تاريخ العلوم إذن، كما يفهمه باشلار يفترض أساسا معرفة المؤرخ بالقيم العقلية المهيمنة والفاعلة في الفكر العلمي المعاصر، مع اعتبار أن ما هو علمي وراهن اليوم سيصبح متجاوزا بعد ذلك.. وهذا يستتبع أن عملية التأريخ للعلوم هي في حقيقتها عملية مستمرة ولا متناهية..
يعد مفهوم تاريخ العلوم من المفاهيم الأكثر تداولا في حقل الدراسات الإبستيمولوجية والأكثر إثارة للنقاش بين فلاسفة العلم والإبستيمولوجيين المهتمين بهذا النوع من الدراسة، وذلك منذ أن ظهر واضحا للعيان أهمية العلم وآثاره العميقة على حياة البشر وتطورهم الحضاري بشكل عام.. إذ غالبا ما ترتبط التحولات الحاسمة في التاريخ سواء كانت سياسية أو فكرية ببروز وعي تاريخي يعمد المؤرخون بمقتضاه إلى وضع فترة زمنية محددة في إطار زمني أوسع، ويحاولون تفسير ما طرأ من تغير في مجرى التاريخ انطلاقا من الآثار التي أحدثها هذا العامل الحاسم على مختلف أنشطة البشر المادية والفكرية، مستشرفين الآفاق التي سيؤول إليها المجتمع الإنساني في المستقبل القريب أو البعيد.
ولعل ما يؤكد هذا الافتراض الاهتمام البالغ بالتحولات العميقة التي عرفتها الإنسانية في القرن السابع عشر، حيث انبرى عدد كبير من المؤرخين والعلماء والفلاسفة.. منذ ذلك العصر إلى يومنا هذا للتأريخ لهذه الفترة الحاسمة في مسار المعرفة الإنسانية. ونظرا لتعقد هذه الظاهرة الفكرية العميقة (الثورة العلمية في القرن السابع عشر) وتداخل مكوناتها مع مكونات أخرى متعددة ومختلفة من جهة، ومن جهة أخرى للتغيرات التي طرأت عبر الزمن على تصورات المؤرخين واهتماماتهم وأولوياتهم، فقد اتسمت هذه التأريخات باللاتجانس والاختلاف، ولم تحكمها في الغالب النزاهة والالتزام بالمتون بقدر ما وجهتها رؤى إيديولوجية أو فلسفية أو إبستمولوجية محددة..
وقبل أن نعرض لكل هذا نريد في البداية أن نحدد مفهوم تاريخ العلوم، ونبين الشروط التي ساهمت في نشأته، وسنمهد لكل ذلك ببعض الملاحظات التي من شأنها أن تقربنا أكثر من موضوع هذه الدراسة.
هناك ملاحظة أولى تتعلق بالوضع المؤسسي لهذا المبحث، فمصطلح تاريخ العلوم يوحي بأن الموضوع الذي ينصب عليه هو العلم أو العلوم المختلفة كالرياضيات والفيزياء والبيولوجيا.. لذا كان من الطبيعي والأولى أن يرتبط هذا المبحث بالمعاهد والكليات التي تدرس فيها العلوم المختلفة.. لكن المفارقة أن هذا المبحث لا يهتم به إلا في معاهد الفلسفة والعلوم الإنسانية! كيف يمكن تفسير هذا؟ أو بمعنى آخر ما مغزى اهتمام الفلاسفة بتاريخ العلوم؟
يعتقد كثير من الباحثين أن اهتمام الفلاسفة بتاريخ العلوم يرجع إلى طبيعة العلاقة الوطيدة والمتداخلة بين الفلسفة والعلم، إذ أنه من العسير فهم مختلف النظريات والمذاهب الفلسفية، وإدراك دلالاتها لو اعتبرناها بمعزل عما يحيط بها من ممارسات معرفية أخرى، سواء كانت علوما أو فنونا أو غيرها.. فالفلسفة كما يرى ذلك برنشفيك وبياجي مثلا، تبنى قضاياها دوما انطلاقا من التأمل في علوم عصرها، وتأسيس أية فلسفة يقتضي في أغلب الأحيان تهييئا علميا مسبقا، يقول بياجي: "يظهر أنه مما لا جدال فيه أن أكبر المذاهب في تاريخ الفلسفة.. تنحدر من تأمل إما في الاكتشافات العلمية لأصحابها أنفسهم، أو في ثورة علمية خاصة حدثت في زمانهم أو قبله بقليل: هكذا كان الأمر فيما يتعلق بأفلاطون مع الرياضيات، وأرسطو مع المنطق والبيولوجيا، وديكارت مع الجبر والهندسة التحليلية، وليبنتز مع حساب اللامتناهيات، وتجريبية لوك وهيوم وتمهيدهما لعلم النفس، وبكنط مع العلم النيوتوني وتعميماته، وبهيكل والماركسية مع التاريخ وعلم الاجتماع، إلى أن نصل إلى هوسرل مع المنطق الرمزي كما هو عند فريكه".
ينبني اهتمام الفلاسفة بالعلم، إذن، على افتراض أن الفلسفة في تاريخها تطلب دائما من علوم عصرها النموذج النظري الذي يؤسس قضاياها من هنا يصبح تاريخ العلوم ضروريا كوسيلة من الوسائل التي تساعد على التفهم الجيد لتاريخ الفلسفة، ويقول إميل برهييه في نفس السياق: "لا يمكن فصل الفلسفة عن باقي الحياة الفكرية التي لا تزال تعبر عن ذاتها في العلوم، والدين، والفن، والحياة الأخلاقية والاجتماعية. إن الفلسفة تهتم بكل القيم الفكرية لعصرها، إما لتزكيتها، أو نقدها، أو تحويلها، ولا توجد إلا حيث يوجد مجهود يسعى إلى تنظيم القيم تنظيما تراتبيا".
يرتبط تاريخ العلوم بالفلسفة كذلك من خلال أحد فروعها، ونقصد بذلك مبحث الإبستمولوجيا، فتاريخ العلوم والإبستمولوجيا مبحثان متداخلان، والعلاقة بينهما حميمية إلى حد كبير، وقبل أن نتطرق إلى طبيعة هذه العلاقة يبدو أنه من اللازم تحديد مفهوم تاريخ العلوم، ومفهوم الإبستمولوجيا، وذلك لما لهذا الإجراء من دور في توضيح حدود المشكلات التي نحن بصدد تحليلها؛ وننطلق هنا من التعريف الذي يعطيه لالاند Lalande في معجمه الفلسفي، لمفهوم الإبستمولوجيا، والذي جاء كما يلي: "تعني هذه الكلمة (الإبستمولوجيا) فلسفة العلوم، لكن في معناها الدقيق جدا. وهي لا تعني دراسة مناهج العلوم بشكل خاص، لأن هذه الدراسة هي موضوع الميتودولوجيا، التي هي جزء من المنطق. كما أنها ليست تركيبا أو توقعا افتراضيا للقوانين العلمية (على الطريقة الوضعية أو التطورية). إنها بصفة جوهرية الدراسة النقدية لمبادئ، وفرضيات، ونتائج مختلفة العلوم لغرض تحديد أصلها (المنطقي لا السيكولوجي)، وقيمتها، وبعدها الموضوعي. ينبغي، إذن، تمييز الإبستمولوجيا عن نظرية المعرفة –بالرغم من أنها المدخل إليها والمساعد الضروري لها- التي تدرس المعرفة بتفصيل وبكيفية بعدية في تنوع العلوم والموضوعات، لا في وحدة الفكر".
إن تعريفا كهذا لا ينبغي أن نخرجه من سياقه الزمني والتاريخي، فمفهوم الإبستمولوجيا، كما يظهر من خلال تعريف لالاند، يرتبط أساسا بمرجعية ميرسونية، كما يشهد على ذلك النص الذي يورده لالاند في إطار الحواشي الخاصة بمفهوم الإبستمولوجيا في معجمه الفلسفي، والمستخرج من كتاب "الهوية والواقع" لميرسون: "ينتمي هذا الكتاب بمنهجه لمجال فلسفة العلوم أو الإبسمولوجيا، حسب مفهوم تقريبي يسير نحو التداول العام".
لا يخرج تعريف لالاند، إذن، عن المنحى الإبستمولوجي الذي سار فيه ميرسون في كتاباته، والقائم على التحليل البعدي لمبادئ، ومناهج، ونتائج العلوم المختلفة، وذلك لتحديد المبدأ أو المبادئ التي تحكم الفكر وهو يتطلع إلى معرفة الواقع وتعقله.
أما روبير بلانشي Robert Blanché (1898-1975) فيعتبر مصطلح "إبستمولوجيا" مصطلحا جديدا نسبيا في الثقافة الفرنسية، حيث لا يوجد في معجم ليتري Littré (الصادر بين 1863 و1873)، ولا في معجم لاروس (الصادر بين 1866 و1873)، ولم يظهر إلا في ملحق معجم لاروس سنة 1906.. وهذا يؤدي إلى أن ما يخبر عنه هذا المصطلح هو كذلك أمر حديث، نعم هناك بعض الباحثين ومؤرخي الفكر الذين ينظرون إلى مبحث الإبستمولوجيا بشكل مختلف، ويرون أنه لا يعبر عن منحى حديث، بل ترجع بوادره الأولى إلى فلسفات اليونان القديمة. إلا أننا لا نذهب مع أصحاب هذا الرأي، ونفترض أن الإبستمولوجيا لم تكن ممكنة إلا عندما توفرت شروطها النظرية، والتي تتجلى أساسا في ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر..
وقد ربط بلانشي في كتابه عن الإبستمولوجيا ظهور المبحث الإبستمولوجي بصدور كتابين أساسيين: الكتاب الأول ألفه بولزانو Bolzano (1781-1848) سنة 1837، واهتم أساسا بالعلوم الصورية وهو كتاب "نظرية العلم"، أما الكتاب الثاني فألفه وليم وويل William Whewel (1794-1866) سنة 1840. وكتاب "وويل" هذا يتضمن مشروعا إبستمولوجيا محددا سنجد له صدى فيما بعد، عند كل من برنشفيج، وباشلار… فقد أراد وويل تجديد الأركانون الجديد لفرنسيس بيكون، وذلك بناء على الإنجازات العلمية التي عرفها تاريخ العلم منذ عصر بيكون حتى القرن التاسع عشر، فبيكون حاول أن يرسم الطريق التي ينبغي أن تسير عليها كل العلوم الاستقرائية، وكان هذا الأمر ممكنا في عصره، أما بعد مرور قرنين من الزمن عرفت خلالها العلوم الفيزيائية، وغيرها من العلوم تطورات هائلة، كان لا بد وأن تدفع إلى إعادة النظر في مشروع بيكون كله؛ وذلك أنه مهما كانت عبقرية هذا الرجل، فليس بمستطاعه التنبؤ بما ستؤول إليه هذه العلوم بعد قرنين، لذا سيقرر "وويل" أنه قد آن الأوان لاستبدال التصور القبلي للعلوم الاستقرائية، ولمناهجها، كما قرره فرنسيس بيكون، بتصور جديد يقوم على تحليل الطرق، والمناهج المستخدمة في علوم الطبيعة، تصور سيمكنه من تأسيس منهج تاريخي نقدي يساهم في تطوير البحث الإبستمولوجي بشكل عام. وإذا كان البحث الإبستمولوجي قد عرف انطلاقته الحقيقية مع "وليم وويل" إذن، فكيف ستتحدد البداية الحقيقية لمبحث تاريخ العلوم؟
يقول جورج سارتون، وهو أحد كبار مؤرخي العلوم المعاصرين: "إذا تركنا جانبا تواريخ العلوم التي ألفت في القرن الثامن عشر، والتي كانت في الحقيقة جد سطحية ومخلخلة، بما فيها تاريخ الرياضيات لمونتيكلا Montucla(1758) فإن أول تاريخ حديث هو تاريخ العلوم الاستقرائية للأب وليم وويل والذي وصل إلى مرتبة مؤلف كلاسيكي خلال الفترة الفكتورية، بل وبعد ذلك أيضا".
من خلال قولة جورج سارتون هاته يتبين لنا الارتباط الذي يمكن افتراضه بين نشأة كل من مبحث الإبستمولوجيا ومبحث تاريخ العلوم، بحيث يمكن القول إنه لا يمكن تصور أية إبستمولوجيا ممكنة إلا في ارتباطها بتاريخ محدد للعلوم، وبالمثل لا يمكن تصور تاريخ حقيقي للعلوم إلا في علاقته الصميمية بالإبستمولوجيا، فتاريخ العلوم ليس فقط ذاكرة للعلم، بل هو أيضا مختبر للإبستمولوجيا.
لقد علمنا لحد الآن على إبراز العلاقة المتداخلة بين الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم ونشأتها في لحظة زمنية محددة… ولكننا حتى الآن لم نعط ولو تعريفا أوليا لما نعنيه بمبحث تاريخ العلوم؛ ونريد أن ننبه في هذا المجال إلى أن هذا المفهوم يتميز بكثير من الإبهام سواء فيما يخص طبيعة موضوعه أو منهجه: فعندما نتحدث مثلا عن تاريخ العلوم –هكذا بالجمع- يطرح علينا السؤال التالي: هل يؤرخ هذا المبحث لكل العلوم في ارتباطها وتداخلها أم يهتم فقط بكل علم على حدة، من خلال تطوره الخاص؟
يرى بعض المؤرخين أن عبارة تاريخ العلوم لا ترمز في معناها الرائج إلا إلى تاريخ علوم الطبيعة، ويمكن أن يضاف إليها تاريخ الرياضيات".
ويرى آخرون –جورج سارتون أو كانكليم مثلا- أن تاريخ العلوم لا يقتصر على دراسة الفيزياء والرياضيات، بل يشمل كذلك علوم الإنسان؛ والمسألة لا تتوقف عند الاختلاف في تحديد مجال تاريخ العلوم وموضوعاته بل يتعدى الأمر ذلك إلى الاختلاف حول أزمنة العلم، وحقبه، وطبيعة التطورات التي لحقته عبر الزمان، فهناك مثلا مباحث نظرية اعترف بعلميتها في زمن ولم تعد تعتبر علوما في زمن آخر، بل حلت محلها علوم لم تكن معروفة من قبل. وتطرح علينا، كذلك، مشكلات تتعلق بالمنهج أو بالمناهج التي تقربنا أكثر من غيرها من حقيقة موضوعات هذا المبحث، والأوليات النظرية التي ينبغي الانطلاق منها، والسمات والخصائص التي تحدد كل مرحلة من مراحل تطور التفكير العلمي، إلى حد يصبح فيه البحث عن نوع من الاتفاق أو التقارب حول قضية من قضايا تاريخ العلوم ضربا من العبث.
لكن، وبالرغم من كل هذه الصعوبات، يمكننا الإقرار مع جورج كانكليم (1904-1994) على أن موضوع تاريخ العلوم، في جميع الحالات، يتشكل من مجموعة من الخطابات أو الأقوال أصدرها باحثون حول موضوعات علمية محددة؛ فالباحثون والعلماء هم الذين يصوغون نتائج أبحاثهم على شكل قضايا مترابطة فيما بينها، ومحكومة بمنطق دقيق وصارم.. إن الموضوعات التي يدرسها العلماء، وقبل أن تتشكل في خطاب أو قول محدد ليست هي موضوع تاريخ العلوم؛ بل موضوعه هو هذه الموضوعات وقد تمت صياغتها صياغة نظرية في خطاب محدد.. فتاريخ العلوم إذن، هو خطاب حول خطاب أو خطابات تجسد نتائج متميزة أو حاسمة في حقل علمي ما، وترتبط فيما بينها، متبادلة التأثير والتأثر عبر التاريخ، بحيث يصبح لها معنى ودلالة تاريخيين بمقتضى هذا الارتباط ذاته..
قد يظهر هذا التعريف مقبولا، ولكن ألا ينطبق على كل المباحث المعرفية الأخرى كتاريخ الفلسفة وتاريخ الفن مثلا.. مما يجعله يفقد كل إجرائية في تحديد موضوع تاريخ العلوم؛ إذ يمكن –كذلك- أن نعرف تاريخ الفلسفة أو تاريخ الفن بأنه خطاب يريد أن يتملك خطابات أخرى، وينظر إليها في ترابطها وتسلسلها التاريخ وفق رؤية محددة..
إن صعوبة إعطاء تعريف أو تحديد دقيق لما نسميه تاريخ العلوم قد يدفعنا إلى تغيير المنظور الذي نحاول من خلاله الاقتراب من هذا المفهوم، فنطرح المسألة لا من منطلق تحديد الماهية والجوهر، بل من منطلق الأهمية التي يكتسيها هذا المبحث بالنسبة لمباحث أخرى تستغله لأغراضها في فترات تاريخية مختلفة.. ولا شك أن الحفر عن جذور هذا المفهوم، والأهمية التي أعطاها إياه باحثون مختلفة من شأنه أن يساعدنا على الاقتراب منه.
لقد ارتبط هذا المبحث، منذ نشأته إلى اليوم، بثلاثة أنواع من التوجيهات أو الخلفيات النظرية، أضفت عليه دلالات ومرامي خاصة ومحددة في إطار أنساقها الداخلية: ففي البداية ارتبط مبحث تاريخ العلوم بخلفيات إيديولوجية برزت في إطار التحول الكيفي الذي عرفه المجتمع الأوروبي ابتداءا من القرن السابع عشر، والذي مس جل مكوناته، خصوصا الجانب المعرفي، حيث أدى ظهور العلم الحديث في تلك الفترة إلى تبلور تصور لدى الإنسان الأوربي، يعتبر أن تقدم المجتمع رهين بمدى اهتمامه بهذا النوع الجديد من المعرفة، وبمدى تحكمه في الإمكانات الهائلة التي يخولها، والتي من شأنها وحدها أن تجعله مسيطرا على الطبيعة وسيدا عليها..
وارتبط هذا المبحث كذلك بتوجهات فلسفية، خصوصا في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، توجهات سنجد لها صدى، على سبيل المثال، عند ليون برنشفيك الذي يعتبر أن تاريخ العلوم لا يعدو أن يكون وسيلة، أو مجالا يظهر من خلاله نشاط الفكر الخلاق، هذا النشاط الذي يعتبره موضوع الفلسفة الأساسي والحقيقي..
وسيرتبط هذا المبحث أخيرا بتوجهات إبستمولوجية وبيداغوجية، سنعرض لها انطلاقا من التصور الذي أعطاه جاستون باشلار لمفهوم تاريخ العلوم باعتباره وسيلة أو أداة لإبراز القيم الإبستمولوجية للعلم الراهن..
1 – تاريخ العلوم وخلفياته الإيديولوجية:
يرتبط الاهتمام بالتاريخ عموما بفترات حاسمة في تاريخ المجتمعات، فعندما يعرف هذا المجتمع أو ذاك تحولا جذريا، ويحدث انقلاب شامل يمس ركائزه وأسسه، تبرز الحاجة إلى وضع هاته الفترة أو تلك في إطار السياق العام للتاريخ قصد رصد الأجوبة لأسئلة ممكنة، تتعلق بتحديد الأسباب التي أدت إلى هذه التقلبات والأحداث.. وبروز الاهتمام بتاريخ العلوم هو أمر لا يخرج عن هذه القاعدة، كما سنبين ذلك فيما بعد، إذ لا يمكن أن نفهم طبيعة هذا المبحث إلا في إطار شروط نظرية واجتماعية محددة هي التي جعلت تاريخ العلوم أمرا ممكنا. وقد بينا سابقا كيف ربط جورج سارتون نشأة تاريخ العلوم بكتاب وليم وويل "تاريخ العلوم الاستقرائية"، إلا أن تحديد النشأة بهذا الشكل المطلق قد لا يكون صحيحا، خصوصا إذا عرفنا أن ثمة حديثا عن تاريخ العلوم وعن أهميته، ليس فقط عند وليم وويل، بل كذلك عند أوكست كونط مثلا، وقبلهما عند فونتنيل وفرنسيس بيكون. فالأسباب والعوامل التي أدت إلى نشوء مبحث تاريخ العلوم إذن لم تكن مرتبطة بشخص أو بمؤلف ما، بل بمناخ فكري عام.
إن تقصي الأسباب أو الشروط التي سمحت بنشوء هذا المبحث، يبين أن من أهمها بروز نموذج معرفي جديد سيتعرض بشكل قوي مع النموذج المعرفي القديم الذي تأسس على آراء أرسطو وبطليموس وغيرهما، واستمر مع مفكري العصور الوسطى وعصر النهضة: فقد ظن هؤلاء أن المعرفة الحقيقية أعطيت مرة واحدة في التاريخ مع أرسطو، وبطليموس وإبوقراط، وجالينوس، وغيرهم... لذا سيكتفون بإيراد الشروح والتفاسير والحواشي على كتب هؤلاء، كما لو أن كتاباتهم تضمنت العلم كله، وترسخت أسسها بصفة نهائية..
ومع بداية العصر الحديث بدأت بوادر نظام معرفي جديد تظهر مع مفكرين وعلماء وفلاسفة، سيتعبرون أن المجال الحقيقي للمعرفة البشرية هو الطبيعة، وأن التنقيب والبحث عن خفاياها، واستقراء عناصرها المختلفة لغرض ترتيبها، وتصنيفها، ومعرفة قوانينها العامة، هو المجال الحقيقي للنشاط الفكري للإنسان.
وكان من الطبيعي أن يؤدي بروز هذا المنحى المعرفي الجديد إلى زعزعة التصور القديم للعلم وللحقيقة العلمية، إذ لم يعد هناك أي مجال للحديث عن معرفة مطلقة خارج الزمن، بل أصبحت كل معرفة معرفة زمانية أو تاريخية، تتعاون الأجيال المتعاقبة على صياغتها باعتبارها حقيقة مفتوحة على المستقبل، حقيقة أهم ما يميزها هو بالذات عدم قابليتها للاكتمال. كما أن منهج تحصيلها لم يعد هو الحدس أو الإلهام أو التحليل الفيللوجي للنصوص القديمة، التي استطاعت أن تقاوم الزمن وتستمر، بل اعتمدت أساسا على التنقيب والفحص، والبحث عن الماهية الحقيقية للظواهر بواسطة مناهج الرياضيات، والهندسة، والملاحظة والتجريب..
لقد كان من الضروري إذن، أن يتم هذا التحول الحاسم في تصور طبيعة المعرفة والعلم، لكي يصبح مبحث تاريخ العلوم ممكنا، وكما يقول كيسدورف Gusdorf "لكي يصبح تاريخ العلوم ممكنا وضروريا، كان لا بد أن تتخلص المعرفة من معانيها المتعالية، وتصبح نسبية إلى حد تتحول معه إلى موضوع لفعالية عامة قابلة للتنقيح باستمرار".
كان من الضروري، إذن، استبدال معرفة متعالية لا زمانية بمعرفة نسبية تاريخية تمثل حقلا لنشاط إنساني عام يمكن لأي شخص أن يساهم فيه إذا ما توفرت لديه الشروط والوسائل اللازمة لذلك.
إن هذا التحول الفكري الذي أجراه مفكرون وعلماء أفذاذ من أمثال كوبرنيك، وجاليلي، وديكارت، وكبلر ونيوتن.. الخ وما فتحته مؤلفاتهم من آفاق جديدة للفكر الإنساني، هو ما سيفسح المجال لظهور مبحث تاريخ العلوم..
الاهتمام بتاريخ العلوم، إذن، هو اهتمام معرفي أولا، ولكنه أيضا اهتمام مجتمعي بحكم أن هذه التحولات النظرية، والممارسات العلمية ستتخذ بعدا اجتماعيا وسياسيا، إذ ستبرز الدعوة آنذاك إلى التأريخ للعلوم في إطار إنجاز تصور عام للتاريخ البشري، بمعنى أن تاريخ العلوم سيظهر أولا كحقل يتبين من خلاله تقدم الوعي أو الفكر البشري، والذي لا بد أن يرتبط به وبشكل مواز تقدم الجنس البشري.. وسيظهر صدى هذه الدعوة عند كل من فرنسيس بيكون، وفونتنيل، وخصوصا عند أوكست كونط.
يعتبر فرنسيس بيكون من المفكرين الأوائل الذين سيعملون على إعادة النظر في مفهوم الحقيقة بمعناها القديم، فالحقيقة بالنسبة له لم تعد توجد خارج هذا العالم، ولم يعد يتوصل إليها بالحدس، والإلهام، أو بنوع من التجريد العقلي، بل تحولت إلى حقيقة نسبية تتحقق عبر التاريخ بحيث يمثل الماضي والحاضر والمستقبل أبعادا لنموها وتطورها، إنها بنت الزمن كما يقول فرنسيس بيكون.
إن هذا التصور الجديد للمعرفة وللحقيقة هو ما سيبرزه بيكون من خلال فلسفته، وعلى الخصوص من خلال تصنيفه لعلوم ومعارف عصره حيث سيقسم هذه العلوم أو المعارف إلى ثلاثة أنواع حسب ملكات المعرفة المختلفة: فملكة الذاكرة يقابلها علم التاريخ، ويقابل ملكة المخيلة الشعر، أما ملكة العقل فيقابلها مبحث الفلسفة.
وينقسم علم التاريخ عنده إلى صنفين: التاريخ الطبيعي والتاريخ المدني. أما التاريخ الطبيعي فينقسم بدوره إلى قسمين: تاريخ المخلوقات ويهتم بوصف الظواهر الطبيعية الفيزيائية سواء منها الأجرام السماوية والنيازك وغيرها، أو الظواهر الطبيعية من بحار وأنهار وبراكين وغيرها.. وتاريخ المسوخ والصنائع، ويهتم بالأجسام المصنوعة أو بمعنى آخر بكل التغيرات والتحويلات التي أحدثها الفعل البشري على الظواهر الطبيعية.
أما فيها يتعلق بالتاريخ المدني فيقسمه بيكون إلى ثلاثة أنواع:
ـ التاريخ الكنسي.
ـ التاريخ المدني بالمعنى الضيق للكلمة ويهتم أساسا بالسير الذاتية وبتاريخ الملوك.
ـ التاريخ الأدبي، وينصب على دراسة التقنيات والعلوم في تطورها وتقدمها. وسيهتم بيكون خاصة بهذا النوع الثالث من التاريخ على أساس أنه نوع جديد لم يوجد من قبل، وظهرت الحاجة إليه، عندئذ، بحكم الشروط الفكرية الجديدة، يقول بيكون: "إننا في حاجة إلى تاريخ دقيق للمعرفة يحتوي على الجذور القديمة للعلم، والفرق المختلفة، والاختراعات، والسنن، ومختلف أنواع التهيئ والتنظيم، والمعارضات، وأنواع الإخفاق والفشل والنسيان مع ذكر أسبابها وظروفها، وكل الأحداث الأخرى المتعلقة بالمعرفة عبر كل مراحل الإنسانية".
وأهمية هذا النوع من التاريخ أنه يجعل: "العلماء أكثر تبصرا في استعمال وإدارة العلم".
إن ما يدعو إليه بيكون هنا، يتطلب مراجعة وتقييم كل ما أنتجته البشرية من علوم، وأفكار، وذلك حتى يتمكن العلماء، انطلاقا من تجارب الأجيال السابقة من العلماء ومن إخفاقاتهم ونجاحاتهم، من التحكم في قيادة العلوم وإدارتها، والتخطيط لها.. إذ من شأن هذا وحده أن يسمح للإنسان بالسيطرة على الطبيعة، وتسخيرها لمصلحة البشرية كلها..
إن الأهمية الكبرى التي اتخذها العلم الجديد في أوربا في القرن السابع عشر، والثامن عشر، لم تنعكس على أنساق الفلاسفة والمفكرين فقط، بل ستدفع الدول آنذاك إلى إنشاء معاهد، وأكاديميات للعلوم، في كل أنحاء أوروبا ستضم خيرة العلماء والباحثين، كما ستعمد هذه المعاهد والأكاديميات إلى إنشاء محاضر، ودوريات، كانت تسجل فيها نتائج البحوث والدراسات التي ينجزها الباحثون لغرض التواصل المعرفي والعلمي، ثم لهدف وضع سجلات لها مغزى توثيقي وتاريخي؛ ولا شك أن كل هذا يفترض تصورا جديدا للمعرفة، يعتبر أنها بطبيعتها تراكمية، وتتحقق عبر الزمن. من هنا يمكننا فهم الدور الكبير الذي سيلعبه فونتنيل Fontenelle (1657-1757) في تأسيس تاريخ العلوم في فرنسا. إذ كان لطبيعة المنصب الذي شغله دور كبير في ذلك: فقد عين منذ سنة 1697 كاتبا دائما للأكاديمية الملكية للعلوم بباريس؛ ومن موقع منصبه ذاك، كان يهتم بتكريم العلماء الذين قد يتعرضون للوفاة داخل فرنسا أو خارجها؛ كما كان يؤرخ لأهم الأبحاث والاكتشافات العلمية التي أنجزت آنذاك في حقل العلوم والمعارف عموما..
إن التأريخ للعلوم، والذي انطلق أساسا منذ أواخر القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر مع فونتنيل، حددته آنذاك مجموعة من المبادئ، نذكر منها على وجه الخصوص، بروز مفهوم جديد للفكر أو العقل، يفترض أنه وراء العقول الفردية المختلفة، هناك عقل لا شخصي حامل للمعرفة البشرية، هذا العقل المشترك، والذي يشبه إلى حد كبير روح العالم عند هيكل، هو ما يجسد تقدم المعرفة البشرية، ويضفي عليها التناسق والوحدة..
من هنا سيتكون وعي لدى مؤرخي الفكر بأن تأريخهم للمنجزات العلمية هو، في نهاية المطاف، تأريخ لمسار ضروري يستهدف الوصول إلى الحقيقة.. وفونتنيل لا يخرج عن هذا المنحي، فتطور العلوم عنده لا تتحكم فيه الصدفة، بل هناك غائية تنظم مساره، وتجعله يسير سيرا تصاعديا من الأسفل إلى الأعلى، ومن البسيط إلى المعقد، أو من العام إلى الخاص؛ فالعلوم والحقائق تتطور كما لو أن بعضها يستدعي بالضرورة البعض الآخر، يقول فونتنيل: "فالحقائق مستعدة أن تقبل بين ظهرانيها حقائق أخرى، وذلك لأنها تترك لها –إن صح القول- أمكنة فارغة، ما عليها إلا أن تحتلها".
هناك إذن تنسيق قبلي ما دامت كل المعارف حتى المجهولة في لحظة زمنية محددة لها محلها في النسق العام للمعرفة، فكل المعارف والعلوم إذن، تسعى إلى التجاذب والتناسق، يقول فونتنيل في سياق حديثه عن المذكرات العلمية لأكاديمية العلوم: "سيأتي الوقت الذي تتجمع فيه كل هذه الأجزاء المتناثرة في جسم واحد متناسق، وإذا كان الأمر كما نريد فستتجمع بذاتها، إذ بمجرد أن تصبح هذه الحقائق المتفرقة أكثر عددا، ستقدم نفسها إلى العقل كعلاقات، وارتباطات متبادلة، بحيث يظهر أنها بعد أن تفرقت تحاول بشكل طبيعي أن تتجمع".
إن تطور المعرفة عند فونتنيل يشبه تطور الكائنات الحية، فليست هناك أزمات، أو تحولات مفاجئة، بل هناك: "نظام يوجه تقدمنا، فكل معرفة لا تنمو إلا بعد نمو مجموع المعارف السابقة عليها، وعندما يحين دورها فإنها تتفتح".
هذا التقدم العلمي الذي يتحدث عنه فونتنيل هو ما سيحاول أوكست كونط (1798-1857) أن يؤسسه على قانون عام، يفترض أن تطور الفكر البشري، وكذا تطور المعارف عبر الزمن، عرف مراحل ثلاث:
ـ المرحلة اللاهوتية.
ـ المرحلة الميتافيزيقية.
ـ المرحلة الوضعية.
وتعتبر هذه المرحلة الأخيرة هي آخر ما وصل إليه الفكر البشري في تطوره، أما المرحلتان اللاهوتية والميتافيزيقية فهما مرحلتان انتقاليتان فقط، تم تجاوزهما، أو هما في طريق الزوال. ويرى كونط أن تاريخ العلوم لم يكن من الممكن ظهوره في المرحلتين الأوليتين، لأن هذا المبحث لا يمكن أن يتأسس إلا عندما يصل الفكر إلى المرحلة الوضعية، يقول أوكست كونط في الرسالة التي بعث بها سنة 1832م إلى المؤرخ كيزو Guizot، والذي كان آنذاك وزيرا للتعليم، يطالبه فيها بإنشاء كرسي لتاريخ العلوم بكوليج فرنسا: "ففي زماننا هذا فقط، يمكن وضع كرسي كهذا بشكل مرض، ما دام أنه قبل قرننا هذا لم تحصل مختلف الفروع الأساسية للفلسفة الطبيعية على خصائصها النهائية، ولم تظهر العلاقات التي تربطها بشكل ضروري، ففي هذه الحالة للفكر فقط يمكن للعلم البشري، بما يتميز به من روح وضعية أن يظهر بشكل موحد، وبالتالي يمكن تصور تاريخه كشيء ممكن".
أوكست كونط إذن، واع بضرورة تأسيس هذا المبحث الجديد الذي يلائم البنية الإبستمولوجية للمعرفة والعلم في عصره، بل أكثر من ذلك، يطالب بإدخال مادة تاريخ العلوم في البرامج التعليمية الفرنسية؛ وتنسجم هذه الدعوة لإدخال تاريخ العلوم في البرامج التعليمية تماما مع النسق الفكري العام لأوكست كونط، الذي يعتبر أن الفلسفة ينبغي أن تتجاوز التأمل الميتافيزيقي بمعناه القديم، لتعمد إلى دراسة طرق ومناهج العلوم وتحليلها بقصد إقرار الفكر العلمي، وترسيخ الروح الوضعية، وذلك أنه بدون تحقيق هذا المطلب سوف يتعذر مشروع إصلاح المجتمع؛ يقول أوكست كونط: "لا يمكننا أن ندرس طبيعة العقل البشري، وأن نحدد قواعد لعملياته بشكل قبلي، بل بشكل بعدي فقط، أي انطلاقا من نتائجه، ومن ملاحظاتنا على موضوعاته التي هي العلوم. إننا لا يمكن أن نصل إلى قواعد يقينية مجدية حول الطريقة التي نقود بها عقلنا إلا بملاحظات دقيقة حول الكيفية التي يعمل بها العقل في كل علم، حول مختلف الطرق التي يتبعها للوصول إلى الاكتشافات، وفي كلمة واحدة حول المناهج".
انطلاقا من كل هذا إذن، سيدعو أوكست كونط إلى ضرورة الاهتمام بتاريخ العلوم، بل سيقرر أنه لا يمكن أن نعرف علما من العلوم على حقيقته إلا إذا عرفنا تاريخه، يقول كونت في الدرس الثاني من دروس الفلسفة الوضعية: "نحن مقتنعون اقتناعا راسخا أن معرفة تاريخ العلوم هو ذو أهمية قصوى، بل أعتقد أننا لا نعرف علما من العلوم بشكل تام ما لم نعرف تاريخه".
وقد ميز كونط بين كريقتين للتأريخ للعلوم أو نظامين للعرض: الطريقة الأولى يسميها طريقة العرض التاريخي للعلوم، أو النظام التاريخي للعرض، وهناك الطريقة الثانية التي يسميها النظام الدوكماتيقي للعرض.. بالنسبة للطريقة الأولى يتم بمقتضاها عرض المعارف تباعا، حسب النظام الفعلي الذي اتخذه الفكر البشري لتحصيلها، أما الطريقة الثانية فتقوم على نوع من التنسيق، والتنظيم يقوم به فكر حائز على جميع المؤهلات النظرية، التي تمكنه من تصور التسلسل العام للمعارف البشرية في نسق واحد، بحيث يمكن إعادة بناء العلم في كليته. ويعتبر كونط أن الطريقة التاريخية غالبا ما تلائم العلوم الناشئة أو العلوم التي لم تصل بعد إلى مرحلة النضج، بينما تلائم الطريقة الدوكماتيقية المراحل التي يكون فيها العلم متطورا، يقول كونط: "إن الاتجاه الثابت للعقل البشري فيما يتعلق بعرض المعارف هو استبدال النظام التاريخي بالنظام الدوكماتيقي –أكثر فأكثر-وذلك لأن هذا هو ما يوافق الوضعية المتطورة لفكرنا".
من خلال هذا النص يظهر أن تاريخ العلوم في المرحلة الوضعية يعتمد الطريقة الدوكماتيقية، لكونها تسمح بإعادة سبك كل المعارف السابقة في نسق عام، مبني على القواعد المنطقية للفكر البشري، وعلى القانون العام لتطوره، إلا أن الأمر ليس بهذا التحديد، كما سيبين كونط، فالطريقة التي تعرض بها العلوم ينبغي أن تكون تركيبا بين الطريقتين التاريخية والدوكماتيقية: "لا بد أن نضيف حتى نتجنب كل مبالغة، أن أي نمط حقيقي للعرض هو بالضرورة تركيب بين النظام الدوكماتيقي والنظام التاريخي، وهذا التركيب ينبغي أن يهيمن فيه باستمرار، وشيئا فشيئا النظام الأول".
يتصور كونط، إذن، تاريخ العلوم كبناء لا بد أن يراعى فيه قبل كل شيء التسلسل المنطقي للمعارف، وعرضها بشكل نسقي وفق قواعد محددة، وذلك لأن الاكتفاء بطريقة العرض التاريخية سيدفع العقل إلى الدخول في تفاصيل وجزئيات لا حصر لها، ويهمل بالتالي المسار الحقيقي للفكر البشري: "فما يسمى بالنظام التاريخي للعرض، حتى إذا أمكن تتبعه بشكل دقيق فيما يخص جزئيات كل علم على حدة، يبقى افتراضيا ومجردا.. لكونه يعتبر العلم كما لو كان معزولا، فبدل إبراز التاريخ الحقيقي سيتجه إلى إبراز رأي خاطئ جدا".
فطريقة العرض التاريخية تفتقر إذن، إلى الشمولية في تصورها لتطور المعارف، مما يؤدي بها في الأخير إلى نتائج مجردة وبعيدة عن التاريخ العقلي للعلوم، الذي ينظر إلى الوقائع العلمية في إطار الوحدة الأصلية للمعرفة البشرية، وفي إطار التأثير المتبادل للعلوم والصنائع فيما بينها، بل وفي إطار تاريخ البشرية ككل، يقول كونط: ".. لكن باعتبار تطور العقل في عموميته، سنرى أكثر من ذلك أن مختلف العلوم قد تقدمت فعليا في نفس الوقت، وفي ترابط فيما بينها. إن تقدم العلوم والصنائع قد تم في ارتباط بعضها بالبعض الآخر عن طريق تأثيرات متبادلة لا حصر لها، وأخيرا إنها جميعا ارتبطت ارتباطا وثيقا بالتطور العام للمجتمع البشري.. ونستنتج من هذا أنه لا يمكن أن نعرف التاريخ الحقيقي لكل علم، أي الشكل الحقيقي للاكتشافات التي يتكون منها إلا بدراسة تاريخ البشرية بشكل عام، ولهذا السبب، فكل الوثائق المحصل عليها حتى اليوم حول تاريخ الرياضيات والفلك والطب، مهما كانت قيمتها لا يمكن اعتبارها إلا كأدوات".
يتبين، إذن، من كل هذا أن مبحث تاريخ العلوم عند كل من بيكون وفونتنيل، وخصوصا أوكست كونط، قد ارتبط في بدايته الأولى بأغراض إيديولوجية وبيداغوجية، تقوم على أساس أن العلم أصبح يشكل العمود الفقري للحضارة الإنسانية، وأنه سيمكن الإنسان من تجديد قوة الجنس البشري، ويوسع من سيطرته على الطبيعة، وأنه الوسيلة الحقيقية التي ستعمل على تقدم الفكر والمجتمع البشريين.. من هنا سيهتم الفلاسفة والمفكرون بتاريخ العلوم، وسيتسحضرونه في تصانيفهم موضوع قائم بذاته ومستقل عن أية اعتبارات خارجة عنه.. بل ارتبط كما رأينا بفكرة مجتمع إنساني يتوق إلى التقدم، ويرى في هذا العلم الجديد الذي ظهر في القرن السابع عشر الأداة التي ستمكنه من تحقيق ما يتوق إليه..
2 – التوظيف الفلسفي لتاريخ العلوم:
بينا سابقا كيف أن الفلسفة كانت تستند دوما على علوم عصرها لتستوحي منها قضاياها ومبادئها، هذا الاستيحاء كان ضمنيا مرة، وصريحا مرة أخرى، والأمثلة على ذلك متعددة في تاريخ الفلسفة، ويكفي أن نذكر نموذج فيتاغوراس أو أفلاطون أو أرسطو أو ديكارت أو كنط.. وفي العصر الحديث يمكن أن نذكر على سبيل المثال، ليون برنشفيك وكاستون باشلار.
فبنشفيك يمثل بالنسبة للفلسفة الفرنسية في بدايات القرن العشرين نموذجا متميزا، إذ رغم اهتمامه بقضايا ميتافيزيقية ودينية فرضها الجدال الفكري الذي احتدم بينه وبين فلاسفة استوحوا موضوعاتهم من تاريخ متجاوز للفكر، يعد من أكبر الممثلين للنزعة العقلية الجديدة التي كانت تسعى إلى إحياء القيم العقلية الكلاسيكية للقرنين السابع والثامن عشر: لقد انطلق برنشفيك من اعتبار أن مهمة الفلسفة تتمثل أساسا في التعرف على حقيقة أساسية، هي حقيقة الفكر البشري، وتحديد طبيعة نشاطه لا الفكر في معناه المجرد، بل في علاقته بالتجربة، لأنه لا يمكن تصور النشاط الخلاق للفكر إلا إذا توفرت له معطيات التجربة.
إن تفكير برينشفيك هنا شبيه بما يذهب إليه كنط، إلا أنه إذا كان ينطلق من نفس أطروحات هذا الأخير، فإنه يختلف عنه في كونه لا يرمي إلى استنباط مبادئ تركيبية أو مقولات تامة ونهائية.. بل إن ما يعيبه على كنط وأتباعه بالذات، هو محاولته حصر الديناميكية الخلاقة والحية للفكر في نسق من القوالب المعرفية المطلقة والجامدة.
إن معرفة الفكر البشري تقتضي حسب برنشفيك تجاوز الروح النسقية التي طغت على أنظمة التفكير سواء في العصر الكلاسيكي أو في العصور الحديثة، ورصد نشاط العقل من خلال التأمل في نتاجاته المتتالية عبر الزمن، وذلك أن كل مرحلة من مراحل تقدمه هي مناسبة له للوعي بقوته الخلاقة. ولكي يوضح برنشفيك ذلك لجأ إلى وصف عمليات الفكر التي سمحت له بإنجاز بناءاته في مجال العلوم وغيرها.. وذلك من خلال تتبع مساره في حقول الرياضيات والفيزياء والفلسفة.. حيث يتجلى الفكر وهو يعمل على صياغة الواقع المعطى ليحوله من واقع خام، غفل، إلى واقع عقلي من جهة، ومن جهة أخرى على إعادة النظر في ذاته ليطور أدواته وأطره ويدققها، فالفكر عند برنشفيك ليس هو ذلك العقل الميرسوني المطابق لذاته عبر الزمن، بل هو فكر متجدد باستمرار، يظهر بشكل جديد في كل إنجاز من إنجازاته، إنه لا يتقدم العلوم ليقودها، بل يقتفي آثار العلوم في تقدمها ويستفيد من تطورها..
إن هذا التقدم للفكر أو الوعي هو ما سيؤرخ له برينشفيك من خلال عرضه للمراحل التي عرفتها علوم كالرياضيات والفيزياء والفلسفة، والتي هي في حقيقتها تجليات لدينامية الفكر وتقدمه في مسيرته الإبداعية الخلاقة، يقول برينشفيك: "إن نشاط الفكر عندما يعي ذاته، هذه هي الدراسة الكاملة للمعرفة الكاملة، وهذه هي الفلسفة".
واضح إذن، أن تاريخ العلوم يعتبر مبدأ أساسيا من المبادئ التي تحدد طبيعة الفلسفة عند برينشفيك، ووسيلة ضرورية للتعرف على الفكر الذي يصوغها من خلال جدليته الخلاقة..
انطلاقا من هذا الاعتبار، سيعمد برينشفيك للتأريخ للعلوم خصوصا في كتابيه الأساسيين: مراحل الفلسفة الرياضية، والتجربة الإنسانية والسببية الفيزيائية. فهل يعني هذا أنه كان مؤرخا حقا؟
لقد ظهر مثل هذا الاعتقاد، خصوصا بعد صدور كتابه: مراحل الفلسفة الرياضية إلا أنه لم يقبل أن يصنف من بين مؤرخي العلم، ولم يكن يطمح إلى أن يكون كذلك أبدا، يقول برينشفيك: "هناك سوء تفاهم حصل بصدد كتاب "مراحل الفلسفة الرياضية"، أثار تعجبنا، ونريد أن ننبه إليه، وذلك أننا بعد أن اقترحنا ربط كل النظريات الفلسفية الكبرى بالأسس التي يقدمها لها تقدم العلم عبر تتابعه الكرنلوجي، حدث أن تم تصنيفنا، وبحسن نية، من بين مؤرخي الرياضيات. ونعتقد أن هناك من الأسباب ما يجعلنا نرفض مثل هذا الشرف، ونرى أن من واجبنا التنبيه إلى أنه لا ينبغي أن ينتظر –من عملنا- أي شيء يتعلق مباشرة بالتاريخ بمعناه الحقيقي، أو بمحتوى العلوم الفيزيائية، فنحن لا نستهدف معرفة طبيعة الأشياء، بل معرفة طبيعة الفكر الإنساني".
واضح إذن، أن برينشفيك، انطلاقا من تصوره لما ينبغي أن تكون عليه مهمة الفلسفة، يوظف تاريخ العلوم لأغراض لا تستهدف تاريخ العلوم لذاته، بل لأغراض أخرى صريحة، تتجلى أساسا في تتبع الفكر في نشاطه الدائب الساعي إلى الحقيقة؛ وكما يقول: "ليس على الفلسفة أن تخترع حلا لمشكلة الحقيقة، بل عليها فقط أن تكتشف كيف حلت الإنسانية هذه المشكلة فعليا، ومن وجهة النظر هذه ليس هناك وسيلة للعمل أفضل من بحث كامل –بما فيه الكفاية- حول ماضي العلم.. وذلك ببذل الجهد في تتبع تسلسل الأفكار من خلال التأثير المتبادل للأبحاث التقنية والرؤى الفلسفية. كما أن نظريات العلماء حول مبادئ العلم تظهر بشكل طبيعي كعناصر أساسية في هذا البحث، فهي تنير الطرق الأساسية التي قد تبقى ثاوية في الإنتاج التلقائي اللاواعي، لكن بفضل تحليل الوظائف السيكوسوسيولوجية التي أنتجت الرياضيات، يمكن أن نعيد لها القاعدة التي بدونها ستبقى تأملات في الفراغ، أو على الأقل تأملات مجردة.
وباختصار، فإن أصالة المرحلة الجديدة التي نحاول أن نحدد خصائصها تكمن في أن الفلسفة الرياضية لم تعد تهدف إلى إضافة نسق فلسفي آخر إلى الأنساق التي اتخذت مكانها في التاريخ، بل ترجع إلى التاريخ ذاته، لتبحث عن التقارب والتناسق بين النتائج التي تم الحصول عليها في مختلف المراحل، وتسجيلها كعلامات إيجابية للموضوعات".
هناك إذن حقيقة موضوعية تتشكل عبر الزمن، ويشارك علماء ومفكرو العصور المختلفة في صياغتها، وما على الفيلسوف إلا أن يرصد هذه الحقيقة، ويكشف عن تجلياتها المتعددة واللامتناهية بواسطة التأمل في إبداعات الفكر وإنتاجاته، مستهدفا من ذلك على الخصوص، التمييز بين قيم إيجابية، هي عبارة عن قيم مطابقة وملائمة لعصرها، ولها قيمة فلسفية حقيقية، وبين قيم أخرى يسميها برينشفيك قيما بالية، هي بمثابة بقايا أو أحكام مسبقة تقفز على الزمن وتظهر في زمان غير زمانها؛ ويتحدد عمل الفيلسوف أساسا في إبراز سلبيتها وعدم مطابقتها للعصر الذي ظهرت فيه.. من هنا يتضح أن اهتمام الفيلسوف بتاريخ العلوم له مغزى محدد: فهو لا يستهدف من ذلك إعادة تاريخ العلم الماضي كما هو، بل ينظر إليه بعين علم الحاضر، وذلك ليميز فيه بين ما يساهم في تحقيق نموذج الحقيقة الموضوعية، وبين ما يمثل آراء وقيما زائفة ينبغي نقدها وتجاوزها.
3 – التوظيف الإبستمولوجي لتاريخ العلوم:
يقرر باشلار كذلك، من خلال حديثه عن تاريخ العلوم، لأنه لا يريد أن يؤرخ للعلوم بالمعنى الاحترافي فالتأريخ الذي يستهدف إعادة إنتاج مرحلة محددة من تاريخ العلم، وإعادة صياغتها في حقيقتها الفعلية لم يكن من القضايا التي اهتم بها باشلار، بل يمكن القول إنه لم يكن مؤرخا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ففي جل كتاباته لم يحاول أن يؤرخ بالشكل الذي نجده عند مؤرخين محترفين معاصرين له أمثال بول تانري ودوهيم أو ألكسندر كوبري مثلا.. بل إنه حتى عندما كان يعرض لبعض القضايا التي كانت تشغل مؤرخي العلوم كان يمر عليها بشكل عرضي وسطحي، فخلال تعرضه، مثلا، لمسألة تحقيب الفترات أو المراحل الأساسية التي عرفها العلم في تطوره نجده يلجأ إلى تحقيبات عامة، يقول باشلار في كتابه العقلانية التطبيقية: "نعتقد أنه انطلاقا من اعتبار الثورات العلمية المعاصرة، يمكننا الحديث –على منوال الفلسفة الكونطية- عن مرحلة رابعة (في تاريخ العلوم)، فالمراحل الثلاث الأولى تطابق العصر القديم والعصر الوسيط والعصور الحديثة، بينما تطابق المرحلة الرابعة عصرنا هذا".
ويعطي تحقيبا مخالفا في كتابه "تكوين الفكر العلمي": "..لكن إذا اضطررنا لرسم محطات تاريخية كبرى لمختلف أعمار الفكر العلمي، فإننا بالتأكيد سوف نميز بين ثلاث مراحل كبرى:
ـ المرحلة الأولى تمثل المرحلة الما قبل-علمية، وتشتمل في آن واحد على الأزمنة القديمة وعصر النهضة والجهود المستجدة في القرن السادس عشر والسابع عشر وحتى في القرن الثامن عشر.
ـ وتمثل المرحلة الثانية، الحالة العلمية التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر وشملت القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وفي المقام الثالث سيتحدد بدقة تامة عصر الفكر العلمي الجديد ابتداء من عام 1905، حين بدأت نظرية آينشتين".
واضح إذن، أن باشلار لا يولي مسألة التحقيب أهمية كبرى، مما يبين –بالتالي- أن التأريخ للتطورات التي عرفتها العلوم عبر تاريخها لم يكن من الأولويات في مشروعه الإبستمولوجي العام. ورغم ذلك فقد حاول في بعض مؤلفاته التأريخ لبعض النظريات الخاصة كنظرية الانتشار الحراري في الأجسام الصلبة، ونظرية العناصر في الكيمياء، ونظرية الضوء، والنظريات الذرية كما حاول أن ينظر لتاريخ العلوم، رغم أن المناسبات التي تعرض فيها لهذا الموضوع كانت نادرة جدا..
وأعتقد أنه لا يمكن أن نفهم تصور باشلار لتاريخ العلوم، إلا انطلاقا من مشروعه الإبستمولوجي، الذي يستهدف أساسا إبراز القيم الحقيقية للفكر العلمي المعاصر، وذلك بناء على فكرة تقدم العلم والفكر معا. إن باشلار، الذي انطلاق من نفس الأرضية النظرية التي انطلق منها برينشفيك قبله، سيعمل على إبراز القيم المعرفية التي ساهمت في تجاوز التصورات المطلقة في الفلسفة العقلانية الكلاسيكية، فالعقل الذي اعتبر منذ ديكارت وكنط وإلى هاملان Hamelin (1907-1856) ورونوفييه Renouvier (1815-1903) كمجموعة من القوالب والمقولات التي تؤسس العقل والتجربة، انخرط في الديمومة والتاريخ وأصبح قابلا للتغيير والتطور بمقتضى التطورات والتحولات التي طرأت على العلوم، ذلك أن علاقة العقل بالعلم والمعرفة هي علاقة طالب علم بمعلمه، فهو ينقاد له ويتعلم منه، كما يقول باشلار: "فعلى العقل أن يخضع لشروط المعرفة، عليه أن يخلق في ذاته بنية مطابقة لبنية المعرفة".
من هنا يصبح من الضروري أن يتطور الفكر ويتقدم، وتصبح الفكرة القائلة بفكر مطلق وبمقولات عقلية ثابتة يمكن استنباطها خارج الزمن، مجرد فكرة بالية ومتجاوزة حسب باشلار.
إن تصور باشلار هذا للفكر العلمي، سيكون له تأثير قوي على مفهومه لتاريخ العلوم، وهكذا عندما يتحدث عن واقع هذا المبحث فإنه يختزله في أسلوبين أو نمطين من التأريخ:
ـ تأريخ يستهدف إثبات الوقائع العلمية في الديمومة اعتمادا على تحليل الوثائق العلمية ونقدها.. حيث يقتصر مؤرخ العلم على وصف هذه الوقائع العلمية وإثبات انتمائها إلى زمان ومكان محددين..
ـ في مقابل هذا يتبنى باشلار نوعا آخر من التأريخ يمكن أن نسميه تاريخا إبستمولوجيا، فإذا كان مؤرخ العلوم ينظر إلى الأفكار كما لو كانت وقائع، فإن الإبستمولوجي يعتبر الوقائع العلمية كما لو كانت أفكارا، فإذا كان النوع الأول من التاريخي يسعى إلى تحقيق نوع من الموضوعية بإبعاده لكل الاعتبارات الذاتية والاكتفاء بوصف الظواهر فإن تاريخ العلوم، بالمعنى الباشلاري، له وضع خاص، يقول باشلار: "في تعارض تام مع التعليمات التي تطالب العقل بالابتعاد عن الحكم، ينبغي أن نطلب من مؤرخ العلوم، على العكس من ذلك، إصدار أحكام قيمة"، وذلك لأن الباحث الإبستمولوجي محكوم عليه أن يقيم الوثائق والإنجازات العلمية من وجهة الفكر العلمي الجديد. إن هذه التاريخ الوصفي الذي يدعي الابتعاد عن التقييم هو في حقيقته تاريخ ذاتي قيمي، فهو يعمد إلى وصف الصراعات والمصاعب التي تجشمها علماء ومفكرون أفذاذ –كبرونو وكاليليو وغيرهما.. – ضد مواطنيهم، ويبرز ما لاقاه هؤلاء العلماء من قهر وقمع اجتماعيين، مبينا في مقابل ذلك سعادتهم الروحية، ونجاحهم في تسجيل أسمائهم من بين الخالدين… يذكر باشلار هذا الأسلوب من التأريخ كما لو كان يمثل تاريخ العلوم الرائج في عصره، ليضع في مقابله تأريخا للعلوم يقوم، أساسا، على التقييم والتمييز بين النظريات العلمية لغرض إبراز القيم الإبستيمولوجية الراهنة للعلم، وكما يقول: "تحدد وجهة النظر الحديثة –في العلم- بعدا جديدا لتاريخ العلوم، بعدا يطرح مشكلة الفعالية الراهنة لهذا التأريخ للعلوم في الثقافة العلمية".
إن من شأن ارتكاز تاريخ العلوم على النتائج الراهنة للعلوم أن يدفع المؤرخ إلى الارتداد إلى ماضي العلم لاسترجاعه لا كما هو في ذاته، بل كما يظهر له من خلال مقارنته بالعلم الراهن، إن استرجاع العلم القديم، إذن، لا يستهدف استرداد الوقائع العلمية في ذاتها، بل رصد القيم العلمية الجديدة، وبيان كيف ساهمت في إعادة تنظيم المعارف والعلوم، وكيف حددت أطر الفكر وقوالبه، وأعادت صياغتها صياغة مختلفة ومتميزة.
تاريخ العلوم إذن، كما يفهمه باشلار يفترض أساسا معرفة المؤرخ بالقيم العقلية المهيمنة والفاعلة في الفكر العلمي المعاصر، مع اعتبار أن ما هو علمي وراهن اليوم سيصبح متجاوزا بعد ذلك.. وهذا يستتبع أن عملية التأريخ للعلوم هي في حقيقتها عملية مستمرة ولا متناهية..
ليس معنى هذا أن باشلار ينتهي في تحليلاته إلى نوع من النسبية المطلقة، أو قل نوعا من الشك، يفترض أن كل حقيقة هي مؤقتة ومتغيرة عبر الزمن، وبالتالي قد لا توجد حقيقة أصلا، بل، على العكس من ذلك، يرى أن هناك حقائق تندرج بصفة نهائية في الحصيلة الموضوعية للفكر البشري، حقائق من شأنها أن تساهم في زيادة وتراكم المعرفة العلمية وتقدمها، لذا فعندما يتحدث باشلار عن تاريخ العلوم فهو يميز بين نوعين من التاريخ:
أ – تاريخ بال أو متجاوز: ويشتمل على كل النظريات والمفاهيم، أو القيم العلمية التي لم تعد لها سوى قيمة تاريخية؛ هذا التاريخ البالي –كما يرى باشلار- لم يعد إجرائيا في إطار العلم الراهن، ولا يعني هذا أنه ينبغي إهماله بشكل مطلق، بل يمكن لمؤرخ العلوم أن يرجع إليه فقط، إذا كان يريد إبراز المشكلات والقيم والعوائق الإبستيمولوجية التي عرفها العلم السابق، فدوره يقتصر إذن في كونه يشكل مختبرا يسمح للإبستمولوجي بتأسيس ممارسة تحليل-نفسية للمعرفة العلمية.
ب – التاريخ الحي أو الفعال: ويشتمل على كل القيم التي لا زالت تساهم في تشكل الحقيقة العلمية، وذلك أن العلم في تاريخيته لا يبرز الأخطاء والقيم البالية فقط، بل يبرز، كذلك، قيما تساهم في الاقتراب أكثر فأكثر من الحقيقة العلمية؛ من هنا يبقى جانب من تاريخ العلوم حيا وفعالا، تتجلى من خلاله قيم لا تخضع للتغيير والاندثار، بل تندمج في تركيبات معرفية أعلى وتنتظم فيها.
واضح، إذن، من خلال تحليلنا لمفهوم تاريخ العلوم، ليس فقط عند كاستون باشلار، بل كذلك عند بيكون، وفونتنيل، وكونط، وبرنشفيك، أن هذا المبحث ارتبط في كل هذه الحالات بتوجهات خارجة عنه، وقام على خلفيات ومقاصد تتجاوزه، ووظف لأهداف ومرامي إيديولوجية أو فلسفية أو إبستمولوجية أكثر مما درس لذاته .