في هذا الموضوع سأحول مناقشة اشكالية أساسية في الفكر الفلسفي المعاصر، أقصد فلسفة التحليل عند لودفيغ فيتجنشتاين .لماذا فيتجنشتاين أولا ؟ ان الحديث عن فلسفة التحليل عند واحد من أعلام الفكر الفلسفي المعاصر مرده الى أهمية هذا الفيلسوف في عصره ، وحتى في تاريخ الفكر الفلسفي ؛ فقد كان فيتجنشتاين من كبار فلاسفة القرن العشرين ان لم نقل أعضمهم على الاطلاق ، ولأن فلسفته وأهميتها ترجع الى التغيير الدي أجراه على مفهوم الفلسفة ووظيفتها وكدلك الطريقة التي اصطنعها في التفلسف؛وهي تحليل اللغة .فالتغير الجديد الدي وقع في الفلسفة على يد فيتجنشتاين ، مرده الى المنهج الدي اتبعه في بحثه الفلسفي وليس في النتائج التي توصل اليها بصدد هدا البحث.
مرة أخرى لماذا فيتجنشتاين ؟لأن فلسفته كانت ثورة كوبرنيكية ثالثة على الفلسفة التقليدية ، بحيث غير من المفهوم القديم للفلسفة لتصبح عبارة عن تحليل اللغة ولينتقل بدلك موضوعها من البحث في الأشياء والعلل والماهيات ، الى البحث في العبارات والألفاظ وتبيان ما له معنى وما لا معنى له (الرسالة )، او لتبيان الصحيح والخاطئ من هذه العبارات على اختلافها واتفاقها مع قواعد الاستخدام العادي للغة او مايسميه نظرية العاب اللغة في فلسفته الثانية ( تحقيقات فلسفية).فكان بهذا أول من وجه أنظار الفلاسفة المعاصرين الى دراسة اللغة.
لماذا فلسفة التحليل ؟ لأن هدا الفيلسوف جعل من التحليل القاعدة الأساسية لكل فلسفته ، ونقطة ضرورية للانطلاق في عالم الفلسفة ؛ متبعا في هذا دروب مجموعة من فلاسفة القرن العشرين الذين ذهبوا الى أن التحليل هو كل عمل الفلاسفة او هو الفلسفة في ذاتها ( مور- راسل...) ، وكدلك لأن الفلسفة تقوم على أساس نشاط يوضح ما نعرفه فعلا من قبل ، ودلك بحل المشكلات التي تنتج عن الخلط العقلي وسوء الفهم . هذا الخلط ماهو الا نتيجة مباشرة لسوء استخدامنا لمنطق لغتنا.
استخدم فيتجنشتاين التحليل كمنهج في الفلسفة وليس كغاية فلسفية ، فهو مثلا لا يستخدم التحليل لمجرد رد العالم الى مجموعة من الوقائع ، او لرد اللغة لمجموعة من القضايا ( الرسالة ) او لرد المعنى لطريقة استخدامنا للألفاظ . وانما يستخدم التحليل لتوضيح المشكلات الفلسفية ، التي ان وضعت تحت مجهر التحليل زال عنها الغموض واتضح انها مشكلات زائفة او انها ليست مشكلات في الاصل. وهذا ما يعبر عنه فيتجنشتاين بقوله في رسالة منطقية –فلسفية : " ان معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور فلسفية .ليست كاذبة.بل هي خالية من المعنى .فلسنا نستطيع ادن أن نجيب عن أسلئة من هذا القبيل ، وكل مايسعنا أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى ، فمعظم الأسئلة او القضايا التي يقولها الفلاسفة .انما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا .اذن فلا عجب ادا عرفنا ان أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الاطلاق."
وعليه فالاهتمام الذي اولاه فيتجنشتاين لمعضلة التحليل جعله يذهب في رسالته المنطقية الفلسفية الى اعتبار " الفلسفة كلها عبارة عن تحليل اللغة " . وترتب على هذا القول أيضا أن أصبح موضوع الفلسفة عنده هو التوضيح المنطقي للأفكار عن طريق تحليل العبارات التي تصاغ فيها هذه الأفكار . وهو ما يؤكد عليه بقوله : " ان موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقي للأفكار .فالفلسفة ليست نظرية من النظريات .بل هي فاعلية . ولدا يتكون العمل الفلسفي أساسا من توضيحات . ولا تكون نتيجة الفلسفة عددا من القضايا الفلسفية . وانما توضيح للقضايا. فالفلسفة عليها أن تعمل على توضيح وتحديد الأفكار بكل دقة، و الا ظلت تلك الأفكار معتمة ومبهمة."
من خلال ما تقدم يمكن الجزم أن المفهوم الأساسي الذي يناقشه فيتجنشتاين في فلسفته سواء الفلسفة الأولى أو فلسفته المتأخرة ، هو مفهوم التحليل ، الذي جعله مشكلة فلسفية ينطلق منه لدراسة باقي المسائل الأخرى .لذا لا عجب أن نجد فيتجنشتاين يبحث في المشكلات الدقيقة التي تطرحها اللغة وعلاقة دلك بالواقع الخارجي او العالم ، فنجده مثلا يطبق هذا المفهوم على كثير من مجالات البحث الفلسفي: من تحليل للعالم ، وتحليل للفكر ، وتحليل للغة .
---------------------------------
* هذا المقال لا يدعي انه يحيط بمفهوم التحليل عند فيتجنشتاين او بفلسفته ، وانما هو محاولة جادة لدراسة فلسفة واحد من اعلام الفكر الفلسفي ، وسيتم مواصلة دراسة فلسفته على حلقات من خلال مقالات اخرى حةل تحليل العالم ، تحليل اللغة ، تحليل الفكر .
1- الثورة الكوبرنيكية نقصد بها تبني كوبرنيك فكرة وجود الشمس وليس الارض كجسم ثابث في مركز المجموعة الشمسية وهي النظرية التي كانت سائدة في العصور الوسطى وخاصة تعاليم بطليموس ، ونقصد بالثورة الكوبرنيكية الثانية عند كانط الذي قام بثورة شبيهة لتلك التي قام بها كوبرنيك في علم الفلك لكن كانط قام بها في ميدان الفلسفة وليؤكد ان الواقع هو الذي يدور في فلك العقل وليس العكس، وطبقا لهذا التمثيل يمكن اعتبار فيتجنشتاين قد قام بثورة كوبرنيكية ايضا في مجال الفلسفة بحيث غير من مفهومها والموضوع الدي تسعى الى البحث فيه.
2- عزمي اسلام، لودفيغ فيتجنشتاين، سلسة نوابغ الفكر الغربي،دار المعارف/مصر بدون تاريخ صفحة 62
3-عزمي اسلام ، مرجع سابق ، ص138
4-عزمي اسلام ، مرجع سابق / ص774
5- سندرج فيما بعد مقالات حول هذه المحاور