى المعياري الذي نأخذه بنظر الاعتبار، حيث يحتفظ الفاعلون الذين هم نحن بالقدرة على التأثير في التطورات السياقية لإعادة تعديلها، يجب أن تحافظ فكرة الصحة، أي الرفاهية، على طبيعتها التأويلية وفقا لما نحن عليه وما نريده أن نكون، حتى لو كان من الممكن أن تكون البيولوجيا مفيدة لأنها خاضعة للرقابة: فالأخلاق إذن هي كل شيء ما عدا القدرية.