إننا، في كثير من الأحيان، نحاكم الانتاجات الفكرية الماضية، انطلاقا من سياقنا التاريخي والفكري الراهن، وكأن المفاهيم التي عبرها يتم التفكير، كيانات ميتافيزيقية ثابتة ومتعالية على الصيرورة التاريخية. وبذلك نجحف في حق التراث الفكري، عندما لا نقرؤه في ضوء سياقه التاريخي. وإن مفهوم"حالة الطبيعة" أو "الطور الطبيعي" في الفلسفة السياسية لفلاسفة العقد الاجتماعي خير مثال على هكذا سوء فهم، إذ يعتبره الكثير شطحا من الخيال، أو تحريفا للتاريخ البشري، أو فرضية لا تستند إلى أي أساس. فما هي دلالة مفهوم "الطور الطبيعي" في نظرية التعاقد الاجتماعي، في ضوء السياق التاريخي للقرنين السابع عشر والثامن عشر؟
في محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال، سنركز بالأساس على جون لوك(1632-1704) من خلال كتابه الأساسي في فلسفة السياسة:"مقالتان في الحكم المدني".
" لقد كانت المسألة السياسية، في بداية القرن السابع عشر، ذات أهمية بالغة في انكلترا غارقة في الأزمة"، لذا كان على المفكرين السياسيين بلورة أجوبة على واقع الأزمة هذا. وبما أن الأحداث اتخذت وجهة جديدة نوعيا، كان على هؤلاء المفكرين صياغة أدوات مفاهيمية جديدة وقوية تستطيع أن تستوعب تلك الأحداث، وتساهم في توجيه منحى حركتها.
مفهوم "حالة الطبيعة" في مقابل مفهوم "المجتمع المدني": ثنائية مفهومية مثلت أبرز هذه الأدوات النظرية الجديدة، بل شكلت أرضية مؤسسة لمذهب فلسفي شغل مساحة جغرافية امتدت من الجزيرة الأنجلوسكسونية إلى القارة العجوز، ومساحة تاريخية امتدت من بداية القرن السابع عشر، مع هوبز، إلى نهاية القرن الثامن عشر مع روسو.
يصف هوبز"الوجود الطبيعي" على أنه "حالة حرب الكل ضد الكل" حيث " كل فرد هو ذئب بالنسبة للآخر" . إنها ليست ملحمة من صنع الخيال المحض، بالطبع، يل إن حالة الطبيعة هنا هي تجريد لحالة الحرب الأهلية والفوضى العارمة في انجلترا آنذاك، وهي مبرر دعوة هوبز إلى السيادة المطلقة للتنين Leviathan، إذ لا خروج من حالة الحرب هذه" التي تمثل الجانب الأكثر بشاعة في الطبيعة البشرية"، إلا بالاتفاق- الذي يؤسسه الحساب العقلي للمصلحة- بين جميع الأفراد المتنافسين، تعاقد على تفويض حقهم الفردي المطلق في الحفاظ على أنفسهم، إلى سلطة مدنية مركزية مطلقة الجبروت.
أما بالنسبة للوك، الذي اعتبر طور الطبيعة " حال من السلم وحسن الطوية والتعاون والبقاء، واختلافه التام عن حالة الحرب(...) رغم خلط
بعضهم(يقصد هوبز) بينهما"(الفقرة19)، فلنتمعن في المقاطع التالية من المقالة الثانية من كتابه:
"كل جرم يقترف في الطور الطبيعي، يمكن معاقبته في هذا الطور إلى الحد نفسه الذي يمكن معاقبته في دولة ما".
إن قوانين السنة الطبيعية واضحة " وضوح قوانين الدولة الوضعية، بل هي لعمري أوضح منها وأجلى"
" إن قوانين دولة ما لا يصح اعتبارها قوانين عادلة إلا بمقدار ما تقوم على تلك السنة الطبيعية التي ينبغي أن تفهم القوانين وتؤول على أساسها".
انطلاقا من هذه المقاطع ومن سياق الكتاب برمته، نستشف أن لوك يريد أن يجعل من "الطور الطبيعي "، نموذجا مثاليا لطبيعة النظام السياسي المنشود، لأنه-ربما- لم يجد نظام حكم قائم، يمكن الاحتذاء به، كما فعل مكيافيللي بالنسبة لقيصر بورجيا. إذ كان لوك المعبر الفكري عن مرحلة انتقالية من حاجة البورجوازية الصاعدة إلى الحكم المطلق، إلى نشدانها الديمقراطية والقضاء على الأنظمة الثيوقراطية(الحكم الديني) التي كانت تستند إلى نظرية التفويض الإلهي. وهو توظيف لفرضية "الطور الطبيعي " مخالف لما كان عليه الشأن عند مواطنه هوبز الذي استعملها – كما سبقت الإشارة- كمرآة لواقع الفوضى في المجتمع الإنجليزي آنذاك، وجعل منها فزاعة لتبرير الضرورة الملحة لدولة قوية- ولو كانت مطلقة الحكم، بل عليها أن تكون مطلقة الحكم في مثل هذه الظروف – إلا أن لوك عمل على تفادي المنزلق الذي يمكن أن يفضي إليه اتخاذه طور الطبيعة كطوبى ( نقصد هنا منزلق نبذ جميع أشكال الحكم)، بنصبه جسرا من "طور الطبيعة" إلى "طور المجتمع"، وتمثل هذا الجسر في ضرورة التعاقد بين الأفراد من أجل تأسيس حكم مدني، لتقويم "آفات واعوجاج الطور الطبيعي(...) وإني (يقول لوك) أول من يسلم بأن الطور المدني هو العلاج الأصيل لآفات الطور الطبيعي، وهي آفات جسيمة حقا في تلك القضايا التي يكون فيها المرء خصما وحكما في الوقت ذاته".
إن طور الطبيعة نموذج "للمجتمع المدني" المنشود حتى في التفاصيل: فالسلطة التشريعية نموذجها "السنة الطبيعية"، والسلطة التنفيذية نموذجها "حق الفرد في الاقتصاص من المعتدي". وبما أن الطور الطبيعي - الذي يتمتع فيه الأفراد بالحرية في انتزاع حقوقهم بأنفسهم- قائم دائما وهو المرجع كلما حاد الحاكم أو السلطة التشريعية عن شروط "التعاقد" التي أعلتهم سدة الحكم، فهو تبرير يجعل من "الثورة المجيدة" 1688- التي صيغ في خضمها الكتاب- حدثا طبيعيا حتميا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن لوك، عندما يماثل حكم الطاغية المطلق بالطور الطبيعي، فهو يركز إذاك على ما أسماه "آفات الطور الطبيعي"، ما دام الملك في إطار الحكم المطلق يكون هو"الخصم والحكم في الوقت ذاته"، بل إن هذا الحكم أسوء من الطور الطبيعي في نظره:" فإذا كان الحكم المدني هو علاج هذه الآفات التي تنجم حتما عن كون المرء الخصم والحكم في قضية ما، وإذا كان الطور الطبيعي طور لا يطاق، فإني أود أن أعلم ما هي طبيعة هذا الحكم وميزته على الطور الطبيعي إذن، ما دام لرجل واحد متسلط على الجمهور، الحق في أن يكون الخصم والحكم، ويصنع برعاياه ما شاء دون أن يستطيعوا أن يناقشوا أوامر الذين ينفذون مشيئته وكل ما يفعل: سواء أكان رائده العقل أم الجهل أم الهدى؟ وتلك أشياء لا يتوجب على البشر أن يقوموا بها، حتى في الطور الطبيعي. إن من يقضي قضاء جائرا، فيما يعنيه ويعني سواه من مشاداة، مسؤول عن أحكامه أمام سائر البشر"(ف13).
وليس الطور الطبيعي نموذجا للمجتمع المدني والقانون الوضعي في ظل الدولة الواحدة فحسب، بل هو نموذج للقانون الدولي نفسه، في نظر لوك، بحيث إن"الدول في علاقاتها بعضها ببعض، كأنما توجد جميعا في الطور الطبيعي".
من هنا يبدو جليا أن للمفاهيم النظرية، التي شكلت قوام الفلسفة السياسية الحديثة، وبالأخص عند جون لوك، صيرورة تاريخية حية ، ومحايثة للتحولات السياسية الواقعية التي اعتملت المجتمعات الأوروبية، والمجتمع الإنجليزي على وجه الخصوص. إلا أن هذا لا يلغي القيمة النظرية والصلاحية الإجرائية الراهنة لهذه المفاهيم، بشرط الوعي بمحدودية هذه الصلاحية.
- الهوامش:
-جون لوك "مقالتان في الحكم المدني" ، ترجمه عن النص الإنجليزي: ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت 1959.
من مقدمة كتاب "المواطن" لطوماس هوبز: Le citoyen ; Hobbes ; Simone Goyard- Fabre
طوماس هوبز " التنين": Thomas Hobbes ; Léviathan, Philosophie politique ; éd. Sirey ;1971
وحش بحري في الأساطير الأسيوية، استعار هوبز التسمية لكي يطلقها على الدولة المدنية المركزية القوية الناتجة عن التعاقد بين الأفراد ولكنها ليست طرفا في ذلك التعاقد.
-من مقدمة كتاب "المواطن".
نيقولو مكيافيللي - "الأمير" ضمن "تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده"، ترجمة خيري حماد وتعقيب د فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة –بيروت 2002
بدأ لوك في كتابة مقالتيه في الحكم المدني بعد ظهور كتاب روبير فيلمر(أحد أهم فقهاء الحق الإلهي) Patriarcha الحكم الأبوي عام 1680 وكان يهدف من وراءهما إلى إثبات فكرته عن الحرية الأصلية، وقد أفرد المقالة الأولى لمهاجمة مبدأ حق الملوك المقدس في الحكم المطلق باسم الله، وهو المبدأ الذي دافع عنه فيلمر.
"كل جرم يقترف في الطور الطبيعي، يمكن معاقبته في هذا الطور إلى الحد نفسه الذي يمكن معاقبته في دولة ما".
إن قوانين السنة الطبيعية واضحة " وضوح قوانين الدولة الوضعية، بل هي لعمري أوضح منها وأجلى"
" إن قوانين دولة ما لا يصح اعتبارها قوانين عادلة إلا بمقدار ما تقوم على تلك السنة الطبيعية التي ينبغي أن تفهم القوانين وتؤول على أساسها".
انطلاقا من هذه المقاطع ومن سياق الكتاب برمته، نستشف أن لوك يريد أن يجعل من "الطور الطبيعي "، نموذجا مثاليا لطبيعة النظام السياسي المنشود، لأنه-ربما- لم يجد نظام حكم قائم، يمكن الاحتذاء به، كما فعل مكيافيللي بالنسبة لقيصر بورجيا. إذ كان لوك المعبر الفكري عن مرحلة انتقالية من حاجة البورجوازية الصاعدة إلى الحكم المطلق، إلى نشدانها الديمقراطية والقضاء على الأنظمة الثيوقراطية(الحكم الديني) التي كانت تستند إلى نظرية التفويض الإلهي. وهو توظيف لفرضية "الطور الطبيعي " مخالف لما كان عليه الشأن عند مواطنه هوبز الذي استعملها – كما سبقت الإشارة- كمرآة لواقع الفوضى في المجتمع الإنجليزي آنذاك، وجعل منها فزاعة لتبرير الضرورة الملحة لدولة قوية- ولو كانت مطلقة الحكم، بل عليها أن تكون مطلقة الحكم في مثل هذه الظروف – إلا أن لوك عمل على تفادي المنزلق الذي يمكن أن يفضي إليه اتخاذه طور الطبيعة كطوبى ( نقصد هنا منزلق نبذ جميع أشكال الحكم)، بنصبه جسرا من "طور الطبيعة" إلى "طور المجتمع"، وتمثل هذا الجسر في ضرورة التعاقد بين الأفراد من أجل تأسيس حكم مدني، لتقويم "آفات واعوجاج الطور الطبيعي(...) وإني (يقول لوك) أول من يسلم بأن الطور المدني هو العلاج الأصيل لآفات الطور الطبيعي، وهي آفات جسيمة حقا في تلك القضايا التي يكون فيها المرء خصما وحكما في الوقت ذاته".
إن طور الطبيعة نموذج "للمجتمع المدني" المنشود حتى في التفاصيل: فالسلطة التشريعية نموذجها "السنة الطبيعية"، والسلطة التنفيذية نموذجها "حق الفرد في الاقتصاص من المعتدي". وبما أن الطور الطبيعي - الذي يتمتع فيه الأفراد بالحرية في انتزاع حقوقهم بأنفسهم- قائم دائما وهو المرجع كلما حاد الحاكم أو السلطة التشريعية عن شروط "التعاقد" التي أعلتهم سدة الحكم، فهو تبرير يجعل من "الثورة المجيدة" 1688- التي صيغ في خضمها الكتاب- حدثا طبيعيا حتميا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن لوك، عندما يماثل حكم الطاغية المطلق بالطور الطبيعي، فهو يركز إذاك على ما أسماه "آفات الطور الطبيعي"، ما دام الملك في إطار الحكم المطلق يكون هو"الخصم والحكم في الوقت ذاته"، بل إن هذا الحكم أسوء من الطور الطبيعي في نظره:" فإذا كان الحكم المدني هو علاج هذه الآفات التي تنجم حتما عن كون المرء الخصم والحكم في قضية ما، وإذا كان الطور الطبيعي طور لا يطاق، فإني أود أن أعلم ما هي طبيعة هذا الحكم وميزته على الطور الطبيعي إذن، ما دام لرجل واحد متسلط على الجمهور، الحق في أن يكون الخصم والحكم، ويصنع برعاياه ما شاء دون أن يستطيعوا أن يناقشوا أوامر الذين ينفذون مشيئته وكل ما يفعل: سواء أكان رائده العقل أم الجهل أم الهدى؟ وتلك أشياء لا يتوجب على البشر أن يقوموا بها، حتى في الطور الطبيعي. إن من يقضي قضاء جائرا، فيما يعنيه ويعني سواه من مشاداة، مسؤول عن أحكامه أمام سائر البشر"(ف13).
وليس الطور الطبيعي نموذجا للمجتمع المدني والقانون الوضعي في ظل الدولة الواحدة فحسب، بل هو نموذج للقانون الدولي نفسه، في نظر لوك، بحيث إن"الدول في علاقاتها بعضها ببعض، كأنما توجد جميعا في الطور الطبيعي".
من هنا يبدو جليا أن للمفاهيم النظرية، التي شكلت قوام الفلسفة السياسية الحديثة، وبالأخص عند جون لوك، صيرورة تاريخية حية ، ومحايثة للتحولات السياسية الواقعية التي اعتملت المجتمعات الأوروبية، والمجتمع الإنجليزي على وجه الخصوص. إلا أن هذا لا يلغي القيمة النظرية والصلاحية الإجرائية الراهنة لهذه المفاهيم، بشرط الوعي بمحدودية هذه الصلاحية.
- الهوامش:
-جون لوك "مقالتان في الحكم المدني" ، ترجمه عن النص الإنجليزي: ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت 1959.
من مقدمة كتاب "المواطن" لطوماس هوبز: Le citoyen ; Hobbes ; Simone Goyard- Fabre
طوماس هوبز " التنين": Thomas Hobbes ; Léviathan, Philosophie politique ; éd. Sirey ;1971
وحش بحري في الأساطير الأسيوية، استعار هوبز التسمية لكي يطلقها على الدولة المدنية المركزية القوية الناتجة عن التعاقد بين الأفراد ولكنها ليست طرفا في ذلك التعاقد.
-من مقدمة كتاب "المواطن".
نيقولو مكيافيللي - "الأمير" ضمن "تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده"، ترجمة خيري حماد وتعقيب د فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة –بيروت 2002
بدأ لوك في كتابة مقالتيه في الحكم المدني بعد ظهور كتاب روبير فيلمر(أحد أهم فقهاء الحق الإلهي) Patriarcha الحكم الأبوي عام 1680 وكان يهدف من وراءهما إلى إثبات فكرته عن الحرية الأصلية، وقد أفرد المقالة الأولى لمهاجمة مبدأ حق الملوك المقدس في الحكم المطلق باسم الله، وهو المبدأ الذي دافع عنه فيلمر.